وقد رووا أن النبي
صلى الله عليه وسلم
سافر في هذه القوافل مرتين: مرة وسنه اثنتا عشرة سنة إلى بصرى، وأخرى وسنه خمس وعشرون. •••
أترى أن هذه التجارة تقتصر على تبادل العروض والنقود، ولا تتعداها إلى الأمور المعنوية والأدبية؟ لسنا نرى ذلك، بل نرى أن العرب استفادوا فوق تجارتهم المادية شيئا من مدنية الروم والفرس وأدبهم، وهذا طبيعي، فالرحلات إلى الأمم الممدنة تجعل دائما تحت أعين الراحلين مدينة جديدة يقتبسون منها على قدر استعدادهم؛ ولا يزال عرب اليمن والحجاز أنفسهم في أيامنا هذه يستفيدون من زيارة مصر والشام، ويأخذون من مدنيتهما وعلومهما؛ بل لا نستطيع أن نصدق أن قافلة كبيرة كهذه تنتقل بتجارتها العظيمة لتتعامل مع أمة أجنبية من غير أن يكون فيها أفراد يعرفون لغة الذين يتعاملون معهم، ويكونون واسطة للتعارف بينهم، قد تقول: إنهم كانوا يعرفون اللغة الأجنبية كما يعرفها «التراجمة» اليوم، وهؤلاء ليسوا أهلا لنقل مدنية ولا أدب، فنقول: قد يكون ذلك صحيحا إلى حد ما، ولكن يجب ألا ننسى أن من بين الذين كانوا ينتقلون بالتجارة أعظم قريش ثروة وعقلا؛ وقد رأينا فيما نقلناه أنه كان من بين رجال القافلة أبو سفيان ومخرمة بن نوفل وعمرو بن العاص وهم سادة قومهم؛ ومنهم من كان له يد في إدارة شئون الأمة في الإسلام بعد، فهم لا يقارنون بتراجمة اليوم، وهم أكثر استعدادا لنقل مدنية بما يرون من نظام في المعيشة ومبان ضخمة ومعابد، وبما يرون من حكومة تشرف على الأسواق وتجبي الضرائب ونحو ذلك، وبما يسمعون من قصص وأدب إذا فرغوا من تجارتهم وتنادموا، ونقل من يعرف منهم اللغة حديثهم إلى من لا يعرفها، نعم إن هذا لا يكون نقلا صادقا ولا ترجمة دقيقة، ولا شبه دقيقة لتاريخ أو أدب ، ولا يستطيع أحد أن يدعي ذلك، إنما هذه النتف التاريخية والأدبية التي - تنقل وإن كانت مشوهة - لا تخلو من أثر في عقلية العرب، ودليلنا الآن على هذه الاستفادة ما أخذه العرب في جاهليتهم من كلمات كثيرة فارسية ورومانية ومصرية وحبشية، نقلها هؤلاء التجار وأمثالهم وأدخلوها في لغتهم، وجعلوها جزءا منها، وأخضعوها لقوانينها ونطق بها القرآن، وسنأتي على براهين أخرى فيما بعد. (2)
إنشاء المدن العربية على التخوم:
إذا نحن نظرنا إلى مصور آسيا وجدنا أن جزيرة العرب كانت تقع بين أعظم مدنيتين في العالم: فارس شرقا والرومان غربا، وقد حاول الفرس والروم أن يخضعوا العرب لحكمهم اتقاء لغزوهم وسلبهم، ولكنهم كانوا يعدلون عن ذلك لما يستلزمه فتح جزيرة صحراوية من ضحايا في الأنفس والأموال، ولأن طبيعة العيشة العربية جعلتهم لا يخضعون لقوة واحدة إذا تغلب عليها المحارب خضعت له الأمة، بل هناك عصابات وقوات متعددة لا بد لإخضاع البلاد من الاستيلاء عليها جميعا وليس ذلك باليسير؛ من أجل هذا رأى الفرس والروم أن خير وسيلة لدفع شر العرب أن يساعدوا بعض القبائل المجاورة على أن يقروا على التخوم يزرعون ويتحضرون، ثم يكونوا ردءا لهم يصدون غارة البدو الذين يغزون وينهبون؛ فتكونت إمارة الحيرة على تخوم الفرس وإمارة الغساسنة على تخوم الرومان.
إمارة الحيرة:
كان العرب قديما على تخوم فارس من قبل إنشاء إمارة الحيرة في تاريخ لا محل لسرده، وفي عهد سابور الأول ملك الفرس (حول سنة 240م) أسس الفرس إمارة الحيرة على نهر الفرات وأمروا عليها عمرو بن عدي.
وكان النظام المتبع أن عرب الحيرة يقدمون الطاعة لملك فارس، وهو يولي عليهم أميرا من أنفسهم، وعليهم أن يحموا فارس من كل مغير من نواحيهم، والفرس مقابل ذلك يعفونهم من دفع الإتاوة.
وقد كان نظام الفرس إذ ذاك نظاما إقطاعيا، يكاد يستقل كل وال بأمر مقاطعته، ويستمر واليا مدى حياته غالبا، ويراعي الملك رغبة المقاطعة فيمن يولى عليها، عكس النظام الروماني فقد كان نظاما مركزيا.
نامعلوم صفحہ