فہم فہم
فهم الفهم: مدخل إلى الهرمنيوطيقا: نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر
اصناف
إذا رجعنا إلى المقصد المشترك الذي اتخذه كل واحد من هؤلاء الثلاثة لوجدنا فيه الاعتزام على النظر إلى الوعي بأسره على أنه وعي «زائف» بالدرجة الأساس، هكذا أعادوا، كل بطريقته الخاصة، طرح مشكلة الشك الديكارتي، لنقلها إلى صميم الحصن الديكارتي نفسه. إن الفيلسوف الذي تدرب في مدرسة ديكارت يعرف أن الأشياء محل شك، وأن الأشياء ليست في حقيقتها على ما تبدو عليه، إلا أنه لا يشك في أن الوعي هو على ما يبدو لنفسه، ففي الوعي هناك توافق بين المعنى والوعي بهذا المعنى، ومنذ ماركس ونيتشه وفرويد أصبح هذا أيضا محل شك، وبعد الشك في الأشياء بدأنا في الشك في الوعي نفسه.
غير أن علينا ألا نسيء فهم هؤلاء الثلاثة الكبار وندرجهم في «مذهب الشك»
Skepticism ، إنهم بالتأكيد ثلاثة هادمين عظام، ولكن هذا بحد ذاته ينبغي ألا يضللنا، فالهدم كما يقول هيدجر في «الوجود والزمان» هو لحظة قائمة في كل تأسيس جديد، لقد كان الثلاثة يطهرون الأفق من أجل عالم أكثر أصالة، من أجل بسط سلطان جديد للحقيقة، لا بواسطة النقد «الهادم» وحده، بل بابتكار فن «للتأويل»، لقد تغلب ديكارت على شكه في الأشياء ببينة الوعي، وتغلب هؤلاء على شكهم في الوعي بطرح تفسير للمعنى، وبدءا من هؤلاء صار الفهم هرمنيوطيقا، ولم يعد البحث عن المعنى هو الإفصاح عن الوعي بالمعنى، بل فك شفرة تعبيراته.
3
إن «الكوجيتو»، أي الوعي المباشر، عاجز عن التوصل إلى فهم ما ينتجه؛ ولذا ينبغي عليه اللجوء إلى خطاب آخر لتوضيح إنتاجاته، وهي إنتاجات تكتسي معنى كامنا غير مباشر ينبغي استحضاره ورفعه من مستوى الباطن إلى مستوى الظاهر، تلك هي مهمة التأويل المتمثلة في فك الآليات التي تتحكم في الشعور وتجعله غافلا عن ذاته، وهي بذلك تسمح بتقدير درجة «عبوديته» وتفسير انحسار حقله المعرفي.
ورغم اختلاف الثلاثة الكبار في المناهج المستخدمة وتعثر كل منهم فيما تعثر فيه من موانع وعقبات، فليس هذا بالشيء الجوهري، وإنما الشيء الجوهري هو أن كلا منهم قد ابتكر، بما أتيح له من وسائل، ومع تحيزات عصره وضدها، علما غير مباشر للمعنى غير قابل للرد إلى «الوعي» المباشر للمعنى، لقد جهد كل منهم، بطريقته الخاصة، لكي يجعل منهجه «الواعي» في فك الشفرة مطابقا للعمل اللاواعي للتشفير ، والذي نسبوه لإرادة القوة (نيتشه)، والوجود الاجتماعي (ماركس)، والآليات السيكولوجية اللاشعورية (فرويد)، إن «المكر سوف يواجه بمكر مضاعف.»
4
هكذا يتبين أن السمة المميزة لماركس وفرويد ونيتشه هي الفرضية العامة المتعلقة بكل من عملية تزييف الوعي ومنهج فك رموز هذا التزييف. إن العمليتين تمضيان معا، ما دام رجل الارتياب يقوم بعمل رجل الزيف والخديعة ولكن في الاتجاه المعاكس ، لقد اقتحم فرويد مشكلة الوعي الزائف من خلال الطريق المزدوج للأحلام والأعراض العصابية، أما ماركس فقد اقتحم مشكلة الأيديولوجيات من داخل حدود الاغتراب الاقتصادي، وأما نيتشه، وقد ركز على مشكلة «القيمة» فقد بحث عن المفتاح الخاص بفضح الكذب وكشف الأقنعة في ناحية إرادة القوة: شدتها وضعفها.
حقيقة الأمر أن «جينيالوجيا الأخلاق» بالمعنى النيتشوي، ونظرية الأيديولوجيات بالمعنى الماركسي، ونظرية المثل والأوهام بالمعنى الفرويدي، تمثل ثلاثة طرق متلاقية لكشف الزيف، غير أن هناك شيئا يجمعهم لعله أشمل من هذا، وعلاقة خفية لعلها أشد وأعمق، إن الثلاثة جميعا يبدءون بالارتياب المتعلق بأوهام الوعي، ثم يمضون في استخدام حيل فك الرموز، غير أنهم جميعا أبعد ما يكونون عن الانتقاص من منزلة «الوعي»، إنما يهدفون إلى توسيعه، فقد كان هدف ماركس مثلا هو تحرير العمل بواسطة فهم الضرورة، على أن هذا التحرير لا ينفصل عن «الاستبصار الواعي» الذي يناهض تعمية الوعي الزائف وينتصر عليها، وكان مراد نيتشه هو زيادة قوة الإنسان واستعادة بأسه وشدته، على أن معنى إرادة القوة يجب أن يسترد بوساطة الشفرات: «الإنسان الأعلى» و«العود الأبدي» و«ديونيسيوس» التي بدونها تتردى القوة المطلوبة في مجرد عنف دنيوي، وكانت غاية فرويد هي أن يقبض الشخص المحلل على زمام وعيه ويمتلك المعنى الذي كان غريبا عنه، فيتسع بذلك نطاق وعيه ويعيش بطريقة أفضل، ويصبح في النهاية أكثر حرية، وأسعد حالا إذا أمكن.
5 (2) ماركس
نامعلوم صفحہ