Explanation of the Creed Poem
شرح منظومة الإيمان
اصناف
شرحُ منظومة الإيمان
المسماة: "قلائد العقيان بنظم مسائل الإيمان"
كلاهما: لأبي محمد عصام البشير المراكشي
شكر وتحية:
إلى والدَيَّ الكريمين الذين ربياني على معاني الإيمان الراسخة...
إلى أمِّ عطية التي ساعدتني كثيرا في إعداد هذا الكتاب...
إلى أبي الفاروق الذي تابع المشروع من أوله، وله علي أفضال كثيرة...
إلى شيخي أبي الفضل الذي شجعني كثيرا على إتمام الكتاب، ثم قام بمراجعته والتقديم له...
إلى أهل التوحيد في كل مكان...
مقدمة
بقلم الشيخ أبي الفضل عمر بن مسعود الحدوشي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ﷺ.
وبعد: فقد سعدت منذ سنوات بمعرفة نخبة من طلبة العلم أذلال عائض وسلمان وسفر في تأجج نهيتهم، وتوقد حجاهم، وحصافة رأيهم، وفسيح خيالهم، وخصب عطائهم، وجسارة عقلهم، وشجاعة قلبهم، نحسبهم كذلك ولا نزكيهم على الله. منحهم الله نبراس النبوغ، ومصباح الإرهاف الحسي، واليراع السيال، والحكمة البليغة، والتأمل والتدبر والإمعان والإنعام في آي رب الأنام، يحلون فيها كل غامض، ويفتحون كل مغلق، ويفسرون كل معجم، ويبينون كل مجمل، ويوضحون كل مبهم، ويقيدون كل مطلق، ويخصصون كل عموم، ويميزون الناسخ من المنسوخ، ويوضحون كل ظاهر، ويحذرون من زغل العلوم، ومن اللمة والشرذمة الضالة المضلة، وينيرون الذاكرة النقية، ويغسلون الضمائر من أوضار وأضرار البدع والمحدثات، ويطهرون الأنوطة من أدران الشرك، وينظفون الفؤاد من أخباث النفاق، ويصقلون الصدور من أوساخ الإلحاد، يدبجون في (دفاترهم) (١)
_________
(١) - وقديما قيل: (ما حفظ فر، وما كتب قر)، والأفضل الجمع بينهما لأن للكتب آفات.
... عليك بالحفظ دون الجمع في كتب ... ... ... فإن للكتب آفات تفرقها
... الماء يغرقها والنار تحرقها ... ... ... والفأر يخرقها واللص يسرقها
ومن طرائف ما يروى في المحافظة على الكتب وأوراق العلم ما يرويه المبرد: (أن رجلا أتى الأصمعي فسأله أن يكتب له شيئا من العلم فكتبه له، فلما كان بعد أيام عاد إليه فقال: يا أبا سعيد إن ذلك القرطاس الذي كتبته لي سقط مني فأكلته الشاة، فأحب أن تكتب لي غيره ثانيا، فكتب له، وكتب أيضا:
... قل لبغاة الآداب ما وصلت ... ... منها إليكم فلا تضيعوها
... ضمنوا علمها الدفاتر والحبر ... ... بحسن الكتاب أوعوها
... إن اشتريتم يوما لأهلكم ... ... شاة لبونا فلا تجيعوها
... فإن عجزتم ولم يكن علف ... ... يشبعها عندكم فبيعوها
(تقييد العلم) (ص١٤٧) و(كيف تقرأ كتابا): (ص٨٤) .
