1 الجزء الأول
1.1
1.1.1
[1.1.1]
قال أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة جعلنا الله وإياك على النعم شاكرين وعند المحن والبلوى صابرين وبالقسم من عطائه راضين وأعاذنا من فتنة العصبية وحمية الجاهلية وتحامل الشعوبية فإنها بفرط الحسد ونغل الصدر تدفع العرب عن كل فضيلة وتلحق بها كل رذيلة وتغلو في القول وتسرف في الذم وتبهت بالكذب وتكابر العيان وتكاد تكفر ثم يمنعها خوف السيف وتغص من النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر بالشجا وتطرف منه على القذى وتبعد من الله بقدر بعدها ممن قرب واصطفي وفي الإفراط الهلكة وفي الغلو البوار. والحسد هو الداء العياء أول ذنب عصي الله به في الأرض والسماء ومن تبين أمر الحسد بعدل النظر أوجب سخطه على واهب النعمة وعداوته لمؤتي الفضيلة لأن الله تعالى يقول {نحن قسمنا بنهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا} فهو تبارك وتعالى باسط الرزق وقاسم الحظوظ والمبتدئ بالعطاء والمحسود آخذ ما أعطى وجار إلى غاية ما أجرى.
1.1.2
[1.2.1]
وقال ابن مسعود لا تعادوا نعم الله قيل ومن يعادي نعم الله؟ قال حاسد الناس. وفي بعض الكتب يقول الله الحاسد عدو لنعمتي متسخط لقضائي غير راض بقسمي. وقال ابن المقفع الحاسد لا يبرح زاريا على نعمة الله لا يجد لها مزالا ويكدر على نفسه ما به فلا يجد لها طعما ولا يزال ساخطا على من لا يتراضاه ومتسخطا لما لا ينال فوقه فهو مكظوم هلع جزوع ظالم أشبه شيء بمظلوم محروم الطلبة منغص المعيشة دائم السخطة لا بما قسم له يقنع ولا على ما لم يقسم له يغلب والمحسود يتقلب في فضل الله مباشرا للسرور ممهلا فيه إلى مدة لا يقدر الناس لها على قطع وانتقاص.
[1.2.2]
ولو صبر الحسود على ما به وضمر لحزنه كان خيرا له لأنه كلما هر خسأه الله وكلما نبح قذف بحجره وكلما أراد أن يطفئ نور الله أعلاه الله {ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون} ولله در القائل [كامل]
وإذا أراد الله نشر فضيلة
يوما أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت
ما كان يعرف طيب عرف العود
1.1.3
[1.3.1]
ولم أر في هذه الشعوبية أرسخ عداوة ولا أشد نصبا للعرب من السفلة والحشوة وأوباش النبط وأبناء أكرة القرى فأما أشراف العجم وذوو الأخطار منهم وأهل الديانة فيعرفون ما لهم وما عليهم ويرون الشرف نسبا ثابتا. وقال رجل منهم لرجل من العرب إن الشرف نسب والشريف من كل قوم نسيب الشريف من كل قوم.
[1.3.2]
وإنما لهجت السفلة منهم بذم العرب لأن منهم قوما تحلوا بحلية الأدب فجالسوا الأشراف وقوما اتسموا بميسم الكتابة فقربوا من السلطان فدخلتهم الأنفة لآدابهم والغضاضة لأقدارهم من لؤم مغارسهم وخبث عناصرهم فمنهم من ألحق نفسه بأشراف العجم واعتزى إلى ملوكهم وأساورتهم ودخل في باب فسيح لا حجاب عليه ونسب واسع لا مدافع عنه ومنهم من أقام على خساسة ينافح عن لؤمه ويدعي الشرف للعجم كلها ليكون من ذوي الشرف ويظهر بغض العرب يتنقصها ويستفرغ مجهوده في مشاتمها وإظهار مثالبها وتحريف الكلم في مناقبها وبلسانها نطق وبهممها أنف وبآدابها تسلح عليها فإن هو عرف خيرا ستره وإن ظهر حقره وإن احتمل التأويلات صرفه إلى أقبحها وإن سمع سوءا نشره وإن لم يسمعه نفر عنه وإن لم يجده تخرصه فهو كما قال القائل [بسيط]
إن يعلموا الخير يخفوه وإن علموا
شرا أذيع وإن لم يعلموا بهتوا
1.1.4
[1.4.1]
ومن ذا رحمك الله صفا فلم يكن له عيب وخلص فلم يكن فيه شوب؟ وقيل لبعض الحكماء هل من أحد ليس فيه عيب؟ فقال لا لأن الذي ليس فيه عيب هو الذي لا يموت. وعائب الناس يعيبهم بفضل عيبه وينتقصهم بحسب نقصه ويذيع عوراتهم ليكونوا شركاءه في عورته ولا شيء أحب للفاسق من زلة العالم ولا إلى الخامل من عثرة الشريف قال الشاعر [كامل]
ويأخذ عيب الناس من عيب نفسه
مراد لعمري إن أردت قريب
وقال آخر [وافر]
وأجرأ من رأيت بظهر غيب
على عيب الرجال ذوو العيوب
[1.4.2]
وقد كان زياد بن أبي سفيان حين كثر طعن الناس عليه وعلى معاوية في استلحاقه عمل كتابا في المثالب لولده وقال من عيركم فقرعوه بمنقصته ومن ندد عليكم فابدهوه بمثلبته فإن الشر بالشر يتقى والحديد بالحديد يفلح.
1.1.5
[1.5.1]
وكان أبو عبيدة معمر بن المثنى أغرى الناس بمشاتم الناس وألهجهم بمثالب العرب وحاله في نسبه وأبيه الأقرب إليه حال نكره أن نذكرها فنكون كمن أمر ولم يأتمر وزجر عن القبيح ولم يزدجر وهي مشهورة ولكن كرهنا أن تدون في الكتب وتخلد على الدهر ولا سيما وهو رجل يحمل عنه العلم ويحتج بقوله في القرآن.
[1.5.2]
ومن أتعب قلبا وأنصب فكرا ممن أراد أن يجعل الحسنة سيئة والمنقبة مثلبة ويحتاج لإخراج الباطل في صورة الحق فيقصد من المناقب لمثل قوس حاجب يضحك منها ويزري بها ويذهب في ذلك إلى خساسة العود وقلة ثمنه؟ وهذا لو كان على مذاهب التجار والسوق في الرهون والمعاملات لرجع بالعيب على الآخذ لا على الدافع لأن الدافع لا يألو أن يدفع أحقر ما يجد في أكثر ما يأخذ والمغبون من غر بالصغير عن الكبير. وإنما رهن عن العرب بما ضمنه عنها من كف الأذى عن مملكته حتى يحيوا وتنكشف عنهم السنة ولو كان مكان القوس مائة ألف رأس من الغنم عن هذا السبب ما كان القوس إلا أحسن بالدافع والقابل لأن سلاح الرجل هي عزه وشرفه وإسلام المال أحسن من إسلام العز والشرف وقد يدفع الرجل خاتمه وبرده أو رداءه عن الأمر العظيم فلا يسلمه خوفا من السبة وأنفة من العار.
[1.5.3]
قال أبو عبيدة لما قتل وكيع بن أبي سود التميمي قتيبة بن مسلم الباهلي بخراسان وبلغ ذلك سليمان وهو بمكة وهو حاج خطب الناس بمسجد عرفات وذكر غدر بني تميم وإسراعهم في الفتن وتوثبهم على السلطان وخلافهم له فقام الفرزدق ففتح رداءه وقال يا أمير المؤمنين هذا ردائي رهنا بوفاء تميم ومقامها على طاعتك. فلما جاءت بيعة وكيع قال الفرزدق [طويل]
فدى لسيوف من تميم وفى بها
ردائي وجلت عن وجوه الأهاتم
يريد الأهتم بن سمي التميمي ورهطه.
[1.5.4]
وهذا سيار بن عمرو بن جابر الفزاري ضمن لبعض الملوك ألف بعير دية أبيه ورهنه قوسه فقبلها منه على ذلك وساقها إليه وفيه يقول القائل [طويل]
ونحن رهنا القوس ثم تخلصت
بألف على ظهر الفزاري أقرعا
وسيار هذا هو جد هرم الذي تنافر إليه عامر وعلقمة.
[1.5.5]
ومن هذا الباب قول جران وذكر اجتماعه مع نساء كان يألفهن [طويل]
ذهبن بمسواكي وقد قلت إنه
سيوجد هذا عندكن فيعرف
يظن من لا يعرف هذا الخبر أنهن سلبنه المسواك فاعتد عليهن وأخبرهن أنه سيوجد عندهن ويعرف لقدر المسواك عندهن وعنده ولأن الأعراب أنظر قوم في التافه الحقير الذي لا خطر له وكيف يظن به وبهن هذا وبلد نجد مستحلس بضروب من شجر المساويك لا تحصى فكيف يبخل على نساء يهواهن بعود وهو يصطلي به ويختبز ويطبخ بشجره ومتى احتاج إلى مسواك منه لم يتكلفه بثمن ولم يبعد في طلبه؟ والمعنى أن نجدا تختلف منابته فمنه ما ينبت الإسحل ومنه ما ينبت الأراك ومنه ما ينبت البشام فأهل كل ناحية منهم يستاكون بشجر بلدهم وكان جران العود معروفا بهؤلاء النساء يزورهن على حذر من مزار بعيد وهو يستن من الشجر ما ينبت في بلده ولا ينبت في بلدهن فلما أخذن سواكه ليتذكرنه ويسترحن إليه كما يفعل المتحابون قال إن هذا سيوجد عندكن وإذا وجد علم أنه مما ينبته البلد الذي أسكنه فاستدل به على زيارتي إياكن.
[1.5.6]
ويقصد لقول القائل [طويل]
أيا بنة عبد الله وابنة مالك
ويا بنة ذي البردين والفرس الورد
فيتضاحك بالشعر ويستهزئ بالبردين والفرس الورد ويعارض ذلك بملوك فارس وأسرتها وتيجانها وبأن أبرويز ارتبط تسعمائة وخمسين فيلا على مرابطه وبلغت مخدته التي كان يشرف بها على الداخل عليه ألف إناء من الذهب وخدمته ألف جارية وقد جهل هذا معنى الشعر وأخطأ في المعارضة وفخر بما ليس له فيه حظ ولا نصيب.
[1.5.7]
أما معنى الشعر فإن أبا عبيدة ذكر أن وفود العرب اجتمعت عند النعمان بن المنذر فأخرج بردي محرق وهو عمرو بن هند وقال ليقم أعز العرب قبيلة فيأخذهما فقام عامر بن أحيمر بن بهدلة فأخذهما فاتزر بواحد وارتدى بآخر فقال له بم أنت أعز العرب؟ فقال العز والعدد من العرب في معد ثم نزار ثم في مضر ثم في خندف ثم في تميم ثم في سعد ثم في كعب ثم في عوف ثم في بهدلة فمن أنكر هذا من العرب فلينافرني فسكت الناس فقال النعمان هذه عشيرتك كما تزعم فكيف أنت في أهل بيتك وفي بدنك؟ فقال أنا أبو عشرة وعم عشرة وخال عشرة يغنيني الأكابر عن الأصاغر والأصاغر عن الأكابر فأما أنا في بدني فهذا شاهدي ثم وضع قدمه على الأرض وقال من أزالها من مكانها فله مائة من الإبل فلم يقم إليه أحد من الناس فذهب بالبردين فسمي ذا البردين. قال الفرزدق [طويل]
فما تم في سعد ولا آل مالك
غلام إذا ما قيل لم يتبهدل
لهم وهب النعمان ثوبي محرق
بمجد معد والعديد المحصل
[1.5.8]
وأما الفرس الورد فإن الخيل حصون العرب ومنبت العز وسلم المجد وثمال العيال وبها تدرك الثأر وعليها تصيد الوحش وكانوا يؤثرونها على الأولاد باللبن ويشدونها بالأفنية للطلب والهرب وقد كنى الله عنها في كتابه بالخير لما فيها من الخير فقال حكاية عن نبيه سليمان صلى الله عليه وسلم {إني أحببت حب الخر عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب} يعني الخيل وبها كان شغل سليمان عن الصلاة حتى غربت الشمس.
[1.5.9]
وقال طفيل [طويل]
وللخيل أيام فمن يصطبر لها
ويعرف لها أيامها الخير يعقب
وقال آخر [كامل]
ولقد علمت على توقي الردى
أن الحصون الخيل لا مدر القرى
إني وجدت الخيل عزا ظاهرا
تنجي من الغمى ويكشفن الدجى
ويبتن بالثغر المخوف طلائعا
وتبين للصعلوك جمة ذي الغنى
باتوا بصائرهم على أكتافهم
وبصيرتي يعدو بها عتد وأى
والبصيرة الدم يريد أنهم لم يدركوا الثأر فثقل الدماء على أكتافهم وأنه قد أدرك ثأره على فرسه.
[1.5.10]
وحدثني محمد بن عبيد قال حدثني سفيان بن عيينة عن شبيب بن غرقدة عن عروة البارقي قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة.
[1.5.11]
قال أبو محمد وليس لأحد مثل عتاق العرب ولا عند أحد من الناس من العلم بها ما عندهم وسأذكر من ذلك شيئا فيما بعد إن شاء الله وإذا كان للرجل منها جواد مبر كريم شهر به وعرف فقيل العسجدي ولاحق وداحس والورد. وليس أعجب من سرير كسرى وفخر العجم به وتصويرهم إياه في الصخور الصم وفي رعان الجبال.
[1.5.12]
وإذا رأيت العرب تنسب إلى شيء خسيس في نفسه فليس ذلك إلا لمعنى شريف فيه كقولهم لهنيدة بنت صعصعة عمة الفرزدق ذات الخمار. فمن لم يعرف سبب الخمار هاهنا يظن أنها كانت تختمر دون نساء قومها فنسبت إلى الخمار لذلك. قال أبو عبيدة كانت هنيدة بنت صعصعة تقول من جاءت من نساء العرب بأربعة مثل أربعتي يحل لها أن تضع عندهم خمارها فصرمتي لها. أبي صعصعة وأخي غالب وخالي الأقرع بن حابس وزوجي الزبرقان بن بدر فسميت ذات الخمار لذلك وقال كان هند بن أبي هالة ربيب النبي صلى الله عليه وسلم يقول أنا أكرم الناس أربعة أبي رسول الله وأمي خديجة وأختي فاطمة وأخي القاسم فهؤلاء الأربعة لا أربعتها. وأما خطؤه في المعارضة فإن صاحب البردين لم يكن ملك العرب فيعارضنا عنه بملك العجم ولم يدع أحد أنه كان للعرب في دولة العجم مثل ملكها وأموالها وعددها وسلاحها وحريرها وديباجها فيحتاج أن يذكر فيلة أبرويز وجواريه وفرشه وقد كان هذا لأولئك كما ذكر ثم جعله الله لهؤلاء فابتزوه واستلبوه والتحوهم كما يلتحى القضيب والناسخ أفضل من المنسوخ.
[1.5.13]
وأما فخره بما ليس له فيه حظ ولا نصيب فإنما يفخر بملك فارس أبناء ملوكها وأبناء عمالهم وكتابهم وحجابهم وأساورتهم فأما رجل من عرض العجم وعوامهم لا يعرف له نسب ولا يشهر له أب فما حظه في سرير كسرى وتاجه وحريره وديباجه وليس هو من ذلك في مراح ولا مغدى ولا مظل ولا مأوى. فإن قال لأني من العجم وكسرى من العجم فمرحبا بالمثل المبتذل أنا ابن جار النجار ولو قال أيضا لأني من الناس وكسرى من الناس كان وهذا سواء وما هو بأولى بهذا السبب من العرب لأن العرب أيضا من الناس.
[1.5.14]
قال أبو عبيدة أجريت الخيل فطلع منها فرس سابق فجعل رجل من النظارة يكبر ويثب من الفرح فقال له رجل إلى جانبه يا فتى أهذا السابق فرسك؟ فقال لا ولكن اللجام لي. وقال المسعودي قدم علينا أعراب وكانوا يأتون ببضائعهم فأبيعها وأقوم بحوائجهم وكانوا يقولون رحم الله أباك دينارا فكنت لا آلوهم عناية فقلت لهم أخبروني عن السبب بينكم وبين أبي؟ قالوا كان يساومنا مرة بأتان فقلت لهم هل كان اشتراها منكم؟ قالوا لا قلت الله أكبر! قالوا وما ذاك؟ قلت لو اشتراها صارت رحما ونسبا.
[1.5.15]
وقد كانت العجم رحمك الله في ذلك الزمان طبق الأرض شرقا وغربا وبرا وبحرا إلا محال معد واليمن أفكل هؤلاء أشراف؟ فأين الوضعاء والأدنياء والكساحون والحجامون والدباغون والخمارون والرعاع والمهان؟ وهل كان ذوو الشرف في جملة الناس إلا كاللمعة في جلد البعير وأين ذراريهم وأعقابهم؟ أدرجوا جميعا فلم يبق منهم أحد وبقي أبناء الملوك والأشراف؟
1.1.6
[1.6.1]
وأعجب من هذا ادعاؤهم إلى إسحاق بن إبراهيم صلى الله عليهما وسلم وفخرهم على العرب بأنه لسارة الحرة وإن إسماعيل أبا العرب لهاجر وهي أمة قال شاعرهم [بسيط]
في بلدة لم تصل عكل بها طنبا
ولا خباء ولا عك وهمدان
ولا لجرم ولا بهراء من وطن
لكنها لبني الأحرار أوطان
أرض تبنى بها كسرى مناسكه
فما بها من بني اللخناء إنسان
فبنو الأحرار عندهم العجم من ولد إسحاق وإسحاق لسارة وهي حرة وبنو اللخناء عندهم العرب لأنهم من ولد إسماعيل وإسماعيل لهاجر وهي أمة. قالوا واللخناء عند العرب الأمة.
[1.6.2]
فالويل الطويل لهؤلاء والبعد والثبور من هذه العداوة لأولياء الله والأنباز القبيحة لصفوة الله وقد غلطوا في التأويل على اللغة وليس كل أمة عند العرب لخناء أي اللخناء من الإماء الممتهنة في رعي الإبل وسقيها وجمع الحطب وحمله واستقاء الماء والحلب وأشباه ذلك من الخدمة كما يقال الأمة الوكعاء وليس كل أمة وكعاء وإنما قيل لخناء لنتن ريحها ويقال لخن السقاء يلخن لخنا إذا تغير ريحه وأنتن.
[1.6.3]
وأما مثل هاجر التي طهرها الله من كل دنس وطيبها من كل دفر وارتضاها للخليل فراشا وللطيبين إسماعيل ومحمد عليهما الصلاة والسلام أما وجعلهما لها سلالة فهل يجوز لملحد فضلا عن مسلم أن يطلق عليها اللخن ولو لم يكن إلا أن ملك القبط متع بها سارة وكانت أنفس إمائه عنده وأحظاهن لديه لقد كان في ذلك دليل على أنها لم تكن من الإماء اللخن ولو جاز أن يطلق على كل أمة لخناء لجاز أن يقال لكل شريف ولدته أمة هذا ابن اللخناء كما يقال هذا ابن الأمة وقد ولدت الإماء الخلفاء والخيار والأبرار مثل علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب.
[1.6.4]
حدثني سهل بن محمد قال حدثنا الأصمعي قال كان أهل المدينة يكرهون اتخاذ أمهات الأولاد حتى نشأ فيهم الثلاثة ففاتوا أهل المدينة فقها وورعا فرغب الناس في السراري.
[1.6.5]
والنساب لا يعرفون لأهل فارس ولا للنبط في إسحاق بن إبراهيم حظا لأن إسحاق تزوج رفقا بنت ناحور بن تارح وتارح هو آزر ورفقا بنت عمه ولدت له عيصو ويعقوب توأمين في بطن واحد فيعقوب هو إسرائيل الذي ولد الأسباط كلهم وكانوا اثني عشر رجلا وأولادهم جميعا يدعون بني إسرائيل وهم أهل الكتاب ليس لهؤلاء فيهم سبب ولا نسب.
[1.6.6]
وعيصو هو أبو الروم وكان الروم رجلا أصفر شديد الصفرة في بياض ومن أجل ذلك سميت الروم بني الأصفر. قالوا وكانت أم الروم بنت إسماعيل بن إبراهيم وولد من الروم خمسة نفر فكل من بأرض الروم من نسل هؤلاء الرهط. قالوا ولما سبقه يعقوب إلى دعوة إسحاق فصارت النبوة في ولده دعا لعيصو بالنماء والكثرة فالروم كلها من ولده وبعض الناس يزعم أيضا أن الأشبان من ولده. وقالوا النبط ابن ساروح بن أرغو بن فالغ بن عابر بن شالح بن أرفخشد بن سام بن نوح ويقال إنه ابن ماش بن سام بن نوح. قالوا وأهل فارس من ولد لاوذ بن أرم بن سام بن نوح وكان كثير الولد فنزل أرض فارس فأجناس الفرس كلهم من ولده.
[1.6.7]
فليس بين هؤلاء وبين إسحاق بن إبراهيم على ما ذكر النسابون نسب يجمعهم إلا سام بن نوح والناس يجتمعون في ولادة شيث بن آدم ثم في ولادة نوح ثم يتشعبون فولد نوح أربعة نفر سام وحام ويافث ويام.
[1.6.8]
فأما يام فهلك بالطوفان فلا عقب له وهو الذي قال له أبوه {يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين} وأما حام فإن أباه لعنه ودعا عليه بأن يكون عبدا لأخويه فخملت ذريته وسقطت فيه فهم النوبة وفزان والزغاوة وأجناس السودان والسند والقبط. وأما يافث فإن أباه دعا له بالنماء والكثرة فولد الصقالب والترك ويأجوج ومأجوج وأمما عدد الرمل والحصى في مشارق الأرض. فأما سام فبارك عليه فأشراف الناس من ولده فهم العماليق ومنهم الجبابرة وفراعنة مصر وملوك فارس ومن ولد سام الأنبياء جميعا بعد نوح وهود وصالح وشعيب وإبراهيم ومن بعده إلى نبينا محمد عليه الصلاة والسلام.
[1.6.9]
فالعرب وفارس يتساوون في هذه الجملة وتفضلها العرب بعدها بأنها من ولد إسماعيل بن إبراهيم فهي أدنى من خليل الله دناوة وأمس به رحما ثم تتساوى العرب وفارس في أن الفريقين ملكوا وتفضلها العرب بأن قواعد ملكها نبوة وقواعد ملك فارس استلاب وغلبة وتفضلها العرب بأن ملكها ناسخ وملك فارس منسوخ وتفضلها بأن ملكها متصل بالساعة وملك فارس محدود وتفضلها العرب بأن ملكها واغل في أقاصي البلاد داخل في آفاق الأرض وملك فارس شظية منه ليس فيه الشام ولا الجزيرة ولا خراسان في أكثر مددهم ولا اليمن إلا في أيام وهرز وسيف بن ذي يزن.
