ويلاحظ في ذلك الخطاب أن التهديد بالمحاكمة لم يستعمل فقط لمنع الإنسان الخارج على القانون من الاستيلاء على قبر المتوفى، بل إن له، فضلا عن ذلك، مغزى آخر هو فكرة المحاكمة التي تعبر عن المسئولية الخلقية فيما بعد الموت، وإنها بالتأكيد هي الباعث الذي حدا بذلك الرائد العظيم أن يعيش عيشة فاضلة؛ أي إن غرض المتوفى أن يتوقف مصيره على حياته اليومية في عالم الدنيا؛ مثال ذلك قوله: «لقد رغبت في أن يحسن حالي في حضرة الإله العظيم.» ومن ذلك نعرف أنه كان ينتظر طوال حياته احتمال وقوفه أمام الحضرة الرهيبة فيما بعد الموت ليحاسب على كل سيئة يكون قد ارتكبها في أثناء حياته الدنيوية.
ولا شك أن تدوين مثل تلك الأقوال في جبانات عصر الأهرام (أي منذ خمسة آلاف سنة) لم يكن أمرا قليل الأهمية والجدوى؛ لأنه أقدم برهان على الشعور بالمسئولية الخلقية عند قدماء المصريين في عالم الحياة الآخرة؛ إذ نجد في بلاد أخرى - بعد مرور ما يربو على ألفي سنة من ذلك التاريخ - أن الخير والشر كانا يحالان معا إلى عالم واحد من عالم الأموات من غير أن يكون بينهما أي تمييز، فكأن ما ذكرناه عن ذلك فيما تقدم كان مشهدا خلقيا فريدا لا نظير له ننظر من خلاله ذلك التسامي رغم ما يحيط به من حالك الظلام الكثيف، فكان مثله مثل شعاع الشمس ينفذ في حوالك الظلمات.
على أن الوازع الخلقي لم يبق منحصرا نفوذه في العوامل الشخصية، مقتصرا على علاقة الإنسان بأسرته وجيرانه أو المجتمع الذي يعيش فيه فحسب، بل كان قد بدأ تأثيره يظهر في ذلك الزمان في الأوساط العليا من المجتمع البشري، حتى صار تأثيره يظهر في واجبات الحكومة نحو عامة جميع الشعب ولو أدى تنفيذ تلك الواجبات إلى عدم رعاية حقوق الأسرة أصلا. فقد وجدنا في عصر مبكر مثل عصر الأهرام أن الوزير العادل «خيتي» قد صار مضرب الأمثال بسبب الحكم الذي أصدره ضد أقاربه عندما كان يرأس جلسة للتقاضي كانوا فيها أحد الطرفين المتخاصمين؛ إذ أصدر حكمه ضد قريبه دون أن يفحص وقائع الحال، وكان ذلك منه تورعا عن أن يتهم بمحاباة أسرته أو ممالأتها ضد خصومها. وقد جاء في أحد النقوش القديمة التي تعرضت لإعادة ذكر الحادث: «وحينما أراد واحد منهم أن يستأنف الحكم ... فإنه (أي الوزير) صمم على رأيه الأول.» وبعد مضي ألف وخمسمائة سنة على ذلك الحادث كان اسم «خيتي» المذكور يقتبس في الحياة الحكومية مثلا للإجحاف بالغير يجب ألا يحتذى حذوه. وقد أخبر الفرعون وزراء القرن الخامس عشر ق.م «أن الحكم المشهور الذي أصدره «خيتي» السالف الذكر كان أكثر من العدالة»؛ لما فيه من الشطط في التحرز عن محاباة الأقارب.