1 / 1
كل ما يمر بهم من الشوارد والفوائد والفرائد (١)، وما تجود به أرْيَحِيَّتهم النقية، وبذُرْعة وواسطة حرصهم وسهرهم أدركوا ونضجوا وأينعوا، وترفرفت عليهم ألوية الحكمة العميقة الجذور، والمترعرعة الأفنان، وتعلموا وعلِموا وعلّموا، واستنبطوا بقريحتهم الجياشة بحوثا وأحكاما زاملهم فيها مبين النصر والنجاح والفلاح، واستخذى وتطامن وقنب وبخع وخضع لهم اليراع، وعرجوا الفوائد في الأوراق رقما، وأصحت نَحِيزتهم وشنشنتهم (٢) ونحيتهم الغوص في بطون الأمات (٣) الست وأذلالها. رأيتهم قد أتوا فهوما وعلوما وذكاء وزكاء، وتصدروا بعد أن تأهلوا، وتزببوا بعد أن تحصرموا، لسانهم سئول وقلبهم عقول، وبدنهم غير ملول، يجيدون حسن السؤال، (يسألون تفقها لا تعنتا) . ويجيدون حسن الإنصات والاستماع، وحسن الفهم والحفظ، والعمل ومراعاة الحدود، وحسن التعليم، فلا يضغطون على عكد اللسان والشفتين إلا ليعبروا عن غيرتهم الدينية المضمرة في النياط، فأحببتهم في أول لقاء ووقتئذ رمقت فيهم شابا عاقلا سئولا يدعى (أبو محمد البشير عصام المراكشي) . رأيته مطلقا طلقا، سهل المرام، قريب المتناول مباح الحمى، إن قورع قرع، وإن جوري جرى، يبتسم بحساب، ويضحك بحساب، ويأكل بحساب، ويشرب بحساب، ويعمل بحساب، وينام بحساب، ويجلس مع الأصدقاء بحساب، ويتكلم بحساب، ويسأل بلا حساب، ويقرأ بلا حساب، همته عالية، (يعشق) الشدائد
_________
(١) - شأنهم في ذلك شأن ابن القيم في (فوائده) وابن الجوزي في (صيد الخاطر) .
(٢) - الشنشنة: هي العادة والطبيعة والخليقة والسجية والضريبة والشيمة والدربة والنحية والنحيزة والبنية والجبلة والديدن، وفي المثل: (شنشنة أعرفها من أخزم) . وأخزم هذا كان رجلا عاقا لأبيه، فمات، وترك بنين عقوا جدهم وضربوه وأدموه فقال ذلك، كما في (اللسان-شنن) وفي (مجمع الأمثال) (١/٣٦١) للميداني (الحدوشي) .
(٣) - الأمات: الأصل فيه أن يكون لغير عاقل، والأمهات أن يكون للعاقل (الحدوشي) .
1 / 2
والصعاب والتعب في طلب العلم، وكأني به ولسان حاله يقول: (لا راحة بدون تعب، ولا تيجان بدون أشواك، ولا عروش بدون مسئوليات جسام، ولا حصاد بدون زرع، ولا سبق بدون مباراة، ولا لذة بدون ألم، ولا نصر بدون كفاح) . وكأني به أيضا يقول: (من عرف ما قصد هان عليه ما وجد)، ويقول: (لتكن الشدائد سُلّما أرتقي به إلى ذرا المجد ... وليس مثل المشقة مربٍّ للأفراد والأمم ... والإنسان في حياته لا يقوى خلقه، وتعظم ثقته بنفسه، وتزداد قوة احتماله وجلده، إلا بمواجهة الصعاب والشدائد. وعرف أن: (دماغ الكسلان، معمل الشيطان)، أو: (قلب الكسلان، مركب الشيطان) . كما في المثل (الانجليزي) المشهور. فطريق الصعاب يوصل إلى غاية الغايات، لأن:
... من طلب العلا من غير كد ... ... ... أضاع العمر في طلب المحال
على قدر المشقة (١) تكون الفائدة والثمرة، وعلى قدر اختيار الكلام وتأليفه يكون الفلاح والنجاح، (واختيار الكلام أصعب من تأليفه وقديما قيل: (اختيار الرجل وافد عقله) . فأخونا الشيخ البشير يكتب أحسن ما يسمع، ويحفظ أحسن ما يكتب، ويتحدث بأحسن ما يحفظ وكأن يحيى بن خالد عناه حين قال: (الناس يكتبون أحسن ما يسمعون، ويحفظون أحسن ما يكتبون، ويتحدثون بأحسن ما يحفظون)، وقديما قيل:
... قد عرفناك باختيارك إذ كا ... ... ن دليلا على اللبيب اختياره
_________
(١) - قال يحيى بن أبي كثير: (لا يستطاع العلم براحة الجسم) .