1.1.7
[1.7.1]
ومن عجب أمرهم أيضا فخرهم على العرب بآدم يقول النبي صلى الله عليه وسلم لا تفضلوني عليه فإنما أنا حسنة من حسناته ثم بالأنبياء وأنهم من العجم إلا أربعة نفر هود وصالح وشعيب ومحمد صلى الله عليهم وسلم وفي هذا القول وضع الفخر على غير أساس ومن أسس بنيانه على الباطل والغرور أوشك أن يتداعى وأن يخر وظلم للعرب فاحش ومنه ادعاؤهم آدم كأن العرب ليسوا من ولده ومنه انتحالهم موسى وعيسى وزكريا ويحيى وأشباههم من بني إسرائيل وليس بين فارس وبين بني إسرائيل نسب على ما بينت لك.
[1.7.2]
ومنه دفعهم العرب عن قربهم بهؤلاء الأنبياء وهم بنو عمومتهم وعصبتهم لأن العرب بنو إسماعيل بن إبراهيم بإجماع الناس فهم بنو أخي إسحاق بن إبراهيم وأولى به وأحق بشرفه وأولى بموسى وعيسى وداود وسليمان وجميع الأنبياء من ولده وقال الله تعالى {إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين} فآل إبراهيم هم ولد إسحاق وولد إسماعيل ثم قال {ذرية بعضها من بعض} فأعلمنا أن العرب وبني إسرائيل شيء واحد في النسب.
[1.7.3]
وفيما أوحى الله إلى موسى إني سأقيم لبني إسرائيل من إخوتهم مثلك أجعل كلامي على فيه يريد أنه يقيم لهم من العرب نبيا مثل موسى يعني نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم وهذا علم من أعلامه وحجة من حججنا على أهل الكتاب من كتبهم. فإن قالوا في ذلك إنه يقيم لهم من بني إسرائيل نبيا مثل موسى وقالوا إن بني إسرائيل بعضهم إخوة بعض أكذبهم النظر لأنه لو أراد ذلك لقال لهم من أنفسهم ومنهم كما أن رجلا لو أراد أن يبعث رسولا من خندف لم يقل سأبعث رسولا من إخوة خندف.
[1.7.4]
فإن كان دفعهم ولد إسماعيل عن تشابك نسبهم بولد إسحاق لنزول إسماعيل الحرم ونكاحه في جرهم فإن الديار قد تتناءى والمحال قد تتباين والرجل قد ينكح في البعيد وقد يولد له من الإماء ولا تنقطع الأرحام والأنساب وإن كان إسماعيل نطق بالعربية فليس اختلاف الناس في الألسنة يخرجهم عن نسب آبائهم وإخوانهم وعشائرهم فهؤلاء أهل السريانية قد خالفوا في اللسان أهل العبرانية وهذه الروم كفرت بالله ولا شيء أقطع للعصمة من الكفر وتكلمت بالرومية ورغبت عن لسان آبائها وليس ذلك بمخرجها عن ولادة إسحاق بن إبراهيم على أن إسماعيل لم يكن أول من نطق بالعربية وإنما تعلمها وإنما أصل العربية لليمن لأنهم من ولد يعرب بن قحطان وكان يعرب أول من تكلم بالعربية حين تبلبلت الألسن ببابل وسار حتى نزل اليمن في ولده ومن تبعه من أهل بيته ثم نطق بعده ثمود بلسانه وشخص حتى نزل الحجر.
[1.7.5]
حدثني أبو حاتم قال حدثني الأصمعي قال أخبرني أبو عمرو بن العلاء قال تسع قبائل قديمة طسم وجديس وعهينة وضجم بالجيم وبالحاء وجعم والعماليق وقحطان وجرهم وثمود. وحدثني أبو حاتم قال حدثنا الأصمعي قال حدثنا ابن أبي الزناد عن رجل من جرهم قال نحن بدء الخلق لا يشاركنا أحد في أنسابنا يقول من قدمنا فهؤلاء قدماء العرب الذين فتق الله ألسنتهم بهذا اللسان وكانت أنبياؤهم عربا هود وصالح وشعيب.
[1.7.6]
حدثني عبد الرحمن عن عبد المنعم عن أبيه عن وهب بن منبه أنه سئل عن هود أكان أبا اليمن الذي ولدهم ؟ قال لا ولكنه أخو اليمن في التوراة فلما وقعت العصبية بين العرب وفخرت مضر بأبيها إسماعيل ادعت اليمن هودا ليكون لهم والد من الأنبياء.
[1.7.7]
قال وأما شعيب من ولد رهط من المؤمنين تبعوا إبراهيم لما هاجر إلى الشام ولم يكن يثبت لهم نسب في بني إسرائيل ولم تكن مدين قبيلة ولكنها أمة بعث إليها.
[1.7.8]
فلما بوأ الله إسماعيل الحرم وهو طفل وأنبط له زمزم مرت به من جرهم رفقة فرأوا ما لم يكونوا يعهدونه وأخبرتهم هاجر بنسب الصبي وحاله وما أمر الله أباه فيه وفيها فتبركوا بالمكان ونزلوه وضموا إليهم إسماعيل فنشأ معهم ومع ولدانهم ثم أنكحوه فتكلم بلسانهم فقيل نطق باليعربية إلا أن الياء زيدت في الاسم فحذفت في النسب كما تحذف أشياء من الزوائد وغيرها كما تغير أشياء عن أصولها والدليل على أن أصل اللسان لليمن أنهم يقال لهم العرب العاربة ويقال لغيرهم العرب المتعربة يراد الداخلة في العرب المتعلمة منهم وكذلك معنى التفعل في اللغة يقال تنزر الرجل إذا دخل في نزار وتمضر إذا دخل في مضر وتقيس إذا دخل في قيس وقال الشاعر [رجز]
وقيس عيلان ومن تقيسا ~
ولو كان كل من تعلم لسانا غير لسان قومه ونطق به خارجا من نسبهم لوجب أن يكون كل من نطق بالعربية من العجم عربيا.
1.1.8
[1.8.1]
وسأقول في الشرف بأعدل القول وأبين أسبابه ولا أبخس أحدا حقه ولا أتجاوز به حده فلا يمنعني نسبي في العجم أن أدفعها عما تدعيها لها جهلتها وأثني أعنتها عما تقدم إليها سفلتها وأختصر القول وأقتصر على العيون والنكت ولا أعرض للأحاديث الطوال في خطب العرب وتعداد أيامها ووفدات أشرافها على ملوك العجم ومقاماتها فإن هذا وما أشبهه قد كثر في كتب الناس حتى أخلق ودرس حتى مل لا سيما وأكثر هذه الأخبار لا طريق لها ولا نقلت من الثقات والمعروفين أيضا تخبر عن التكلف وتدل على الصنعة وأرجو أن لا يطلع ذوو العقول وأهل النظر مني على إيثار هوى ولا تعمد لتمويه وما أتبرأ بعده من العثرة والزلة إلا أن يوفقني الله وما التوفيق إلا به.
[1.8.2]
وعدل القول في الشرف أن الناس لأب وأم خلقوا من تراب وأعيدوا إلى التراب وجروا في مجرى البول وطووا على الأقذار فهذا نسبهم الأعلى الذي يردع أهل العقول عن التعظيم والكبرياء ثم إلى الله مرجعهم فتنقطع الأسباب وتبطل الأحساب إلا من كان حسبه تقوى الله وكانت ماتته طاعة الله.
[1.8.3]
وأما النسب الأدنى الذي يقع فيه التفاضل بين الناس في حكم الدنيا فإن الله خلق آدم من قبضة جميع الأرض وفي الأرض السهل والحزن والأحمر والأسود والخبيث والطيب يقول الله عز وجل {والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا} فجرت طبائع الأرض في ولده فكان ذلك سببا لاختلاف غرائزهم فمنهم الشجاع والجبان والبخيل والجواد والحيي والوقاح والحليم والعجول والدمث والعبوس والشكور والكفور وسببا لاختلاف ألوانهم وهيئاتهم فمنهم الأبيض والأسود والأسمر والأحمر والأقشر والوسيم والخفيف على القلوب والثقيل والمحبب إلى الناس من غير إحسان والمبغض إليهم من غير ذنوب وسببا لاختلاف الشهوات والإرادات فمنهم من يميل به الطبع إلى العلم ومن يميل به إلى المال ومن يميل به إلى اللهو ومن يميل به إلى النساء ومن يميل به إلى الفروسية.
[1.8.4]
ثم يختلفون أيضا في ذلك فمنهم من يسرع إلى فهمه الفقه ويبطئ عنه الحساب ومنهم من يعلق بفهمه الطب وينبو عنه النجوم ومنهم من يتيسر له الدقيق الخفي ويعتاص عليه الواضح الجلي ومنهم من يتعلم فنا من العلم فيرسخ في قلبه رسوخ النقر في الحجر ويتعلم ما هو أخف منه فيدرس دروس الرقم على الماء ومن طلبة المال من يطلبه بالتجارة ومن يطلبه بالجراية ومن يطلبه بالسلطان ومن يطلبه بالكيمياء فيتلف بالطمع الكاذب والتماس المحال أثلة المال ومن طلبة النساء من يريد المهفهفة ومن يريد الضناك ومن يريد الغرة الصغيرة ومن يريد النصف الوثيرة وأعجب من هذا من ربما حبب إليه العجوز قال الشاعر [طويل]
عجوز علتها كبرة وملاحة
أقاتلتي يا للرجال عجوز
عجوز لو ان الماء ملك يمينها
لما تركتنا بالمياه نجوز
[1.8.5]
ومن لؤم الغرائز أن من الناس من يحب الذم كما يحب غيره المدح ويرتاح للهجاء كما يرتاح غيره للثناء ومنهم من يغرى بذم قومه وسب نفسه وآبائه وشتم عشيرته منهم عميرة بن جعل التغلبي وهو القائل [طويل]
كسا الله حيي تغلب ابنة وائل
من اللؤم إصغارا بطيئا نصولها
ومنهم الحرمازي وهو القائل [رجز]
إن بني الحرماز قوم فيهم
عجز وتسليط على أخيهم
فابعث عليهم شاعرا يخزيهم
يعلم منهم مثل علمي فيهم
ومنهم النحيف وهو القائل في أمه [بسيط]
يا ليتما أمنا شالت نعامتها
أيما إلى جنة أيما إلى نار
ليست بشبعى ولو أسكنتها هجرا
ولا بريا ولو حلت بذي قار
تلهم الوسق مشدودا أشظته
كأنما وجهها قد طلي بالقار
خرقاء في الخير لا تهدى لوجهته
وهي صناع الأذى في الأهل والجار
[1.8.6]
ومنهم الحطيئة هجا أباه وأمه ونفسه فقال في أمه [وافر]
تنحي فاقعدي مني بعيدا
أراح الله منك العالمينا
ألم أوضح لك البغضاء مني
ولكن لا إخالك تعقلينا
أغربالا إذا استودعت سرا
وكانونا على المتحدثينا
وقال لأبيه [وافر]
لحاك الله ثم لحاك حقا
أبا ولحاك من عم وخال
فبئس الشيخ أنت على المخازي
وبئس الشيخ أنت لدى المعالي
جمعت اللؤم لا حياك ربي
وأبواب السفاهة والضلال
وقال لنفسه [طويل]
أبت شفتاي اليوم ألا تكلما
بشر فما أدري لمن أنا قائله
أرى لي وجها شوه الله خلقه
فقبح من وجه وقبح حامله
[1.8.7]
وأتى عيينة بن النهاس العجلي مادحا فقال عيينة لوكيله اذهب معه إلى السوق فلا يشيرن إلى شيء ولا يسومن به إلا اشتريته له فلما انصرف عنه قال [طويل]
سئلت فلم تبخل ولم تعط طائلا
فسيان لا ذم عليك ولا حمد
[1.8.8]
ومن لؤم الغرائز أيضا في الناس أن منهم من يؤثر ريح الكراييس على ريح اليلنجوج وريح الحشوش على نفحات الورد ويهتاج من النساء لذات القبح والدفر ويكسل عن الحسناء ذات العطر ومنها أن الرجل يكون في رخاء بعد بؤس وسعة بعد ضيق فيسأم ما هو فيه ويرغب عنه إلى ما كان عليه وقال أعرابي قدم المصر فحسنت حاله [بسيط]
أقول بالمصر لما ساءني شبعي
ألا سبيل إلى أرض بها جوع
ألا سبيل إلى أرض بها غرث
جوع يصدع منه الرأس يرقوع
وهذا وأشباهه من لئيم الغرائز كثير في الأمم.
[1.8.9]
وهذه الطبائع هي أسباب الشرف وأسباب الخمول فذو الهمة تسمو به نفسه إلى معالي الأمور وترغب به عن الشائنات فيخاطر في طلب العظيم بعظيمته ويستخف في ابتغاء المكارم بكريمته ويركب الهول ويدرع الليل ويحط إلى الحضيض وتأبى نفسه إلا علوا حتى يسعد بهمته ويظفر ببغيته ويحوز الشرف لنفسه وذريته ومن لا همة له جثامة لبد يغتنم الأكلة ويرضى بالدون ويستطيب الدعة وإن أعدم لم يأنف من ذل السؤال والجبان يفر عن أمه وأبيه وصاحبته وبنيه والشجاع يحمي من لا يناسبه بسيفه ويقي الجار والرفيق بمحبته والبخيل يبخل على نفسه بالقليل والجواد يجود لمن لا يعرفه بالجزيل وقال الله عز وجل {قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها} يريد قد أفلح من أنمى نفسه بالمعروف وأعلاها وقد خاب من أسقطها بلئيم الأخلاق وأخفاها.
[1.8.10]
وقد يكون الرجل مخالفا لأبيه في الأخلاق وفي الشمائل أو في الهمم أو في جميع ذلك لعرق نزعه من قبل أجداده لأبيه وأمه وقال الشاعر [متقارب]
وأشبهت جدك شر الجدو
د والعرق يسري إلى النائم
[1.8.11]
ومن الناس الشريف الحسيب وذلك الذي جمع إلى محاسن آبائه محاسن نفسه ومنهم الشريف ولا حسب له وذلك إذا كان لئيم النفس ومنهم من لا شرف له ولا حسب وذلك إذا كان لئيم النفس لئيم السلف.
[1.8.12]
وقال قيس بن ساعدة لأقضين بين العرب قضية ما قضى بها أحد قبلي ولا يردها أحد بعدي أيما رجل رمى رجلا بملأمة دونها كرم فلا لؤم عليه وأيما رجل ادعى كرما دونه لؤم فلا كرم له. يعني أن أولى الأمور بالمرء خصاله في نفسه فإن كان شريفا في نفسه وآباؤه لئام لم يضره ذلك وكان الشرف أولى به وإن كان لئيما في نفسه وآباؤه كرام لم ينفعه ذلك. ومثله قول عائشة كل شرف دونه لؤم فاللؤم أولى به وكل لؤم دونه شرف فالشرف أولى به وقال الشاعر في مثله [طويل]
ومن يك ذا لؤم ومجد يعده
فأولى به من ذاك ما كان أقربا
فلا لؤم عودا بعد مجد يهده
ولا مجد معدودا إذا اللؤم عقبا
[1.8.13]
والحسب مأخوذ من قولك حسبت الشيء أحسبه حسبا إذا عددته وكان الرجل الشريف يحسب مآثر آبائه ويعدهم رجلا رجلا فيقال لفلان حسب أي آباء يعدون وفضائل تحسب فالمصدر مسكن والاسم مفتوح كما تقول هدمت الحائط هدما فتسكن المصدر وتقول لما سقط إلى الأرض هدم فتفتح الدال من الاسم.
[1.8.14]
وكذلك الأمم فيها أمة كرم بلبانها كالعرب فإنها لم تزل في الجاهلية تتواصى بالحلم والحياء والتذمم وتتعاير بالبخل والغدر والسفه وتتنزه من الدناءة والمذمة وتتدرب بالنجدة والصبر والبسالة وتوجب للجار من حفظ الجوار ورعاية الحق فوق ما توجبه للحميم والشقيق فربما بذل أحدهم نفسه دون جاره ووقى ماله بماله وقتل دون حميمه.
[1.8.15]
ومنهم كعب بن مامة وكان إذا جاوره جار فمات بعض لحمته وداه وإذا مات له بعير أو شاة أعطاه مكان ذلك مثله ومنهم عمير بن سلمى الحنفي أحد أوفياء العرب وكان له جار فخالفه أخوه قرين إلى امرأته فاشتد الرجل في حفظ امرأته فقتله وكان عمير غائبا فلما قدم وخبر بذلك دفع قرينا إلى ولي المقتول فقتله واعتذر إلى أمه وعظم جرمه فقالت [وافر]
تعد معاذرا لا عذر فيها
ومن يقتل أخاه فقد ألاما
[1.8.16]
ومن أعجب أمر في الجوار قصة أبي حنبل جارية بن مر وكان الجراد سقط بقرب بيته فقصد الحي لصيده فلما رآهم قال أين تريدون؟ قالوا نريد جارك هذا فقال أي جيراني؟ قالوا الجراد فقال أما إذ جعلتموه لي جارا فوالله لا تصلون إليه ثم منع منه حتى انصرفوا ففخر بعضهم فقال [متقارب]
لنا هضبة ولنا معقل
صعدنا إليه بصم الصعاد
ملكناه في أوليات الزما
ن من بعد نوح ومن بعد عاد
ومنا ابن مر أبو حنبل
أجار من الناس رجل الجراد
وزيد لنا ولنا حاتم
غياث الورى في السنين الشداد
وقال قيس بن عاصم يذكر قومه [كامل]
لا يفطنون لعيب جارهم
وهم لحفظ جواره فطن
وقال مسكين الدارمي [كامل]
ناري ونار الجار واحدة
وإليه قبلي تنزل القدر
ما ضر جارا لي يجاورني
أن لا يكون لبابه ستر
وقال الحطيئة يعد محاسن قومه [طويل]
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنى
وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
وإن كانت النعماء فيهم جزوا بها
وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا
يسوسون أحلاما بعيدا أناتها
وإن غضبوا جاء الحفيظة والجد
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم
من اللؤم أو سدوا المكان الذي سدوا
1.1.9
[1.9.1]
ولهم الضيافة عامة شاملة في جميع البادين منهم والإيثار على النفس والجود بالموجود. وأفضل العطاء جهد المقل وقال عثمان بن أبي العاص لدرهم يخرجه أحدكم من جهد فيضعه في حق خير من عشرة آلاف درهم يخرجها أحدنا غيضا من فيض. ولولا ما تواصوا به من الضيافة وتحاضوا عليه من الإيثار لمات الخير وأبدع به دون غايته وقال أرطاة بن سهية [طويل]
وما دون ضيفي من تلاد تحوزه
إلى النفس إلا أن تصان الحلائل
وقال ابن أبي الزناد قال عبد الملك بن مروان ما يسرني أن أحدا من العرب ولدني إلا عروة بن الورد لقوله [طويل]
وإني امرؤ عافي إنائي شركة
وأنت امرؤ عافي إنائك واحد
أتهزأ مني أن سمنت وأن ترى
بجسمي مس الحق والحق جاهد
أقسم جسمي في جسوم كثيرة
وأحسو قراح الماء والماء بارد
يريد أنه يقسم قوته على أضيافه فكأنه قسم جسمه لأن اللحم الذي ينبت ذلك الطعام يصير لغيره ويحسو قراح الماء في الشتاء ووقت الجدب والضيق لأنه يؤثر باللبن فتوقف على هذا الشعر وعلى ما فيه من شريف المعاني. وقال آخر [طويل]
إذا ما عملت الزاد فالتمسن له
أكيلا فإني غير آكله وحدي
بعيدا قصيا أو قريبا فإنني
أخاف مذمات الأحاديث من بعدي
فكيف يسيغ المرء زادا وجاره
خفيف المعى بادي الخصاصة والجهد
[1.9.2]
ولعل الطاعن أن يقول في هذا الموضوع فأين هو من ذكر مزرد وحميد الأرقط وهجائهما للأضياف وأين هو من مطاعمهما الخبيثة من الحيات والضباب واليرابيع والعلهز وشربهم الفظ والمجدوح وأكل مياسرهم لحوم الإبل حنيذا غير نضيج ونيا والعروق والعلابي وسقط المائدة لا يعافون شيئا ولا يتقذرون أكل السباع ونهش الكلاب ويفخر عليهم بأطعمة العجم وحلوائها وآدابها على الطعام وأكلها بالبارجين والسكين.
[1.9.3]
فأما هذان الشاعران اللذان يهجوان الأضياف ويصفانهم بكثرة الأكل وجودة اللقم فإن أحدهما كان فقيرا ضعيف الحال فإذا نزل به الضيف لم يجد بدا من إيثاره بقليل ما عنده أو مشاركته فيه فيبيت طاويا ويصبح جائعا ويجيش صدره بما حل به والشاعر بمنزلة المصدور لا بد له من أن ينفث فيستريح إلى ذكر لقم الضيف ووصف أكله وحديثه. قال هو أو غيره يذكر الضيف [طويل]
تجهز كفاه ويحدر حلقه
إلى الزور ما ضمت إليه الأنامل
يقول وقد ألقى المراسي للقرى
أبن لي ما الحجاج بالناس فاعل
فقلت له ما إن لهذا طرقتنا
فكل ودع الأخبار ما أنت آكل
أتانا ولم يعدله سحبان وائل
بيانا وعلما بالذي هو قائل
وقال أيضا يذكر الأضياف [بسيط]
باتوا وجلتنا الشهريز بينهم
كأن أظفارهم فيها السكاكين
فأصبحوا والنوى عالي معرسهم
وليس كل النوى يلقي المساكين
أراد من الأضياف من يأكل التمر بالنوى وهذا يدل على شدة فقره.
[1.9.4]
وأما مزرد فكان شرها منهوما والشره رفيق البخل وهو القائل [طويل]
لبكت بصاعي حنطة صاع عجوة
إلى صاع سمن فوقه يتريع
فقلت لبطني أبشر اليوم إنه
حوى آمنا مما تحوز وترفع
فإن يك مصفورا فهذا دواؤه
وإن يك غرثانا فذا يوم يشبع
وقال الحطيئة [كامل]
أعددت للضيفان كلبا ضاريا
عندي وفضل هراوة من أرزن
ومعاذرا كذبا وجها باسرا
وتشكيا عض الزمان الألزن
وهذا شر القوم وليس من الناس صنف إلا وفيه الخير والشر على ذلك أسست الدنيا وعليه درج الناس ولولا أحدهما ما عرف الآخر وإنما يقضى بأغلب الأمور ويحكمون بأشهر الأخلاق وليس في ثلاثة من الشعراء أو أربعة ما هدر مكارم أخلاق آلاف من الناس وبدد صنائعهم.
[1.9.5]
فهذا كعب بن مامة آثر بنصيبه من الماء رفيقه النمري حتى مات عطشا وهذا حاتم الطائي قسم ماله بضع عشرة مرة ومر في سفره على عنزة وفيهم أسير فاستغاث به ولم يحضره شيء فاشتراه من العنزيين فخلاه وأقام مكانه في القد حتى أدى فداءه وكل فخر في طيئ فهو راجع إلى نزار ولهم الجبلان وهما بنجد وأخذهم بآدابهم وتخلقهم بأخلاقهم وهذا عدي شاطر ابن دارة الشاعر ماله وهذا معن في الإسلام كان يقال فيه حدث عن البحر ولا حرج وعن معن ولا حرج وأتاه رجل يستحمله فقال يا غلام أعطه فرسا وبرذونا وبغلا وعيرا وبعيرا وجارية ولو عرفت مركوبا غير هذا لأعطيتكه وهذا نهيك بن مالك بن معاوية باع إبله وانطلق بأثمانها إلى منى فأنهبها والناس يقولون مجنون فقال [رجز]
لست بمجنون ولكني سمح
أنهبكم مالي إذا عز القمح
وهذا شيء يكثر جدا ويتسع القول فيه ويخرج الكتاب من فنه باستقصائه وكان غرضنا في هذا الكتاب أن ننبه بالقليل من كل شيء في عيون الأخبار.
