فأطرقت فرجيني إطراقة طويلة ثم رفعت رأسها والتفتت إلى بول وقالت له: لقد ضاعت كل آمالي في الأرض يا أخي، فلم يبق لي إلا أملي في السماء! لقد غرست تلك الجنة الزاهرة، وأجريت في خلالها الجداول والغدران. وأنشأت في أنحائها ما شئت من الحظائر لماشيتي، والأعشاش لطيوري، وكانت أنسي وراحتي، وملجأ همومي وأحزاني.
وها هي ذي أيدي الحدثان قد عصفت بها، وعفت رسومها ومعالمها، ومحت سطورها من كتاب الدهر كأن لم تغن بالأمس، فلم يبق لي ما آنس به في هذا العالم ولا ما أسكن إليه، فلأطلب لنفسي سعادة غير هذه السعادة، في عالم غير هذا العالم لا تعصف به العواصف، ولا تجتاحه السيول، ولا تنال منه أيدي الصروف والغير.
فاضطرب بول عند سماع هذه الكلمات وسرت في جسمه رعدة شديدة ملكت ما بين أقطاره، فصمت هنيهة ثم التفت إليها وقال لها: هوني عليك الأمر يا فرجيني، فكما يعرض الموت على الحياة تعرض الحياة على الموت، وأعدك وعدا صادقا أن كل شيء سيعود إلى ما كان عليه، وسترين عما قليل خمائلك وأشجارك ومياهك وظلالك وأطيارك وأعشاشك عائدة إلى شأنها الأول، فيعود لك أنسك واغتباطك وسرورك وابتهاجك، فرفعت طرفها إلى السماء وظلت على ذلك ساعة كأنما تحاول أن تطير بروحها إلى ذلك الملأ الأعلى، ثم وضعت يدها على عاتقه وقالت له: أتدري ما هو خير من هذا كله يا بول؟ قال: لا، قالت: إن لسميك «بول» الرسول عندي منزلة لا تعدلها منزلة أخرى، وقد رأيت له صورة عندك تحتفظ بها في أطواء ثيابك، فرجائي إليك أن تهديني إياها، قال: لا أحب إلي من ذلك.
وانطلق يعدو إلى كوخه عدو الظليم ليأتي بها، وهي صورة أثرية قديمة كانت تحملها مرغريت في قلادتها منذ زمن بعيد، فلما ولدت ولدها بول ورأت في ملامح وجهه ما يشبه ملامح ذلك القديس العظيم سمته باسمه، وناطت تلك القلادة بعنقه كتميمة تحفظه من عاديات الدهر، وغوائل الأيام، ولم يزل حاملا إياها حتى كبر وأينع، فاحتفظ بها في صندوقه بين ملابسه كأعز شيء لديه، حتى سمع فرجيني تقترح عليه أن يهديها إياها، فلم يكن شيء من الأشياء أحب إليه من أن يفعل راضيا مغتبطا، وما هي إلا ساعة حتى عاد بها طائرا فرحا فقدمها إليها، فسرت بها سرورا عظيما، وجرى ماء البشر في وجهها طلقا غدقا، وقالت له: ستبقى هذه الصورة تذكارك الدائم عندي ما حييت، ولن تفارق عنقي أبدا حتى الساعة الأخيرة من ساعات حياتي، ولن أنسى أبد الدهر أنك قد أهديت إلي الشيء الوحيد الذي تملكه، فحنا عليها وهم أن يحتضنها إلى صدره فأفلتت من يده برفق وركضت هاربة إلى حجر أمها كعادتها.
فوقف بول في مكانه حائرا مكتئبا مذهوبا به كل مذهب، تعبث بعقله الوساوس والأوهام.