1 / 3
وهو يأخذ من العلم أحسنه. قال ابن سيرين: (العلم أكثر من أن يحاط به فخذ من كل شيء أحسنه، وفيما بين ذلك سقطات الرأي وزلل القول، ولكل عالم هفوة، ولكل صارم نبوة) (١) . لأن (عقول الناس مدونة في أطراف أقلامهم، وظاهرة في حسن اختيارهم) (٢) . فأخونا الشيخ البشير - بارك الله فيه وفي جهوده - لما رأى العقيدة أصبحت - في عصرنا - كقوس قزح، حيث تجمعت حولها الغيوم الإرجائية، واكتنف بها ظلام الخارجية، نشطت نفسه في نظم قصيدة في أذلال قصيدة (الكافية الشافية) لابن القيم، استفرغ فيها غايته، وبذل جهده في إظهار العقيدة الصحيحة في مسمى الإيمان والكفر، فأضاف إلى مكتبتنا الإسلامية - في جانب العقيدة - سفرا نفيسا (٣) يحتاج إليها الأكابر من فرسان المحابر بله طلبة العلم الصغار، وقديما قيل: (كم من صغير احتاج إليه الأكابر) . وأنا أقول: (كم من كبير احتاج إليه الأكابر) .
_________
(١) - يقال: سيف صارم، أي: قاطع، ورجل صارم، أي: شجاع، أو بات في أمره ماض. ويقال: نبا السيف عن الضريبة: كل وارتد عنها ولم يقطع. من (العقد الفريد) (١/١٢/١٣) (الحدوشي) .
(٢) - كما قال أفلاطون لعنه الله.
(٣) - وهذا الكتاب يخالف الكتب التي يطلع بها علينا من لا يملك ربع ما يملك أخونا الشيخ البشير من العلم وأدواته، يطلعون علينا في كل ساعة بله الأيام بما لا يسمن من شبع ولا يغني من جوع. أما كتاب أخينا فسيكون ثريا وسريا معا لطلبة العلم. فأنا مسرور جدا أن أضيف إلى مكتبتي الخاصة هذا الكتاب وهذا الجهد القيم. فقد جمع فيه خلاصة ونبذة كلام الأئمة من بطون الكتب وجعله في باقة واحدة. جزاه الله خيرا. (الحدوشي)
1 / 4
هذا، وقد طلب مني أخي الشيخ البشير قراءة ومراجعة هذه الرسالة لأقول فيها رأيي - وأنا لست بتلك الدرجة التي ظنها أخونا - ونزولا عند رغبة أخينا قرأتها كلها (١) - رغم ضيق وقتي وكثرة الشواغل والصوارف - بتدبر وإمعان بل وإنعام النظر، فوجدت اسمها مطابقا لمسماها. وجدتها رسالة مفيدة نافعة جامعة مانعة، فريدة في بابها تصلح أن تكون في مكتبة كل مسلم ومسلمة، فشكر الله لأخينا الشيخ البشير عمله وسدد قلمه لنقد الآراء الباطلة، ولبيان الأخطاء الفاحشة، وليجتنب التعرض للأشخاص دون ما منفعة، وللنوايا والبواطن، وليعدل مع المخالف وينصفه، ولا يحكم عليه قبل أن يقيم عليه الحجة، ويبين له المحجة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين، وإن أخطأ وغلط، حتى تقام عليه الحجة، وتبين له المحجة) . (ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك بالشك) . ولا سيما إن كان الخطأ في بعض المسائل الدقيقة في العقيدة فهي لا توجب التضليل والتبديع بله التكفير، فإذا لا بد من التبين والتثبت والتوثيق بالرجوع إلى كتبه إن كان ميتا، والاتصال به إن كان حيا، قبل إصدار الأحكام واتخاذ المواقف، ولا بد من لزوم حمل الكلام على أحسن محامله، ما دام يحتمل ذلك، ومن إحسان الظن بالمسلمين، ولا بد أن نعلم بأن المسلم يوزن بحسناته وسيئاته، والعبرة بكثرة الصواب والمحاسن، ومن كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله.
... وإذا الحبيب أتى بذنب واحد ... ... ... جاءت محاسنه بألف شفيع
_________
(١) - وقديما قيل: (إذا استحسنت الكتاب واستجدته ورجوت منه الفائدة ورأيت ذلك فيه، فلو تراني وأنا ساعة بعد ساعة أنظر كم بقي من ورقة مخافة استنفاذه. الحيوان: ١/٥٣) . والله أنا ذلك الرجل مع هذه الرسالة. فقد – والله – عجبت من غرائب فوائدها ونوادرها ووجدت فيها تكوينه –أخينا الشيخ البشير – العقدي قويا سليما من الزيغ جهبذا فيه.