[1.9.6]
وأما تعييرهم إياهم بخبيث المطعم كالعلهز والحيات وخبيث المشرب كالفظ والمجدوح فإن هذا وأشباهه طعام المجاوع والضرورات وطعام نازلة القفر والفلوات وقال الشاعر [طويل]
إذا السنة الشهباء حل حرامها ~
يريد أنهم يأكلون فيها الميتة وقال الراعي [طويل]
إلى ضوء نار يشتوي القد أهلها
وقد يكرم الأضياف والقد يشتوى
وإنما كان يكون هذا عيبا لو كانت العرب مختارة له في حالة اليسر كما تختار بعض العجم الذباب وبهم عنه غنى والسراطين والدجاج لهم معرضة فأما حال الضرورة فالناس كلهم يعسرون فمن لم يجد اللحم أكل اليربوع والضب ومن لم يجد الماء شرب المجدوح والفظ قال الأصمعي أغير على إبل حريثة فذهب فركب بحيرة فقيل أتركب الحرام؟ فقال يركب الحرام من لا حلال له وقال الشاعر [رجز]
يا ليت لي نعلين من جلد الضبع
كل الحذاء يحتذي الحافي الوقع
[1.9.7]
ومما يدلك على أن أهل الثروة منهم على خلاف ما عليه الصعاليك والعثر قول الشاعر [وافر]
فما لحم الغراب لنا بزاد
ولا سرطان أنهار البريص
فانتفى من أكل لحوم الغربان وعير بها قوما وقال آخر لامرأته [طويل]
أكلت دما إن لم أرعك بضرة
بعيدة مهوى القرط طيبة النشر
فلو كان شرب المجدوح عنده محمودا لم يجعل يمينه شرب الدم كما يقول القائل شركت بالله إن لم أفعل كذا وكذا. وقال آخر [طويل]
نعاف وإن كانت خماصا بطوننا
لباب النقي والعجاب المجردا
يريد أنه يرغب وإن كان جائعا عن أكل الخبز بالتمر إلى أكله اللحم.
[1.9.8]
ونزل رجل من العرب فقدم إليه جرادا فعافها وأنشأ يقول [طويل]
لحى الله بيتا ضمني بعد هجعة
إليه دجوجي من الليل مظلم
فأبصرت شيخا قاعدا بفنائه
هو العير إلا أنه يتكلم
أتانا بيرقان الدبى في إنائه
ولم يك في يرق الدبى لي مطعم
فقلت له غيب إناءك واعتزل
فهل ذاق هذا لا أبا لك مسلم
[1.9.9]
وأما أكلهم العلابي والعروق واللحم الني وتركهم طيب الأطعمة والأطبخة وحسن الأدب عند الأكل فهذا لعمري هو الأغلب على من الأغلب عليه الفقر فأما ذوو النعمة منهم والأقدار فقد كانوا يعرفون أطايب الطعام ويأكلونها ويأخذون بأحسن الآداب عليها. فالمضيرة لهم واسمها يدلك على ذلك فإنها تطبخ باللبن الماضر وهو الحامض فاشتق أصلها واسمها منها والهريسة لهم سميت بذلك لأنها تهرس أي تدق ويقال للمدق المهراس والوشيقة لهم والعامة تسميها العشيقة سميت بذلك لأنها توشق أي تقطع صغارا والعصيدة لهم سميت بذلك لأنها تعصد إذا عملت أي تلوى وكل شيء ألويته فقد عصدته ومنه قيل للمائل عنقه عاصد وقال مرزد[طويل]
لبكت بصاعي حنطة صاع عجوة
إلى صاع سمن فوقه يتريع
فهذا هو العصيدة وأما أمية بن أبي الصلت فإنه قال في عبد الله بن جدعان [وافر]
له داع بمكة مشمعل
وآخر فوق دارته ينادي
إلى ردح من الشيزى ملاء
لباب البر يلبك بالشهاد
وهذا هو الفالوذ.
[1.9.10]
وهم أوصف الناس للطعام وألطفهم في ذكره. حدثني أبو حاتم عن الأصمعي قال حدثنا أبو طفيلة قال حدثنا شيخ من أهل البادية قال ضفنا فلانا بحنطة كأنها مناقير النغران وتمر كأنه أعناق الورلان يوحل فيه الضرس. وحدثنا الأصمعي أيضا عن أعرابي أنه قال تمرنا خرس فطس يغيب فيه الضرس كأن نواه ألسن الطير تضع التمرة في فيك فتجد حلاوتها في كعبك. وحدثني عبد الرحمن عن عمه قال قال شيخ من أهل المدينة فأتاني بمرقة كأن فيها مشقا فلم أر إلا كبدا طافية فغمست يدي فوجدت مضغة فمددتها فامتدت حتى كأني أزمر في ناي. ولهم أطبخة كثيرة ومن أطبختهم الغسانية وهي لا تعرفها عامتنا كالحيسة والربيكة والخزيرة واللفيتة تركت ذكرها واقتصرت على ما تعرف. وكانوا يقولون أطيب اللحم عوذه يريدون أطيبه ما ولي العظم كأنه عاذ به . وكانوا يقولون إذا أكلتم فسموا وأدنوا يريدون بأدنوا كلوا مما بين أيديكم وكانوا يكرهون أكل الدماغ ويرون استخراجه رغبا وحرصا وقال قائلهم [طويل]
ولا يتقي المخ الذي في الجماجم ~
ومن قبائل العرب من يعاف ألية الشاة ويقولون هي طبق الاست. وقال قائلهم [طويل]
وللموت خير من زيارة باخل
يلاحظ أطراف الأكيل على عمد
[1.9.11]
وكانوا يمدحون بقلة الأكل وقال أعشى باهلة [بسيط]
تكفيه حزة فلذ إن ألم بها
من الشواء ويروى شربة الغمر
ويعيبون بالشره والنهم والكسل ويقولون للبخيل الأكول أبرما قرونا يريدون أنه لا يخرج مع أصحابه شيئا ويأكل تمرتين وأصل البرم الذي لا يسير مع القوم وقال بعض الرجاز
لا تسألن عن بعلها أي فتى
خب جبان وإذا جاع بكى
لا حطب القوم ولا القوم سقى
ولا ركاب القوم إن ضلت بغى
ويأكل التمر ولا يلقي النوى
ولا يواري فرجه إذا اصطلى
كأنه غرارة ملأى حثى ~
وقال الأحنف جنبوا مجلسنا ذكر النساء والطعام فإني أبغض أن يكون الرجل وصافا لبطنه وفرجه وإن من المروءة أن يترك الرجل الطعام وهو يشتهيه وقال قائلهم أقلل طعاما تحمد مناما وقال أيضا غلبت بطنتي فطنتي وقال عمرو بن العاص لمعاوية يوم حكم الحكمان أكثروا الطعام فوالله ما بطن قوم إلا فقدوا بعض عقولهم وما مضت عزمة رجل بات بطينا ومثل هذا كثير لمن تتبعه فكيف تكون المعرفة بالطعام والأدب عليه إلا كما وصفنا.
[1.9.12]
فأما تركهم إنضاج اللحم فلا أعلمه إلا في موضع واحد وهو إذا سافروا وغزوا فأنهم يتمدحون بترك الإنضاج لعجلة الزماع وقال الشماخ [طويل]
وأشعث قد قد السفار قميصه
يجر الشواء بالعصا غير منضج
وقال الكميت [طويل]
ومرضوفة لم تؤن في الطبخ طاهيا
عجلت إلى محورها حين غرغرا
ولم يزل الشرب إذا اجتمعوا الأحداث من أولاد الملوك وغيرهم يبادرون بالنشيل قبل النضج. قال أعرابي نحر بعيره وشرب [رمل]
عللاني إنما الدنيا علل
ودعاني من ملام وعذل
وانشلا ما اغبر من قدريكما
واسقياني أبعد الله الجمل
[1.9.13]
وأما أكلهم سقط المائدة فإنه إكرام للطعام وإعظام للنعمة وجنس من الشكر لواهبها ونبذه في المزابل استخفاف به وتصغير له وبخس بمؤتيه حق عطيته ومن وهب لك شيئا صنته وعظمته سمحت لك نفسه بالزيادة منه وإن احتقرته وازدريته كان حريا أن يقطعه والطعام أعظم نعم الله على خلقه بعد معرفته لأنه مثبت الروح وممسك الرمق فمن صانه فقد عظم نعمة الله واستوجب زيادة الله ومن امتهنه في غير ما خلق له فقد صغرها واستوجب سخط الله. حدثنا يزيد بن عمرو قال حدثنا أيوب بن سليمان عن محمد بن زياد عن ميمون بن مهران عن ابن عباس قال ولا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أكرموا الخبز فإن الله سخر له السموات والأرض وقد أمرنا صلى الله عليه وسلم بأكل سقط المائدة ورغبنا فيه. والعجب عندي من قوم نحلتهم الإسلام ونبيهم محمد صلى الله عليه وسلم ثم تتابعت الأخبار عنه بشيء أمر به أو نهى عنه فيعارضون ذلك بالعيب وبالطعن من غير أن يعرفوا العلة ولا أن يكون لهم في الإنكار له نفع أو عليهم في الإقرار به ضرر.
[1.9.14]
وأما أكلهم بالبارجين والسكين فمفسد للطعام ناقص للذاته والناس يعلمون إلا من عاند منهم وقال بخلاف ما تعرفه نفسه أن أطيب المأكول ما باشرته كف آكله ولذلك خلقت الكف للبطش والتناول والتقذر من اليد المطهرة ضعف وعجب وأولى بالتقذر من اليد الريق والبلغم والنخاع الذي لا يسوغ الطعام إلا به وكف الطباخ والخباز تباشره والإنسان ربما كان منه أقل تقذرا أو أشد أنسا.
1.1.10
[1.10.1]
وأما الشجاعة فأن العرب في الجاهلية أعز الأمم أنفسا وأعزها حريما وأحماها أنوفا وأخشنها جانبا وكانت تغير في جنبات فارس وتطرقها حتى تحتاج الملوك إلى مداراتها وأخذ الرهن منها والعجم تفخر بأساورة فارس ومرازبتها وقد كان لعمري لهم البأس والنجدة غير أن بين العرب وبينها فرقا منه أن العجم كانت أكثر أموالا وأجود سلاحا وأحصن بيتا وأشد اجتماعا وكانت تحارب برياسة ملك وسياسة سلطان وهذه أمور تقوي المنة وتشد الأركان وتؤيد القلوب وتثبت الأقدام والعرب يومئذ منقطعة ليس لها نظام ومتفرقة ليس لها التئام وأكثرها يحارب راجلا بالسيف الكليل والرمح الذليل والفارس منها يحارب على الفرس العربي الذي لا سرج له وعلى السرج الرث الذي لا ركاب له والأغلب على قتال العجم الرمي والأغلب على قتال العرب السيف والرمح وهما أدخل في الجد وأبعد من الفرار وأدل على الصبر.
[1.10.2]
وشجعاؤهم في الجاهلية مثل عتيبة بن الحارث بن شهاب صياد الفوارس وبسطام بن قيس وبجير وعفاق ابني أبي مليل وعامر بن الطفيل وعمرو بن ود وأشباههم وفي الإسلام مثل الزبير وعلي وطلحة ورجال من الأنصار وعبد الله بن خازم السلمي وعباد بن الحصين. وقال ما ظننت أن أحدا يعدل بألف فارس حتى رأيت عبادا ليلة كابل وقطري بن الفجاءة وشبيب الحروري وأمثال هؤلاء عدد الرمل والحصى ليس منهم أحد إذا أنت توقفت على أخباره وحاله في شجاعته إلا وجدته فوق كل أسوار.
[1.10.3]
والرجليون للعرب خاصة قال أبو عبيدة رجليو العرب المشهورون المنتشر بن وهب الباهلي وسليك بن عمير السعدي وأوفى بن مطر المازني. وكان الرجل منهم يلحق بالظبي حتى يأخذ بقرنيه. وإذا كان زمان الربيع جعلوا الماء في بيض نعام مثقوب ثم دفنوه فإذا كان الصيف وانقطع الغزو غزوا وهم أهدى من القطا فيأتون على ذلك البيض ويستثيرونه ويشربونه. وحدثني أبو حاتم قال حدثني الأصمعي أن السليك كان يعدو فتقع سهامه من كنانته بالأرض فترتز وكان يقول في دعائه اللهم إني أعوذ بك من الخيبة وأما الهيبة فلا هيبة.
[1.10.4]
وقرأت في كتب العجم أن بهرام جور كان في حجر ملك العرب بالبادية فلما بلغه هلاك أبيه وأن الفرس عزموا على أن يملكوا غيره سار بالعرب حتى نزل السواد وطالبهم بالملك وجادلهم عنه حتى اعترفوا له بالحق وملكوه. وقد كان كسرى أغزى بني شيبان جيشا فاقتتلوا بذي قار فهزمت بنو شيبان أساورة كسرى فهو يوم ذي قار ثم كان من أمر العرب وأمر فارس حين جمعهم الله لقتالهم بالإمام وساسهم بالتدبير ما لا حاجة بنا إلى الإطالة بذكره لشهرته. ومما يدلك على تعزز القوم في جاهليتهم وأنفتهم وشدة حميتهم أن أبرويز ملك فارس وأشدها سطوة وإثخانا في البلاد خطب إلى النعمان بن المنذر إحدى بناته فرده رغبة بها عنه ولم يزل هاربا منه حتى ظفر به فقتله.
[1.10.5]
وكان لقريش بيت الله الحرام العتيق المنصور من الجبابرة بالطير الأبابيل لم يزالوا ولاته وسدنته والقائمين لأموره والمعظمين لشعاره وكان يقال لهم أهل الله وجيران الله لنزولهم الحرم وجوارهم البيت وكان منهم بقايا من الحنفية يتوارثونها عن إسماعيل صلى الله عليه وسلم منها حج البيت الحرام وزيارته والختان والغسل والطلاق والعتق وتحريم ذوات المحارم بالقرابة والرضاع والصهر. وقد كان حاجب بن زرارة وفد على كسرى فرأى العجم ينكحون الأخوات والبنات فسولت له نفسه التأسي بهم والدخول في ملتهم فنكح ابنته ثم ندم على ذلك فقال [متقارب]
لحا الله دينك من أغلف
يحل الخوات لنا والبنات
أحشت على أسرتي سوءة
وطوقت جيدي بالمخزيات
وأبقيت في عنقي سبة
مشاتم يحيين بعد الممات
فتاة تجللها شيخها
فبئس الشيخ ونعم الفتاة
[1.10.6]
ومما كان بقي فيهم من الحنفية إيمانهم بالملكين الكاتبين حدثني بعض أصحابنا عن عبد الرحمن بن خالد الناقد قال كان الحسن بن جهور مولى المنصور خرج إلى بعض ولد سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب كتابا كان لعبد المطلب بن هاشم كتبه بخطه فإذا هو مثل خط النساء وإذا هو باسمك اللهم ذكر حق عبد المطلب بن هاشم من أهل مكة على فلان بن فلان الحميري من أهل زول صنعاء. عليه ألف درهم فضة طيبة كيلا بالحديدة ومتى دعاه بها أجابه شهد الله بذلك والملكان. وقال الأعشى [طويل]
ولا تحسبني كافرا لك نعمة
على شاهدي يا شاهد الله فاشهد
قوله على شاهدي أي على لساني شاهد الله أي الملك. ومن ذلك أحكام كانت في الجاهلية أقرها الله في الإسلام لا يبعد أن تكون من بقايا دين إسماعيل صلى الله عليه وسلم منها دية النفس مائة من الإبل ومنها إتباع حكم المبال في الخنثى ومنها البينونة بطلاق الثلاثة وللزوج على المرأة في الواحدة والاثنتين.
[1.10.7]
فهذه حالها في الجاهلية مع أحوال كثيرة في العلم والمعرفة سنذكرها بتمامها بعد إن شاء الله.
1.1.11
[1.11.1]
ثم أتى الله بالإسلام فابتعث منها النبي صلى الله عليه وسلم سيد الأنبياء وخاتم الرسل وناسخ كل شرعة وحائز كل فضيلة فنشر عددها وجمع كلمتها وأمدها بملائكته وأيدها بقوته ومكن لها في البلاد وأوطأها رقاب الأمم وجعل فيها خلافة النبوة ثم الإمامة خالدة تالدة حتى يأتي المسيح صلى الله عليه وسلم فيصلي خلف الإمام منها فاردة لا يستطيع أحد أن يأتي بمثلها.
[1.11.2]
وخاطبها يومئذ لا عجم فيها فقال {كنتم خر أمة أخرجت للناس} فلها فضل هذا الخطاب والأمم طرا داخلة عليها فيه وأما قوله لبني إسرائيل {وهو فضلهم على العالمين} فإنه في باب العام الذي أريد به الخاص كقوله حكاية عن إبراهيم {وأنا أول المسلمين} وحكاية عن موسى {وأنا أول المؤمنين} وقد كانت الأنبياء قبلهما مؤمنين ومسلمين فإنما أراد موسى زمانه وكذلك قوله {وإني فضلتكم على العالمين} يريد عالمي زمانهم.
[1.11.3]
وقوله لقريش {أهم خر أم قوم تبع والذين من قبلهم} ليس فيه دليل على أن أهل اليمن خير من قريش في الحسب ولا أنهم مثلهم وهم من ولد إبراهيم صلى الله عليه وسلم ومن الذرية التي اصطفى الله {على العالمين} وليس لليمن والد من الأنبياء دون نوح وإنما خاطب الله بها مشركي قريش ووعظهم بمن قبلهم من الأمم الهالكة لمعصيته وحذرهم أن ينزل بهم مثل ما أصابهم فقال {أهم خر} من أولئك الذين كانت فيهم التبابعة والملوك ذوو الجنود والعدد ف {أهلكناهم} بالذنوب. والخير قد يقع في أسباب كثيرة يقال هذا خير الفارسين يريد أجلدهما وهذا خير العودين يريد أصلبهما. وكانت قريش كما قال الله قليلا فكثرهم ومستضعفين فأيدهم بنصره وخائفين أن تتخطفهم الملوك فآمنهم بحرمه بما رهصه لهم وأراد من تمكينهم وإعلاء كلمتهم وإظهار نوره لهم وتغيير ممالك الأمم لهم. ومن ذا من المسلمين يصح إسلامه ويصح عقده يقدم على قريش أو يعادل بها وقد قضى الله لها بالفضل على جميع الخليقة إذ جعل الأئمة منها والإمامة فيها مقصورة عليها أن لا تكون لغيرها والإمامة هي التقدم وهذا نص ليس فيه حيلة لمتأول؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الأئمة من قريش.
[1.11.4]
وروى وكيع عن الأعمش عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس تبع لقريش في الخير والشر. وقال صلى الله عليه وسلم إن قريشا أهل صبر وأمانة فمن بغاهم الغوائل كبه الله لوجهه يوم القيامة وقال صلى الله عليه تعلموا من قريش ولا تعلموها وقدموا قريشا ولا تؤخروها. الزهري عن طلحة بن عبد الله ابن عوف عن عبد الرحمن بن الأزهر عن جبير بن مطعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن للقرشي قوة الرجلين من غير قريش. قيل للزهري ما عنى بذلك؟ قال في فضل الرأي فكان يقال قريش الكتبة الحسبة ملح هذه الأمة علم عالمها طباق الأرض. وقال رسول الله صلى الله عليه لا يقوم أحد إلا لهاشمي. وحدثني يزيد بن عمرو قال حدثنا نصر بن خالد الضبي قال حدثنا عبد الله بن علي بن وثاب المدني عن مطرف بن أبي خويلد الهذلي قال سمع رسول الله صلى الله عليه رجلا وهو يقول[بسيط]
إني امرؤ حميري حين تنسبني
لا من ربيعة آبائي ولا مضر
فقال ذاك أضرع لخدك وأبعد لك من الله ورسوله.
[1.11.5]
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا سلمان لا تبغضني فتفارق دينك قال قلت يا رسول الله كيف أبغضك وبك هداني الله؟ قال تبغض العرب فتبغضني. وقال رسول الله صلى الله عليه من غش العرب لم يدخل في شفاعتي ولم تنله مودتي وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اختلف الناس فالحق في مضر. وروى أبو نعيم عن الثوري عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحارث عن المطلب بن أبي وداعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه وجعلهم فرقا فجعلني في خير فرقة وخلق قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة وجعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا فأنا خيركم بيتا وخيركم نفسا.
1.1.12
[1.12.1]
ثم يتلو العرب في شرف الطرفين أهل خراسان أهل الدعوة وأنصار الدولة فإنهم لم يزالوا في أكثر ملك العجم لقاحا لا يؤدون إلى أحد إتاوة ولا خراجا. وكانت ملوك العجم قبل ملوك الطوائف تنزل بلخ ثم نزلوا بابل ثم نزل أردشير بابك فارس فصارت دار ملكهم وصار بخراسان ملوك الهياطلة وهم الذين قتلوا فيروز بن يزدجرد بن بهرام ملك فارس. وكان غزاهم فكادوه بمكيدة في طريقه حتى سلك سبيلا معطشة مهلكة ثم خرجوا إليه فأسروه وأكثر أصحابه فسألهم أن يمنوا عليه وعلى من أسروا معه وأعطاهم موثقا من الله أن لا يغزوهم أبدا ولا يجوز حدودهم ونصب حجرا بينه وبين بلدهم جعله الحد الذي حلف عليه وأشهد على ذلك الله ومن حضره من مرازبنه وأساورته فمنوا عليه وأطلقوه فلما عاد إلى مملكته دخلته الأنفة والحمية بما أصابه فعاد لغزوهم ناكثا لأيمانه غادرا بذمته وحمل الحجر الذي كان نصبه أمامه في مسيره يتأول أنه ما تقدمه الحجر فإنه لم يجزه فلما صار إليهم ناشدوه الله وأذكروه به وما جعل على نفسه من عهده وذمته فأبى إلا لجاجا ونكثا فواقعوه فقتلوه وقتلوا حماته وكماته واستباحوا عسكره وأسروا ضعفته فلبثوا في أيديهم أسرى ثم أعتقوهم وأطلقوهم وغبروا بعد ذلك زمانا طويلا وقتلوا كسرى ابن فيروز وهذا شيء يخبر به عن أهل فارس فيما دونوا في سير ملوكهم من أخبارهم. ومن أقر بهذا على نفسه لعدوه وخصمه فما ظنك بما ستر وزين من أمره.