وتحتوي متون الأهرام أيضا على أدلة قاطعة لا تقبل الشك على أن طلبات «العدالة» و«الحق» كانت قوتهما أقوى من سلطان الملك نفسه، فلم يكن الملك معفى من القيام بما تحتاجه قبور الأشراف، التي تنطق نقوشها بأنهم كانوا مهتمين بإقامتها كل اهتمام، وكان الإله الذي يعمل الملك على إرضائه هو «رع»، وهو نفس الإله الذي كانت تعمل الرعية على إرضائه. وإليك ما جاء في أحد النقوش: «لا توجد سيئة اقترفها الملك «بيبي»، وهذه الكلمة ذات وزن في نظرك يا «رع».» ونجد في صيغة شمسية الطراز أن نوتي «ع» يخاطب هكذا: «أنت يا من تعبر بالبريء الذي لا سفينة له، يا نوتي حقل القصب، إن الملك «مريرع» (بيبي الأول) عادل أمام السماء والأرض.» ومن ذلك أيضا: «إن هذا الملك «بيبي» بريء، إن هذا الملك «بيبي» ممدوح.» وكذلك كان «نجم الصباح» (وهو إله شمس) يقدر المركز الخلقي لفرعون المتوفى، فترى في النقش ما يأتي: «أنت يا «نجم الصباح» اجعل «بيبي» هذا يجلس لأنه بريء، واجعله يرتفع لأنه مبجل.» وكان لا بد بالطبع من تحديد قيمة المتوفى الخلقية بصفة قانونية وإجراء قانوني طبقا لما وهبه المصري القديم من الإدراك القانوني الحاد؛ فقد رأينا أن الأشراف يشيرون إلى المحاكمة في نقوش قبورهم، وأن الملك نفسه عرضة لهذه المحاكمة، بل إن الآلهة لا يفلتون منها؛ إذ قد ذكر أن كل إله يساعد الفرعون في رفعه إلى السماء يبرأ أمام «جب» (إله الأرض).
على أن الفرعون الذي أعلنت براءته ورفع إلى السماء بتلك الكيفية كان يستمر في إظهار نفس الصفات الحسنة في القيام بأعمال ملكه السماوي الذي يسند إليه: «إنه يقضي بالعدل أمام «رع» في يوم العيد (المسمى) رأس السنة، فالسماء في سرور، والأرض في حبور حينما سمعا أن الملك «نفر كارع» (بيبي الثاني) قد أقام العدل [مكان الباطل]، والذين يجلسون مع الملك «نفر كارع» في قاعة العدل مرتاحون للقول الحق الذي خرج من فمه.» ومما يلفت النظر أن الملك كان يقضي بتلك العدالة في حضرة «رع» إله الشمس، وكذلك نجد تصريحا شمسيا يؤكد بأن الملك «وناس» قد «أقام العدل فيها (أي في الجزيرة التي استقر فيها) مكان الباطل.»
ونجد في القرن الثامن والعشرين ق.م أن أحد ألقاب الملك «وسركاف» الرسمية لقب «مقيم العدالة» (ماعت)، وعلى ذلك نرى أن اعتبار الملك الراحل إلى السماء حاكما بها (أي بالعدالة «ماعت») في الحياة الآخرة إن هو إلا استقرار للنظام الخلقي الذي كان يرعاه فوق الأرض، ولذلك تقص علينا متون الأهرام: «أن الملك «وناس» يخرج للعدالة (يعني ماعت) ليأخذها معه (أي ماعت).»
وكذلك تقص علينا متون الأهرام: «أن الملك «وناس» يخرج في يومه هذا ليتمكن من إحضار العدالة (ماعت) معه.»
ولمناسبة التأمل في لقب الملك «وسركاف» الملكي السالف الذكر يتجه نظرنا إلى ذكرى أخرى ممتعة؛ وهي أنه في خلال حكم تلك الأسرة ختم أحد وزرائها العظام مجموعة من حكمه الطريفة بالكلمات الآتية: «لقد بلغت من العمر العاشرة بعد المائة، منحني الملك في خلالها هبات تفوق هبات الأجداد؛ لأني أقمت العدل للملك حتى القبر.» فهذا الوزير الأول الذي فاه بذلك البيان هو «بتاح حتب» الذي اعتزل منصب الوزير الأول للملك «إسيسي» أحد ملوك الأسرة الخامسة في القرن السابع والعشرين ق.م. وليس من شك في أن «بتاح حتب» هذا بلغ سن الرجولة الناضجة في عهد الفرعون «وسركاف»، وبذلك يمكننا أن نرى بعض الصلة بين قول ذلك الوزير الحكيم: «إني أقمت العدل» وبين لقب «وسركاف» الرسمي وهو «مقيم العدالة».