1 / 5
قال محمد بن عبد الوهاب: (فإذا تحققتم الخطأ بينتموه، ولم تهدروا جميع المحاسن لأجل مسألة أو مائة أو مائتين أخطأت فيهن، فإني لا أدعي العصمة) . قال ابن القيم: (فالأعمال تشفع لصاحبها عند الله، ولهذا من رجحت حسناته على سيئاته أفلح، ولم يعذب ووهبت له سيئاته لأجل حسناته) (١) . ولازم القول ليس قولا.. وعدم الإلزام لما لا يلزم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والصواب أن لازم مذهب الإنسان ليس بمذهب له إذا لم يلتزمه، فإنه إن كان أنكره ونفاه كانت إضافته إليه كذبا) . وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: (والتحقيق أن الذي يدل عليه الدليل، أن لازم المذهب الذي لم يصرح به صاحبه، ولم يشر إليه، ولم يلتزمه ليس مذهبا، لأن القائل غير معصوم، وعلم المخلوق مهما بلغ فإنه قاصر، فبأي برهان تلزم القائل ما لم يلتزمه وتقوله ما لم يقل) .
وأستسمح عن الإطالة الزائدة فما قاله الشيخ الفاضل في هذه الرسالة يشفي ويكفي فدونكم الرسالة عضوا عليها بالنواجذ.
وكتبه أخوه أبو الفضل عمر بن مسعود الحدوشي في تطوان
يوم السبت (٢٤/جمادى الثانية/١٤٢١ ٢٣/٩/٢٠٠٠) .
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده سبحانه ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ﷺ.
- يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ -
_________
(١) - انظر (مدارج السالكين) (١/٣٢٨/٣٢٩) وتاريخ نجد (٢/١٦١) .
1 / 6
- يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا -
- يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (-) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا -
أما بعد:
فإن أصدقَ الحديث كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
... فإن الناظرَ في حال أمتنا في هذه الأعصار، يتعجب من الفتن المتلاحقة التي عَمَّت البلاد والعباد، وغشِيت القلوب والأجسام، فتفتَّتت من حرِّها أكبادٌ ومهج، وتشتتت في دهاليزها أذهان وعقول، كان حَرِيًّا بها أن تكون شُموسا للمعارف يهتدي في ضوئها السالكون، وأقمارا للعلوم تشُق صفائحُ أنوارها حَنادسَ ظلام الجهل والضلال.
... فشريعة الحكيم الخبير محفوظة في أحشاء الدفاتر، وفوق خدود الطروس، لكن قوانين الغاب الجاهلية، وبُرايَة أذهان الكفرة هي المحَكَّمة في الأموال والفروج والنفوس.
... والمساجد وحلق العلم – إن وجدت – ومجالس الذكر- إن عقدت – تضِجُّ بالشكوى إلى بارئها مما يعاملها به المسلمون من الصد والهجران، بينما تعُج أماكن اللهو والخلاعة بالمرتادين، وتكتظ دور الفسق والفجور ومحادةِ الله ورسوله بالزائرين، حتى إنها لتشكو من الزحام وكثرة الوصال.
... والزوايا والتكايا والمواسمُ الشركية والأعياد الوثنية تُخرج كل يوم طوابيرَ متلاطمةً من الجهلة والمبتدعة وسَدَنة القبور وحُجَّاب الطواغيت الجاهلية.
1 / 7
.. ووسائل الإعلام العميلة – في الداخل والخارج – تقدم لشباب الأمة المنقطعين عن جذورهم، أطباقا شهية – وحفت النار بالشهوات كما قال المصطفى ﷺ – تلبي نداء غرائزهم، وتستحِثُّ شهواتهم من مكامنها، ثم تدُس لهم في تلك الأطباق سما زعافا من الإلحاد والعلمانية واللادينية.
» ... فتن كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينَه بعرض من الدنياَ «(١) .
... وأشد من هذه الفتن كلها، أن الأمة تتخبط في دَيجور من الجهل – بسيطِه ومركَّبِه – تتراءى في جَنَباتِه أنوارٌ خافتة لا تكاد تلمع حتى تخبوَ مرة أخرى. جهل بدينها، وجهل بتاريخها، وجهل بأسباب قوتها، وجهل بالمؤامرات التي تحاك لها ليلا ونهارا!!
... أليس عجبا أن تكون الأمةُ المحمدية التي خاطبها رب العزة جل ثناؤه بقوله: - كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ -، قد وصل بها الحال إلى هذا التشرذم والضياع؟!
