شرح كشف الشبهات لخالد المصلح
شرح كشف الشبهات لخالد المصلح
اصناف
الرد على من استشهد بعرض جبريل على إبراهيم إعانته عندما أراد قومه إحراقه على جواز الاستغاثة العبادية بغير الله
ثم قال ﵀: [ولهم شبهة أخرى: وهي قصة إبراهيم لما ألقي في النار، اعترض عليه جبريل في الهواء فقال له: ألك حاجة؟ فقال إبراهيم: أما إليك فلا.
قالوا: فلو كانت الاستغاثة شركًا لم يعرضها على إبراهيم.
فالجواب: أن هذا من جنس الشبهة الأولى، فإن جبريل عرض عليه أن ينفعه بأمر يقدر عليه، فإنه كما قال الله تعالى: ﴿شَدِيدُ الْقُوَى﴾ [النجم:٥] فلو أذن له أن يأخذ نار إبراهيم وما حولها من الأرض والجبال ويلقيها في المشرق أو المغرب لفعل، ولو أمره أن يضع إبراهيم ﵇ في مكان بعيد عنهم لفعل، ولو أمره أن يرفعه إلى السماء لفعل، وهذا كرجل غني له مال كثير يرى رجلًا محتاجًا فيعرض عليه أن يقرضه أو أن يهبه شيئًا يقضي به حاجته، فيأبى ذلك الرجل المحتاج أن يأخذ ويصبر إلى أن يأتيه الله برزق لا منة فيه لأحد، فأين هذا من استغاثة العبادة والشرك لو كانوا يفقهون؟] .
هذه شبهة أخرى، ولعلها آخر الشبه التي يوردها الشيخ ﵀ في هذا الكتاب المبارك، قال ﵀: (ولهم شبهة أخرى: وهي قصة إبراهيم لما ألقي في النار، اعترض له جبريل في الهواء فقال له: ألك حاجة؟ فقال إبراهيم: أما لك فلا.
قالوا: فلو كانت الاستغاثة شركًا لم يعرضها على إبراهيم) .
قال الشيخ ﵀: (فالجواب: أن هذا من جنس الشبهة الأولى) فإن الشبهة الأولى فيها سؤال المخلوق ما يقدر عليه، وهذا أيضًا فيه عرض المخلوق ما يقدر عليه، فإن جبريل ﵇ عرض على إبراهيم لما ألقي في النار أو قبل أن يلقى في النار لما تآمر قومه على إلقائه فيها فقال له: ألك حاجة؟ فقال إبراهيم: أما إليك فلا، فقالوا: فلو كانت الاستغاثة شركًا لم يعرضها على إبراهيم، فنقول: هذه ليست من الاستغاثة الممنوعة، بل هي من الاستغاثة التي نتفق معكم على جوازها، لكننا نختلف معكم في كونها دالة على جواز الاستغاثة العبادية التي لا يجوز صرفها إلا لله ﷾، أما الاستغاثة التي من هذا الجنس وهي سؤال المخلوق ما يقدر فليس ذلك من الشرك في شيء.
قال ﵀ فالجواب: أن هذا من جنس الشبهة الأولى، وأنتم تلاحظون -أيها الإخوة- أن هذه الشبهات التي مرت معنا في غالب الأحيان تكون مكررة، والخلاف فيها خلاف لفظي، فهو من تنويع العبارة لعرض نفس الشبهة المتقدمة؛ ولذلك سلك الشيخ ﵀ مسلكًا جيدًا في هذه الشبهات، فقد عرض أولًا كبريات شبهاتهم، ثم بعد أن فرغ من عرض هذه الكبريات ذكر ما هو فروع أو ما هو تنوع في اللفظ للشبه المتقدمة، وكذلك هنا فإنهم أعادوا ما أجبنا عليه قبل قليل في القصة المتقدمة.
