والأرض في هذه الجزيرة على جدبها وإقفارها لا يعدم أن يجد فيها الإنسان بضع قطع خصبة صالحة للنماء والاستثمار، ولكنها كانت تريد العزلة والانفراد والفرار بنفسها عن أبصار الناس وأسماعهم، فتركت المواضع الخصبة الميثاء وأوغلت في المجاهل البعيدة تفتش عن قطعة أرض معتزلة في سفح جبل أو بطن غور أو وراء منقطع لا يطرقها طارق ولا يمر بها سابل حتى وصلت إلى هذا المكان الذي نحن فيه، فأعجبها منظره الهادئ المنفرد، وسكنت نفسها إليه سكون الطائر الغريب إلى العش المهجور، وكذلك شأن البائسين المنكوبين، يشعرون دائما بحاجتهم إلى الفرار بأنفسهم من ضوضاء العالم وجلبته إلى المعتزلات النائية القصية، والمواطن الخشنة الوعرة، كأنما يخيل إليهم أن صخورها وهضابها قلاع حصينة يعتصمون بها من كوارث الدهر وأرزائه، أو كأنما يتوهمون أن هدوءها وسكونها يسري إلى قلوبهم وأفئدتهم فيروح عنها بعض ما بها ويملؤها راحة وسكونا، إلا أن العناية الإلهية - التي تتولى حراسة الإنسان وتمده بلطفها وعنايتها من حيث لا يقدر ولا يحتسب، وترى له دائما خيرا مما يرى لنفسه؛ أبت أن تسلمها إلى وحشتها وكآبتها، فأتاحت لها صديقة كريمة تؤنس وحشتها، وتعينها على أمرها.
الفصل الرابع
مرغريت
كانت تعيش في هذه الأرض قبل عام واحد من حضور «مدام دي لاتور» امرأة صالحة كريمة رقيقة الحال اسمها «مرغريت»، وفدت إليها على أثر نكبة حلت بها في مسقط رأسها «بريتانيا»، وخلاصتها أن نبيلا من النبلاء الاصطلاحيين - أي الذين اصطلح الناس على تلقيبهم بهذا اللقب - نزل بلدتها للاصطياف بها فرآها فأحبها، وكانت فتاة غريرة ساذجة تصدق كل ما يقال لها، فصدقت ما حدثها به عن الحب والزواج، والسعادة والرغد، كأنما خيل إليها أن العظماء في أحاديثهم وعهودهم كما هم عظماء في مظاهرهم وأزيائهم، لا يخلفون إذا وعدوا، ولا ينكثون إذا عاهدوا، فاتصلت به اتصال الزوج بزوجها حينما وعدها أن يتزوج منها عند عودته إلى وطنه واستئذان أبويه.
وما هي إلا أيام قلائل حتى ملها واجتواها كما مل الكثيرات من أمثالها من قبلها، فرحل عنها فجأة أعظم ما كانت غبطة به وأملا فيه، وترك لها تحت وسادتها شيئا من المال خيل إليه أنه الثمن الذي يقوم لها بوفاء ما بذلت من عرضها وشرفها، فجن جنونها وهرعت إلى فرضة البحر التي علمت أنه سيسافر منها، فلم تر من سفينته الماخرة على سطح الدأماء إلا ما يرى الرائي من أعقاب النجم المغرب؛ فبكت ما شاء الله أن تفعل، ثم عادت إلى منزلها دامية العين قريحة القلب، ولم تلبث إلا قليلا حتى شعرت أنها تحمل جنينا في أحشائها، فأسقط في يدها وعلمت أنه قد استحال عليها البقاء بين أهلها وقومها بعد ما فقدت تلك الجوهرة الثمينة التي هي كل ما تملك العذراء في يدها، وكل ما تستطيع أن تقدمه مهرا لزوجها، فأزمعت الرحيل إلى إحدى المستعمرات النائية لتواري في قاعها السحيق سوأتها وعارها، فوفدت إلى هذه الجزيرة بعد عناء كثير، وعقبات كبيرة واستطاعت بمعونة بعض المحسنين الراحمين أن تبتاع لها خادما زنجيا يعينها على أمرها ويساعدها على حراثة الأرض التي أوت إليها واستخراج ثمراتها.
