وما هي إلا لحظات حتى خلا سطح السفينة من كل شيء إلا من فرجيني واقفة في مؤخرتها تنتظر قضاء الله فيها، ورجل بحار واقف في مقدمتها قد خلع ملابسه وهم بإلقاء نفسه ثم لمح فرجيني واقفة موقفها هذا، فأبى له كرمه ووفاؤه إلا أن يمد لها يد المعونة لينقذها، فمشى إليها وجثا بين يديها وطلب منها أن تخلع ثوبها ليحملها على ظهره ويسبح بها.
أتدري ماذا كان بعد ذلك؟
كان أن غلب الحياء على الفتاة حينما رأت رجلا عاريا بين يديها يريد أن يضمها عارية إلى جسمه فأشاحت بوجهها عنه، وأشارت برأسها أن لا، فصاح الناس من كل جانب أنقذها، أنقذها، فوثب الرجل قائما على قدميه ومد يده إلى ثوبها ليجردها منه.
وهنا وا أسفاه أقبلت موجة عظيمة كالجبل الأشم تندفع نحو السفينة اندفاع القضاء النازل، وتزمجر في اندفاعها زمجرة الليث الهصور، فذعر البحار إذ رآها وطاش عقله، وما لبث أن أملس من مكانه وألقى بنفسه في الماء.
أما فرجيني فلم تخف ولم تطش، بل لبثت في مكانها كما هي، وقد علمت أن الساعة آتية لا ريب فيها، فضمت قميصها إلى جسمها بيد، ووضعت يدها الأخرى على قلبها، وسبحت بنظرها في الفضاء، فأصبح منظرها منظر ملك كريم يطير بجناحيه في جو السماء.
وما هو إلا أن أغمض الواقفون عيونهم جزعا من هذا المنظر الهائل المخيف، ثم فتحوها فإذا البحر قد ابتلع كل شيء، وإذا كل شيء قد انقضى!
وهنا صمت الشيخ وأسلم رأسه إلى ركبتيه وأخذ يضطرب اضطرابا شديدا كأنما يعالج غصة تعتلج في صدره، ثم لم يلبث أن انفجر باكيا ينشج نشج الأطفال، فهاجني بكاؤه فبكيت حتى ذهلت، ولم أستطع الرجوع إلى نفسي إلا بعد حين، فرأيته لا يزال في ذهوله واستغراقه، فنبهته فانتبه، وعاد إلى حديثه يقول: يا له من يوم عظيم هائل! يا لها من ذكرى مؤلمة مريرة! يا لها من حسرة لا انقضاء لها حتى الموت! لقد مر على تلك الحادثة عشرون عاما ولا تزال تلك الفتاة ماثلة أمامي كأنني لا أزال أراها، إن فرجيني كانت عزيزة علي جدا، بل كانت أعز مخلوق عندي، ولو كان لي ابنة لما نزلت من نفسي تلك المنزلة التي نزلتها، وكان كل أملي في حياتي أن أعيش في ظل عطفها ورحمتها، وحنانها وشفقتها، حتى تتولى إغماض عيني بيدها في ساعتي الأخيرة، فلم يقدر لي ما أريد. لقد هجرت العالم كله ولجأت إلى هذا المعتزل البعيد النائي هربا من الشقاء فتبعني الشقاء حيث ذهبت، وما أحسبه تاركي بعد ذلك حتى ينزل معي إلى قبري.
ثم تنفس الصعداء وقال: ولكن الذي يهون وجدي عليها أنها الآن سعيدة في سمائها، مغتبطة بعيشها، متمتعة برحمة ربها ورضوانه، وأن تلك المرارة التي ذاقتها ساعة موتها قد زالت من فمها إلى الأبد.
نعم إن يومها كان يوما هائلا جدا، فلقد بكاها كل من رآها حتى الزنوج الذين ألفو البؤس والشقاء، فلم يبق في عيونهم موضع للبكاء، وكان أكثرهم بكاء عليها البحار المسكين الذي حاول إنقاذها فحال القضاء بينه وبينها، فقد كان يخيل إليه أنه أجرم إجراما عظيما بالفرار منها وتركها وشأنها، فجلس على الرمل بعد خروجه يلطم وجهه وينتف شعره ويقول: اللهم اغفر لي ذنبي، فقد كنت أرجو أن أنال السعادة بافتدائها بحياتي، ولكن الله أراد ما أراد.
أما بول المسكين، فقد كنا جذبناه قبل ذلك إلى الشاطئ، فجثا على ركبتيه يشاهد ذلك المنظر المؤلم وهو يرعد ويضطرب اضطراب الغصن في مهاب الرياح حتى انقضى. فسقط مغشيا عليه يتدفق الدم من فمه وأذنيه وأنفه، فظللنا نعالجه ساعة طويلة حتى استفاق بعد لأي، ودار بنظره حوله كالذاهل المخبول، ثم انتفض انتفاضة شديدة وعاد إلى ذهوله واستغراقه، فأمر الحاكم أن ينقل إلى خيمته الخاصة، وأمر طبيبه بالقيام عليه والعناية به، وظل هو ملازما له لا يفارقه.
نامعلوم صفحہ