... ثم إن هذا العجب سرعان ما يتحول إلى حسرةٍ تقض المضاجع، وألمٍ يملأ الجفونَ دمعا ساخنا، عندما تكتشف أن القائمين على إيقاظ الأمة من سُباتها، والمكلفين بإحياء القلوب والهمم، يتخبطون هم أنفسُهم في أنواع من البدع والجهالات – إلا من رحم الله.
... فهذه طائفة كبرى منتسبة إلى هذه " الصحوة الإسلامية " الواعدةِ، لا تلقي للعقيدة بالا، بل همُّها توحيد الكلمة ولو على غير كلمة التوحيد. مستعدة في تحركها إلى أن تتنازل عن أصول مقدساتها إرضاءً للجماهير. متميعةٌ في ولائها وبرائها، متلطخةٌ بأدران الديموقراطية الكفرية، متشبعة حتى النخاع بنتاجات الحضارة الغربية الملحدة.
_________
(١) - رواه مسلم في كتاب الإيمان-باب الحث على المبادرة بالأعمال قبل الفتن، برقم: ١٨٦ (ص:٧٢) .
1 / 8
.. وهذه نابتةٌ غريبة، هَجينة الأصول، متذبذبة المنهج والطريق، غامضة الغايات والأهداف، تنتسب إلى السلف، والسلفُ منها براء. همها التجريح والقدح في الآخرين، مع كونها مستكينةً إلى جبرية عقدية وسياسية بغيضة، ومتشبتةً بأذيال إرجاء عصري لقيط، صنعته بيدها ولم تستطع التخلص منه.
... وهذه فرقة شاذة صغيرة – لكن يخشى أن تتطور وتنتشر – تنسُج على منوال الخوارج، فتُكَفِّر المجتمعات وتهجرها، وتشترط شروطا طويلة لإثبات الإسلام الحكمي، ابتدعوها من أهوائهم، واصطلى المسلمون بنارها.
... أضف إلى هؤلاء كلهم، شراذم من أصحاب العقيدة الأشعرية، والسلوك الصوفي، ما زالوا يعيشون على ذكريات الماضي، وأمجاد التاريخ!
... طيف الظل من الفرق والتيارات والأهواء! !
... فإن أظلمتْ عليك الصورة يا أخي، وتساءلت في حرقة وأسى:» فأين الحق بين هذه الظلمات التي بعضها فوق بعض؟! «، فجوابُك في حديث رسول الله ﷺ:
» لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك «(١)،
... فإن قلت: فأين هي في هذا الزمان؟ أجبتك: مَنْ تأمل بعين البصيرة وجدَ ما يُؤَمِّله، ومن انتكست فطرتُه لم تُؤْمن في وهَج الشمسِ عثرتُه:
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد ... ... وينكر الفم طعم الماء من سقم
وإن أعظم ما يميز هذه الطائفة عن غيرها، أنها متمسكة بعقيدة سنية سليمة، ومتحركة وفق منهج فكري قويم، يأخذ الإسلام بشموله فلا يغفل منه شيئا.
... وإن من أهم أركان هذه العقيدة: مسائل الإيمان والكفر. وهي التي تسمى كذلك مسائل الأسماء والأحكام، وذلك لأنها أسماءٌ ذات حقيقة شرعية كالإيمان والكفر والظلم والفسق وغيرها، عُلِّقَت عليها أحكامٌ شرعية متعددة في الدنيا والآخرة.
_________
(١) - أخرجه بهذا اللفظ مسلم في كتاب الإمارة-باب قوله ﵊: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق.. برقم: ١٩٢٠ (ص:٧٩٥) وله ألفاظ أخرى.
1 / 9
.. فالإيمان أنيط به الولاءُ والمحبة في الدنيا، وتكفل الله لأهله في الدنيا بالعزة وعدم الهوان، ووعدهم في الآخرة بالجنة والفلاح والرضوان. وأما الكفر فقد علق عليه البراء والبغض من المؤمنين، وأحكام الجهاد والقتال، وأوعد الله أهله في الآخرة بالنار والبَوار والخسران.
... وعلى أهمية هذا الموضوع وخطورة ما يُبنى عليه من الأحكام، فإن كثيرا من المنتسبين إلى العلم مرتبكون في مسائله، متخَبِّطون في قضاياه تخبُّطا عجيبا. وأشد الناس غلطا فيه قوم من المرجئة العصريين متلبسون بخليط من البدع والتناقضات في هذا الباب، مع أنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
... ومن هنا كانت الحاجة متأكدة إلى جمع شتات هذا الموضوع وتقديمه إلى شباب " الصحوة "، وطلبة العلم، والدعاة إلى الله، بأسلوب ميسر، ووفق منهج علمي متناسق.
