Explanation of the Treatise on Lifting Blame from the Distinguished Imams
شرح رسالة رفع الملام عن الأئمة الأعلام
اصناف
عدم تعمد أحد من الأئمة مخالفة النبي ﷺ
وقد أشار المصنف ﵀ إلى مقام فاضل، فقال: (وليُعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولًا عامًا يتعمد مخالفة رسول الله ﷺ، ويقصد بهم: أولئك الكبار من الفقهاء؛ كالأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، وأمثالهم ممن قبلهم أو ممن بعدهم، فمثل هؤلاء الكبار المعروفين عند الأمة ليس أحد منهم يتعمد مخالفة النبي ﵌.
وهذا يرجع إلى قاعدة ذكرها القرآن، وهي من قواعد العلم وقواعد العقل والفطرة، فإن الله قال لنبيه: ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ﴾ [القصص:٥٠] فجعل للإنسان مقامين:
المقام الأول: أن يكون متبعًا مستجيبًا للنبي ﷺ وللوحي.
المقام الثاني: أن يكون متبعًا لهواه.
ولا يجوز أن يُظَن بأحد من فقهاء المسلمين في سالف عصورهم، وكذلك في حاضر عصرهم -وأعني بهم الفقهاء الذين سبقت الإشارة إليهم، وهم القائمون بقصد الكتاب والسنة واتباع الحق، واقتفاء آثار الأنبياء وآثار السلف الصالح أهل القرون الثلاثة الفاضلة- فهؤلاء أصحاب هذا المقام لا يجوز أن يُظَن بواحد منهم أنه يتعمد مخالفة النبي ﷺ، بمعنى أنه يتعمد أن يكون مستجيبًا لهواه.
وإن كان يشار هنا إلى أن القرآن ذكر مقامين، وهما: الاستجابة لله ورسوله، واتباع الهوى، فهل معنى ذلك أن الإنسان المعين إما أن يكون صاحب هوى، وإما أن يكون مستجيبًا استجابة محضة؟
يقال: من حيث الواقع في أحوال الناس فإن هذا المقام -أعني مقام الاستجابة- هو من مقامات الإيمان، بمعنى أنه يدخله الزيادة والنقص، وله أصل وله كمال، فالعلماء الربانيون الراسخون في العلم كأئمة العلم من الصحابة كالخلفاء الأربعة وأمثالهم ومن بعدهم، فهؤلاء يصانون عن اتباع الهوى بسائر درجاته، ولا يحسب في حالهم إلا أنهم من أهل الاستجابة لله ولرسوله.
وقد يوجد بعض الفقهاء بعد عصر الصحابة رضي الله تعالى عنهم من يكون أصل مقامه على الاستجابة، ولكن مقام الاستجابة عنده يدخله شيء من عوارض النقص، فربما دخل عليه طرف من مادة الظن أو الهوى، ومادة الظن تتعلق بالعلم، ومادة الهوى تتعلق بظلم النفس.
وقد ذكر المصنف ﵀ في منهاج السنة: أن ما هو من مقام الهوى الخفي -ولاحظ وصف هذا الهوى بأنه خفي! - يقول: ما هو من مقام الهوى الخفي قد يعرض لبعض الكبار من أهل العلم؛ بل قد يعرض لمن هو من كبار أهل الإيمان والديانة عند المسلمين.
بل أشار ﵀ إلى قدر أكثر من ذلك، ومن شاء أن يقف عليه فليقرأه في منهاج السنة، وقد ذكره في معرض كلامه عن مسألة أئمة أهل البيت وبعض الصحابة.
فهذا الطرف من الهوى الخفي -ونسميه طرفًا لأنه عارض وليس بأصل- قد يعرض لكثير من الناس، وقد يعرض لكثير من الفقهاء المتأخرين؛ بل ومن قبل المتأخرين، وهذا الهوى الخفي لا ينافي أصل الاستجابة، ولا ينافي المقصود الكلي منها، وقد يكون من صوره -كما سيأتي تفصيله- تلك الصور التي وقعت كثيرًا في التاريخ من التعصب الغالي في بعض المذاهب الفقهية، فإن هذا التعصب إذا زاد أثره وصار تقليدًا وتعصبًا يتجافى عن أثر السنة والوحي، إذا زاد هذا التعصب فلا شك أنه ليس وجهًا من الاستجابة لله ورسوله ﵊؛ بل إنه يكون من النوع المذموم.
إذًا: عندما ذكر القرآن المقامين لا يفهم من ذلك أن الناس إما أن يكونوا أهل استجابة محضة أو أهل هوى محض؛ بل من حيث واقع المسلمين فإن منهم المحققين لمقام الاستجابة، ومنهم من أتى مقام الاستجابة من حيث الأصل، ولكن قد يعرض له ما هو من مقامات الهوى الخفي، وهذا الهوى تارة يكون بوجه من الظلم، وتارة يكون بوجه من الجهل، فإن جماع الخطأ -كما ذكر القرآن- هو الجهل والظلم، قال الله تعالى: ﴿وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب:٧٢].
فمن حقق الاستجابة تجرد عن الظلم والجهل، ومن نقصت استجابته أصابه طرف من الظلم أو طرف من الجهل، وهذا من حيث الأصل.
1 / 3