فہم فہم
فهم الفهم: مدخل إلى الهرمنيوطيقا: نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر
اصناف
Hermeneia
تشير أحيانا إلى التلاوة الشفهية، تلاوة قصيد ملحمي لهومر على سبيل المثال، وفي محاورة «أيون»
Ion
لأفلاطون نجد أيون ذلك المؤول الشاب يتلو هومر، ويقوم من خلال تجويده والتلاعب بطبقات صوته بتأويل الشاعر الكبير والتعبير عنه بل وتفسير دقائق معانيه، ويوصل إلى المستمعين أكثر مما يدركه أو يفهمه، وأيون بذلك يصبح، شأنه شأن هرمس، حاملا لرسالة هوم.
2
كان هومر نفسه، بطبيعة الحال، مبعوثا من الآلهة إلى الإنسان، كان مؤولا يبين للناس سبل الرب ويسوغها لهم (على حد تعبير ملتون)، كان هومر إذن مؤولا بمعنى أكثر بداءة؛ إذ لم تكن الكلمات قبله قد قيلت، (من الجلي أن الأساطير كانت موجودة قبل هومر، ومن ثم يمكننا القول بأنه قام بتأويلها والتصريح بها فحسب)، كان هومر نفسه يعتبر ملهما من قبل الآلهة ، كان هومر من خلال قوله مترجم الآلهة ومفسرهم.
ولعل مسألة القول أو التلاوة الشفاهية بوصفها «تأويلا» أن تذكر الأدباء ونقاد الأدب بمستوى دأب الكثيرون منهم على إهماله والانتقاص من شأنه أو ربما نسيانه كليا، غير أن الأدب يستمد الكثير من ديناميته من قوة الكلمة المنطوقة، فمنذ القدم والأعمال العظيمة في اللغة كان المقصود بها أن تتلى جهارا وتسمع، وينبغي أن تلفتنا قوة اللغة المنطوقة إلى ظاهرة مهمة، وهي ضعف اللغة المكتوبة! فاللغة المكتوبة تفتقر إلى «القوة التعبيرية» البدائية التي تتحلى بها الكلمة المنطوقة، صحيح أن التدوين يحفظ اللغة ويحميها من الاندثار (وأنه أساس التاريخ والأدبيات)، إلا أنه يضعفها في الوقت نفسه، وقد أكد أفلاطون على ضعف اللغة المكتوبة، وعجزها في «الرسالة السابعة» وفي «فايدروس»، وما من لغة مكتوبة، إلا تنادي، في صمت، بإعادة تحويلها إلى شكلها المنطوق لكي تسترد قوتها المفقودة، الكتابة «اغتراب للغة» عن قوتها الحية، وليس من قبيل الصدفة أن كلمة «اللغة» ونظيراتها في أغلب اللغات تشتق من «اللسان» ومن «النطق».
للكلمات الشفاهية ما يشبه القوة السحرية، غير أنها حين تصبح أشكالا مرئية تفقد الشيء الكثير من هذه القوة، وإذا كان الأدب يستخدم الكلمات لكي يرفع تأثيرها إلى ذروته فإن الكثير من هذه القوة يهدر عندما نستعيض عن السمع بالرؤية في عملية القراءة، نحن بطبيعة الحال لا نملك أن نعود إلى الوراء حيث كان الأدب نشاطا شفاهيا، ونحن - بطبيعة الحال - لا يليق بنا أن ننكر مزايا الكتابية والاتصال الكتابي، غير أن علينا ألا ننسى أن اللغة في الأصل هي كيان مسموع لا منظور، وأن ثمة أسبابا وجيهة تجعل اللغة الشفاهية أيسر «فهما» من اللغة المكتوبة.
انظر إلى فعل القراءة الجهرية، إن التعبير الشفاهي ليس استجابة سلبية للعلامات الماثلة على الصفحة (شأن الفونوغراف إذ يؤدي تسجيلا)، إنه عملية إبداعية، أداء، كالعملية التي يقوم بها عازف البيانو وهو «يؤول» مقطوعة موسيقية، سل أي عازف بيانو يجبك أن المقطوعة بحد ذاتها هي مجرد «قشرة»، وأن «معنى» الجمل الموسيقية لا بد من «فهمه» حتى يتسنى تأويل الموسيقى، وقل الشيء نفسه عن قراءة اللغة المكتوبة، إن المؤول الشفهي ليس أمامه من العمل الأصلي إلا قشرة: مخطط عام للأصوات لا إشارة فيه للنغمة، ولا للنبر والتشديد، ولا الوضع الجسماني، غير أن عليه أن «يعيد إنتاج» ذلك في صوت حي، هنا أيضا لا بد لمن يعيد الإنتاج من أن يعي معنى الكلمات لكي يعبر، ولن يكون بمقدوره أن يؤدي جملة واحدة ما لم يدرك معنى القول، والسؤال الآن هو: كيف تتم هذه العملية الغامضة، عملية فهم المعنى؟ تمثل هذه العملية مفارقة ملغزة: فأنت لكي تقرأ لا بد لك من أن تفهم مقدما ما سيقال، ولكن هذا الفهم ينبغي أن يأتي من القراءة! ها هنا تبدأ في البزوغ تلك العملية «الديالكتيكية» المعقدة التي يشتمل عليها كل فهم حين يقوم بإدراك معنى جملة من الجمل، وفي الاتجاه المقابل يقدم التشديد والوضع اللذين لا يكون للكلمة المكتوبة معنى بدونهما، للتأويل الشفهي إذن جانبان: فمن الضروري أن تفهم شيئا ما لكي تعبر عنه، إلا أن الفهم نفسه يأتي من القراءة المؤولة، من التعبير.
والآن، ماذا تحمل هذه المسألة من متضمنات أدبية ونقدية؟ ماذا تحمل بالنسبة للقائمين بمهنة «التفسير الأدبي» وبالأخص بالنسبة لمعلمي الأدب؟ إنها أولا تشير إلى الحاجة إلى إعادة النظر في مسألة الخلفية التاريخية والسيكولوجية وأهميتها في التفسير، أي إعادة النظر في دور المعطيات السياقية، التاريخية والنفسية، بالنسبة للفهم الأدبي، إن للنص «وجوده» الخاص في الكلمات نفسها، في ترتيبها وفي مقاصدها، وفي مقاصد العمل بوصفه موجودا من نوع معين، فإذا صح ذلك ألا يكون من شأن الناقد الذي لا يتسلط على النص، بل يستسلم لوجود العمل، أن يساعد على استعادة ما فقده النص حين تحول إلى كلمات مكتوبة؟ ألا يقوم الناقد حين يخرج أدواته التصورية (سواء كانت تتصل بالشكل أو المضمون) بتشييد سياق من المعنى (دائرة تأويلية) سوف ينبثق منه أداء شفاهي أكثر كفاءة، حتى لو تخفى ذلك في قراءة صامتة أكثر عمقا تأويليا؟ إن هذا التوجه لا يتناقض، بل ينسجم، مع ما يصبو إليه «النقد الجديد»
نامعلوم صفحہ