[1.12.2]
وكان فيما حكوا من الكلام الدائر بين ملك الهياطلة وبين فيروز كلام أحببت أن أذكره في هذا الموضع لأدل به على حكمة القوم وحزمهم في الأمور وعلمهم مكايد الحروب قالوا لما التقى الفريقان وتصافوا للقتال أرسل إخشنواز
[1.12.3]
إني قد ظننت أنه لم يدعك إلى مقامك هذا إلا الأنفة مما أصابك ولعمري لئن كنا احتلنا لك بما رأيت لقد كنت التمست منا أعظم منه وما ابتدأناك ببغي ولا ظلم ولا أردنا إلا دفعك عن أنفسنا وحريمنا ولقد كنت جديرا أن تكون من سوء مكافأتنا عليك وعلى من معك ومن نقض العهد والميثاق الذي أكدت على نفسك أعظم أنفا وأشد امتعاضا مما نالك منا فإنا أطلقناكم وأنتم أسارى ومننا عليكم وأنتم مشرفون على الهلكة وحقنا دماءكم وبنا على سفكها قدرة وإنا لم نجبرك على ما شرطت لنا بل كنت الراغب إلينا فيه والمريد لنا عليه.
[1.12.4]
ففكر في ذلك ومثل بين هذين الأمرين فانظر أيهما أشد عارا وأقبح سماعا أن طلب رجل أمرا فلم يتح له وسلك سبيلا فلم يظفر فيها ببغية واستمكن منه عدوه على حال جهد منه وضيقة ممن معه فمن عليهم وأطلقهم على شرط شرطوه وأمر اصطلحوا عليه فاصطبر لمكروه القضاء واستحيا من الغدر والنكث أم أن يقال نقض العهد وختر بالميثاق مع أني قد ظننت أنه يزيدك لجاجة ما تثق به من كثرة جنودك وما تراه من حسن عدتهم وما أجدني أشك في أنهم أو أكثرهم كارهون لما كان من شخوصك بهم عارفون بأنك قد حملتهم على غير الحق ودعوتهم إلى ما يسخط الله فهم في حربنا غير مستبصرين ونياتهم اليوم في مناصحتك مدخولة فانظر ما غناء من يقاتل على هذه الحالة وما عسى أن تبلغ نكايته في عدوه إذا كان عارفا أنه إن ظفر فمع عار وإن قتل فإلى النار. فأنا أذكرك الله الذي جعلته على نفسك كفيلا ونعمتي عليك وعلى من معك بعد يأسكم من الحياة وإشرافكم على الممات وأدعو إلى ما فيه حظك ورشدك من الوفاء بالعهد والاقتداء بآبائك الذين مضوا على ذلك في كل ما أحبوا أو كرهوا فأحمدوا عواقبه وحسن عليهم أثره. ومع ذلك إنك لست على ثقة من الظفر بنا والبلوغ لبغيتك فينا وإنما تلتمس منا أمرا نلتمس منك مثله وتبادىء عدوا لعله يمنح النصر عليك فدونك هذه النصيحة فبالله ما كان أحد من أصحابك ببالغ لك أكثر منها ولا زائد لك عليها ولا يحرمنك منفعتها مخرجها مني فإنه لا يزري بالمنافع عند ذوي الرأي أن تكون من الأعداء كما لا يحبب المضار إليهم أن تكون على أيدي الأولياء.
[1.12.5]
ونحن نستظهر بالله الذي اعتذرنا إليه ووثقنا بما جعلت لنا من عهده إذا استظهرت بكثرة جنودك وازدهتك عدة أصحابك واعلم أنه ليس يدعوني إلى ما تسمع من مقالتي ضعف أحسه من نفسي ولا قلة من جنود ولكني أحببت أن أزداد بك حجة واستظهارا وأزداد به للنصر والمعونة من الله استيجابا ولا أوثر على العافية والسلامة ما وجدت إليهما سبيلا.
[1.12.6]
فأبى فيروز إلا لجاجا وتعلقا بحجته في الحجر الذي قدمه أمامه فقال له إخشنواز لا يغرنك ما تخدع به نفسك من حمل الحجر أمامك فإن الناس لو كانوا يعطون العهود على ما تقدمه من إسرار أمر وإعلان آخر إذا ما كان ينبغي لأحد أن يغتر بأمان ولا يثق بعهد وإذا لما قبل الناس ذلك ولكنه وضع على العلانية وعلى نية من تعقد له العهود والشروط. ثم أخرج إخشنواز الصحيفة التي كتبها إليهم فيروز فرفعها على رمح لينظر إليها أهل عسكر فيروز فتذكروا غدره وبغيه وخرجوا من متابعته وانتقض عسكره واختلفوا وما لبثوا إلا يسيرا حتى انهزموا فقتلوا إلا قليلا وأسروا وقتل فيروز. فقال إخشنواز أن لقد صدق الذي قال لا رد لما قدر ولا أشد إحالة لنافع الرأي من الهوى واللجاج ولا أضيع من نصيحة يمنحها من لا يوطن نفسه على قبولها والصبر على مكروهها ولا أسرع عقوبة وأسوأ عاقبة من البغي والغدر ولا أجلب لعظيم العار والفضوح من إفراط العجز والأنف.
[1.12.7]
قالوا ولما ملك أنوشروان صاهر خاقان واستعان به على الهياطلة فأعانه عليهم حتى أدرك ثأره وقتل ملكهم وأهل بيته فاستغاثته بملك الترك دليل على الضعف ...
[1.12.8]
فهذه حال أهل خراسان قبل الإسلام ثم أتى الله بالإسلام فكانوا فيه أحسن الأمم رغبة وأشدهم إليه مسارعة منا من الله عليهم وتفضيلا لهم وإحسانا إليهم وأسلموا طوعا ودخلوا فيه أفواجا وصالحوا عن بلادهم صلحا فخف خراجهم وقلت نوائبهم ولم يجر عليهم سباء ولم يسفك فيما بينهم دم.
[1.12.9]
ولما رأى الله ... العزيز وأهل السيئات ... وإخرابهم البلاد واستئثارهم بالفيء وتهالكهم على المعازف والملاهي وإعراضهم عما وجب عليهم فيما قلدهم ابتعث لهم جنودا من أهل خراسان جمعهم من أقطارها كما يجمع قزع الخريف وألبسهم الهيبة ونزع من قلوبهم الرحمة فساروا نحوهم كقطع الليل المظلم وقد أخذوا بلبس السواد وطولوا الشعور وشدوا المآزر دون النساء حتى انتزعوا ملك بني أمية من أكبر ملوكهم نسبا وأشدهم حنكة وأحزمهم رأيا وأكثرهم عدة وعديدا وأثخنهم كاتبا ووزيرا وسلموه إلى بني العباس.
[1.12.10]
وقد كان محمد بن علي بن عبد الله بن العباس قال لدعاتهم حين أراد توجيههم إلى الأمصار أما الكوفة فشيعة علي وولده وأما البصرة وسوادها فعثمانية تدين بالكف وتقول كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل وأما الجزيرة فحرورية مارقة وأعراب كأعلاج ومسلمون في أخلاق النصارى وأما أهل الشام فليس يعرفون إلا آل أبي سفيان وطاعة بني مروان وعداوة راسخة وجهلا متراكما وأما مكة والمدينة فقد غلب عليهما أبو بكر وعمر رحمهما الله فعليكم بأهل خراسان فإن هناك العدد الكثير والجلد الظاهر وهناك صدور سليمة وقلوب فارغة لم تتقسمها الأهواء ولم تتوزعها النحل ولم يقدح فيها فساد وهم جند لهم أبدان وأجسام ومناكب وكواهل وهامات ولحى وشوارب وأصوات هائلة ولغات فخمة تخرج من أفواه منكرة وبعد فإني أتفاءل إلى المشرق وإلى مطلع سراج الأرض ومصباح الخلق.
[1.12.11]
ولما بلغ الله إرادته في بني أمية وبني العباس قام أهل خراسان مع خلفائهم على أسكن ريح وأحسن دعة وأشد طاعة وأكثر تعظيم لسلطان وأحمد سيرة في رعية يتزين عندهم الحسن ويستتر منهم بالقبيح إلى كان ما كان من قضاء الله ورأي الخلفاء الراشدين في الاستبدال بهم وتصيير التدبير لغيرهم ولا ... المستعان.
[1.12.12]
ولخراسان ... طيب ... التربة وعذوبة الثمر ... الصنعة وتمام الخلقة وطول القامة وحسن الوجوه وجودة السلاح والدروع والثياب وأهل التجارب على أن ما كان له أصل بخراسان فهو خير من جميع ما في الأرض من ذلك الجنس ... الترك أشد الناس بأسا وأغلظهم أكبادا وأصبرهم على البؤس أنفسا وأقلهم شغبا وخفضا يثخنون فيهم القتل ويأسرونهم وبهم يدفع الله عن المسلمين حربهم وكيدهم وقد جاء في الحديث تاركوا الترك ما تاركوكم. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها ما لا أعلم أنه جاء مثله في شيء من البلاد إلا في الحرمين والأرض المقدسة. حدثني أحمد بن الخليل قال حدثنا محمد بن الخصيب بن حمزة عن سليمان بن بريدة قال حدثني أوس بن عبد الله بن بريدة قال النبي صلى الله عليه وسلم يا بريدة إنه سيبعث بعدي بعوث فإذا بعثت فكن في أهل بعث المشرق ثم كن في بعث خراسان ثم في بعث أرض يقال لها مرو فإذا أتيتها فانزل مدينتها فإنه بناها ذو القرنين وصلى فيها غزيرة أنهارها تجري بالبركة على كل نقب منها ملك شاهر سيفه يدفع عن اهلها السوء إلى يوم القيامة فقدمها بريدة فمات فيها رحمه الله.
[1.12.13]
وجهد الطاعن على اهل خراسان أن يدعي عليهم البخل ودقة النظر ويشنع بمثل قول ابن ثمامة إن الديك في كل بلد لافظة إلا بمرو فإنها تستلب من الدجاج ما في مناقيرها من الحب وهذا كذب بين ظاهر للعيان لا يقدم على مثله إلا الوقاح البهات الذي لا يتوقى الفضوح والعار وما ديكة مرو إلا كالديوك في جميع الأرض ولا أهل خراسان في البخل إلا كسائر الناس لأن البخل خلة من خلال الشر وأهل خلال الشر أضعاف أهل ... الأذى ليس فيهم من ... ومن الحكماء والشجعان ... سخفاء جبناء بخلاء ومقاربو ... على هذا أسست الدنيا وبه جرى تقدير اللطيف الخبير.
[1.12.14]
وقد يرى أهل خراسان عند أهل العراق في هذا الباب ممن يرون من الحاج وأكثر الحاج في كل سنة أهل الرساتيق وأهل القرى والأوباش والأغلب على هذه الطبقة دقة النظر وسوء الأدب ولأهل خراسان أجواد مبرزون لا يجارون ولا يبلغ شأوهم فمنهم البرامكة ولا نعلم أن أحدا قرب من السلطان قربهم فأعطى عطاءهم وصنع صنيعهم واعتقد بيوت الأموال حرا كان أم عبدا منا عليهم ومن المشهور عنهم أنه لم يكن لخالد بن برمك أخ إلا بنى له دارا على قدر كفايته ثم وقف على أولاده ما يعيشهم أبدا ولم يكن لأحد من إخوانه ولد إلا من جارية هو وهبها له ومنهم القحاطبة ... هو خير في قران ... ألف ألف دينار ... لا عن أن يوهب ... وممن ... نفسه بما ملك عبد الله بن مبارك كان يفرق ماله على إخوانه ويؤثرهم بأرباحه ويلبس ثوبا بثلث دينار ويعطي صاحب الحمام أحيانا دينارا والحاجم دينارا.
1.1.13
[1.13.1]
وأما الأمة التي بسق أولها وعفا آخرها فأهل فارس كانوا في سالف الدهر أعظم الأمم ملكا وأكثرهم أموالا وأشدهم شوكة وكانت الملوك في جميع الأطراف والأقاليم تعترف بذلك ... أن يهادنهم وكانت العرب تدعوهم الأحرار وبني الأحرار لأنهم كانوا يسبون ويستخدمون ولا يسبون ولا يستخدمون ثم أتى الله بالإسلام فكانوا كنار خمدت وكرماد اشتدت به الريح فتبدد جمعهم ونخبت قلوبهم ومزقوا كل ممزق فلم يبق منهم في الإسلام بقية تذكر ولا شريف يشهر إلا أن يكون ابن المقفع والفضل بن سهل وأخاه الحسن ...
[1.13.2]
... تدفع فارس عن ... الله عليه لو كان الإيمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس قلنا له في هذا الحديث دليل على رغبة الموقوفين له بالدين ومسارعتهم إليه وتمسكهم بسنن النبي صلى الله عليه وسلم فيه وإنما هو كقولك لو كنت بأقاصي البلاد لزرتك تريد لتجشمت الوصول إليك ... ولا خلاف بقول الله عز وجل ولا تبديل. فإذا نحن تطلبنا مصادق هذا القول في أهل فارس لم نجده أولا ولا آخرا لأن أول أمرهم في الإسلام على ما قدمت من شدة العداوة للمسلمين ومحاربتهم حتى قهروا وهزموا ... ومزقوا فلا ... من كانت هذه حاله. ولم نجد لهم بعد ذلك رجالا برعوا في العلم وعرفوا بالحفظ للأثر والتفقه في الدين والاجتهاد في العبادة إلا أن نجد من ذلك الشيء اليسير والنبذ ... في أهل خراسان ... الإسلام رغبة وطوعا ... أول أمرهم ثم هم أحسن الناس بقية وأشدهم بالدين تمسكا فمنهم المحدثون النبل المشهورون ومنهم العلماء بالفقه المتقدمون والعباد المجتهدون ورغبات الناس في الخير والعلم والأدب تنقص ورغباتهم تزيد وحرص الناس على مر الأيام يخلق وحرصهم مجدد ومن ... ذلك طلبة الحديث وجده ... لأنك تجد أهل خراسان في كل بلد فيه محدث أو ... وأكثر وباقيهم من جميع الأمصار.
[1.13.3]
فإن قال قائل فإن رسول الله صلى الله عليه جعله في أهل فارس فكيف جعلته في أهل خراسان؟ قلنا إن فارس وخراسان كانتا عند العرب شيئا واحدا لأنهما يتحاذيان ويتصلان ولأن لسان أهل فارس ولسان أهل خراسان الفارسية فهم يسمون الفريقين الفرس وكذلك المتكلمون بالعربية عند من لا يفصح من ... أهل اليمن وأهل الحجاز ... وكانوا يقضون على ما ... بأنه منها. يدلك على ذلك ... أبي بكر رحمه الله في خطبة له ذكر فيها الموت ثم قال أي بلادكم خرسة فإن الله سيفتح عليكم أقصاها كما فتح أدناها أفما تراه يسأل عنها ثم يعبر باللفظ باسمها لقلة ما يجري ذكرها ولأنهم كانوا إذا ذكروا المشرق كله قالوا فارس؟ ومن الدليل أيضا حديث حدثنيه أحمد بن عمر بن جيلان قال الدنيا كلها أربعة وعشرون ألف فرسخ فملك السودان منها اثنا عشر ألف فرسخ وملك الروم ثمانية آلاف فرسخ وملك فارس ثلاثة آلاف فرسخ وأرض العرب ألف فرسخ فذكر فارس ولم يذكر خراسان وهي أوسع منها لأنه يجعل المشرق كله من فارس وكذلك ذكر الروم ولم يذكر ما حاذاها من بلاد الأعاجم لأنه جعل ذلك كله للروم ... أن رجلا قال ... بتنا عليك هذه ... المسلم.
[1.13.4]
سمعت النبي صلى الله عليه يقول ... كم على الدين عودا كما ضربتموه عليه أولا واذا طلبنا نحن مصداق ذلك في العجم وجدناه في أهل خراسان لأنهم هم الذين ضاربوا بالسيوف العرب وأهل الشام غضبا لدين الله وإنكارا لسيرة بني أمية حتى ابتزوهم السلطان ونقلوا الملك من الشام إلى العراق. وروى يزيد بن أبي زياد عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه قال إن أهل بيتي يلقون بعدي بلاء وتطريدا حتى يجيء قوم من أهل المشرق معهم رايات سود يسألون الحق فلا يعطونه فيقاتلون فينصرون فيعطون ما سألوا فلا يقبلونه حتى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي فيملؤها قسطا كما ملأوها جورا فمن أدرك ذلك منكم فليأتهم ولو حبوا على الثلج. وقرأت في الإنجيل ... قوم من المشرق ... في ملكوت السماء و ... بحيث يكون البكاء وصرير ... الأسنان ...
[1.13.5]
ومما يزيد ما قلنا في فارس وضوحا أن النبي صلى الله عليه كان بعث حنيس بن عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى وكتب كتابا بدأ فيه بنفسه فلما قرأه كسرى غضب ومزقه وبعث إليه بتراب فقال النبي صلى الله عليه مزق كتابي أما إنه سيمزق ملكه وبعث إلي بتراب أما إنكم ستملكون أرضه. فكيف تكون البقية الحسنة لمن أعلمنا رسول الله صلى الله عليه أنهم سيمزقون لا جرم لقد خملوا ودرسوا.
[1.13.6]
ففارس إلى يومنا أبخع الناس بطاعة السلطان وأصبرهم على الظلم وأثقلهم خراجا وأذلهم نفوسا. وأخبرني جماعة من مشايخهم أنهم لم يعرفوا عدلا قط وأن سيرة عمر بن عبد العزيز شملت البلاد كلها غير بلدهم فإن عامله المتوجه إليهم هلك في مسيره ... السواد إنهم من أبناء ... أنهم نوافل من خراسان ... أسبغ عليهم بالعرب النعمة وظاهر لهم الكرامة ... لهم العز وأبدلهم بحالهم حالا لا ينكرها منهم إلا غبي منقوص أو حاسد كفور لأن السواد فتحه العرب عنوة والإمام مخير في العنوة بين القتل والرق والفدية والمن فاختاروا خير الأمور وحقنوا دماءهم ومنوا عليهم وأقروا الأموال في أيديهم ثم جاوروا السلطان من بني العباس وأولياءه من أهل خراسان فاستخلصهم لأموره وجعلهم موضع سره واتخذ منهم الكتاب والوزراء والأصحاب فصاروا به أسعد ممن بذل في التمهيد له المهجة والمال. وهؤلاء الذين ذكرناهم المشهورون من الناس فأما من غبي أمره ودخل في جملة الناس فلا حاجة بنا أن ننص عليه ولا نذكر أوله وآخره فنجعله خصما وهو سلم ونفتح له بابا إلى مثل ما عليه أولئك الطاعنون على العرب وقد قال الأول
كفاني نقصا ... ~
1.1.14
[1.14.1]
وبلغني أن رجلا من العجم ... بقول الله جل وعز {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} وقال الشعوب من العجم والقبائل من العرب وقد قدم الله الشعوب في الذكر والمقدم أفضل من المؤخر.
[1.14.2]
وكنت أرى أهل التسوية يحتجون بهذه الآية ولم أعلم أن أحدا يعقل يدعي الفضل بها ولا يرضى بالمحاجزة. وقد غلط من وجهين أحدهما أن تقديم الذكر لا يوجب تقديم الفضل قال الله عز وجل {يا معشر الجن والإنس} فقدم الجن على الإنس والإنس أفضل منها وقال لا يعزب عنه {مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء} فقدم الأرض والسماء أفضل منها وهذا يكثر لو تتبعناه. والوجه الآخر أن العجم ليست بالشعب أولى من العرب وكل قوم كثروا وانشعبوا فقد صاروا شعوبا حكى ابن الكلبي عن أبيه أن الشعب أكثر من القبيلة ثم العمارة ثم البطن ثم الفخذ ثم العشيرة ثم الفصيلة ... فلم أر سعدا مثل وقال ... خليطين من شعبين ... جميعا وكانا بالتفرق ... وإنما نسبت العجم إلى الشعوب لأن ما انشعب منها أكثر مما انشعب من العرب فجعلت الشعوب علما لأجناسها.
[1.14.3]
وأما أهل التسوية فإن منهم قوما غلبت عليهم السلامة ومالت بهم الديانة فذهبوا إلى قول الله عز وجل {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} وإلى قول النبي صلى الله عليه إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء مؤمن تقي وفاجر شقي وإلى قوله كلكم بني آدم طف الصاع لم تملأ وليس لأحد على أحد فضل إلا بالتقوى وإلى قوله الناس سواء كأسنان المشط وتجدون الناس كإبل مائة ليس فيها راحلة.
[1.14.4]
فقضوا بظاهر الكلام ولم يفتشوه ولم يعتبروا بغيره فيعرفوه ولو كان الناس كلهم سواء في أمور الدنيا ليس لأحد على أحد فضل إلا بأمر الآخرة لم يكن في الدنيا شريف ولا مشروف ولا ... فاضل ولا مفضول فما معنى قوله صلى الله عليه وسلم إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه وقوله لقوم قدموا عليه من سيدكم؟ قالوا جد بن قيس على بخل فيه قال وأي داء أدوى من البخل؟ وقال لقيس بن عاصم هذا سيد أهل الوبر وقال يطلع عليكم من هذا الفج خير ذي يمن فطلع جرير بن عبد الله وقال أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم. وكانت العرب تقول لا يزال الناس بخير ما تباينوا فإذا تساووا هلكوا يريدون أنهم لا يزالون بخير ما كان فيهم أشراف وخيار فإذا خملوا جميعا هلكوا وقال الشاعر في هذا المعنى [طويل]
سواء كأسنان الحمار فلا ترى
لذي شيبة منهم على ناشئ فضلا
[1.14.5]
قال مطرف الناس ثلاثة ناس ونسناس وناس غمسوا في ماء الناس وكان يقال أربع خلال يسودن العبد الأدب والعفة والصدق والأمانة. ومر عمر بن الخطاب بقوم يتبعون رجلا قد أخذوا في ريبه فقال لا مرحبا بهذه الوجوه التي لا ترى إلا في الشر.
[1.14.6]
ومن تتبع أحوال الناس وأسبابهم لم يجد رجلين متساويين في خلق ولا خلق ولا فعال وكيف يستوي اثنان والواحد في نفسه لا تتساوى أعضاؤه ولا تتكافؤ مفاصله بل لبعضها الفضل على بعض فللرأس الفضل على جميع البدن بالعقل والحواس الخمس وللقلب الفضل على حشوة البطن بالمعرفة والفهم وكانت الحكماء تقول الإنسان ... فؤاده ويشبهونه في البدن بالملك ولليمين الفضل على الشمال وللإبهام الفضل على الخنصر. وترى الرجل يكسو رأسه الخز وبدنه الكرابيس ورجليه الجلود ولا يحسن به أن يخالف هذه الهيئة فيجعل الكرباسة لرأسه والخز لبدنه أو رجله ولا عيب على الرجل ... والعيب القبيح في ... الشريف ... الخسيس من ... أشراف لأنهم شبهوا بالشرف من ... وهو الرأس. ودخل رجل على عيسى بن موسى وعنده ابن شبرمة فقال لابن شبرمة أتعرفه؟ قال نعم إن له لبيتا وشرفا وقدما. ولم يكن يعرفه وإنما أراد بالشرف أعلاه وبالبيت بيته الذي يأوي إليه وبالقدم قدمه التي يمشي عليها. وكذلك قيل أيضا رؤساء وقيل للأدنياء السفلة لأنهم شبهوا بسفلة البعير وهي قوائمه.
