فہم فہم
فهم الفهم: مدخل إلى الهرمنيوطيقا: نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر
اصناف
في كتاب «المعرفة والمصلحة» ظل الطابع السائد هو نقد المعرفة، ولم يقدر لهابرماس أن ينشغل بالهرمنيوطيقا النظرية والعملية بشكل جاد ودائم، ويتحول بالتالي من نقد المعرفة إلى نقد اللغة، إلا بعد اشتباكه مع جادامر في سجال عنيف (لعله أطول المعارك الفكرية في التاريخ الحديث؛ إذ استمر عدة عقود من الزمن)، في هذا الجدل نجد هابرماس يأخذ على جادامر ميله إلى إخضاع الفهم والتأويل لسلطة التراث (التقليد/الإرث)، فالتراث في نظر هابرماس (وفي نظر كل مفكر ذي خلفية ماركسية) هو وعاء يحوي تحريفات أيديولوجية هائلة ويختزن في قلبه الزيف والتعمية والتشييء، زد على ذلك أن التراث ليس شيئا متصلا موصولا ثابتا، فهو عرضة للتمزق الذي يحدثه التعقل والتفكير العقلاني، وهو مليء بالتمزقات التي تخلق ألوانا من القطيعة والانقلاب، ثمة مصالح حقيقية في المنهج، وفي العلم بصفة عامة، ينطوي عليها التراث بحيث لا يكفي أن نلم بأسس الفهم ودعائمه بل يلزمنا خلاص، يلزمنا انعتاق من ربقة التراث وبخاصة إذا كان هذا التراث قمعيا.
كما سخر هابرماس من إحجام جادامر عن التنظير في المنهج التأويلي واكتفائه بمجرد عرض مفاهيم موغلة في التجريد من مثل «الآفاق» و«التحام الآفاق»، الأمر الذي استهدف الهرمنيوطيقا لوابل من التهكم والازدراء من جانب الوضعيين.
أما السلطة التي دافع عنها جادامر وبرأها، والحكم المسبق (أو التحيز) الذي جعل منه أداة للفهم كما أراد هيدجر، فقد نالا قسطهما من التفنيد والنقد، ذلك أن هابرماس يرى الأحكام السبقية التي نتشربها من تراثنا كثيرا ما تكون عثرات وقيودا على العقل، وينبغي أن نخضعها للتمحيص النقدي باسم العقل والتأمل، لا بد من أن نضع طاقة العقل وسلطانه في مواجهة الطبيعة الظاهرية والقبول السطحي لأطروحات التراث وطرائقه وسبله، أما المبدأ القائل بعبثية التخلص من الأحكام المسبقة واستحالته ، والذي أخذه جادامر عن هيدجر، فهو مبدأ خاطئ في نظر هابرماس الذي يؤكد أن بإمكان الهرمنيوطيقا أن تقهر التحيزات عن طريق المنهج النقدي، وإذا كان جادامر قد حاول أن يزيل التوتر بين النزعة الموضوعية والنزعة الذاتية ويذيب الفوارق بينهما ويفض الاشتباك، فإن هابرماس قد أعاد مرة ثانية حكم الموضوعية في الهرمنيوطيقا ورد لها سلطانها.
وأما اللغة، تلك التعويذة الهيدجرية التي تعبد بها هيدجر وجعلها مكافئة للوجود ذاته، فهي في نظر هابرماس كيان أيدلولوجي يختزن في قلبه الزيف والخرافة والاستلاب، وإذا كانت الأيديولوجية في اللغة قمعية كابتة فإن فهم اللغة لا جدوى منه ما لم يتم التحقق من الأيديولوجيات وتمحيصها، ثمة فرق بين الفهم من خلال اللغة وبين الانعتاق من اللغة، ومن المتيقن أن المبادرة السياسية بتصحيح الموقف أهم بكثير من مجرد تفسير الألفاظ، ذلك أن تشويهات اللغة لا تأتي من استعمال اللغة بل من ارتباطها بالعمل وبالسلطة، وهو ارتباط يظل أعضاء المجتمع غافلين عنه وغير متفطنين إليه، الأمر إذن ينطوي على تشويه منظم للفهم وليس مجرد سوء فهم، وإذا كان الحوار لا يكفي للتغلب على هذا التشويه وهذه الغفلة فإن كشف الأيديولوجيا وتفكيكها يجب أن يمر خلال مسار التفافي من الإجراءات المعنية ب «التفسير»
Explaining
وليس مجرد «الفهم»
Understanding .
هذه بعض المناوشات الصغرى التي جرت في السجال الطويل بين هابرماس وجادامر، فالحق أن جدل هابرماس ينفذ إلى القلب من تأويلية جادامر ليصبح أساسا لتأويلية هابرماس النقدية، يزعم هابرماس أن المشكلة الجذرية في تأويلية جادامر هي أنه يظن أن كل حوار بين ذات وموضوع، أو بين ذات وأخرى، هو حوار صادق وأصيل، ويظن أن كل التحام بين أفقين هو التحام حقيقي، لم يضع جادامر في حسبانه احتمال وجود حوار زائف وإجماع زائف، ولم يدر بخلده أن لعبة الفهم والتفسير الجارية المتدفقة يمكن أن تفسدها القوى الأيديولوجية المسيطرة والعنيفة والمشوهة، والتي قد تشف وتدق بحيث لا يراها ولا يحسها اللاعبون أنفسهم، يتفق هابرماس مع جادامر في أن الحوار يجب أن يكون تفاعلا متبادلا حرا بين قوتين، ولكنه يرى أن هذه الحرية التي يقوم عليها الحوار مهددة في الصميم، فما إن يصاب الحوار بعدوى الأيديولوجيا حتى تنهار حريته ويصبح الاتفاق الذي يفضي إليه الحوار اتفاقا زائفا، بإمكان الأيديولوجيا أن تتخلل «نظرة العالم»
World View
كليا، وتتخلل «الأفق»
نامعلوم صفحہ