... ولقد طالما تمنيت أن أجد متنا من متون العقائد، جامعا لمسائل الإيمان، ميسَّرا لمن رغب في حفظه، أو أراد تدريسه وتعليمه للمبتدئين، مع كونه موافقا لروح العصر، معبِّرا عن التطبيقات الواقعية لهذه المسائل. لكنني لم أجد بغيتي إلى هذا الحين.
... لذلك استعنت الله ﷿ في تأليف هذه» المنظومة الإيمانية «، التي حاولت أن أجمع فيها أهم مسائل الإيمان، وأغفلت ما ليس ذا فائدة مما كثر حوله الجدال العقيم. وضمنت ذلك في مائة بيت – غير المقدمة والخاتمة – من بحر الرجز، وسميتها: "قلائد العِقْيان من مسائل الإيمان".
... ثم لما رأيت أن النفع بها لا يتم إلا بشرحٍ يحُل ألفاظها، ويقيد مطلقها، ويخصص عمومها، ويوضح مقاصدها، شرعت – مستعينا بالرب جل ثناؤه – في هذا الشرح الذي قد أتوسع فيه في بعض المواضع، فأخرج عن المذكور في المنظومة، دون أن أهجر لب الموضوع، إذ ليست المنظومةُ مقصودةً لذاتها، ولكن المقصود هو فهم هذه المسائل والإحاطة بعلمها.
... وقد قسمت الشرح - تبعا للمنظومة - إلى الأبواب والفصول التالية:
شرح خطبة المتن.
1 / 10
الباب الأول في حقيقة الإيمان، ويتضمن الفصول التالية
الفصل الأول: تعريف الإيمان لغة.
- الفصل الثاني: تعريفه شرعا عند أهل السنة ويتضمن الكلام على:
قول القلب.
قول اللسان.
أعمال القلوب.
أعمال الجوارح.
الفصل الثالث: أقوال أهل البدع في حقيقة الإيمان.
الباب الثاني في زيادة الإيمان ونقصانه، وفيه:
الفصل الأول: أدلة الزيادة والنقصان.
الفصل الثاني: أوجه الزيادة والنقصان.
الفصل الثالث: أقوال المخالفين.
الباب الثالث في الكفر وضوابط التكفير، وفيه:
تعريف الكفر لغة واصطلاحا.
قاعدة تكفير المعين وموانع التكفير.
٣- ... قواعد في التكفير. ...
الباب الرابع في نواقض الإيمان:
في الربوبية.
في الإسماء والصفات.
في الإلوهية.
في النبوات والمغيبات وأمور أخرى.
- ... ... خاتمة الكتاب.
... هذا وأسأل الله ﷿ أن ينفع بهذا العمل المتواضع من أقبل عليه بِنية التعلم والفهم، وأن يدخر لي ثوابه وأجره إلى يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
... وأرجو ممن وجد فيه عيبا أو قصورا أن يغُض الطرف عنه ويعذرني بما أنا فيه من القصور والتقصير، فإن وجد خطأ أو زللا فليُخبرني به مشكورا، فإنني - إن شاء الله تعالى - راجع إلى الحق، وما غيرَ الحقِّ أريد.
وكتبه أبو محمد المراكشي
في الرباط، جمادى الثانية، ١٤٢٠.
1 / 11
(قال) المعترفُ بتقصيره وذنبه، الفقيرُ إلى عفو ربه (أبو محمدٍ) البشيرُ (عصام) بن محمد المسفيوي المراكشي، السُّني مُعتقدا، طالبُ العلم وخادمُه، والمنافح عن اعتقاد أهل السنة والجماعة منافحةَ مَن يرى ذلك من أعظم الجهاد. ولفظُ» قال «ماض، ولكن المراد منه الاستقبالُ كما هو وارد في كلام العرب، وذكروا منه قوله تعالى: - أَتَى أَمْرُ اللَّهِ -.
(دام) أي استمرَّ وطال (له) ولإخوانه من أهل السنة والجماعة ولكافة المؤمنين (من) لابتداء الغاية (ربه) ﷾ (الإنعامُ) أي التفضل بأنواع النعم التي لا يحصرها المحصي، ولا يحيط بها المُستقصي: - وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا -.