[1.14.7]
وتأويل هذه الأحاديث أن النبي صلى الله عليه بعث والناس على عصبية العشائر وتحزب القبائل والفخر بالمآثر والتقديم عليها والتعاير بالملائم والتأخير بها وكانوا يأخذون دية القتيل على قدر أسرته فربما ودوا الواحد دية اثنين وربما ودوا اثنين دية واحد وربما قتلوا بالواحد عددا وربما اختلف الفريقان واتفقوا على أن ... الآخرون عليهم القصاص ... الإسلام. حدثني السجستاني قال حدثنا الأصمعي قال ... بن حيان عن هشام بن عقبة أخي ذي الرمة ... قال شهدت الأحنف وفد أعالى قوم في دم فتكلموا فقال احتكموا قالوا نحكم ديتين قال ذاك لكم فلما سكتوا قال ما أعطيتكم كما أعطيتكم وأنا قائل لكم شيئا إن الله تبارك وتعالى قضى بدية وإن العرب تعاطي بينها دية وأنتم اليوم طالبون وأخشى أن تكونوا غدا مطلوبين فلا يرضى الناس عنكم إلا بمثل ما سننتم على أنفسكم فانظروا فقالوا قد ردها الله إلى دية. فحمد الله وأثنى عليه ثم قام ليركب قال فرأيت رداءه مشمرا فوق قميصه وقميصه مشمرا فوق إزاره. فأعلمهم رسول الله صلى الله عليه أنه لا فضل لأحد على أحد في أحكام الدين لشرف ولا ملك ولا عز عشيرة وقال كل مأثرة كانت في الجاهلية فهي تحت قدمي هاتين فمن قتل نفسا قتل بها ومن سرق قطعت يده ومن زنا حد ومن فقأ عينا فقئت عينه ... من الإبل لا يزاد عليه ... الأحكام كطف الصاع ... نحن عند الله في الثواب ... فالتفضل والعفو.
[1.14.8]
وأما قول النبي صلى الله عليه فينبغي إن كان لك مال فلك حسب وإن كان لك خلق فلك مروءة وإن كان لك تقى فلك دين وقول عمر بن الخطاب حسب الرجل ماله وكرمه دينه ومروءته خلقه فإن الحسب ما أعلمتك من فضائل الآباء وقد يكون الرجل لا شرف لآبائه ويكون له مال فيصطنع المعروف ويعتقد الدين فتنبسط الألسنة فيه بجميل الذكر والشكر فيقوم المال له مقام الحسب فيكون حسيبا إذ قام بها أمه قال الشاعر [بسيط]
آلمال يزري بأقوام ذوي حسب
وقد يسود غير السيد المال
وأنشد الرياشي [بسيط]
غضبان يعلم أن المال ساق له
ما لم يسقه له دين ولا خلق
[1.14.9]
... فأكرم الناس من كانت ... اللهم هب لي حمدا ومجدا لا مجد إلا بفعال ولا حمد إلا بمال. وقد يكون الرجل مثريا فيعظمه الناس وإن لم ينلهم ويقدمون عليه وإن لم يزرهم ولذلك قال بعضهم وددت أن لي مثل أحد ذهبا لا أنتفع به قال الهذلي [وافر]
رأيت معاشرا يثنى عليهم
إذا شبعوا وأوجههم قباح
يظل المصرمون لهم سجودا
ولو لم يسق عندهم ضياح
ولآخر [طويل]
أجلك قوم حين صرت إلى الغنى
وكل غني في العيون جليل
[1.14.10]
وقد يكون الرجل كثير الذنوب كثير الخطأ فيغفر ذلك من أجل يساره وكذلك قيل الغنى رب غفور وشبيه بهذا قوله مروءة الرجل خلقه لأن المروءة اجتناب القبائح والسيئات. وقال معاوية لعمرو بن العاص ما ألذ الأشياء؟ قال عمرو مر أحداث قريش أن يقوموا فلما قاموا قال إسقاط المروءة ... واتبع الهوى فركب ... ويظهر الناس منه على ... ويطلعون ... فيشكرون ذلك ويتطلبون العذر ويدفعون عن الذكر القبيح وقد يكون سيء الأخلاق فيتجنون عليه الذنوب ويخرصون عليه الكذب ويشنعون بالقليل فخلق الرجل مروءته لأنه قام مقام المروءة كما قام المال مقام الحسب.
1.1.15
[1.15.1]
ومن العرب قوم يقابلون غلو الشعوبية بحمية العربية فيدعون أنهم موالي العجم كلهم لأن الله هداهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وفك رقابهم من رق الكفر وعذاب النار وجعلوا ذلك قياسا على رق الكفر والأسر وليس هذا للعرب إلا على من وجب عليه سبي أو قتل فمنوا عليه واستحيوه فيكون ذاك قياسا على رق الملك. وأما من دخل في الإسلام رغدا وسارع إليه طوعا فليس لأحد عليه ولاء ولا لأحد عليه منة إلا لله جل وعز إذ هداه ثم لرسول الله صلى الله عليه ... لا يجب ما وجب ... ولا نعلم أن أحدا من صحابة رسول الله صلى الله عليه قال أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وكان سلمان يقول أنا سلمان بن الإسلام ولا يقول مولى رسول الله صلى الله عليه فأما أبو بكرة فكان يقول أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه لما حاصر أهل الطائف وقال أيما عبد نزل إلي فهو حر فتدلى أبو بكرة فعتق. حدثني زيد بن أخزم قال حدثنا سلم بن قتيبة عن أبي المنهال ... عن عبد العزيز بن أبي بكرة عن أبيه قال لما حاصر النبي صلى الله عليه الطائف تدليت ببكرة فقال كيف صنعت؟ يعني النبي صلى الله عليه فقلت تدليت ببكرة قال فأنت أبو بكرة. ومولى القوم منهم ومن أنفسهم بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[1.15.2]
العتبي عن أبيه عن أبي خالد عن أبيه قال قال يا بني وصيتي إياك بما أوصاني به مولاك كنت وصيفا لعمرو بن عتبة فأسلمني في المكتب فلما حذقت وتأدبت ... يا أبا يزيد فالتفت يمنة ... قال لي إياك أعني إنا معاشر و ... هو لموالينا بأسمائهم إنك أمس كنت لي وأنت اليوم مني وإن الناس لا ينسبون إلى آبائهم بولادتهم إياهم ولكن ينسبون إليهم بحكم الله فيهم ألا ترى لو أن رجلا أولد امرأة من غير حل لم يكن ولدها له ولدا فلما كان المولود من أبيه بحكم الله كان المولى من أقاربه بحكم رسول الله صلى الله عليه فاستدم النعمة عليك بالشكر عليها منك.
[1.15.3]
قال أبو محمد وما أحسن ما شبه عمرو بن عتبة عن أن قربى المولى بمواليه دون قربى الحميم العبيد وعلى مواليه أن ينصروه ويمنعوا عنه ويبدأوا به في الرفد والصدقة قبل الجار وابن السبيل من غير أن يكون لهم كفؤا في المناكحة ولا مثلا في الشرف لأن الكفاة هي المساواة والمعادلة ولن يستوي المنعم والمنعم عليه ولا الصانع والمصطنع إليه ولا اليد العليا ... أن ينكح في مواليه فقد ... صلى الله عليه وسلم وأبطل معنى الكفاة و ... يجوز أن ينكح فيهم وهم يرثونه ولا يرثهم ويكونون أولياءه في التزويج ولا يكون وليهم ولا شيء أشبه في النكاح من هذين الأمرين لأن الله جل وعز لما وضعه عن أن ... كان حريا بأن لا يتزوجها ولما وضعه عن أن يرثها كان خليقا بأن لا يطأها وأن لا يناسب المنعمين عليه فإن النكاح أحد النسبين قال الله عز وجل {وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا} فالنسب نسب القرابة والصهر نسب النكاح.
PARATEXT|
آخر الجزء الأول والحمد لله رب العالمين وصلى الله على رسوله سيدنا محمد نبيه وآله الطاهرين. ويتلوه الجزء الثاني
2 الجزء الثاني في فضل العرب على العجم
2.1
[2.1.1]
قال أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة قد قلنا في الشرف بما لا يطلع الله فيه منا على الحيف بمبلغ علمنا ومقدار طاقتنا وفيه شفاء وبلاغ لمن كان الله إرادته والحق طلبته ومن تجاوز حده وعدا طوره وظلم خصمه وادعى ما ليس له خدع نفسه وغبن عقله وأسخط ربه ولم يضرر الله بذلك الحق وأهله لأن أعلامه لا تعفو وناره لا تخبو والباطل إلى قل وذل وزوال وانتقال لا سيما وكتابنا هذا قد كشف الغطاء وحسر القناع وأبدى الصريح وقذف الرغوة فمن ادعى حقا فليذكره أو حجة فليدل بها فإنا من وراء دعاويه وحججه بالرد إن ظلم أو الاعتراف إن صدق وما ندعي لأنفسنا مع هذا الاستقصاء لفن من الفنون حتى نحوزه ولا السداد في كل ما نقول حتى لا نزل ولكننا نرجوه بحسن النية والقصد للحق ولم يزل الله يصحبهما العصمة والتوفيق للصواب.
[2.1.2]
ونذكر ما للعرب من العلوم والحكم في الشعر والكلام المسجع المنثور من غير استقصاء لفن من ذلك ولا وقوف من ورائه إذ كان غرضنا في هذا الكتاب التنبيه والدلالة ودفع الخصم عما ينسب إليه العرب من الجفاء والغباوة.
[2.1.3]
والعلوم جنسان أحدهما علم إسلامي نتج من بين الدين واللغة كالفقه والنحو ومعاني الشعر وهذا للعرب خاصة ليس للعجم فيه سبب إلا تعلمه واقتباسه وللعرب سناؤه وفخره والآخر علم متقادم تتشارك فيه الأمم لا أعلم منه فنا إلا وقد جعل الله للعرب فيه حظا ثم تتفرد من ذلك بأشياء لا تشارك فيها.
2.2 الخيل
[2.2.1]
فمما تتفرد به علم الخيل لم نجد لأحد من الأمم اليونانية والفارسية
~~والهندية والرومية فيه إلا النبذ اليسير الذي لا يذكر مثله ولا يعتد به
~~والعرب تعرف أعضاءها عضوا عضوا بأسماء معروفة من النواصي إلى الأذناب ومن
~~السروات إلى الأرساغ وتعرف شمائلها ومخائلها وما يبلغ منها الغاية وما يقصر
~~عنها بالفراسة وأعلام الجواد والعتيق والمقرف والهجين عريا ومجللا ومحضرا
~~وما يحضر منها على ضمر وما يحضر منها على غير ضمر.
[2.2.2]
حدثني السجستاني قال أخبرنا أبو عبيدة معمر بن المثنى عن العرب أنها
~~تستدل على عتق الفرس برقة جحافله وأرنبته وعرض منخريه وعري نواهقه وسمومه
~~ورقة حقويه وما ظهر من أعالي أذنيه ورقة سالفته ولينه ولين شعره ورقة شعر
~~ركبتيه وثننه وأشاعره وأبين من ذلك كله لين شكير ناصيته وعرفه.
[2.2.3]
قال وكانوا يقولون إذا اشتدت نفسه ورحب متنفسه وطالت عنقه واشتد مركبها
~~في كاهله واشتد حقوه وانهرت شدقه وعظمت فخذاه وانشجت أنساؤه وعظمت فصوصه
~~واشتدت حوافره ووقحت لحق بجياد الخيل.
[2.2.4]
قالوا وإذا رحب متنفسه ولم ير ... نفس فإذا لم يكن شدي ... قالوا وكل شيء
~~يستحب ... في الأنثى من الأعلام يستحب في الذكر إلا طول القيام وقلة الربوض
~~وقلة لحم اللهزمة وكانوا يقولون ذكر نؤوم وأنثى صؤوم.
[2.2.5]
وقال بعض العرب أفضل الخيل الذي إذا استقبلته قلت نافر وإذا استدبرته قلت
~~زاجر وإذا استعرضته قلت زافر وخير البراذين ما طرفه أمامه وسوطه عنانه.
~~وقال أقيصر خير الخيل الذي إذا استقبلته قلت أقعى وإذا استدبرته جبى وإذا
~~استعرضته استوى وإذا مشى ردى وإذا عدا دحا قال الشاعر في نحو هذا [كامل]
أما إذا استقبلته فكأنه
باز يكفكف أن يطير وقد رأى
أما إذا استدبرته فتسوقه
ساق قموص الوقع عارية النسا
أما إذا استعرضته متمطرا
فتقول هذا مثل سرحان الغضا
[2.2.6]
وقال أبو محمد حدثنا إسحاق بن راهويه قال لما وضعت الحرب أوزارها قال
~~عمرو بن العاص [رمل]
شبت الحرب فأعددت لها
مفرع الحارك مروي الثبج
جرشعا أعظمه جفرته
فإذا ابتل من الماء خرج
يصل الشد بشد فإذا
ونت الخيل من الثج معج
[2.2.7]
قال ابن الأعرابي سئل رجل من بني أسد عن الفرس الكريم وعن البطيء المقرف
~~قال أما الجواد المبز فالذي لهز لهز العير وأنف تأنيف السير إذا عدا اسلهب
~~وإذا قيد اجلعب وإذا انتصب اتلأب وأما البطيء المقرف فالمدكوك الحجبة الضخم
~~الأرنبة الغليظ الرقبة الكثير الجلبة الذي إذا أرسلته قال أمسكني وإذا
~~أمسكته قال أرسلني.
[2.2.8]
وقال مسلم بن عمرو لابن عم له يشتري له خيلا انظر كل شيء تستحسنه في
~~الكلب فاطلبه في الفرس.
[2.2.9]
حدثني عبد الرحمن قال حدثنا الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء أن عمر بن
~~الخطاب رحمه الله شك في العتاق والهجن فدعا سلمان بن ربيعة الباهلي بطست من
~~ماء أو بترس فيه ماء فوضع بالأرض ثم قدم إليه الخيل فرسا فرسا فما ثنى منها
~~سنبكه فشرب هجنه وما شرب ولم يثن سنبكه عربه وذلك لأن في أعناق الهجن قصرا
~~فهي لا تنال الماء على تلك الحال حتى تثني سنابكها وأعناق العتاق طوال.
[2.2.10]
وأنشدني أبو حاتم عن أبي عبيدة قال وقال لي أبو عبيدة لا أعرف قائل الشعر
~~وعروضه لا يخرج وخبرني أبو حاتم أنه لعبد الغفار الخزاعي [منسرح]
ذاك وقد أذعر الوحوش بصل
ت الخد رحب لبانه مجفر
طويل خمس قصير أربعة
عريض ست مقلص حشور
حدت له سبعة وقد عريت
تسع ففيه لمن رأى منظر
تم له تسعة كسين وقد
أرحب منه اللبان والمنخر
بعيد عشر وقد قربن له
عشر وخمس طالت ولم تقصر
نقفيه بالمحض دون ولدتنا
وعضه في آريه ينشر
نصبحه تارة ونغبقه
ألبان كوم روائم ظؤر
حتى شتا بادنا يقال له
تطوون من بدنه وقد أضمر
مؤثق الخلق جرشع عتد
منضرج الحضر حين يستحضر
خاظي الحماتين لحمه زيم
نهد شديد الصفاق والأبهر
دقيق خمس غليظ أربعة
نائي المعدين لين الأشعر
[2.2.11]
وهذا الشعر يجمع لك فراسة الخيل وقد فسرته في كتابي المؤلف في خلق الفرس
~~وما جاء عن العرب في الخيل كثير فإن آثرت أن تعرف ذلك وتراه مجموعا نظرت في
~~ذلك الكتاب أو في كتابي المؤلف في أدب الكاتب إن شاء الله.
2.3 النجوم
[2.3.1]
وما تنفرد به العرب من العلوم العلم بمناظر النجوم وأسمائها وأنوائها
~~ومطالعها ومساقطها والاهتداء بها وا...[بسيط]
مالت إليه طلابا واستطيف به
كما تطيف نجوم الليل بالقطب
لأن مدار النجوم على القطب.
[2.3.2]
قال كثير [طويل]
فدع عنك سعدى إنما تسعف النوى
قران الثريا مرة ثم تأفل
يريد أن الثريا تقارن الهلال لليلة في السنة مرة واحدة ثم تغيب وكذلك
~~سعدى إنما يلاقيها مرة في الحول وهذا إنما يعرفه أعلم الناس بالمناظر
~~وأشدهم للنجوم مراعاة وتفقدا.
[2.3.3]
وقال آخر [وافر]
إذا ما قارن القمر الثريا
لخامسة فقد ذهب الشتاء
والثريا تقارن القمر لخمس يخلون من الشهر مرتين عند انصرام البرد وطيب
~~الزمان وعند انصرام الحر وقال آخر [وافر]
إذا ما قارن القمر الثريا
لخامسة فقد ذهب المصيف
[2.3.4]
وقال الأخطل [طويل]
إذا طلع العيوق والنجم أولجت
سوالفها بين السماكين والقلب
العيوق يطلع مع طلوع الثريا وذلك عند اشتداد الحر وإذا طلعا صبحا طلع
~~السماك ليلا يقول فإذا اشتد الحر جعلنا المسير ليلا
[2.3.5]
وقال حاتم [طويل]
وعاذلة هبت بليل تلومني
وقد غاب عيوق الثريا فعردا
أضاف العيوق إلى الثريا وذلك أنه يطلع إذا طلعت وليس منها
[2.3.6]
وقال الأخطل يذكر بني سليم [بسيط]
وما يلاقون فراصا إلى نسب
حتى يلاقي جدي الفرقد القمر
جدي الفرقد هو الذي يستدل به على القبلة وليس من منازل القمر وهو وراء
~~الفرقد بقرب القطب فالقمر لا يلاقيه أبدا
[2.3.7]
وقال ذو الرمة في الاهتداء بالنجوم [طويل]
فقلت اجعلي ضوء الفراقد كلها
يمينا ومهوى النسر من عن شمالك
[2.3.8]
وقال آخر في النجوم والسعد[طويل]
فسيروا بقلب العقرب اليوم إنه
سواء عليكم بالنحوس وبالسعد
أي سيروا عند سقوط قلب العقرب وهو نحس
[2.3.9]
وقال الأسود بن يعفر [طويل]
ولدت بحادي النجم يحدو قرينه
وبالقلب قلب العقرب المتوقد
حادي النجم الدبران وهو نحس
[2.3.10]
وقال آخر [طويل]
غداة توخى الملك يلتمس الحيا
فصادف نجما كان كالدبران
[2.3.11]
وقال آخر [رجز]
قد جاء سعد موعدا بشره
مخبرة جنوده بحره
يعني سعد الأخبية وجنوده الحشرات وهو يطلع في قبل الدفاء فتنتشر ويخرج ما
~~كان منها مختبئا يخبر بإقبال الحر فسمي سعد الأخبية لذلك.
[2.3.12]
وللعرب أسجاع في طلوع النجوم تدل على علم جم كثير كقولهم إذا طلع سهيل
~~برد الليل وخيف السيل وكان للحوار الويل فإذا طلع النجم اتقي اللحم وخيف
~~السقم وطلوعها لثلاث عشرة ليلة تخلو من أيار.
[2.3.13]
وهم أيضا أعلم الناس بمخايل السحاب وماطره ومخلفه وتقول أرنيها نمرة
~~أركها مطرة ويقولون إذا رأيت السماء كأنها بطن أتان قمراء فذلك الجود وقال
~~معقر البارقي لابنته بعد أن كف بصره يا بنية صفي لي السحاب فقالت أرى سحماء
~~عقاقة كأنها حولاء ناقة ذات هيدب دان وسير وان فقال يا بنية وائلي بي إلى
~~حيث قفلة فإنها لا تنبت إلا بمنجاة من السيل وفي الحديث إذا أنشأت بحرية ثم
~~تشاءمت فتلك عين غديقة ويقولون مطرنا بالعين إذا نشأ السحاب من ناحية
~~القبلة ويقولون العين اسم لما عن يمين قبلة العراق والعين أيضا مطر أيام لا تقلع.
[2.3.14]
وهم أعلم الناس بالرياح ومهابها ولواقحها وحوائلها والبروق وما كان منها
~~مبشرا وما كان منها خلبا وربما انتقلوا بلمعانه ولم يبعثوا رائدا ثقة
~~بعلمهم به ويحمدون المطر إذا كان في سرار الشهر وآخر ليلة منه.
[2.3.15]
وحدثني الرياشي قال سألت أعرابيا عن قول الراعي [وافر]
تلقى نوءهن سرار شهر
وخير النوء ما لقي السرارا
فقال مطرنا عاما أول لليلتين بقيتا من الشهر فاندحت الأرض كلأ أخبرني
~~الرياشي عن الأصمعي قال يقال بنى بيتا فدحاه أي وسعه.
[2.3.16]
ويحمدون المطر إذا كان في أول ليلة من الشهر. قال الكميت [طويل]
والغيث بالمتألقا
ت من الأهلة في الفواجر
[2.3.17]
وليس يحمدون محاق الشهر في شيء إلا في المطر وقال جران العود [طويل]
أتوني بها قبل المحاق بليلة
فكان محاقا كله ذلك الشهر
[2.3.18]
و ... من كتاب الله وهو قوله {في يوم نحس مستمر} وهم يستدلون على
~~الجدب باحمرار الآفاق واحمرار السحاب واصفراره قال أمية [منسرح]
ويل ام قومي قوما إذا
قحط القطر وآضت كأنها دم
وسودت شمسهم إذا طلعت
بالجلب هفا كأنه كتم
[2.3.19]
فإذا كان البرق عندهم وليفا وثقوا بالمطر والوليف الذي يلمع لمعتين
~~متتابعتين قال صخر الغي [متقارب]
لشماء بعد شتات النوى
وقد بت أخيلت برقا وليفا
[2.3.20]
وإذا كان السحاب بطيئا في سيره فذاك دليلهم على كثرة مائه قال عدي بن زيد [خفيف]
وحبي بعد الهدو تزجي
ه شمال كما يزجي الكسير
أي تسوقه الشمال وهو بطيء لثقله من الماء فليس يسير إلا كما يسير الكسير.
[2.3.21]
وإذا كان السحاب أبيض أو أصهب إلى البياض فليس فيه عندهم ماء قال النابغة
~~وذكر سحائب [بسيط]
صهب الظلال أتين التين عن عرض
يزجين غيما قليلا ماؤه شبما
[2.3.22]
... وصح وعاد فجعل الناس يسألونه فلم يخبرهم فأتوا عبد الله بن مسعود فأرسل
~~إلى الرجل وقال له علم الناس وليس عليك فيما أخذ عليك فيه شيء.