ولقد طال هذا الأمر بينهما وأصبحت حياتهما حياة غريبة مضطربة لا عهد لهما بمثلها من قبل، فخلت مرغريت يوما من الأيام بهيلين وقالت لها: لم لا نزوج بول من فرجيني فقد بدآ يشقيان في عيشهما، وأخاف أن يمتد بهما الأمر إلى ما هو أعظم شرا من ذلك، وعندي أنه متى تكلمت الطبيعة وجب الإصغاء إليها والإذعان لها، وما شقي الناس هذا الشقاء الذي نراهم يعالجونه كل يوم إلا لأنهم تمردوا على الطبيعة وخلعوا طاعتها، وسولت لهم نفوسهم السير في طريق غير طريقها. فقالت هيلين: إن الولدين لا يزالان صغيرين وفقيرين، فماذا يكون شأنهما غدا إن قسم لهما أن يلدا أولادا كثارا في قفرة مثل هذه القفرة لا يعين المرء فيها على العيش غير المال؟ إننا كابدنا أعظم ما يكابد امرؤ في العالم من عناء وشقاء في سبيل تربيتهما وتغذيتهما، فمن لهما - وهما ضعيفان ساذجان وقد رحلنا عنهما إلى عالمنا الآخر الذي ينتظرنا ورحل معنا دومينج وماري - بقوة تعينهما على أمرهما وأمر حياتهما العائلية المستقبلة، إن الزمان قد دار دورته، وقد أصبحت أشعر منذ أعوام بآلام شداد تخالط كل جزء من أجزاء جسمي، وأرى أنني أسير حثيثا في تلك الطريق التي يسير فيها الذاهبون إلى حفائرهم، وأن ليس بيني وبينها إلا خطوات قليلة، وقد أصبح دومينج شيخا هرما لا يكاد يحمل عبء نفسه، وأصبحت ماري على مقربة من ذلك، فلا يبقى لهما مساعد ولا معين.
والرأي الذي أراه أن نباعد بينهما، فنرسل بول إلى بعض أصقاع الهند ليتجر فيها بما يتجر به الأوروبيون المنتشرون في تلك البلاد، عله يتلهى عن فرجيني بشواغله وأعماله، وربما عاد عليه من ذلك ما يعينه على أمرها وأمره غدا.
ثم اتفقتا على أن تستشيراني في هذا الأمر، فأشرت عليهما بما رأتا، وقلت لهما: إن في هذه الجزيرة وفي ما حولها من الجزر كثيرا من السلع التي تنفق نفاقا عظيما في الأسواق الهندية، كالقطن والآبنوس والأصباغ وما إليها، فإذا سافر بول بها فباعها هناك ثم عاد ببعض السلع الهندية الغريبة فباعها هنا وطال مرانه على ذلك واعتياده رجوت له في مستقبل حياته خيرا كثيرا.
فعهدتا إلي أن أفاتحه في هذا الشأن، فخلوت به ذات يوم وأنشأت أحدثه حديثا طويلا عن التجارة وفضائلها ومزاياها، وعن الضرب في آفاق الأرض وثمراته وفوائده، ثم أفضيت إليه بذلك المقترح، فأصغى إليه وهو صامت واجم لا يقول شيئا حتى انتهيت من حديثي، فرفع رأسه إلي وقال: وهل يوجد عمل أعظم ثمرة وأعود فائدة من عمل الفلاح، الذي يقوم بزراعة حقل من الحقول لا يعطيه إلا القليل من جهده وأقل من القليل من ماله فيعود عليه منه ضعف ما بذل له خمسين أو ستين مرة؟ ومتى كانت البحار يا سيدي وطاء لينا أخاطر فيه بنفسي لأربح شيئا أستطيع أن أربحه من بيع ما فضل عن حاجتنا من حبوب وأثمار في أسواق هذه الجزيرة وما حولها من الجزر؟ وأية حاجة بنا إلى المال الكثير ونحن والحمد لله في سعة من العيش لا نشكو جوعا ولا ظمأ، ولا ضيقا ولا ضجرا، ولا نطلب لأنفسنا منزلة في الحياة فوق المنزلة التي نحن فيها؟ ولا أكتمك يا سيدي أنني أخاف المال وأخشاه خشية شديدة، وأقشعر من ذكره كلما سمعت به، وأعتقد أننا لا نزال سعداء في هذه الحياة ما دمنا بعيدين عنه وعن التفكير فيه، فإن قدر لنا يوما أن نشقى فيها فإنما شقاؤنا يكون على يده وبشؤم طالعه، فلنتمتع بالسعادة التي قسم الله لنا، ولا نجني على أنفسنا بالتكلف والمحاولة وركوب الطريق الهوجاء التي لا نعرفها ولا نعرف غايتها ولا منتهاها، والله أعلم بنا منا، وأحنى علينا من آبائنا وأمهاتنا.
فوقفت بين يدي هذه الكلمات الحكيمة المملوءة شرفا وفضيلة موقف الجمود والصمت، لا أستطيع أن أقول له شيئا، ولا أن أنكر عليه أمرا، ولا أن أفضي إليه بسر ذلك المقترح الذي اقترحته عليه، ضنا به أن يهلك يأسا وجزعا.
نامعلوم صفحہ