قال ﵀: (فالجواب على هذا من جنس الشبهة الأولى، فإن جبريل عرض عليه أن ينفعه بأمر يقدر عليه)، وتوضيح هذا قوله ﵀: (فإنه كما قال الله تعالى فيه -يعني: في جبريل-: (شَدِيدُ الْقُوَى)، فلو أُذن له أن يأخذ نار إبراهيم وما حولها ويلقيها في المشرق أو المغرب لفعل، وهذا لا شك فيه، ولو أمره أن يضع إبراهيم ﵇ في مكان بعيد عنهم لفعل -وهذا لا شك أنه في قدرة جبريل- ولو أمره أن يرفعه إلى السماء لفعل، وهذا كرجل غني له مال كثير يرى رجلًا محتاجًا فيعرض عليه أن يقرضه أو أن يهبه شيئًا يقضي به حاجته، فيأبى ذلك الرجل المحتاج أن يأخذ ويصبر إلى يأتيه الله برزق لا منة فيه لأحد) وهذا تفسير من الشيخ ﵀ لما فعله إبراهيم، فإن إبراهيم ﵇ قال: (أما إليك فلا)، أي: فلا حاجة لي بما عندك.
ومعنى هذا الكلام: أما إلى الله فنعم فإنه صبر على ما لقي منتظرًا فرج الله ﷾ وما يختاره له، وهذا فيه غاية التسليم، وإبراهيم ﵇ إنما كان أُمة قانتًا لله حنيفًا بسبب تسليمه لله ﷾، ومن أبرز ما يظهر فيه تسليم إبراهيم ﵇ قصة رؤياه التي رأى فيها ذبح ابنه الذي حرمه سنين طويلة، ثم لما جاءه وبلغ معه السعي رأى هذه الرؤيا، فما كان منه إلا أن سلم وآمن ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ [الصافات:١٠٣] فما كان إلا أن فرّج الله ﷾ عنه، وفداه بذبح عظيم، وما ذلك إلا لتسليم إبراهيم وإسماعيل ﵉، فمن السمات البارزة في حياة إبراهيم ﵇ تسليمه لله ﷾، وهذا من تسليمه، إذ أنه رضي بما يختاره الله ﷾ له، وما يُقدّره له، ولم يركن إلى اختياره لنفسه، وهذه فائدة ينبغي لطلبة العلم والدعاة وأهل الخير أن يتنبهوا لها، وهي أنه قد نختار لأنفسنا أمرًا من الأمور نحب وقوعه، ونجاهد في تحقيقه، ويكون الخير فيما اختاره الله لنا، إذ يقع شيء يخالف ما نحب، فتجد بعض الإخوة وبعض أهل الخير يضجر ويغضب لهذا الذي وقع، أو على أقل الأحوال يشعر في نفسه بمضاضة وغضاضة لما وقع، فنقول له: ينبغي لك أن تسلم، وأن تعلم أن ما قدره الله ﷾ لك هو خير لك ولا شك (عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير: إن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، ولا يكون ذلك إلا للمؤمن) فالواجب على العبد المؤمن أن يرضى بما اختاره الله ﷾ من تأخر النصر أو من تأخر تحصيل العلم أو من فوات فرص أو ما إلى ذلك ولا يستعجل، وإنما يعلم أن ما اختاره الله ﷾ له هو الخير ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾ [القصص:٦٨]، والله يصنع لدينه ما لا نصنع، فينبغي لنا أن نسلّم، وهذا بارز من هذه القصة، فإنه ﷺ قال: (أما إليك فلا) فجاءه الفرج من الله ﷾ بأن قال: ﴿يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنبياء:٦٩] تفريج من رب العالمين ﷾، فالواجب علينا -أيها الإخوة- أن ننتبه إلى هذه الفوائد، وهذه العبر من قصص الأنبياء في كتاب الله ﷾، فإن الله ﷾ إنما قص علينا قصصهم للعبرة، وليس للتسلي والنظر فيما جرى لهم بل للاعتبار، وأشار الله ﷾ إلى ذلك مخاطبًا نبيه: ﴿وَكُلًا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ [هود:١٢٠] فلقصص الرسل فائدة، وهي التثبيت والاعتبار، فينبغي لنا أن نتنبه لهذا.
ثم قال ﵀: (فأين هذا من استغاثة العبادة والشرك لو كانوا يفقهون؟!) .
10 / 8