2.4 الفراسة
[2.4.1]
ومن ذلك الفراسة والتوسم يتوهم كثير من الناس أنه لا حظ للعرب فيهما ولها
~~منهما الحظ الأوفر وقال الشاعر [بسيط]
لا تسأل المرء عن خلائقه
في وجهه شاهد من الخبر
[2.4.2]
وقال آخر في رسول الله صلى الله عليه وسلم [بسيط]
لو لم تكن فيه آيات مبينة
كانت بداهته تنبيك بالخبر
[2.4.3]
وقال الكميت في مخلد بن يزيد [كامل]
رفعت إليك وما اتغد
ت عيون مستمع وناظر
ورأوا عليك ومنك في ال
مهد النهى ذات البصائر
[2.4.4]
ورأى بكير بن الأخنس المهلب وهو غلام فقال [طويل]
خذوني به إن لم يسد سرواتهم
ويبرع حتى لا يكون له مثل
فكان كما قال
[2.4.5]
ونظر رجل إلى معاوية وهو صغير فقال إني أظن هذا الغلام سيسود قومه قالت
~~هند ثكلته إن كان لا يسود إلا قومه. عبد الرحمن عن الأصمعي قال أخبرنا جميع
~~عن أبي غاضر وكان شيخا مسنا من أهل البادية من ولد الزبرقان بن بدر من قبل
~~النساء قال كان الزبرقان يقول أبغض صبياننا إليه الأقيعس الذكر الذي كأنما
~~يطلع في حجره وإن سأله القوم أين أبوك؟ قال معكم قال وقيل لأعرابي بما
~~تعرفون سؤدد الغلام فيكم؟ قال إذا كان سائل الغرة طويل الغرلة ملتاث الإزرة
~~وكانت فيه لوثة فلسنا نشك في سؤدده وقيل لأعرابي أي الغلمان أسود؟ قال إذا
~~رأيته أعنق أشدق أحمق فأقرب به من السؤدد وقال معاوية ثلاث من السؤدد الصلع
~~واندحاق البطن وترك الإفراط في الغيرة وأنشدنا الرياشي [رجز]
إن سعيدا وسعيد فرع
أصلع تنميه رجال صلع
[2.4.6]
حدثني السجستاني قال حدثنا الأصمعي عن موسى بن سعيد الجمحي عن أبي مصعب
~~الزبيري قال قال لي عثمان بن إبراهيم بن محمد بن حاطب الجمحي وكان رجلا
~~موجها ذا علم قال أتاني فتى من قريش يستشيرني في امرأة يتزوجها فقلت يا أخي
~~أقصيرة النسب أم طويلته؟ فكأنه لم يفهم فقلت يا ابن أخي إني لأعرف في العين
~~إذا أنكرت وأعرف منها إذا عرفت فأما إذا عرفت فتحواص وأما إذا أنكرت فتجحظ
~~وأما إذا لم تعرف ولم تنكر فتسجو أي تسكن.
2.5 القيافة
[2.5.1]
ومن علوم العرب القيافة ولست أدري أتنفرد بها أم تعرفها غيرها وتشركها
~~فيها وهي شبيه بالفراسة في معرفة الأشباه في الأولاد والقرابات ومعرفة
~~الآثار.
[2.5.2]
وبنو مدلج القافة منهم حدثنا الأصمعي قال اختصم رجلان إلى عمر في غلام
~~كلاهما يدعيه فسأل عمر أمه فقالت غشيني أحدهما ثم هرقت دما ثم غشيني الآخر
~~فدعا عمر قائفين فسأل أحدهما فقال أعلن أم أسر؟ قال أسرر قال اشتركا فيه
~~فضربه عمر حتى اضطجع ثم سأل الآخر فقال مثل قوله فقال عمر ما كنت أرى أن
~~هذا يكون وقد علمت أن الكلاب تسفد الكلبة فتؤدي لكل فحل نجله.
[2.5.3]
حدثني أبو حاتم قال حدثنا الأصمعي عن رجل من آل أبي مسروح عن عوسجة ابن
~~مغيث القائف قال كنا نسرق نخلنا فعرفنا آثارهم فركبوا الحمر فعرفنا نمش
~~أيديهم في العذوق، والنمش الأثر.
[2.5.4]
حدثني أبو حاتم عن الأصمعي عن رجل من آل أبي مسروح عن ابن أبي طرفة
~~الهذلي قال رأى قائفان وهما منصرفان من عرفة بعد الناس بيوم أو اثنين أثر
~~بعير فقال أحدهما ناقة وقال الآخر جمل فتبعاه فمرة يستجمع لهما الخف ومرة
~~يريان الخطرة منه حتى دخلا شعبا من شعاب منى فإذا هما بالبعير فأطافا به
~~فإذا هو خنثى.
[2.5.5]
ومن المحفوظ في وصف قائف أنه كان يعرف أثر الذرة الأنثى من الذر الذكر
~~على الصفا.
[2.5.6]
وقال الأعشى [سريع]
انظر إلى كفي وأسرارها
هل أنت إن أوعدتني ضائري
[2.5.7]
وكانوا يقولون إن ضيق الكف يدل على البخل قال الأخطل [طويل]
وناطوا من الكذاب كفا صغيرة
وليس عليهم قتله بكبير
قال ابن الأعرابي رماه بالبخل صغر الكف يدل على ذلك.
[2.5.8]
ومن القافة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي الذي بعثته قريش في إثر رسول
~~الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر حين خرجا مهاجرين لمعرفته بالآثار ومنهم
~~مجزز حدثني محمد بن عبيد قال حدثنا أبو عيينة عن الزهري عن عروة عن عائشة
~~قالت دخل مجزز على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى زيد بن حارثة وأسامة
~~قد ناما في قطيفة وغطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما فقال إن هذه أقدام بعضها من
~~بعض فسر رسول الله صلى الله عليه بذلك.
2.6 العيافة والطرق والخط والكهانة
2.6.1
[2.6.1]
ومن علوم العرب في الجاهلية العيافة والخط والطرق والكهانة فأما العيافة فزجر الطائر وذلك أن تعتبر بأسمائها ومساقطها ومجاريها وأصواتها
[2.6.2]
قال الشاعر [وافر]
تغنى الطائران ببين سلمى
على غصنين من غرب وبان
فكان البان أن بانت سليمى
وفي الغرب اغتراب غير دان
فزجر في الغرب الغربة وفي البان البين
[2.6.3]
وقال الكميت لجذام في انقطاعهم إلى اليمن [طويل]
وكان اسمكم لو يزجر الطير عائف
لبينكم طيرا مبينه الفأل
يقول اسمكم جذام والزجر فيه الانجذام وهو الانقطاع ومن الغراب أخذ الغربة وكانوا يسمونه حاتما لأنه يحتم عندهم بالفراق
[2.6.4]
وأكثر العافة من بني أسد حدثني أبو حاتم قال حدثنا الأصمعي قال أخبرني سعد بن نصر أن نفرا من الجن تذاكروا العيافة في بني أسد فأتوهم فقالوا إنه ضلت لنا ناقة فلو أرسلتم معنا من يعيف فقالوا لغليم منهم انطلق معهم فاستردفه أحدهم ثم ساروا فتلقتهم عقاب كاسرة إحدى جناحيها فاقشعر الغليم وبكى فقالوا مالك؟ فقال كسرت جناحا ورفعت جناحا وحلفت بالله صراحا ما أنت بإنسي ولا تبغي لقاحا.
2.6.2 الخط
[2.6.5]
والخط أن يخط الزاجر في الرمل ويزجر حدثني أبو حاتم قال حدثنا أبو زيد
~~الأنصاري أنه يخط خطين في الأرض يسميهما ابني عيان فإذا زجر قال ابني عيان
~~أسرعا البيان. قال الراعي وذكر قدحا [طويل]
وأصفر عطاف إذا راح ربه
غدا ابنا عيان بالشواء المضهب
يقول إذا راح صاحب القدح به علم أنه يخرج فائزا فإذا قصد أتى بالشواء
~~فرواح صاحبه به دليل على الشواء وكان منهم حليس الخطاط ذكروا أن الثوري
~~أتاه وغيره وسأله فخبره بكل ما عرف وقال سهل ذلك علي الحديث الذي يرويه أبو
~~هريرة عن النبي صلى الله عليه كان نبي من الأنبياء يخط وقول ابن عباس في
~~قول الله جل وعز {أو أثارة من علم} قال الخط.
2.6.3 الطرق
[2.6.6]
والطرق نثر الحصى في الأرض والاستدلال بوقوعه واجتماعه وتفرقه وما أخذه
~~كما يفعل صاحب الشعير فإنما قيل له طارق لأنه إذا أراد نثرها ضرب بها الأرض
~~والطرق الضرب ومنه قيل طرقت الصوف إذا ضربته بالعود وقيل لعود النجاد مطراق
~~ولحديد الحداد مطرقة. قال الشاعر [طويل]
لعمرك ما تدري الطوارق بالحصى
ولا زاجرات الطير ما الله صانع
2.6.4 الكهانة
[2.6.7]
والكهانة أحسبها برئي من الجن حدثني يزيد بن عمرو قال حدثنا محمد بن صالح
~~الضبي عن القاسم بن عروة عن عيسى بن يزيد بن بكر الليثي قال ذكرت الكهانة
~~عند رسول الله صلى الله عليه فقال زبان العدوي والله يا رسول الله لقد رأيت
~~من ذلك عجبا قال وما هو؟ قال كانت أمي ولدت خمسة أنا أحدهم وكان يقال لها
~~أنيسة فخرجت في سفر تركتهم معا ثم رجعت فوجدتهم قد خفضوا في اليمن وانحطوا
~~من الجبل فخرجت في آثارهم حتى نزلت على رجل من بني نهد فطلعت جويرية له
~~أمام غنم لها على رقبتها علبة وهي فوق الخماسية فلما رآها قال مرحبا يا
~~بنيتي انعمي واسلمي. قالت قد كان ما قلت وأنت مثله لا زلت في غيث يرف بقله
~~قال أخبرينا يا بنية كيف كنت بعدنا وكيف كنا بعدك؟ قالت أما أنا فإني قد
~~رعيت فأشبعت وسقيت فأرويت وأما أنتم بعدي فإن ضيفكم هذا ولدت امرأته غلاما
~~وسمته عصاما ولقد نزلت عليكم فتية أربعة معهم ناقة جذعة قالوا الضحى وجلوا
~~الظهيرة فهم واردون ماء بغويرة فيردونه غلسا فيشربون منه نفسا ثم يميلون
~~وهم كالون فيموتون أجمعين ثم بهرجت القدح وصفقت بيديها وقالت فسدت اللعبة
~~أخوهم ورب الكعبة قال فهل ترين لهم يا بنية من فرج؟ قالت نعم إن سار في
~~الأصيل حتى يدركهم بطفيل في وردهم حتى تهب الريح وينفح الشيح طاب الشراب
~~وسلم الإياب قال فخرجت فكنت إذا استبطأت ناقتي طردت وسعيت فوجدتهم قد شربوا
~~وهم موتى أجمعون فجعل رسول الله صلى الله عليه يعجب.
2.6.5
[2.6.8]
وهذه علوم متقادمة جاهلية وكانت الشياطين تسترق السمع وتوحيه إلى
~~أوليائها فأبطلها الله بالإسلام وحرست السموات بالنجوم وليس هذا من الغيب
~~الذي استأثر الله به فننكره كما أنكرنا ما يدعيه المنجمون من معرفة ما يكون
~~بالقضاء على النجم.
2.7 الخطب
[2.7.1]
والعرب أخطب الأمم ارتجالا وأذلقها ألسنة وأحسنها بيانا وأشدها اختصارا
~~حين الاختصار.
[2.7.2]
لما منع أهل مرو أبا غسان وزجته إلى الصحارى كتب إليهم أبو غسان إلى بني
~~استها أهل مرو ليمسينني الماء أو لتصبحنكم الخيل فوافاهم الماء قبل أن
~~يعتموا فقال أبو الهيذام [رجز]
الصدق ينبي عنك لا الوعيد ~
[2.7.3]
حدثني أبو حاتم قال حدثنا الأصمعي قال حدثني خلف الأحمر قال رأيت
~~أعرابيين من بني أسد يخاصمهما رجل من بني يربوع مريض ضعيف وهما يمشيان
~~فرحمته من صحبتهما وجلدهما فاهتز فقال الله لبعتني ثم قال [وافر]
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا
متى أضع العمامة تعرفاني
وأومأ بإصبعه إلى عينيه ففرقا منه وأعطياه حقه
[2.7.4]
قال بلغ قتيبة بن مسلم أن سليمان يريد عزله عن خراسان واستعمال يزيد بن
~~المهلب فكتب إليه ثلاث صحائف وقال للرسول ادفع إليه هذه فإن دفعها إلى يزيد
~~فادفع هذه فإن شتمني عند قراءتها فادفع إليه الثالثة فلما صار الرسول إليه
~~دفع الكتاب الأول وفيه يا أمير المؤمنين إن من بلائي في طاعة أبيك وأخيك
~~كيت كيت فدفع كتابه إلى يزيد فأعطاه الرسول الكتاب الثاني وفيه يا أمير
~~المؤمنين كيف تأمن ابن دحمة على أسرارك ولم يكن أبوه يأمنه على أمهات
~~أولاده؟ فشتمه فدفع إليه الرسول الكتاب الثالث وفيه من قتيبة بن مسلم إلى
~~سليمان بن عبد الملك سلام على من اتبع الهدى فأما بعد فوالله لأوثقن لك
~~آخية لا ينزعها المهر الأرن فقال سليمان عجلنا على قتيبة يا غلام جدد له
~~عهدا على خراسان.
[2.7.5]
وقال مالك بن دينار ما رأيت أبين من الحجاج إن كان ليعلو المنبر فيذكر
~~إحسانه إلى أهل العراق وغدرهم وإساءتهم حتى أحسبه صادقا وهم كاذبون.
[2.7.6]
وأوقع الحجاج يوما بخالد بن يزيد يعيبه وعنده عمرو بن عتبة فقال عمرو إن
~~خالدا أدرك من قبله وأتى على من بعده بقديم غلب عليه وحديث لم يسبق إليه
~~فقال الحجاج معتذرا يا ابن عتبة إنا لنسترضيكم بأن نغضب عليكم ونستعطفكم
~~بأن ننال منكم وقد غلبتم على الحلم فوثقنا لكم به وعلمنا أنكم تحبون أن
~~تحلموا فتعرضنا للذي تحبون.
[2.7.7]
ولما عقد معاوية البيعة ليزيد قام الناس يخطبون فقال لعمرو بن سعيد قم يا
~~أبا أمية فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإن يزيد بن معاوية أمل
~~تأملونه وأجل تأمنونه إن استضفتم إلى حلمه وسعكم وإن احتجتم إلى رأيه
~~أرشدكم وإن افتقرتم إلى ذات يده أغناكم جذع قارح سوبق فسبق وموجد فمجد
~~وقورع فخرج فهو خلف أمير المؤمنين ولا خلف منه فقال معاوية أوسعت يا أبا
~~أمية فاجلس.
[2.7.8]
وقال بعض الخلفاء لخادم إني قد أعددتك لأمر فقال يا أمير المؤمنين إن
~~الله قد أعد لك مني قلبا معقودا بنصيحتك ويدا مبسوطة بطاعتك وسيفا مشحوذا
~~على عدوك فإذا شئت فقل.
[2.7.9]
وقال المأمون للعتابي بلغتني وفاتك فغمتني ثم بلغتني وفادتك فسرتني. قال
~~يا أمير المؤمنين لو قسمت هذه الكلمات على أهل الأرض لوسعتهم وذلك أنه لا
~~دين إلا بك ولا دنيا إلا معك قال سلني قال يداك أطلق بالعطاء من لساني.
[2.7.10]
ودخل الهذيل بن زفر على يزيد بن المهلب في حمالات لزمته فقال إنه قد عظم
~~شأنك عن أن يستعان عليك ولست تصنع شيئا من المعروف إلا وأنت أكبر منه وليس
~~العجب من أن تفعل بل العجب من أن لا تفعل.
[2.7.11]
وسأل رجل أسد بن عبد الله فاعتل عليه فقال إني سألت الأمير عن غير حاجة
~~فقال ما حملك على ذلك قال رأيتك تحب من لك عنده حسن بلاء فأحببت أن أتعلق
~~منك بحبل مودة.
2.8 الشعر
2.8.1
[2.8.1]
وللعرب الشعر. لا يشركها أحد من الأمم الأعاجم فيه على الأوزان والأعاريض والقوافي والتشبيب ووصف الديار والآثار والجبال والرمال والفلوات وسرى الليل والنجوم وإنما كانت أشعار العجم وأغانيهم في مطلق من الكلام ومنثور ثم سمع بعد قوم منهم أشعار العرب وفهموا الوزن والعروض فتكلفوا مثل ذلك في الفارسية وشبهوه بالعربية والشعر معدن علم العرب ومقر حكمتها وديوان أخبارها ومستودع أيامها والسور المضروب على مآثرها والخندق المحجوز على مفاخرها والشاهد العدل يوم النفار والحجة القاطعة عند الخصام ومن لم يكن عندهم على شرفه وما يدعيه لسلفه من المناقب الكريمة والفعال الحميد بينة منه شذت مساعيه وإن كانت مشهورة ودرست على مرور الأيام وإن كانت جساما ومن قيدها بقوافي الشعر وأوثقها بأوزانه وشهرها بالبيت النادر والمثل السائر والمعنى اللطيف أخلدها على الدهر وأخلصها من الجحد ودفع عنها كيد العداة وغض بها عين الحسود ولم تزل وإن كانت صغارا ماثلة للعيون حاضرة للقلوب كما قال الخريمي[متقارب]
له كلم فيك معقولة
إزاء القلوب كركب وقوف
[2.8.2]
وقال الآخر [كامل]
إن القوافي والمساعي لم تزل
مثل النظام إذا أصاب فريدا
هي جوهر نثر فإن ألفته
بالشعر صار قلائدا وعقودا
من أجل ذلك كانت العرب الألى
يدعون هذا سؤددا محدودا
وتبيد عندهم العلى إلا على
جعلت لها مرر القريض قيودا
[2.8.3]
وقال أيضا [طويل]
ولم أر كالمعروف تدعى حقوقه
مغارم للأقوام وهي مغانم
وإن العلى ما لم ير الشعر بينها
لكلأرض غفلا ليس فيها المعالم
وما هو إلا القول يسري فيغتدي
له غرر في أوجه ومواسم
يرى حكمة ما فيه وهو فكاهة
ويقضى بما يقضي به وهو ظالم
ولولا خلال سنها الشعر ما درى
بغاة العلى من أين تؤتى المكارم
2.8.2
[2.8.4]
قال وقد كان في العرب قبائل فيها شرف بالثروة وفي العدد والجود والبأس كبني حنيفة بن لجيم منهم هوذة الحنفي ذو التاج الذي ذكره الأعشى فقال [بسيط]
من ير هوذة يسجد غير متئب ~
أي مستحي وكان يقال لأبيه وأعمامه البحور ومنهم نجدة الحروري وكان باليمامة بعد موت يزيد بن معاوية وغلب على البحرين ثم وافى ناحية الموسم فصلى بأصحابه ناحية ووصلى ابن الزبير ناحية وصلى محمد بن الحنفية عليه السلام ناحية ومنهم نافع بن الأزرق رأس الأزارقة ومنهم عمير بن سلمى أحد أوفياء العرب الثلاثة وهو الذي قتل أخاه قرينا بجاره وقد ذكرنا قصته فيما تقدم ومنهم عبيد بن ثعلبة بن يربوع الذي يقال له رب حجر وحجر اليمامة وهو كان اختطها برمحه وأنزلها بني حنيفة ونفى عنها بقايا طسم وجديس ومنهم قتادة بن مسلمة بن عبيد وكان ربع أربعين مرباعا في الجاهلية مع أشباه لهؤلاء من ذوي الأقدار والهمم والأخطار ومنهم مع هذا داخلون عند كثير من الناس في جمل الخاملين فالمجد لا يبتنى إلا بالحمد والحمد لا يعتقد إلا بالفعال والفعال لا يظهر إلا بالمقال ولم يكن في بني حنيفة شعراء فصارت مآثرهم عند خواص الناس دون عامتهم والشرف والسؤدد مع سواد الناس ودهمائهم.
[2.8.5]
وهؤلاء بنو عجل بن لجيم إخوتهم لا يعدون من الأشراف في الجاهلية إلا أبجر بن جابر أبا حجار وعتبة بن النهاس وفي الإسلام إدريس وابنه عيسى النازلين حد إصبهان وإليهما ينتمي شرفهم غير أن لهم شعراء منهم أبو النجم والأغلب الراجز والعديل بن الفرخ وهو القائل [طويل]
وإنا لنقري في الشتاء قبورنا
ونصبر تحت اللامعات الخوافق
وإنما عنى رجلا منهم أمر بالصدقة والإطعام عند قبره فشيد ذلك وأعلاه بالشعر وجعله مفخرا معدودا وشرفا مجدودا.
[2.8.6]
هذا مع ما بسطه الله به من ألسنة الشعراء في مديح ولد إدريس وتشييد مناقبهم وتكبير صغيرهم كقول ابن جبلة [مديد]
إنما الدنيا أبو دلف
بين مغزاه ومحتضره
فإذا ولى أبو دلف
ولت الدنيا على أثره
[2.8.7]
وكقول رجل من الأزد فيه إذ يقول [رجز]
يشبهه الرعد إذا الرعد رجف
كأنه البرق إذا البرق خطف
كأنه الموت إذا الموت أزف
إلى الوغى تحمله الخيل القطف
إن سار سار المجد أو حل وقف
انظر بعينيك إلى أسنى الشرف
وغاية المجد ومنهاه الأنف
هل نالها بقدرة أو بكلف
خلق من الناس سوى أبي دلف ~
مع أشباه لهذا من الشعراء كثيرة فبنو عجل عند جماهير الناس فوق بني حنيفة.
2.8.3
[2.8.8]
وقد رفع الله بالشعر أقواما في الجاهلية والإسلام وأحظاهم بما سير المادحون من مدائحهم في البلاد حتى شهروا بأطرار الأرض وعرفوا بأقاليم العجم ودونت في الكتب آثارهم ودرست في حلق الذكر أخبارهم وألحق الله بأعقابهم وعشائرهم جميل أفعالهم فمن ازدرع ذلك منهم وصانه بحسن الأدب وكريم الأخلاق ونيل المروءة شيد ما أسسوا وثمر ما غرسوا وزين بما أخر لنفسه ما أسلفوا ومن لم يحط ذلك إبلاغا به وإعلاء له فله مع السقوط مزية تقديم فضل آبائه ومهله سبقهم لا يمتنع الناس لها من إكرامه ورفع مجلسه والرقة عليه والعطف بالمعروف إليه واغتفار بعض زلله ولهذا وأشباهه رغب الأولون في الذكر الجميل وبذلوا فيه مهج النفوس وعقائل المال ورغبوا عن الخفض والدعة والمهاد الوثير إلى نصب المسير ومكابدة حر الهواجر وسرى الليل ومقارعة الأقران ومنازلة الأبطال.
[2.8.9]
وقالت بنو تميم لسلامة بن جندل مجدنا بشعرك فقال افعلوا حتى أقول لأن أزكى المقال وأنماه وأبقاه وأبلغه بصاحبه رتبة المجد ما صدقه الفعال ونحو هذا من قول سلامة قول عمرو بن معدي كرب [طويل]
فلو أن قومي أنطقتني رماحهم
نطقت ولكن الرماح أجرت
يريد أنهم لم يستعملوا رماحهم يوم اللقاء فينطق بمدحهم ولكنهم جبنوا وقصروا فأجروا لسانه كما يجر لسان الفصيل إذا أرادوا فصاله لئلا يرضع وحكى الله عز وجل عن خليله عليه السلام قال {واجعل لي لسان صدق في الآخرين} وقال لنبيه صلى الله عليه {وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون} يريد أن القرآن شرف لك ولقريش إذا نزل عليك وأنت منهم وسوف تسألون عن الشكر على ذلك.
