قد يفرح أهل زمان الإنسان وقد يعمل ابن الإنسان على تخليد اسمه أبد الآبدين ... إن العدالة ستعود إلى مكانها والظلم ينفى من الأرض.
من أقوال «نفرروهو» وهو نبي مصري عاش حوالي عام 2000ق.م
يا آمون أنت أيها الينبوع العذب الذي يروي الظمأ في الصحراء، إنه لينبوع موصد لمن يتكلم ومفتوح لمن يتذرع بالصمت، فإنه حينما يأتي الصامت، تأمل! فإنه هنالك يجد الينبوع.
عن حكيم مصري قديم عاش حوالي 1000ق.م
مقدمة المعرب
مثل الباحث في تاريخ الحضارة المصرية القديمة، كمثل السائح الذي يجتاز مفازة مترامية الأطراف، يتخللها بعض وديان ذات عيون تتفجر المياه من خلالها، وتلك الوديان تقع على مسافات في أرجاء تلك المفازة الشاسعة، ومن عيونها المتفجرة يطفئ ذلك السائح غلته ويتفيأ في ظلال واديها؛ فهو يقطع الميل تلو الميل عدة أيام، ولا يصادف في طريقه إلا الرمال القاحلة والصحارى المالحة، على أنه قد يعترضه الفينة بعد الفينة بعض الكلأ الذي تخلف عن جود السماء بمائها في فترات متباعدة، وهكذا يسير هذا السائح ولا زاد معه ولا ماء إلا ما حمله من آخر عين غادرها، إلى أن يستقر به المطاف في واد خصيب آخر، وهناك ينعم مرة أخرى بالماء والزاد. وهذه هي نفس حال المؤرخ الذي يؤلف تاريخ الحضارة المصرية القديمة، فالمصادر الأصلية لديه ضئيلة سقيمة جدا لا تتصل حلقات حوادثها بعضها ببعض، فإذا أتيح له أن يعرف شيئا عن ناحية من عصر معين من مجاهل ذلك التاريخ؛ فإن النواحي الأخرى لنفس ذلك العصر قد تستعصي عليه، وقد تكون أبوابها موصدة في وجهه؛ لأن أخبار تلك النواحي قد اختفت إلى الأبد، أو لأن أسرارها لا تزال دفينة تحت تربة مصر لم يكشف عنها بعد.
فالمؤرخ في مثل هذا الموقف الحرج، لا يجد مندوحة من أن يصول ويجول ويشفي غلته بما لديه من المعلومات عن الناحية المعروفة، ثم يمر مر الكرام بالنواحي المجهولة له، وقد يستعين أحيانا بما لديه من قوة الخيال، وما فطر عليه من تجارب على ملء ذلك الفراغ المقفر الذي يعترضه في طريقه، وهو في ذلك لا يأمن شر العثار، وبخاصة إذا تغالى في إرخاء العنان لخياله الخصب. ثم نرى هذا المؤرخ بعد التقدم في سيره في تلك الفجوة المقفرة، يستقر به المقام كرة أخرى في واد آخر تتفجر عيونه بالمعلومات الممتعة، فيتحفنا بها بقدر ما يجود به ماء ذلك الوادي، وهكذا يتابع المؤرخ السير من واد خصيب إلى واد غير ذي زرع، حتى يصل إلى نهاية المطاف.
على أنه عندما يتصفح مثل هذا المؤلف أحد المؤرخين المحدثين، أو الذين لم يجربوا الكتابة في التاريخ القديم وما فيه من فجوات كبيرة، لا يسعه إلا أن يكيل اللوم جزافا للمؤرخ القديم ويصب عليه جام انتقاداته، ويرميه بالتقصير في بعض المواضيع وفي التطويل في غيرها، وما شابه ذلك من الانتقادات التي يجب أن توجه بحق لمؤرخ التاريخ الحديث الذي لا عذر له في التقصير عن إيفائها حقها.
والواقع أننا لا نبالغ إذا قررنا أن المؤرخ الذي يؤلف في التاريخ القديم، يشبه من كان على سفر ليلا في مركبة بخارية تشق به المسافات الشاسعة في ظلمة حالكة يتخللها بعض أقباس ضئيلة من النور هنا وهناك، إلى أن يصل المسافر إلى محط مضاء بالأنوار الساطعة، فيستيقظ على ضوئه ويرى ما حوله من أناس ومبان وسلع، وبعد أن يقضي لحظة بها يتابع سيره ثانية في ظلمة حالكة إلى أن يصل إلى محط آخر، وهكذا حتى يلقي عصا تطوافه، فهذه الظلمة هي مجاهل التاريخ القديم، وتلك المحاط هي المعلومات التي جاء بها الزمن، وأبقى عليها الدهر.
وخلاصة القول: أن المؤرخ في التاريخ القديم، لا يستطيع أن يكتب كتابا متصلة أفكاره بعضها ببعض تمام الاتصال في تاريخ أية بلدة قديمة قد ضاعت معظم آثارها، أو كانت لا تزال دفينة تحت تربتها لم يكشف عنها بعد. وتنحصر براعة المؤرخ الذي يتصدى لكتابة تاريخ دولة قديمة في سعة اطلاعه وقوة خياله ، وقدرته على استنباط الحوادث العظيمة وربطها بما لديه من المعلومات الضئيلة الهزيلة التي أبقت عليها يد الدهر، فهو بتلك المقدرة يمكنه أن يتغلب على الفجوات التي تعترض سيره.
نامعلوم صفحہ