1 / 16
(الحمد) أي جميعُ أنواعه مما علِمناه وممَّا لم يحط بعلمه إلا اللهُ ﷿، ثابتٌ (لله) جل ذكره وشأنُه، وتعاظم سلطانُه، فهو المستحقُّ سبحانه لجميع المحامد، وليس لأحد من خلقه شيء من ذلك على جهة الاستقلال. والكلام على الحمدلة طويل ومبسوط في محاله. و» الحمد لله «وما بعدها إلى آخر المنظومة في محل نصبٍ مَقولُ القول. (السلام) من أسماء الله ﷿، ومعناه السالم من جميع العيوب والنقائص لكماله في ذاته وصفاته وأفعاله، كما ذكر ابن كثير في تفسير آخر سورة الحشر (المؤمن) قال ابن عباس أي أمَّن خلقَه من أن يظلمهم (هادي) أي: موفقِ (العباد) المؤمنين إلى الإيمان والتقوى تفضلا منه سبحانه وتكرما (البارئ) أي الخالق الذي برأ البريات، وأوجد الأرضين والسموات (المهيمن) قال ابن عباس: أي الشاهد على خلقه بأعمالهم، بمعنى هو رقيب عليهم، كقوله تعالى - وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ - وغيرها من الآيات (من) أي الّذي (غمرت) أي غطت من غمر الماء غمَارة وغمورة إذا كثر كما في القاموس (نعمه) الظاهرة والباطنة (أهل التقى) مصدر اتقى يتقي بمعنى حذر، قال تعالى: - هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى - أي أهلٌ أن يتقى عقابه. وحاصل التقوى: فعل المأمور واجتناب المحظور. وإنما خصصتُ أهل التقوى مع أن نعم الله ﷿ الدنيوية يستوي فيها المؤمن والكافر، لأنهم هم الذين يشكرون هذه النعم ويستعملونها في التعرف على المنعِم بها لذلك ذكرت أنهم جعلوا التدبرَ في هذه النعم سببا في السلوك إلى ربهم ﷿، فقلت (فسلكوا) الفاء سببية (إليه) سبحانه (كل مرتقى) وهو ما يُرتقى أي يُصعد، والمعنى أنهم سعوا للوصول إلى رضا الله ﷿، بأن تلبسوا بأنواع الطاعات، وأصناف القرُبات. والسلوك مخصوص في اصطلاح المتأخرين بارتقاء مقامات الإحسان، والله أعلم.
1 / 17
(بالعلم) متعلق بسلكوا، أي العلم بالله ﷿ وبتمام ربوبيته، والعلم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، والعلم باستحقاقه لكمال العبودية، امتثالا لقوله تعالى: - فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ -، (و) بـ (الحب) الذي هو من أعظم أعمال القلوب، حتى جعله الله ﷿ ورسولُه ﷺ ركنا من أركان الإيمان كما سيأتي بيانه في محله. ثم إن محبة الله ﷿ لا تصح إلا (مع) كمال (التذلل) والإذعان له ﷾، وهذا يستلزم تمامَ المتابعة لرسوله محمد ﷺ، كما قال تعالى: - قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ -. (والخوف والرجاء) وهما الجناحان اللذان بهما يطير المؤمنُ في سلوكه إلى رب العزة ﷻ، فإذا ضعُف جناحُ الخوف أقبل العبد على المعاصي دون وَجَلٍ، واستقلَّ ذنوبَه وآثامه، وإذا ضعف جناح الرجاء أساء العبدُ الظنَّ بربه، فشدد على نفسه وعلى إخوانه، وتنطع في دين الله ﷿ (والتوكل) على الله جل ذكره: - وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ -. ولا يقدر السالك على الوصول إلى مبتغاه إلا بتخليص التوكل على بارئه ومولاهُ ﷾.
1 / 18
(وأعظم) مبتدأ خبره الجار والمجرور في عَجُز البيت (الصلاة والتسليم) وأزكاهما وأشرفهما (على الحبيب) الذي محبته من الإيمان، كما في الحديث الصحيح:» لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين «(١) (المصطفى) المجتبى المختارِ لأداء الرسالة العظيمة، وتحمل الأمانة الجسيمة (الرحيم) بأمته، الذي وصفه ربه بقوله: - بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ -. ثم الكلام على الصلاة والسلام على خير الأنام، أطول من أن أحيط به في هذه العجالة، فلينظر في الكتب المخصصة له، مثل "جلاء الأفهام" لابن القيم و"القول البديع" للسخاوي وغيرهما.