[2.8.10]
فممن رفع الله بالشعر آل سنان من بني نشبة بن غيظ بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان وقد كان فيهم شرف وسؤدد أظهر الله بها لهم ما أتاح لهم من جيد شعر زهير فيهم كقوله [بسيط]
قوم سنان أبوهم حين تنسبهم
طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم
قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا
جن إذا غضبوا إنس إذا أمنوا
مرزؤون بهاليل إذا حمدوا
محسدون على ما كان من نعم
لا ينزع الله عنهم ما له حسدوا
[2.8.11]
وكقوله في هرم بن سنان [بسيط]
إن البخيل ملوم حيث كان ول
كن الجواد على علاته هرم
هو الجواد الذي يعطيك نائله
عفوا ويظلم أحيانا فينظلم
أراد إن سئل ما لا يجد تحمل ذلك والظلم وضع الشيء غير موضعه ومن سأل ما لا ينال ولا تبلغه الجدة فقد ظلم في السؤال وقد غلب زهير على هذا المعنى لم ينازعه إياه إلا كثير فإنه قال [طويل]
رأيت ابن ليلى يعتري صلب ماله
مسائل شتى من غني ومصرم
مسائل إن توجد لديك تجد بها
يداك وإن تظلم بها تتظلم
[2.8.12]
وكقوله [كامل]
دع ذا وعد القول في هرم
خير الكهول وسيد الحضر
تالله قد علمت سراة بني
ذبيان عام الحبس والأصر
أن نعم معترك الجياع إذا
حب القتار وسابئ الخمر
ولنعم حامي من كفيت ومن
تحمل له يحمل على الظهر
حامي الحقيقة في محافظة ال
جلى أمين مغيب الصدر
ومرهق النيران يحمد في
اللأواء غير ملعن القدر
وإذا خلوت به خلوت إلى
صافي الخليقة طيب الخبر
متصرف للحمد معترف
للنائبات يراح للذكر
وقد يدخل بعض الرواة فيها بيتا للمسيب بن علس [كامل]
لو كنت من شيء سوى بشر
كنت المنور ليلة البدر
وإذا كان الشعر جيد النحت متخير اللفظ حسن الروي لطيف المعنى تجاذبه الناس وقد جمع هذا الشعر هذه الفضائل كلها.
[2.8.13]
وكان رجل من الرواة دخل على الرشيد فاستنشده هذه القصيدة فاستحسنها وقال ذهب والله من يحسن أن يقول مثل هذا الشعر فقال الرجل وذهب والله من يستحق أن يقال فيه مثله فأمر بإخراجه واستجهله الناس.
[2.8.14]
وممن رفع بالشعر ذو الرقيبة قال المسيب بن علس [كامل]
ولقد بلوت الفاعلين وفعلهم
فلذي الرقيبة مالك فضل
كفاه مخلفة ومتلفة
وعطاؤه متخرق جزل
ومنه أخلف وأتلف
[2.8.15]
وممن رفع بالشعر بنو بدر قال فيهم حاتم طيئ [كامل]
إن كنت كارهة معيشتنا
هاتا فحلي في بني بدر
الضاربين لدى أعنتهم
والطاعنين وخيلهم تجري
جاورتهم زمن الفساد فنع
م الحي في اللأواء والعسر
صبر على جلب اللقاء معا
جيف الفضال أعفة الفقر
وسقيت بالماء النمير ولم
أترك ألاطس حمأة الجفر
ودعيت في أولي الندي ولم
ينظر إلي بأعين خزر
وكان بنو بدر مفحمين لا يقولون من الشعر شيئا فأعرب عن فضلهم الشاكرون وأغناهم عن تعداد محاسنهم المادحون.
[2.8.16]
ومن عجب الشعر أن مديح النفس والثناء عليها مهجر للقائل زار عليه وإن قال حقا إلا في الشعر وإنما جاز فيه لأنهم أرادوا تخليد أخبارهم وتعداد أيامهم فلم يصلوا إلى ذلك إلا بالتدوين لها ولا ديوان لهم إلا بالشعر إذ كانوا أميين وكل من خبرك عن نفسه بأمر تحتاج إلى علمه ولولا إخباره به ما عرفته فليس يقبح ذكره وإن اتصل بمدحه ولهذه العلة مدحت الأنبياء أنفسها مع تواضعها لله وأخذها بأدب الله فقال يوسف صلى الله عليه {اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم} وقال رسول الله صلى الله عليه أنا سيد ولد آدم ولا فخر وكذلك قول من يقول صمت وصليت وتصدقت وزكيت إذا أراد أن يتأسى به المسلمون ويقتضي أثره فيه الآخرون.
[2.8.17]
وممن رفع بالشعر بنو أنف الناقة وعامر وعلقمة ابنا هوذة بن شماس وبغيض بن عامر الذي تحول إليه الحطيئة عن جوار الزبرقان بن بدر وقال [بسيط]
ما كان ذنب بغيض أن رأى رجلا
ذا حاجة عاش في مستوعر شاس
ملوا قراه وهرته كلابهم
وجرحوه بأنياب وأضراس
وكان اسم أنف الناقة حنظلة بن قريع بن كعب وإنما سمي أنف الناقة لأنه أكل رأس بعير ومقدم كل شيء أنفه وكان ولده يكرهون أن يعزوا إلى هذا الاسم ويرونه نبزا حتى قال الحطيئة [بسيط]
قوم هم الرأس والأذناب غيرهم
ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا
فكانوا بعد ذلك يكرهون أن ينسبوا إلا إليه وزاد الله في شهرتهم وذكرهم وصرفه إياه إلى الوجه الذي صرفه إليه.
2.8.4
[2.8.18]
وكما رفع الله بالمديح كذلك وضع بالهجاء أقواما في الجاهلية والإسلام فتحيف محاسنهم وأدخل النقص على فضائلهم فصاروا بوسم الهجاء معروفين عند الجميع وبتلك المناقب مقروفين عند الخواص فجمهور الناس إنما يعلمون من أنساب بني نمير قول جرير [وافر]
فغض الطرف إنك من نمير
فلا كعبا بلغت ولا كلابا
وقد صار هذا البيت عليهم سبة كل حادب ومتعلق على عائب ومثلا مضروبا حتى قال قائل لآخرين [وافر]
وسوف يزيدكم ضعة هجائي
كما وضع الهجاء بني نمير
وقال آخر [وافر]
وتوعدني لتقتلني نمير
متى قتلت نمير من هجاها
[2.8.19]
ومرت أعرابية بجماعة من بني نمير فرموها بأبصارهم فقالت يا بني نمير والله ما أخذتم بواحدة لا بقول الله {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم} ولا بقول الشاعر [وافر]
فغض الطرف إنك من نمير
فلا كعبا بلغت ولا كلابا
فاستحيا القوم فأطرقوا.
[2.8.20]
وساير رجل من بني نمير عمر بن هبيرة الفزاري على بغلة فقال له عمر غض من بغلتك فقال النميري كلا إنها مكتوبة أراد ابن هبيرة قول جرير [وافر]
فغض الطرف إنك من نمير ~
وأراد النميري قول الآخر [بسيط]
لا تأمنن فزاريا خلوت به
على قلوصك واكتبها بأسيار
[2.8.21]
ولا يعلمون أن نميرا جمرة من جمرات العرب وأن منهم معاوية أبا الراعي وكان يقال له في الجاهلية الرئيس لسؤدده وأن منهم خليف بن عبد الله بن الحارث الذي فرق باهلة وغنيا وأن منهم في الإسلام همام بن قبيصة الذي كان يزيد بن معاوية وجهه إلى ابن الزبير وأن منهم عبد الرحمن بن أبان الخطيب وكان على ثغر فارس وفيه يقول الشاعر [رجز]
الناس جنب والأمير جنب
هما الجناحان وأنت القلب
[2.8.22]
وممن وضعه الهجاء بنو العجلان بن عبد الله بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة يقول فيهم النجاشي [طويل]
إذا الله عادى أهل لؤم ودقة
فعاد بني العجلان رهط ابن مقبل
قبيلة لا يغدرون بذمة
ولا يظلمون الناس حبة خردل
ولا يردون الماء إلا عشية
إذا صدر الوراد عن كل منهل
تعاف الكلاب الضاريات لحومهم
ويأكلن من كعب بن عوف ونهشل
وما سمي العجلان إلا لقيلهم
خذ القعب واحلب أيها العبد واعجل
وقد كان هذا الشعر بلغ منهم كل مبلغ لعلمهم بسوء جنايته عليهم وعلى الأعقاب بعدهم حتى استعدوا عمر بن الخطاب على النجاشي فأدخل بينه وبينهم حسان بن ثابت وتوعده بقطع لسانه إن عاد ولهذا حديث ستقف عليه في كتابي هذا المؤلف في أخبار الشعراء إن شاء الله ولم يكن في بني العجلان شرف مذكور وإنما الشرف في إخوتهم قشير بن كعب منهم مالك ذو الرقيبة الذي أسر حاجب بن زرارة يوم جبلة ففدى نفسه منه بألف بعير ومنهم هبيرة بن عامر الذي أخذ المتجردة امرأة النعمان بن المنذر أسرا فنكحها.
[2.8.23]
وممن وضعه الهجاء غني وباهلة يقول زيد الخيل [وافر]
فخيبة من يخيب على غني
وباهلة بن أعصر والركاب
وأدى الغنم من أدى قشيرا
ومن كانت له أسرى كلاب
وفي هذا معنيان أحدهما يسقط من الذرى فيلحق بالحضيض وهو أنه أراد من غزا فخاب وأخفق كر على غني وباهلة فغنم لأنهم لا يمتنعون ممن أرادهم وجعلهم بمنزلة الركاب وهي الإبل لأنه لا امتناع بها ممن أرادها والقول الآخر إنه من صار في يده أسير من باهلة وغني فقد خاب لقلة فدائه وإنما الغنائم من أسر من قشير ومن كلاب.
[2.8.24]
وذكر أبو عبيدة أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم أتتكافأ دماؤنا يا رسول الله يعني في القصاص قال نعم فأعاد ذلك مرة أو اثنتين فقال نعم ولو قتلت رجلا من باهلة لقتلتك وهذا قاصمة الظهر وعار الدهر لو كان حقا وما أشك في فؤادي أنه موضوع لأنه صلى الله عليه أخوف لله وأعلم به وأصون للسانه من أن يرسل كلمة تبقى عارا وشينا على مسلم فضلا عن قبيلة قد جعل الله فيها خيرا جما وشرفا وعلما بمثل أبي أمامة الباهلي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمستورد بن قدامة الشاهد على نسب زياد وحبان بن زيد الذي قال له أبو موسى الأشعري إن باهلة كانت كراعا فجعلتها ذراعا فقال له ألا أخبرك بألأم من باهلة؟ عك وأخلاطها من الأشعريين فقال له أبو موسى يا ساب أميره وحاتم بن النعمان سيد أعصر وهو الذي افتتح هراة وابنه عبد العزيز من ... باهلة وكان على حرب قيس أيام قاتلوا بني تغلب والمنتشر بن وهب أحد رجليي العرب وقد ذكرنا قصته وفيه يقول أعشى باهلة [بسيط]
إما سلكت سبيلا كنت سالكها
فاذهب ولا يبعدنك الله منتشر
لا يأمن الناس ممساه ومصبحه
من كل أوب وإن لم يغز ينتظر
لا يغمز الساق من أين ولا وصب
ولا يزال أمام القوم يقتفر
لا يتأرى لما في القدر يرقبه
ولا يعض على شرسوفه الصفر
تكفيه حزة فلذ إن ألم بها
من الشواء ويروي شربه الغمر
ومنهم مسلم بن عمرو بن حصين الباهلي وابنه قتيبة بن مسلم صاحب خراسان وابنه سلم بن قتيبة وإليهم ينتهي شرف باهلة وكان مسلم بن عمرو أخص الناس بيزيد بن معاوية ويكنى أبا صالح وفيه يقول الشاعر [متقارب]
إذا ما قريش خلا ملكها
فإن الخلافة في باهلة
لرب الحرون أبي صالح
وما تلك بالسنة العادلة
الحرون فرسه ولو لم يكن لباهلة إلا أن عبد الملك بن حميد وزير أبي جعفر المنصور وصاحب ديوانه وجبلة بن عبد الرحمن والي إصبهان وكرمان مولياهم لكفى.
[2.8.25]
وممن شهر بالهجاء الحبطات من بني تميم وهم ينسبون إلى أبيهم الحارث بن عمرو بن تميم وكان يقال له الحبط لأن بطنه ورم عن شيء أكله والحبط انتفاخ البطن قال زياد الأعجم [وافر]
وجدت الحمر من شر المطايا
كما الحبطات شر بني تميم
وكيف تكون شر بني تميم ومنهم أبو عتاب حسكة بن عتاب ومنهم أبو جهضم عباد بن حصين فارس الناس وابنه المسور سيد بني تميم وفيه يقول الراجز [رجز]
أنت لها يا مسور بن عباد
إذا انتضين من جفون الأغماد
وقيل لعباد في أي عدة تحب أن تلقى عدوك قال في أجل مستأخر.
[2.8.26]
وليس يبتلى الناس من الهجاء إلا بما خف على ألسن العوام وأسرع إلى أفهامها قال سعيد بن مسلم لما تنافر أبو نخيلة والعجاج في شعرهما حضرهم الصبيان فذهب إنسان يطردهم فقال العجاج دعهم يعلمون ويبلغون حدثني السجستاني عن الأصمعي أنه قال لا يسير من الشعر إلا الواضح وخير الشعر ما إذا سمعه الإنسان ظن أنه يقول مثله ثم يجدع أنفه بظفر كلب قبل ذلك
[2.8.27]
فمن سائر الهجاء قول جرير [بسيط]
قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم
قالوا لأمهم بولي على النار
وقول الآخر وليس مثله في الشهرة [وافر]
إن منافا فقحة لدارم
كما الظليم فقحة البراجم
وقول الحطيئة للزبرقان [بسيط]
دع المكارم لا ترحل لبغيتها
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
وقال الطرماح [طويل]
تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا
ولو سلكت سبل المكارم ضلت
[2.8.28]
وفي هذا الشعر من الهجاء ما هو عندي أعلق بقلوب العوام من هذا البيت ولم يشهر كقوله [طويل]
فلو أن حرقوصا على ظهر نملة
يشد على ثلثي تميم لولت
ولو أن برغوثا يزقق مسكه
إذا نهلت منه تميم وعلت
ولو جمعت يوما تميم جموعها
على ذرة معقولة لاستقلت
ولو أن أم العنكبوت بنت لها
مظلتها يوم الندى لأكنت
وكقوله [بسيط]
لا عز نصر امرئ أمسى له فرس
على تميم يريد النصر من أحد
لو حان ورد تميم ثم قيل لها
حوض الرسول عليه الأزد لم ترد
أو أنزل الله وحيا أن يعذبها
إن لم تعد لقتال الأزد لم تعد
وكل لؤم أباد الدهر أثلته
ولؤم ضبة لم ينقص ولم يزد
وقال يذكر بني أسد [بسيط]
لو كان يخفى على الرحمن خافية
من خلقه خفيت عنه بنو أسد
قوم أقام بدار الذل أولهم
كما أقامت عليه جذمة الوتد
[2.8.29]
وقد يأتي من هذا الهجاء الواضح ما لا يسير وهو ممض موجع كقول الآخر [طويل]
بلاد نأى عني الصديق وسبني
بها عنزي ثم لم أتكلم
ولست أدري إلى أي شيء أوجه هذا إلا إلى باب الحظ والحرمان فإنهما داخلان على كل شيء حتى الشعر والرسائل فكم فيهما من كلام رصين لا يجوز الدفاتر وكلام سخيف نصب الأسماع والقلوب.
[2.8.30]
وممن وضع بخبيث الهجاء جرم قال حميد بن ثور لرجلين بعث بهما إلى امرأة كان يشبب بها [طويل]
وقولا إذا جاوزتما أرض عامر
وجاوزتما الحيين نهدا وخثعما
نزيغان من جرم بن ريان إنهم
أبوا أن يميروا في الهواجر محجما
أمرهما أن ينتسبا إلى جرم لأن العرب لا تخافها لغارة ولا تعتد بها وهذا غاية الخمول والسقوط عندهم وكذلك قول الآخر [وافر]
فما فعلت بنو رومان خيرا
وما فعلت بنو رومان شرا
وما خلقت بنو رومان إلا أخي
را بعد خلق الناس طرا
[2.8.31]
ومثله في الخمول [متقارب]
تجانف رضوان عن ضيفه
ألم تأت رضوان عني النذر
بحسبك في القوم أن يعلموا
بأنك فيهم غني مضر
وأنت مليخ كلحم الحوا
ر لا أنت حلو ولا أنت مر
كأنك ذاك الذي في الضرو
ع قدام درتها المنتشر
إذا ابتدر الناس لم تأتهم
كأنك قد ولدتك الحمر
وقد علم الضيف والطار
قون أنك للضيف جوع وقر
وهذا يكثر إن تتبعناه ويطول به الكتاب ولم يكن قصدنا للإخبار عن المناقب والمثالب وإنما أردنا الإخبار عن جلالة قدر الشعر وعظيم موقعه برفعه قوما وحطه آخرين.
2.8.5
[2.8.32]
وكان القبيل من العرب إذا نشأ فيهم غلام فقال شيئا من الشعر أو رجز في حداء بعير أو متح بدلو سر به قومه واستبشرت عشيرته وقدموه وعظموه ورشحوه للمنافحة عنهم والدفع عن أعراضهم وأتاهم الأقارب والمجاورون قال الأعشى لقومه [طويل]
أدافع عن أعراضكم وأعيركم
لسانا كمقراض الخفاجي ملحبا
[2.8.33]
وقال جرير [طويل]
ألم أك نارا يصطليها عدوكم
وحرزا لما ألجأتم من ورائيا
وباسط خير فيكم بيمينه
وقابض شر عنكم بشماليا
ألا لا تخافا نبوتي في ملمة
وخافا المنايا أن تفوتكما بيا
[2.8.34]
حدثني الرياشي قال حدثنا الأصمعي عن جويرية بن أسماء أنه قال لمساور بن هند لم تقول الشعر؟ قال أسقي به الماء وأرعى به الكلأ وأقضي به الحاجة فإن كفيتني ذلك تركته.
[2.8.35]
وقال عمر بن الخطاب الشعر جزل من كلام العرب يسكن به الغيظ وتطفأ به النائرة ويتبلغ به القوم ويعطى به السائل وقال أيضا نعم الهدية للرجل الشريف الأبيات يقدمها بين يدي الحاجة يستعطف بها الكريم ويستنزل بها اللئيم.
[2.8.36]
والمنثور من الكلام لا يبلغ في الحوائج واستنجاحها والسخائم واستلالها والمدح والفخر والعتاب والسباب والتحضيض والصبر وغير ذلك من الأمور التي يحتاج الناس إلى التلطف فيها بالقول مبلغ الشعر.
[2.8.37]
قال الرياشي مر خليد بن عينين بعامل لزياد على بعض كور فارس فسأله فلم يعطه وقال أنت تدل بالشعر فاذهب فقل ما شئت فقال أنا لا أهجوك ولكني أقول ما هو أشد عليك من الهجاء وأنشأ يقول [وافر]
وكائن عند تيم من بدور
إذا ما حركت تدعو زيادا
دعته دعوة شوقا إليه
وقد شدت حناجرها صفادا
فنمى الشعر إلى زياد فقال لبيك يا بدور تيم وبعث إليه فأخذ منه مئة ألف درهم ولو أن هذا الشاعر رفع في تخوين هذا العامل ما بلغ كلام سحبان وائل وأطول من خطب المصلحين بين العشائر لم يبلغ ذلك مبلغ هذين البيتين ولا كان إلا كأحد الرافعين.
2.8.6
[2.8.38]
وقد ينفع الله به في اللقاء ويثبت به الأقدام وقال عبد الملك لمعلم ولده علمهم الشعر يمجدوا وينجدوا وقال معاوية شجعني على ابن أبي طالب عليه السلام قول ابن الإطنابة الخزرجي [وافر]
وقولي كلما جشأت وجاشت
مكانك تحمدي أو تستريحي
[2.8.39]
ومثل ذلك قول قطري بن الفجاءة [وافر]
وقولي كلما جشأت لنفسي
من الأبطال ويحك لن تراعي
فإنك لو سألت حياة يوم
من الأجل الذي لك لن تطاعي
[2.8.40]
وقول نهشل بن حري [طويل]
ويوم كأن المصطلين بحره
وإن لم تكن نار قيام على الجمر
صبرنا له حتى يبوخ وإنما
تفرج أيام الكريهة بالصبر
[2.8.41]
وقول الآخر [طويل]
بكى صاحبي لما رأى الموت فوقنا
هطلا كأطلال السحاب إذا اكفهر
فقلت له لا تبك عينك إنما
يكون غدا حسن الثناء لمن صبر
فما أخر الإحجام يوما معجلا
وما عجل الإقدام ما أخر القدر
فأبنا على حال يقل بها الأسى
وقاتل حيث استبهم الورد والصدر
[2.8.42]
حدثني السجستاني قال حدثنا الأصمعي قال كان عاصم بن الحدثان رجلا من العرب قديما وكان رأس الخوارج بالبصرة وربما جاءه الرسول من الجزيرة يسأله عن الأمر يختصمون فيه فمر به الفرزدق فقال لابنه أنشد أبا فراس فأنشده [كامل]
وهم إذا كسروا الجفون أكارم
صبر وحين تحلل الأزرار
يغشون حومات المنون وإنها
في الله عند نفوسهم لصغار
يمشون في الخطي ما ماشيتهم
والقوم إذ ركبوا الرماح تجار
فقال الفرزدق ويلك اكتم هذا لا يسمعه النساجون فيخرجون علينا بالحفوف.
2.8.7
[2.8.43]
حدثني الرياشي قال أخبرنا عبيد بن عقيل قال أخبرنا جرير بن حازم ومحمد بن سيرين قالا كان شعراء المسلمين حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك يخوفهم الحرب وعبد الله يعيرهم بالكفر وكان حسان يقبل على الأنساب قال ابن سيرين فبلغني أن دوسا إنما أسلمت فرقا من كعب وقوله [وافر]
قضينا من تهامة كل وتر
وخيبر ثم أغمدنا السيوفا
نخيرها ولو نطقت لقالت
قواطعهن دوسا أو ثقيفا
فقالت دوس انطلقوا فخذوا لأنفسكم لا ينزل بكم ما نزل بثقيف قال فأما شعراء المشركين فعمرو بن العاص وعبد الله بن الزبعرى وأبو سفيان بن حرب.
