وربما كان هذا المكان هو المكان الوحيد الذي تركوه للطبيعة تذهب في شأنه حيث شاءت من مذاهبها دون أن يتناولوه بتهذيب ولا تنسيق، فنبتت من حوله في طريق المياه المنبسطة بضع شجيرات مختلفة الألوان والأشكال، والأحجام والأطوال، ما بين ضخم الجذوع ودقيقها، ومنتشر الفروع ومجتمعها، وضارب في أعماق الأرض، وذاهب في جو السماء، فاختلفت ثمراتها وزهراتها، وطعومها ومذاقاتها، وروائحها ونفحاتها، ودب بعضها إلى ظهر تلك الصخرة المشرفة فنشر عليها غلالة رقيقة من أزهاره ورياحينه، ثم انحدر عنها خيوطا دقيقة ناعمة ترفرف في الهواء كما ترفرف شعور الحسناء على ضفاف الماء.
ولم يكن شيء من الأشياء أحب إلى فرجيني وأشهى إلى نفسها من أن تأوي في أوقات راحتها وفراغها إلى هذا المكان الجميل لتمتع نظرها بمرأى تلك المياه الثلجية البيضاء المتفجرة من ذلك النبع الغزير، ومرأى تينك النخلتين البديعتين المتعانقتين على ضفته، ومنظر تلك المروج الخضراء المنبسطة من حوله؛ وكانوا لذلك يسمونه «مخدع فرجيني».
وكانت تستصحب معها كلما ذهبت إليه غنيماتها وأعنزها، فتتركها ترعى بين يديها، ويعجبها أن ترى واحدة منها قد وثبت إلى ظهر الصخرة ووقفت على مؤخر أطرافها واشرأبت بعنقها لتتناول بفمها بعض الأغصان فتقضمها قضما ، فكأنما معلقة في الهواء، أو كأنها تمثال ماثل في الفضاء.
وربما أخذت معها ملابسها وملابس الأسرة فغسلتها على حافة النبع، أو جلست ناحية تحتلب ألبان ماشيتها، ثم تمخضها.
وكان بول يختلف إلى هذا المكان من حين إلى حين كلما أمكنته الفرصة، فيجلس إلى فرجيني جلسة هانئة سعيدة يغتبطان فيها بتلك العزلة الهادئة الساكنة، وذلك المنظر الساحر البديع.
وكان أعظم ما يروقهما ويستثير سرورهما وغبطتهما منظر الطيور البحرية وهي مقبلة من شاطئ البحر الهندي مع الظلام زمرا زمرا، ترسم في صفحة السماء خطوطا مستقيمة ومتعرجة، ودوائر تامة وناقصة، وتغرد أغاريدها المختلفة الألحان والنغمات، حتى تنزل بهذا المعتزل الساكن الظليل لتقضي فيه سواد ليلها، فإذا انقضت دولة الظلام ونشر الفجر رايته البيضاء في آفاق السماء؛ طارت مع أشعته وأضوائه وذهبت من مذاهبها حيث تشاء، وكأن بول قد عز عليه ألا تتمتع فرجيني بذلك المنظر البديع الرائق في جميع أوقاتها، فأخذ ينقل إلى الأشجار المحيطة بهذا المكان من الغابات القريبة فراخ الطير في أعشاشها فتتبعها أمهاتها، وما هي إلا أيام قلائل حتى اتخذت لها في هذا الروض الأريض موطنا جديدا تروح إليه وتغدو، فأنست بها فرجيني أنسا عظيما، وعطفت عليها عطف الأم الرءوم على صغارها، فكانت تطعمها وتسقيها، وتحمل لها في حجرها حبوب القمح والذرة فتنثرها بين يديها، فإذا رأتها الطيور مقبلة من بعيد تطايرت إليها من أوكارها وأعشاشها صادحة مترنمة، وحامت فوق رأسها تلتقط الحب من يديها مرة، ومن الأرض أخرى، فيكون منظرها في اختلاف ألوانها وتمعجها واضطراب حركاتها أشبه شيء بمنظر الثوب المفوف قد عبثت أشعة الشمس بخيوطه الحريرية، فماج بعضه في بعض، فتظل فرجيني لاهية بهذا المنظر الجميل مفتتنة به، وبول مغتبط باغتباطها، راض عن نفسه برضاها، حتى يعودا معا ساعة الغروب إلى كوخهما.
وهنا تنفس الشيخ الصعداء وألقى أمامه نظرة بعيدة جامدة كأنما ينظر إلى شبح مقبل عليه، فألقيت نظري حيث ألقى نظره فإذا هو محدق في تلك البقعة التي سماها «مخدع فرجيني»، وأخذ يهمهم كأنما يحدث في نفسه ويقول: أيها الولدان العزيزان، إن أنس شيئا فإنني لا أنسى أيامكما العذبة الجميلة التي ملأتما فيها حياتي سرورا وغبطة، وكنتما لي صديقين حميمين، ما أنكر منكما ولا تنكران مني شيئا، ولا أنكما كنتما أبر الناس، وأحدبهم علي، حتى أصبحت أشعر أنني أعيش بجانبكما في أسرتي بين أهلي وقومي، وأن أيام صباي قد عادت لي بوجهها الطلق النضير، فسلام عليكما حيث كنتما، وسلام على عهدكما البائد الدارس: عهد الصلاح والبر، والفضيلة والشرف، والحب والوفاء.
الفصل الثالث عشر
ليالي الشتاء
وكان إذا جاء الشتاء وسالت الأجواء بردا وقرا، وأوت الطيور إلى أوكارها، والوحوش إلى أحجارها، قضوا داخل أكواخهم ليالي سمر جميلة يجتمعون فيها حول منضدتهم العارية على ضوء مصباح ضئيل يلقي أشعته الصفراء الخفافة على ما نيط بجدران الكوخ من معاول وفئوس وقواطع ومناشير، وما كدس في أركانه من حقائب وجوالق وقرب وزوايا، فتتراءى كأنها الأشباح الجاثمة، أو الوحوش الرابضة، فيتحدث بول عن حقوله وأغراسه، وغلاته وثمراته، وأحواضه ومستنبتاته، وما نضج من أزهاره وما لم ينضج، وما نقل منها إلى الظل وما أبقى تحت أشعة الشمس، وعن الكروم وعناقيدها، والقمح وسنابله، والذرة وأعوادها، وتحدثهم فرجيني عن عصارة القصب، ومنقوع الشعير، وشراب الليمون، وأمثال ذلك من الأشربة التي تعلمت من أمها صنعها وإجادتها واعتادت أن تقدمها لأسرتها صباح كل يوم ومساءه.
نامعلوم صفحہ