وعاشت هنا عيش الصالحات القانتات لا تعرف أحدا من الناس ولا يعرفها أحد سواي، وكانت تجلس دائما على هذه الصخرة العالية أمام كوخها ترضع ولدها وتنسج نسيجها، فلما وفدت هيلين «مدام دي لاتور» رأتها جالسة في مكانها الذي اعتادت الجلوس فيه، فعجبت لأمرها وأنست بمرآها أنسا عظيما؛ لأنها ما كانت تتصور قبل أن تراها أن في الناس إنسانا له حال تشبه حالها، فدنت منها وحيتها ثم جلست بجانبها وأخذت تسائلها عن شأنها، فقصت عليها مرغريت قصتها كما وقعت، وكشفت لها بشجاعة وإخلاص عن مكان المصرع الذي زلت فيه قدمها، ولم تكتمها من أمرها شيئا، ثم ختمت حديثها بقولها: إن الله لم يظلمني، ولم يقس علي فيما فعل، بل عاقبني على جريمتي التي اقترفتها عقابا عادلا شريفا، فله العتبى معطيا وسالبا، وله الحمد على نعمائه وبأسائه.
فرثت لها هيلين «مدام دي لاتور» وأوت إليها، وأعجبها منها إخلاصها وصراحتها، وقوة يقينها وإيمانها. فلم تر بدا من أن تمنحها من بنات قلبها مثل ما منحتها، فأفضت بسرها، وحدثتها حديثها من مبدئه إلى منتهاه. فقالت لها مرغريت: أما أنا يا سيدتي فقد لاقيت عقوبتي التي أستحقها بما أسرفت على نفسي، وفرطت في أمري، فما شأنك أنت وأنت فتاة صالحة شريفة لا ذنب لك ولا جريرة!
ثم دعتها إلى كوخها الحقير فلبت دعوتها ودخلت معها راضية مغتبطة وهي تقول: أحمدك اللهم، فقد وجدت لي في هذا المغترب النائي أختا لم أجد مثلها بين أهلي وقومي، وما أحسب إلا أن آلامي قد انتهت. •••
وكنت أسكن في ذلك الحين وراء هذا الجبل على بعد مرحلة ونصف من كوخ مرغريت، ولكنني كنت - على بعد ما بيني وبينها واعتراض هذه العقبات دوننا - متصلا بها، أزورها وأتفقد حالها، وأرعى لها ما يرعى الجار لجاره الملاصق، وتلك خلة لا توجد إلا في سكان القفار المهجورة، والمغتربات النائية، فلا الجبال الشامخة، ولا الصحارى الشاسعة، ولا الشقة البعيدة بقادرة على أن تفرق بينهم وتمنع اتصال بعضهم ببعض، كأنما هم يقطنون محلة واحدة، أو منزلا واحدا، أما في أوروبا فكثيرا ما يعيش الرجل بجانب الرجل لا يفصل بينه وبينه إلا جدار قائم، أو ممر ضيق، أو ظلة دانية، ثم هو لا يعرفه ولا يحييه، وربما أنكر وجهه وصورته، وهناك قلما يستطيع القادم الغريب أن ينزل ضيفا إلا عند نفسه في أخصب البلاد وأغناها، وأرغدها عيشا، وأصحلها حالا، وهنا يجد ساعة نزوله المنزل الرحب، والمناخ الكريم في كل دار وكوخ، سواء في ذلك فقراء الناس وأغنياؤهم، وسوقتهم وأشرافهم، كأن الناس حين يعودون إلى حياتهم الفطرية الأولى - حياة البساطة والسذاجة والعيش في الأجواء الحرة المطلقة - تعود لهم معها أخلاقهم الطبيعية الجميلة التي فطروا عليها: من كرم وسماحة، وجود وإيثار، وود وإخاء.
وبعد ، فلما سمعت أن جارتي قد نزلت بها ضيفة غريبة أتيت إليها أتفقد حالها، وأعينها على أمرها، فإذا أنا بين يدي فتاة جميلة رائعة، تحيط بوجهها المشرق المتلألئ هالة وضاءة من الشرف والنبل، تغشاها سحابة خفيفة من الهم والكآبة، ويتراءى في عينيها المتضعضعتين الذابلتين أثر الذل والانكسار الذي يراه الإنسان دائما في عيون الفتيات المنكسرات في ميدان الحياة.
نامعلوم صفحہ