وقد خصصت لخدمتي فتاتين متأنقتين من وصائفها لا عمل لهما نهارهما وليلهما إلا القيام على زينتهما وحليتهما، وقضاء ما يتبقى من أوقات فراغهما في أحاديث تافهة مرذولة لا لب لها ولا ثمرة، كأنما تمثلان على مسرح، أو تلعبان في ملعب، ويخيل إلي أن عمتي قد أوعزت إليهما ألا تدعواني بلقبي الذي أحبه وأوثره، فهما تسميانني دائما «الكونتة فرجيني» بدلا من «فرجيني دي لاتور»؛ أي إنها تأبى علي أن أحمل اسم والدي الذي أحبه وأعطف عليه وأفخر به كل الفخر، ولا أستطيع أن أنسى ما كابده في حياته من شقاء وألم في سبيلك وسبيل سعادتك؛ حتى سقط في مصرعه المحزن المؤلم في صحارى مدغشقر غريبا وحيدا لا يعطف عليه عاطف، ولا يبكي عليه باك، ويخيل إلي فوق ذلك أنها أمرتهما ألا تسمحا لي بالتحدث عنك، وعن حياتي الماضية معك، فإذا ذكرتك أو ذكرت شيئا عن تلك الجزيرة التي قضيت فيها زهرة حياتي نظرتا إلي نظرات الهزء والسخرية، وقالتا لي: إنك باريسية يا سيدتي فلا يجمل بك أن تتحدثي أمثال هذه الأحاديث عن تلك الأصقاع المتوحشة.
وأغرب من هذا أنها على جودها وسخائها وبسطة يدها وإحاطتها إياي بجميع صنوف الرعاية والإكرام لا تسمح ببقاء درهم واحد في يدي، كأنها تخشى أن أبعث إليك بشيء من المال، ولا أدري ماذا يعنيها من ذلك، على أنني أعترف لها بأنها قد صدقت في فراستها، فإنني ما كنت أتأخر عن أن أبعث إليك بجميع ما يصل إلى يدي - لو وصل إلى يدي شيء - ولكن ماذا أصنع وأنا فقيرة معوزة لا أملك شيئا، بل أنا الآن أفقر مني في كل عهد مضى؛ لأنني عاجزة عن أن أمد يدي بالمعونة إلى من تهمني معونته، ولقد سألتها مرة لم لا ترسل إليك شيئا من المال تستعينين به على عيشك في تلك البلاد المقفرة، فكان جوابها: إن الحياة في تلك البلاد لا تحتاج إلى كثير من المال، وإن المال يفسدها ويربكها، ويحولها من حياة بسيطة هادئة إلى حياة مركبة مزعجة، مملوءة بالمتاعب والشواغل، فلم أستطع أن أفهم شيئا مما تقول، ولكنني فهمت أنها لا تكترث بك، ولا تحفل بشأنك.
وما كنت أريد أن أقص عليك شيئا من هذا لولا أنك أوصيتني أن أصدقك الحديث عن كل ما أراه وأشعر به من خير أو شر، فليتك تحضرين إلي يا والدتي لتعيشي بجانبي وتحملي عني بعض ما أكابده من الوحشة والكآبة في هذه البلاد، فإن حياتي - على رغدها ورخائها وتوفر أسباب النعمة فيها - شقية جدا، لا أجد فيها أنسا ولا اغتباطا، فلا الرياض الزاهرة، ولا القصور الشامخة، ولا الأثواب الجميلة، ولا الجواهر الثمينة، ولا المراكب الفارهة، بقادرة على أن تذهب بشيء من وحشتي وضجري؛ لأنني لا أجد حولي تلك القلوب الطيبة الرحيمة التي ألفتها وأحببتها، وامتزح شعوري بشعورها، فأنا أعيش من بعدها في ظلمة حالكة لا يلمع فيها نجم ولا يضيء كوكب، ولولا أني أعلم أن بقائي هنا إنما هو تنفيذ لإرادتك، ونزول على حكمك لما أطقت البقاء ساعة واحدة.
ولقد كنت أجهل في مبدأ أمري أخلاق سكان هذه البلاد وطبائع نفوسهم، وأعتقد أن ظواهرهم مرآة بواطنهم، وأن الله قد منحهم من الفضائل النفسية بمقدار ما منحهم من جمال الصور ونضرة الأجسام، حتى تكشف لي أمرهم، فرأيت أني أعيش بين قوم ممثلين، لا علاقة بين قلوبهم وألسنتهم، ولا صلة بين خواطر نفوسهم، وحركات أجسامهم، فهم يكذبون ليلهم ونهارهم، في جميع أقوالهم وأفعالهم، لا يرون في ذلك بأسا، كأن الكذب هو الأساس الأول لحياتهم الاجتماعية، وكأن الصدق عرض من أعراضها الطارئة عليها، وكأن لهم نظاما خاصا بهم يختلف عن نظام البشر جميعا في كل مكان وزمان .
