وفي «إدفو » بالوجه القبلي تقمص إله الشمس صقرا؛ لأن تحليق هذا الطائر المرتفع كان يخيل للقوم أنه يكاد يكون رفيق الشمس في علوها، وهذا ما ساق خيال فلاحي وادي النيل المبكرين الأول إلى أن الشمس لا بد أن تكون صقرا مثله، يقوم بطيرانه اليومي عبر السماوات، ومن أجل ذلك أصبح قرص الشمس ذو الجناحين المنشورين أعم رمز في الديانة المصرية القديمة. وقد انحدرت إلينا هذه الفكرة عن طريق الأدب العبراني في تشابيهه التي منها «جناح الصباح» و«شمس العدالة» ... التي تحمل الشفاء في جناحيها. وكان إله الشمس بصفته صقرا يسمى «حور» [حوريس أو حوروس أو «حور أختي»]؛ أي حور الأفق، ولا تزال توجد آثار بعض المميزات بين آلهة الشمس المحلية العتيقة في متون الأهرام، وقد ابتدأت عملية مزج في عهد مبكر بين هذه الآلهة فضمتها كلها بعضها إلى بعض ووحدتها، حتى إن إله الشمس كان يسمى «رع حور أختي» أو «رع آتوم»، وقد أسرع كبراء رجال المعابد المحلية إلى التعجيل بهذه العملية؛ إذ كان كل من تلك المعابد يجري وراء نيل الشرف بادعائه أن مكانه هو الذي ولد فيه إله الشمس.
وقد بقي إله الشمس إلها يمثل الطبيعة عصورا طويلة فيما قبل التاريخ، فكان بذلك إله الشمس في أقدم العصور الغابرة مقصورا على الوظائف المادية؛ ولذلك كان يظهر في أقدم معابد الشمس بأبي صير بأنه منبع الحياة والخير، وقالت عنه الناس: «لقد أبعدت العاصفة وأزجيت المطر وحطمت السحاب.» وكانت هذه الظواهر في نظرهم أعداء له، وكانت بطبيعة الحال مجسمة كذلك في أساطير العامة؛ إذ ورد في إحدى الأساطير أن إله الشمس فقد عينه بيد عدوه.
ولما كان وادي النيل الذي ظهر فيه إله الشمس منذ زمن بعيد بمظهر قوة من قوى الطبيعة قد أخذ ينتقل بالتدريج إلى مكانة أمة عظيمة، فإن ميدان عمل إله الشمس أصبح بالضرورة ميدان الحياة البشرية والشئون القومية.
أما الخطوات التي نتج عنها الاتحاد الأول للبلاد فلا نعلم عنها شيئا، غير أنه من المؤكد أن أميرا من مدينة «إيوان» - وهي التي أطلق عليها الإغريق فيما بعد اسم «هليوبوليس» - قام بإخضاع الإمارات المصرية الأخرى في عهد ما قبل التاريخ، ووحد المملكة لأول مرة تحت حكم ملك واحد. ومن المحتمل أن هذا العمل حدث قبل سنة 4000ق.م. ومع أنه لم يصلنا عن اسم هذا الملك صدى واحد في خلال الفترة التي انقضت منذ ذلك العهد، وتقدر بنحو 6000 سنة، فإن عمله قد ترك أثرا خالدا في حياة مصر ومدنيتها؛ لأنه أسس وأدار أول نظام قومي عظيم خضعت له حياة عدة ملايين من الأنفس.
ولا يفوتنا أن نعيد إلى ذاكرتنا هنا أن هذا الاتحاد الأول ظل ثابتا في البلاد بضعة قرون، وبعد انهياره عمت البلاد ثانية فترة انحلال أعقبها حوالي 3400ق.م فتح آخر للإقطاعات السياسة، فانضم بعضها إلى بعض، وتألف منها جميعا ما نسميه «بالاتحاد الثاني». وقد أعطت زعامة «هليوبوليس» في عهد الاتحاد الأول نفوذا وشهرة لهذه المدينة لم تفقدهما قط فيما بعد؛ فقد أثرت على المدنية المصرية تأثيرا عميقا كانت فيه المكانة السامية لإله الشمس، وإلى تأثير عهد الاتحاد الأول يرجع السبب في انتقال الأوضاع والمميزات الحكومية الدنيوية التي كانت تسير عليها الحكومة المصرية إلى أنظمة إله الشمس في «هليوبوليس» بصفته الإله القومي، فأصبح ملك كل الآلهة، وخاطبه الناس بقولهم: «إنك أنت الذي تشرف على كل الآلهة ولا يشرف عليك إله ما.» وكذلك أصبح هو في الوقت نفسه الحاكم الأعلى المتصرف في مصير كل الناس. بذلك انتقل إله الشمس من عالم الطبيعة إلى عالم الناس، فأصبح فيه ملكا قديما كان قد حكم مصر يوما ما، كما حكمها الفراعنة من بعده، وقد تغيرت مظاهره الخارجية تبعا لهذا التحول، فتحول زورق الغاب المزدوج الذي كان يسبح فيه إله الشمس فيما قبل التاريخ إلى سفينة ملكية فاخرة مثل سفينة فرعون الأرضية، وكان الاعتقاد أن إله الشمس يعبر بأبهته في هذه السفينة الشمسية الساطعة المحيط السماوي كما كان فرعون يعبر النيل، وكانت له سفينتان: واحدة للصباح وأخرى للمساء. وقد ظهرت أساطير عدة تتحدث عن حكم إله الشمس على الأرض، غير أنه لم يبق منها إلا قطع صغيرة، فمنها الأسطورة التي تقص علينا ما أظهره نحوه بنو البشر بصفتهم رعاياه من نكران الجميل نحوه، حتى إنه اضطر إلى معاقبتهم، وكان يفنيهم قبل أن يترك الأرض ويعتزل في السماء.
ومع أن المصريين ظلوا يشيرون بغبطة وسرور إلى حوادث هذه الأساطير الساذجة، وامتلأ أدبهم الديني بالتلميحات إلى تلك الخرافات حتى آخر عهده، فإنهم عندما ظهروا في شكل أمة موحدة كانوا قد أدركوا أن إله الشمس يقوم بوظائف رفعته فوق مثل هذه التخيلات الصبيانية، وجعلته المتصرف والحاكم العظيم على الأمة المصرية.
وهذا الانتقال الأساسي الذي يعد أول ما عرف في التاريخ من نوعه قد نقل بذلك نشاط إله الشمس الذي كان منحصرا في دنيا المادة وحدها إلى مملكة الشئون البشرية. ولدينا أنشودة للشمس في متون الأهرام يحتمل أنها نشأت في ذلك العهد للاتحاد الأول؛ ونجد في هذه الأنشودة التي تعد أقدم ما وصل إلينا من نوعه، أن موضع الإشادة بإله الشمس هو سيادته على «شئون مصر»؛ إذ تبسط لنا الأنشودة المعاونة الصالحة التي يقوم بتقديمها الإله لأرض مصر والإشراف عليها، بل إنها تنشر أمامنا في أسطر متعاقبة عقود المدح لما يقوم به هذا الإله العظيم لحماية مصر من أعدائها.
وكذلك كان إله الشمس حليفا لفرعون وحاميا له، فإن متون الأهرام تقول عنه:
إنه يمكن له مصر العليا، ويمكن له مصر السفلى، ويهدم له معاقل آسيا، ويخضع له كل الناس
2 [المصريين] الذين سواهم بأصابعه.
نامعلوم صفحہ