[2.8.44]
وذكر أبو اليقظان أن الحارث بن عوف سيد بني مرة وصاحب الحمالة بين عبس وذبيان أدرك الإسلام فأسلم وبعث معه رسول الله صلى الله عليه رجلا من الأنصار في جواره يدعو إلى الإسلام فقتله رجل من بني ثعلبة فبلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه فقال لحسان قل فيه فقال [كامل]
يا حار من يغدر بذمة جاره
منكم فإن محمدا لم يغدر
وأمانة المري ما استرعيته
مثل الزجاجة صدعها لم يجبر
إن تغدروا فالغدر منكم عادة
والغدر ينبت في أصول السخبر
فبعث الحارث يعتذر وبعث بدية الرجل إبلا فقبلها النبي صلى الله عليه ودفعها إلي ورثته فتوقف على هذا الخبر وتفهم قول رسول الله صلى الله عليه قل فيه لعلمه صلى الله عليه بوقع الشعر من القلوب ولطف مدخله وأنه أهز وأمض وأوجع وأنجع لا جرم ما كان الجواب عنه إلا الدية. وقد كان رسول الله صلى الله عليه يعطي الشعراء ومدحه شاعر فقال اقطعوا عني لسانه فأعطوه
[2.8.45]
وكسا كعب بن زهير بردا حين قال له [بسيط]
نبئت أن رسول الله أوعدني
والعفو عند رسول الله مأمول
فاشتراه منه معاوية بعشرين ألف درهم ولم يزل البرد في أيدي الخلفاء إلى اليوم.
[2.8.46]
حدثني الزيادي قال حدثنا عبد الوارث بن سعيد عن محمد بن جحادة عن محمد بن علي أن رجلا مدح الله ومدح رسوله فأعطاه رسول الله صلى الله عليه لمديحه الله خلعة ولم يعطه لمديحه إياه شيئا. وقال خلاد الأرقط إعطاء الشاعر من بر الوالدين. ومدح ابن شهاب شاعر فأعطاه وقال إن من ابتغاء الخير اتقاء الشر. وقال رسول الله صلى الله عليه لحسان نافح عن قومك وسل أبا بكر عن معايب القوم وكان أبو بكر أعلم قريش بقريش وقال له والله لشعرك أشد عليهم من وقع السهام في غلس الظلام وقال صلى الله عليه لحسان اهجهم وجبريل معك.
2.8.8
[2.8.47]
وكانوا يأمرون برواية الشعر لما يقيد من مكارم الأخلاق وغرائب الحكمة قال وكان ابن عباس يقول إن الشعر علم العرب وهو ديوانها فتعلموه وعليكم بشعر الحجاز فإنه شعر الجاهلية وقد عفي عنه. وقال مسلم بن بشار سمعت سعيد بن المسيب وقد أنشد شعرا فقلت وإنكم لتنشدون الشعر قال أوما ينشدونه عندكم؟ قلت لا قال لقد نسكتم نسكا أعجميا ثم حدث أن رسول الله صلى الله عليه قال شر النسك نسك أعجمي. وقال صلى الله عليه إن من الشعر حكما.
[2.8.48]
وروى شعيب بن واقد عن صالح بن الصقر عن عبد الله بن زهير قال وفد العلاء بن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه فقال له أتقرأ من القرآن شيئا فقرأ عبس فزاد فيها من عنده وهو الذي أخرج من الحبلى نسمة تسعى من بين شراسيف وحشا فصاح به النبي صلى الله عليه وقال كف فإن السورة كافية ثم قال هل تروي من الشعر شيئا؟ فأنشده [طويل]
فحي ذوي الأضغان تسب قلوبهم
تحيتك الحسنى وقد يرقع النعل
فإن دحسوا بالكره فاعف تكرما
وإن حبسوا عنك الحديث فلا تسل
فإن الذي يؤذيك منه سماعه
وإن الذي قالوا وراءك لم يقل
فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن من الشعر حكما وإن من البيان سحرا.
[2.8.49]
والعجم تعجب بكلام بزرجمهر وآنوشروان وأشباههما من ملوكهم وموبذيهم وتفخر بما أودعوا من آدابهم وحكمهم ولو تتبعوا ذلك من أشعار العرب وكلام حكمائها مثل كلام أكثم بن صيفي التميمي وأبي حجار أبجر بن جابر العجلي وعامر بن الظرب العدواني وأشباههم لوجدوه بعينه أو أجود منه في معناه وسأذكر من ذلك شيئا لأنبه على ما للعرب وإن قل يكون خاتمة الكتاب إن شاء الله.
2.9 الحكمة في الشعر
[2.9.1]
قال ابن عباس إنها كلمة نبي [طويل]
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
[2.9.2]
والعجم تقول في حكمها كل عزيز دخل تحت القدرة فهو ذليل.
قال الشاعر في هذا المعنى أو شبهه [بسيط]
وزادها كلفا بالحب أن منعت
أحب شيء إلى الإنسان ما منعا
وقالوا كل مقدور عليه مملول محقور وقالوا المرء تواق إلى ما لم ينل.
[2.9.3]
ويقول أصحاب القياس ما شاهدت دليل على ما غاب عنك وقال الشاعر في مثله [كامل]
ألوت بإصبعها وقالت إنما
يكفيك مما لا ترى ما قد ترى
[2.9.4]
وتقول حكماء ... من سن سنة فليرض أن يحكم عليه بها وقال أبو ذؤيب في مثله [طويل]
فلا تجزعن من سنة أنت سرتها
وأول راض سنة من يسيرها
[2.9.5]
وتقول الحكماء الطبع أملك وقال الشاعر في مثله [طويل]
ومن يبتدع ما ليس من سوس نفسه
يدعه وتغلبه على النفس خيمها
وقال آخر [بسيط]
كل امرئ راجع يوما لشيمته
وإن تخلق أخلاقا إلى حين
وقال آخر [بسيط]
ارجع إلى خلقك المعروف ديدنه
إن التخلق يأبى دونه الخلق
[2.9.6]
وتقول حكماء العجم الحرص محرمة وقال عدي بن زيد [سريع]
قد يدرك المبطئ من حظه
والجد قد يسبق جهد الحريص
[2.9.7]
وقيل لبزرجمهر هل من أحد ليس فيه عيب؟ قال لا إن الذي لا عيب فيه لا
~~ينبغي أن يموت وقال أبو موسى شهوات في مثله [خفيف]
ليس فيما بدا لنا منك عيب
عابه الناس غير أنك فاني
أنت خير المتاع لو كنت تبقى
غير أن لا بقاء للإنسان
[2.9.8]
وتقول العجم آفة الحلم الضعف وقال النابغة الجعدي [طويل]
ولا خير في حلم إذا لم يكن له
بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
وأنشده النبي صلى الله عليه فقال لا يفضض الله فاك قال فغبر مئة سنة لم
~~تنقص له سن.
[2.9.9]
وتقول الحكماء أحق من شركك في النعم شركاؤك في المكاره وقال الشاعر [بسيط]
وإن أولى البرايا أن تواسيه
عند السرور لمن آساك في الحزن
[2.9.10]
وفي كتاب قد تقطع الشجرة بالفؤوس فتنبت ويقطع اللحم بالسيوف فيندمل
~~واللسان لا يندمل جرحه قال امرؤ القيس [متقارب]
وجرح اللسان كجرح اليد ~
وقال طرفة [كامل]
وتصد عنك مخيلة الرجل ال
عريض موضحة عن العظم
بحسام سيفك أو لسانك وال
كلم الأصيل كأرغب الكلم
نحوه [بسيط]
والقول ينفذ ما لا تنفذ الإبر ~
[2.9.11]
وقالت الحكماء إذا لم ينجك الخير أنجاك الشر وقال الفند الزماني[هزج]
وفي الشر نجاة حي
ن لا ينجيك إحسان
[2.9.12]
ويقولون العجلة موكل بها الزلل وقال القطامي [بسيط]
والناس من يلق خيرا قائلون له
ما يشتهي ولأم المخطئ الهبل
قد يدرك المتأني بعض حاجته
وقد يكون من المستعجل الزلل
[2.9.13]
وفي كتاب للهند من علامة الصديق أن يكون لصديق صديقه صديقا ولعدو صديقه
~~عدوا فقال الشاعر في مثله [طويل]
تود عدوي ثم تزعم أنني
صديقك إن الرأي عنك لعازب
وليس أخي من ودني رأي عينه
ولكن أخي من صدقته المغايب
[2.9.14]
وتقول الحكماء السكوت أخو الرضا قال الشاعر [بسيط]
بني هلال ألم تنهوا سفيهكم
إن السفيه إذا لم ينه مأمور
[2.9.15]
وقال الشاعر [طويل]
رأيت أخا الدنيا وإن بات آمنا
على سفر يسرى به وهو لا يدري
[2.9.16]
وأصحاب الفقه والحكام يرون مقاطع الحقوق في ثلاث يمين أو محاكمة أو حجة
~~وقد جمع ذلك زهير في قوله [وافر]
فإن الحق مقطعه ثلاث
يمين أو نفار أو جلاء
وأنشد عمر بن الخطاب رحمه الله هذا البيت فجعل يعجب من معرفته بمقاطع
~~الحقوق وأنشد لعبدة بن الطبيب [بسيط]
والعيش شح وإشفاق وتأميل ~
فجعل يكرره ويعجبهم من حسن ما قسم وفصل.
[2.9.17]
والله يقول {لا يؤاخذكم الله باللغو في أمانكم ولكن يؤاخذكم بما
~~عقدتم الأمان} وقال الشاعر [طويل]
ولست بمأخوذ بقول تقوله
إذا لم تعمد عاقدات العزائم
[2.9.18]
وقالت العجم من لم يكن عقله أغلب خصال الخير عليه كان حتفه في أغلب خصال
~~الشر عليه وقال الشاعر في نحوه [متقارب]
رأيت اللسان على أهله
إذا ساسه الجهل ليثا مغيرا
[2.9.19]
وفي كتاب الهند ليس من خصلة هي للغني مدح إلا وهي للفقير ذم فإن كان
~~شجاعا قيل أهوج وإن كان وقورا قيل بليد وإن كان لسنا قيل مهذار وإن كان
~~زميتا قيل عيي وقال الشاعر [طويل]
ومن يفتقر في قومه يحمد الغنى
وإن كان فيهم ماجد العم مخولا
يمنون إن أعطوا ويبخل بعضهم
ويحسبه عيا سكته إن تجملا
ويزري بعقل المرء قلة ماله
وإن كان أقوى من رجال وأحولا
[2.9.20]
ومن حكم الشعراء قول الشاعر [طويل]
إذا أنت جاريت السفيه كما جرى
فأنت سفيه مثله غير ذي حلم
إذا أمن الجهال جهلك مرة
فعرضك للجهال غنم من الغنم
فلا تقرضن عرض السفيه وداره
بحلم فإن أعيى عليك فبالصرم
وغم عليه الحلم والجهل والقه
بمرتبة بين العداوة والسلم
ليرجوك تارات ويخشاك تارة
وتأخذ فيما بين ذلك بالحزم
فإن لم تجد بدا من الجهل فاستعن
عليه بجهال فذاك من العزم
[2.9.21]
وقال كثير [طويل]
ومن لا يغمض عينه عن صديقه
وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب
ومن يتبع من صاحب كل عثرة
يجدها ولا يسلم له الدهر صاحب
[2.9.22]
وأنشد ابن الأعرابي [وافر]
أغمض للصديق من المساوي
مخافة أن أعيش بلا صديق
[2.9.23]
والسابق إلى هذه النابغة قال [طويل]
ولست بمستبق أخا لا تلمه
على شعث أي الرجال المهذب
[2.9.24]
وقال سويد بن الصامت [طويل]
ألا رب من تدعو صديقا ولو ترى
مقالته بالغيب ساءك ما يفري
مقالته كالشهد ما كنت شاهدا
وبالغيب مأثور على ثغرة النحر
تبين لك العينان ما هو كاتم
وما جن للبغضاء بالنظر الشزر
فرشني بخير طالما قد بريتني
وخير الموالي من يريش ولا يبري
[2.9.25]
وقال رجل من غطفان [طويل]
إذا أنت لم تستبق ود صحابة
على دخن أكثرت رد المعايب
وإني لأستبقي امرأ السوء عدة
لعدوة عريض من الناس عائب
أخاف كلاب الأبعدين ونبحها
إذا لم تجاوبها كلاب الأقارب
[2.9.26]
وقال النعمان بن بشير [طويل]
وإني لأعطي المال من ليس سائلا
وأدرك للمولى المعاند بالظلم
وإني متى ما يلقني صارما له
فما بيننا عند الشدائد من صرم
فلا تعدد المولى شريكك في الغنى
ولكنما المولى شريكك في الغرم
إذا مت ذو القربى إليك برحمه
وغشك واستغنى فليس بذي رحم
ولكن ذا القربى الذي يستخفه
أذاك ومن يرمي العدو الذي ترمي
[2.9.27]
وقال كعب بن زهير [طويل]
وليس لمن لم يركب الهول بغية
وليس لرجل حطها الله حامل
إذا أنت لم تقصر عن الجهل والخنا
أصبت لبيبا أو أصابك جاهل
[2.9.28]
وقال آخر [طويل]
ترى الشيء مما تتقي فتخافه
وما لا ترى مما يقي الله أكثر
[2.9.29]
وقال إياس بن قتادة [طويل]
تعاقب أيدينا ويحلم رأينا
ونشتم بالأفعال لا بالتكلم
وقال [رجز]
إني امرؤ يذب عن حريمي
حلمي وتركي اللؤم للئيم
والحلم أحمى من يد الظلوم ~
ونحوه قال الأحنف وجدت الحلم أنصر لي من الرجال.
[2.9.30]
وقال امرؤ القيس [طويل]
فإنك لم يفخر عليك كفاخر
ضعيف ولم يغلبك مثل مغلب
[2.9.31]
وقال سويد [كامل]
إني إذا ما الأمر بين شكه
وبدت بصائره لمن يتأمل
أدع التي هي أرفق الحالات بي
عند الحفيظة للتي هي أجمل
[2.9.32]
وقال زهير [كامل]
الستر دون الفاحشات ولا
يلقاك دون الخير من ستر
[2.9.33]
وقال حسان أو ابنه [طويل]
وإن امرأ يمسي ويصبح سالما
من الناس إلا ما جنى لسعيد
[2.9.34]
وقال الفرزدق [طويل]
تصرم عني ود بكر بن وائل
وما خلت عني ودهم يتصرم
قوارص تأتيني ويحتقرونها
وقد يملأ القطر الإناء فيفعم
[2.9.35]
وقال كثير وذكر النساء وسياسته لهن [طويل]
وكنت إذا ما جئت أجللن مجلسي
وأبدين مني هيبة لا تجهما
يحاذرن مني غيرة قد علمنها
قديما فما يضحكن إلا تبسما
تراهن إلا أن يؤدين نظرة
بمؤخر عين أو يقلبن معصما
كواظم ما ينطقن إلا محورة
رجيعة قول بعد أن يتفهما
وكن إذا ما قلن شيئا يسره
أسر الرضا في نفسه وتجرما
[2.9.36]
وقال القطامي [وافر]
ومعصية الشفيق عليك مما
يزيدك مرة منه استماعا
وخير الأمر ما استقبلت منه
وليس بأن تتبعه اتباعا
كذاك وما رأيت الناس إلا
إلى ما جر غاويهم سراعا
تراهم يغمزون من استركوا
ويجتنبون من صدق المصاعا
2.10 الحكمة في منثور كلام العرب ومسجعه
2.10.1
[2.10.1]
قال أكثم بن صيفي تباعدوا في الديار تقاربوا في المودة. وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى مر ذوي القرابات أن يتزاوروا ولا يتجاوروا. وقيل لأعرابي ما تقول في ابن عمك؟ قال عدوك وعدو عدوك.
[2.10.2]
وقال معاوية ما رأيت سرفا قط إلا وإلى جانبه حق مضيع.
[2.10.3]
وقال عمرو بن العاص ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشر ولكنه الذي يعرف خير الشرين وقال زياد ليس العاقل الذي يحتال للأمر لا يقع فيه.
[2.10.4]
وقال أكثم بن صيفي لقوم أرادوا محاربة قوم أقلوا الخلاف على أمرائكم واعلموا أن كثرة الصياح من الفشل والمرء يعجز لا المحالة تلبثوا فإن أحزم الفريقين الركين ورب عجلة تهب ريثا وابرزوا للحرب وادرعوا الليل فإنه أخفى للويل ولا جماعة لمن اختلف.
[2.10.5]
وقال أبجر بن جابر لابنه إذا قدمنا المصر فاستكثر من الصديق فأما العدو فلا يهمنك وإياك والخطب فإنها مشوار كثير العثار. وقال أكثم الانقباض مكسبة للعداوة وإفراط الأنس مكسبة لقرناء السوء.
[2.10.6]
وقال أعرابي الله يخلف ما أتلف الناس والدهر يتلف ما جمعوا وكم من منية علقها طلب الحياة وحياة سببها التعرض للموت. وقال أبو بكر رحمه الله لخالد بن الوليد احرص على الموت توهب لك الحياة.
[2.10.7]
والعرب تقول اشتدي تنفرجي. العدم عدم العقل. السخاء وشك البذل. بقاء المودة التعهد. إن يثقل الشكر فلا تخف الكفر. من التواني والعجز نتجت الفاقة. عي الصمت أحمد من عز النطق. كثير النصح يهجم على كثير الظنة. لكل ساقطة لاقطة. من مأمنة يؤتى الحذر. اسع بجد أو دع. جدك لا كدك. سيد القوم أسبقهم فكنه. رب قول أنفذ من صول. لا تبل على أكمة ولا تفش سرا إلى أمة. مقتل الرجل بين التقدم قبل التندم. لم يذهب من مالك ما وعظك. من حفظ ماله حفظ الأكرمين. قتل أرضا عالمها قتلت أرض جاهلها. لا يرحل رحلك من ليس معك. منك من أعتبك. الدال على الخير كفاعله. قل ابن ذل. الحر حر وإن مسه الضر العبد عبد وإن كان في رغد. ليس من العدل سرعة العذل. المسألة آخر كسب المرء. الحليم مطية الجهول. من سلك الجدد أمن العثار. آخ كريما أو دع. يد تشج وأخرى تأسو. حسبك من شر سماعه. تذكر قبل الورود الصدر. كفى بالمرء عارا أن ينسب إلى أمه. شر النصرة التعدي. أسرع الذنوب عقوبة البغي. يسير الرفد لا النعم. اليأس عون على الصبر. من يئس من شيء استغنى عنه. الاستطالة تهدم الصنيعة. القدرة تذهب الحفيظة. الصبر من أسباب الظفر. لا يغني حذر من القدر. استقبال الموت خير من استدباره. الكلام مصائد القلوب. خير الحفظ ما كان في المغيب. فقد الأحبة غربة. تطأطأ لها تخطئك. أحق من أعطيت من إن سألته لم يمنعك. الاجتماع حصن. الفقر في الوطن غربة الغنى في الغربة وطن. الشر بدؤه صغاره. كم مطر بدؤه مطير. الحلال يقطر والحرام يسيل. ومثله قول الشاعر [كامل]
إن الحرام غزيرة حلباته
ورأيت حالبة الحلال مصورا
[2.10.8]
ترك الذنب أيسر من طلب التوبة. عداوة العاقل خير من صداقة الأحمق. من البلاء أن تعنى بحظ غيرك. من غلب شهوته أفناها. من غلب هواه فهو الرجل. الولوع بالشر ظفر به. المرء بأصغريه. خير مالك ما وقاك وشره ما وقيته. من حقر حرم. كل ما هو آت قريب. أولى الأمور بالنجح المواظبة. حفظ ما في الوعاء شد الوكاء. تلافيك ما فاتك صمتك أيسر من إدراكك ما فرط في منطقك. حفظ ما في يدك خير من طلبك ما في يد غيرك. ظلم الضعيف أفحش الظلم. من أسباب الحرمان التواني. من حلم ساد ومن تفهم ازداد. إن كنت جازعا على ما تلف من يديك فاجزع على ما لم يصل إليك. الشفيق بسوء الظن مولع. أخر الشر فإنك إذا شئت تعجلته. من الكرم منع الحرم. ما أحق من غدر بأن لا يوفى له. زلة المتوقي أشد زلة. علة الكذوب أقبح علة. الاقتصاد يثمر اليسار. ما عال من اقتصد. لا خير في لذة تعقب ندما. المزاح يورث الضغائن. إذا تغير السلطان تغير الزمان. الرفيق قبل الطريق الجار ثم الدار. الخير عادة والشر لحاجة.الحق أبلج والباطل لجلج.
2.10.2
[2.10.9]
فهذا ما للعرب من العلوم قد دللنا عليه بقليل ما ذكرنا منه وهو لهم خالص لا ينازعونه ولا يدعي أحد من الأمم أنهم أخذوا شيئا من ذلك عنه وكل ما يعلمه أهل فارس فهم له متعلمون وفيه لغيرهم متبعون ولأعقاب الأمم واطئون.
[2.10.10]
فإن نحن سألنا عن قدماء الأطباء دللنا على أبقراط وجالينوس وإن سألنا عن أول علم النجوم والحساب دللنا على كتاب إقليدس وكتاب المجسطي وإن سألنا عن حد المنطق دللنا على كتاب أرسطاطاليس وإن سألنا عن علم اللحون دللنا على كتاب الموسيقا وهذا كله للروم واليونان وليس لأهل فارس فيه إلا ما لغيرهم من القابسين المستفيدين وللروم الفلاحة وللهند الشطرنج وكتاب كليلة ودمنة والحساب بالحروف التسعة ولهم طب قديم صحيح عن استنباط يخالفون في كثير منه اليونانيين ومن الدليل على ذلك ما أقر به أهل فارس على أنفسهم في كتاب سير ملوكهم فإنهم ذكروا أن سابور لما أسن وكل بصره ووهنت قواه شكا إلى أهل مملكته الضعف عن سياستهم وأمرهم بالتماس من يضطلع بأمورهم فأكبروا ذلك وقطعوا به وسألوه الإذن لهم في طلب الأطباء له فأذن لهم فأرسلوا إلى ملك الهند رسولا وبعثوا إليه بهدية عظيمة وسألوه أن يبعث إليهم طبيبا من أفاضل من عنده ففعل فلم يزل يعالجه حتى اشتد عصبه وانبسط جلده وارتد بصره وركب للصيد وهش للنساء فأحسن مكافأة الطبيب وأمره أن يتخير أحب المواضع إليه من مملكته لينزله فاختار السوس فسكنها فورث طبه أهل السوس قالوا وقد كان أيضا أسكن السوس سبيا من سبي الروم فتعلموا منه الطب فصار أهل السوس أطباء أهل فارس وهذا خبر صادق لأنا نجد في جامع الطب المعمول بالسوس أخلاطا هندية وأخلاطا رومية فإن ادعي أن الإسكندر لما دخل أرض فارس وقتل فيها وسبى وأخرب نقل كتب علومهم إلى الروم وترجمها بلسانهم وأحرق أصولها التي كانت عندهم فصارت علومهم للروم قلنا خبركم هو إقرار على أنفسكم يقبل فيه قولكم وخبركم الثاني دعوى لما في أيدي غيركم تحتاجون معه إلى إقرار الروم لكم به وإحضار بينة وبرهان.
2.11 [ختم المخطوطة]
[تم المخطوطة]
[2.11.1]
تم كتاب العرب وعلومها والحمد لله رب العالمين وصلواته على سيدنا محمد النبي وآله الطاهرين وحسبنا الله ونعم المعين وفرغ من كتبه لنفسه هبة الله المكنى أبا الفتوح ابن يوسف بن خمرتاش في شهر ربيع الأول من سنة تسع وثمانين وخمسمئة وهو حامل كفه شاكر له مصل على رسوله المصطفى ونبيه المجتبى وعلى آله الطاهرين. غفر الله لمن دعا له بالمغفرة وكافة المسلمين
PARATEXT|
آمين.
نامعلوم صفحہ