ولقد لبثت زمانا طويلا أكتب إليك الكتاب بعد الكتاب ثم أنتظر رده فلا يرد إلي شيء؛ وكنت أعجب لذلك كل العجب، وأذهب في تأويله مذاهب مختلفة، حتى علمت منذ أيام قلائل أن الوصيفة التي كنت أعتمد عليها في حمل كتبي إلى البريد كانت تحملها إلى عمتي فتقرؤها وتمزقها، فأحزنني ذلك حزنا عظيما، ثم أفضيت بالأمر إلى صديقة لي من طالبات المدرسة كنت أثق بها كثيرا؛ فأخذت على نفسها أن تتولى إرسال ما أريده من الكتب إليك، وها هو ذا عنوانها مرسلا مع هذا فابعثي إلي برسائلك من طريقها.
وبعد فليس في هذه الحياة التي أحياها هنا ما يروقني ويعجبني، فإنني لا أزال حتى الساعة أعيش في قفرة موحشة لا يؤنسني فيها غير أولئك الوصيفات السخيفات اللواتي لا أطيق رؤيتهن، ولا سماع أحاديثهن، وغير شيخ هرم من أصدقاء عمتي يزعم أنه يحبني ويعطف علي، وأحسب أنه كاذب فيما يقول؛ لأني لا أشعر بحبه ولا العطف عليه، فأنا أقضي جميع أوقاتي مكبة على منسجي، أروح عن نفسي بالنسج والتطريز، وستجدين في الحقيبة المرسلة إليك مجموعة من الجوارب والمناديل والعصائب والأخمرة هي قسمة بينك وبين أمي مرغريت، وقلنسوة لدومينج، وثوبا لماري، وكنت أود أن أرسل إليها كثيرا من أثوابي الخليعة لولا أن الوصائف هنا لا يسمحن لي بذلك؛ لأنهن يتقاسمن ملابسي ويقررن مصيرها قبل أن أخلعها.
تحيتي إلي أمي مرغريت، ووالدي دومينج، ومربيتي ماري، وأستاذي الشيخ الجليل، وكلبي الأمين «فيديل»، وإلى جميع شويهاتي وأعنزي، وطيوري وعصافيري، واعلمي يا والدتي أنني في أشد الحاجة إلى بقائي بجانبك، وإلى الرجوع إلى تلك الحياة الطيبة السعيدة التي فقدتها ولا أزال أبكي عليها، وأنني أعيش هنا كما تعيش النبتة الغريبة في أرض غير أرضها، ومناخ غير مناخها، فهي صائرة إلى الذبول والاضمحلال، وأرجو أن أراكم جميعا عندي قريبا أو أراني عندكم والسلام.
فرجيني دي لاتور
وكانوا جميعا يصغون إلى الكتاب عند تلاوته ويذرفون الدموع مرارا حتى فرغت هيلين من قراءته؛ فعجب بول أنها لم تذكر اسمه في كتابها، ولم ترسل إليه تحيتها، كما أرسلتها لكل من في الجزيرة حتى لطيورها وعصافيرها، ولم يعلم أن الفتاة تؤجل دائما الحديث عن أهم الأشياء لديها وأجلها شأنا عندها إلى آخر كتابها، فقد لمحت هيلين بعد ذلك حاشية منفردة في زاوية الكتاب فقرأتها فإذا هي تقول:
بلغي أخي بول تحيتي وشوقي، وقولي له: إنني قد أرسلت باسمه حقيبة صغيرة، تشتمل على بضعة أنواع من البذور الأوروبية التي يغرسونها هنا ويحتفلون بها احتفالا كثيرا معنونة بأسمائها، فإنني أرغب إليه أن يعنى عناية خاصة بزهرة البنفسج فيغرسها تحت نخلتي الجوز المسماتين باسمي واسمه، وأن يحبها كما أحببتها؛ لأنها على جمالها ورقتها حيية خجولة، لا تألف إلا المخابئ والمكامن، ولا تحب أن تقع عليها عيون تنم عليها أكثر مما تنم أية رائحة على زهرتها، وأوصيه أيضا أن يغرس الزهرة السوداء التي يسمونها هنا «زهرة الحداد» في ظل الصخرة التي جلسنا عليها معا «ليلة الوداع»، وقد سموها بهذا الاسم لأنها تشتمل على نقطة صفراء فاقعة تدور بها دائرة سوداء كما يدور الخمار الأسود بوجه الفتاة الحزينة في موقف الثكل، وأن ينقش على تلك الصخرة كلمة «صخرة الوداع» ويحييها عني كما يحيي جميع الأمكنة والبقاع التي يعلم أني أحبها، وبلغيه أيضا أني لا أزال أذكره وأنني لن أنسي أبدا أياديه البيضاء التي أسداها إلي فيما مضى من أيام حياتي، وأنني دائما عند ظنه بي.
نامعلوم صفحہ