وإن حكم «بتاح حتب» تمدنا بأقدم نصوص موجودة في أدب العالم كله للتعبير عن السلوك المستقيم، وفي حين أنه لم يصلنا من العهود السابقة لها سوى نتف مبعثرة للتعبير عن السلوك الخلقي، وعن التقدم المدهش في مجاري الإدراك الخلقي الذي وصل إليه الإنسان في عهد الاتحاد الثاني، فإننا نجد أن حكم «بتاح حتب» الغزيرة المادة تلخص لنا مقدارا كبيرا من أدب ذلك العصر. وحينما شعر ذلك الوزير المسن بضعفه الناشئ من تقدمه في السن، كما ذكره هو في مقدمة حكمه، طلب إلى الملك أن يسمح له بتعليم ابنه (أي ابن الوزير) ليعده للقيام بأعباء الواجبات الحكومية حتى يكون مساعدا لوالده وخلفا له، وقد وافقه الملك على ذلك، وحينئذ قام الوزير الكبير بالنصح لابنه بألا يسيء استعمال الحكمة التي سيلقنه إياها، بل ينتهج سبيل التواضع، فيقول: «لا تكونن متكبرا بسبب معرفتك، فشاور الجاهل والعاقل؛ لأن نهاية العلم لا يمكن الوصول إليها، وليس هناك عالم بلغ في فنه حد الكمال، وإن الكلام الحسن أكثر اختفاء من الحجر الأخضر الكريم، ومع ذلك فإنه يوجد مع الإماء اللائي يعملن في إدارة حجر الطاحون.» ثم يعقب ذلك ثلاث وأربعون فقرة تحتوي على نصائح مختلفة المواضيع، لم يبذل أي جهد لترتيبها أو تنظيمها، بل كتبت كل فقرة منها عفو الخاطر بحسب ما كان يخطر في ذهن رجل مسن حنكته تجاريب الحياة ومسئولياتها التي أراد أن يطرحها عن كاهله إلى كاهل غيره.
ويؤكد في حكمه التأكيد القوي وجوب مراعاة حسن الذوق واستعمال الذهن الذي أطلق عليه كالمعتاد كلمة «القلب»، وأحسن الصفات القيمة التي يجب على الشاب أن يتحلى بها أن يكون قادرا على الإصغاء أو الطاعة [يقابلها حرفيا: يستمع] فنجده يقول: «إن المستمع هو الذي يحبه الإله، أما الذي لا يستمع فإنه هو الذي يبغضه الإله. والعقل (القلب حسب النص الأصلي) هو الذي يجعل صاحبه مستمعا أو غير مستمع، إن ثروة المرء العظيمة هي عقله ... فما أفضل الابن عندما يصغي لأبيه، والابن إذا وعى لما يلقيه عليه والده فإنه لن يخيب في مشروع من مشروعاته. وعليك أن تعلم من يستمع إليك كأنه ابنك، ومن سيكون ناجحا في نظر الأمراء، ومن يوجه فهمه حسبما يقال له ... ما أكثر المصائب التي تنزل بمن لا يستمع. والرجل العاقل يبكر في الصباح ليصلح من شأن نفسه، أما الجاهل فإنه يصبح في حالة ارتباك، كما أن الأحمق الذي لا يستمع، فإنه لم يسئ إليه أحد، بل هو يعتبر الحكمة جهلا، وما يفيد كما لا نفع يرجى منه. والابن المطيع (الذي يستمع) ... يصل إلى الشيخوخة وينال الاحترام، وهو يتكلم بدوره لأولاده معيدا لهم نصائح والده ... فهو إذن يتحدث لأولاده وهم بعد ذلك يتحدثون لأولادهم.»
نامعلوم صفحہ