لأنه عظيم ولأنه قوي ثابت، والجزاء عليه سيلاقيك وسيتبعك حتى الشيخوخة الموقرة».»
ولما لم يفه «رنزي» بجواب على هذه الكلمات السامية، رفع الفلاح صوته عاليا مرة أخرى، وألقى مرافعته النهائية اليائسة وهي خطبته التاسعة، التي يذكر فيها «مدير البيت العظيم» بخطر الانضمام إلى جانب الغش؛ لأن من يأتي فعلا كهذا «لا يرزق أولادا ولا يجد من يرثه على الأرض، ومن يقلع في سفينته (الغش) فلن يرسو على الأرض ولن تربط مراسي سفينته في الميناء ... ومن لا يكترث لا أمن له، ولا صديق لمن يصم أذنه عن الحق، والجشع لا يحظى بيوم سعيد ... انظر فإني أبث شكواي إليك ولكنك لا تنصت، فسأذهب إذن وأبث شكايتي منك إلى «آنوب».»
ولما كان «آنوب» هو إله الموتى فإن الفلاح كان يقصد من ذهابه إليه أنه سينتحر، وعندئذ يرسل «مدير البيت العظيم» خادمه ليجيء بالفلاح ثانية بعد أن هم بالرحيل، وإذ ذاك يتبادلان سويا بعض العبارات المبهمة المعنى. على أن «رنزي» كان في خلال ذلك الوقت قد دون في بردية جديدة كل شكايات الفلاح بحسب ترتيبها، والمفروض أن ما انحدر إلينا من تلك الوثائق هو نسخة من هذه البردية، ولكن مما يؤسف له أن خاتمتها ممزقة أشد التمزيق، ويمكننا أن ندرك أن لفيفة البردي التي أعدها أمناء أسرار «رنزي» قد حملها «رنزي» هذا إلى الملك، وقد وجدها الملك «سارة لقلبه أكثر من أي شيء في كل البلاد.»
وبعد ذلك يأمر الملك «مدير البيت العظيم» أن يفصل في قضية الفلاح، وإذ ذاك يحضر المختصون بهذا العمل سجل الضرائب الذي يحدد الناحية التابع لها ذلك الفلاح بالصفة الرسمية، كما يبين موقفه القانوني والاجتماعي وعدد أفراد أسرته ومقدار ثروته، ثم يعقب ذلك في الوثيقة بعض كلمات مفتتة، يقل عددها عن اثنتي عشرة كلمة، يمكننا أن نفهم منها على وجه التقريب أن «تحوتي ناخت» قد عوقب، وأن ممتلكات ذلك الموظف الجشع المغتصب قد أعطيت للفلاح.
ومما يسترعي النظر حقا أن نجد أشراف رجال البلاط الفرعوني منذ أربعة آلاف سنة مضت يهتمون بإسعاد حال الطبقات الدنيا لدرجة أنهم كانوا يكلفون أنفسهم مشقة تدوين مثل تلك المقالات، التي لم تكن بداهة إلا بمثابة دعاية إلى نظام قوامه العدل والشفقة بالفقراء. وأمثال أولئك الرجال كانوا حملة أقلام لإعلان حرب مقدسة لنصرة العدالة الاجتماعية ، وقد جعلوا ذلك المقال بالذات ممتعا في قراءته لطبقة الأغنياء الموجه إليهم ذلك المقال. وبالرغم من الغموض المستمر في لغته، وأسلوبه الرنان واستعاراته القوية وتشبيهاته الغريبة، مما جعل الكثير من فصاحة ذلك الفلاح مستعصية الفهم على أبناء هذا العالم الحديث، فإن ذلك المقال قد اكتسب في عصره مكانة جعلته أدبا من الطراز الراقي. ولا شك أنه كتب بالأسلوب الذي كان مستحسنا عند أهل ذلك العصر، وأن ذلك التهكم الفكه اللاذع الذي يبدو في بعض نواحيه كان مما يزيد في شهرته الأدبية عند قدماء المصريين الذين كانوا محبين بطبيعتهم للتفكه، ولكنه مع ذلك كان أدبا يرمي إلى غرض خلقي.
وقصة ذلك الفلاح الفصيح تعد تصويرا حيا ناطقا عن عجز أولئك الموظفين الأمناء إذا لم يكن يشد أزرهم ملك عادل رءوف، وقد كان هناك في ذلك العصر مفكرون اجتماعيون يحسون بالحاجة إلى وجود حاكم عادل، وكان من بين الحكماء الذين يتطلعون إلى وجود مثل هذا الملك العادل، الحكيم «إبور»، وهو أحد الأنبياء الاجتماعيين الذين عاشوا في ذلك العصر العظيم، وقد ألف مقالا في شكل تمثيلي مؤثر، لم يقتصر فيه على اتهام أهل عصره بحرارة فحسب، بل ضمن مقاله أيضا وصايا إيجابية يرمي من ورائها إلى إيجاد نهضة يتجدد بها المجتمع، بل ذهب به الأمل أيضا إلى ترقب عصر ذهبي يأتي به ذلك الإصلاح المنشود.
وتلك «الوثيقة» المذكورة تعد من أهم الوثائق التي تسترعي النظر بين كافة مجموعة تلك المقالات الاجتماعية والخلقية التي كتبت في ذلك العهد الإقطاعي، ويصح لنا أن نسميها «تحذيرات إبور».
8
ومما يدعو إلى الأسف أن بداية هذه البردية قد فقدت، وهي الجانب الذي كان يحتوي على بيان الأحوال التي دعت الحكيم إلى الإدلاء بتحذيراته الواردة في هذه الوثيقة، وإن كانت تلك الأحوال في ظواهرها الرئيسية واضحة.
ويمكن تلخيص تلك الوثيقة فيما يأتي: يقوم الحكيم «إبور» بإلقاء اتهام طويل مفعم بالغضب عن حالة عصره أمام ملك (لم يعرف اسمه بالتحقيق الآن)، وبحضور آخرين يحتمل أنهم كانوا حاشية ذلك الملك مجتمعين عنده في ذلك الوقت، وينتهي بالنصيحة والتحذير من الإهمال في الأخذ بالإصلاح، ويلي ذلك رد قصير من جانب الملك، ثم ينتهي المقال بتعقيب قصير للحكيم المذكور على الرد الملكي.
نامعلوم صفحہ