(مَن) أي: الذي (أشرقَت) أي بزغت وطلعت (مِن) سَنَا (نورِه) الهادي إلى الحق بإذن الله تعالى (الأنوارُ) فاعل أشرقت، فكل نور من أنوار الهداية مستمد من نوره، وكل داعية إلى الخير لا بد مقتبسٌ من الخير الذي أُرسل به، بأبي هو وأمي ﷺ.
(فانفتحت) الفاء سببية، بفعل تلك الأنوار الهادية إلى الحق (على الهدى) والتقوى والصلاح (الأبصار) أي البصائر، وهي أعينُ الأفئدة والأرواحِ.
(وانبجست) معطوف على انفتحت، أي نبعت من بجس الماء والجرح يبجسه ويبجسه إذا شقه، وبجَّسه بالتشديد تبجيسا: فجَّره فانبجس، (عينُ الصلاح) والهدى (من يده) الشريفة، أي من جهاده ودعوته، وهذا انبجاس معنوي مشبهٌ بالانبجاس الحسي الثابت في معجزاته الحسية ﷺ.
_________
(١) - رواه البخاري في كتاب الإيمان-باب: حب الرسول ﷺ من الإيمان، برقم: ١٥ (ص:٢٦)، ومسلم في الإيمان، برقم:٤٤ (ص:٥٠) .
1 / 19
(وأخمد) معطوف على انفتحت، أي أطفأ (الكفرَ) أي: نارَه الخبيثةَ (سنا) وهو الضوء كما في المصباح، أو ضوء البرق، أو الضوء الساطع، أقوالٌ، (مهنده) أي سيفِه البتار، من هند السيف إذا شحذه. وقد ثبت في الحديث:» نصرت بالرعب مسيرة شهر (١) «، وثبت عنه ﷺ أنه قال لمشركي قريش:» أما إني قد جئتكم بالذبح «(٢) وقال ﵊:» أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله «(٣) وهذا الأمر مما علم بالاضطرار من سيرة المصطفى المختار ﷺ.
(وبعد) مبني على الضم لقطعه عن الإضافة، والمعنى: مهما يكن من شيء بعد حمد الله ﷿ والصلاة والسلام على رسوله محمد ﷺ، فـ (هذا) الذي بين يديك أيها القارئ (رجز) أي نظمٌ موضوعٌ على بحر الرجَزِ، وهو مستفعلن ستَّ مرات، من صفته أنه (مفيد) ونافع (لقارئٍ) ودارس ومعلم ومتعلم مِن نعته وصفته أنه (نورَ) مفعول به مقدم وهو مضاف (الهدى) مضاف إليه (يريد) أي يطلب ويقصد. وهذا النظم ميسر للحفظ، مهيء للتدريس، جامع للمقصود، والحمد لله ﷾.
(موضوعه) أي: هذا الرجز (مسائل الإيمان) أي أهمها وأنفعها، (أرجو) أي أؤمل (بـ) نظمـ (ـه إحسان) وتفضل ومنة الله (ذي الإحسان) والجود والكرم.
_________
(١) - رواه البخاري في مواضع منها كتاب التيمم، برقم: ٣٣٥ (ص:٨٦)، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، برقم: ٥٢١ (ص:٢١١) .
(٢) - رواه أحمد وابن حبان والبزار من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وقال الهيثمي: "وقد صرح ابن إسحق بالسماع، وبقية رجاله رجال الصحيح"، وصححه الشيخ الألباني.
(٣) - رواه البخاري في الإيمان، برقم:٢٥ (ص٢٨)، ومسلم في الإيمان، برقم:٢٢ (ص٤٣) .
1 / 20
(وأسأل الرحمان واسع الكرم) ﷻ أن يمن علي وعلى والديَّ وعلى أهل بيتي ومشايخي وإخواني من أهل السنة والجماعة وعلى كافة المؤمنين الموحدين، بشيء (من الثواب) الجزيل (والهبات) الوافرة (والنعم) المستديمة، إنه ﷾ أكرم مسؤول، وأرجى مأمول، لا تغيض بحارَ خزائنِه نفقتُه، ولا تضيقُ بالسائل المضطرِّ مغفرتُه.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
الباب الأول: حقيقة الإيمان
الفصل الأول: تعريفُ الإيمان لغةً
قلت في النظم:
في اللغةِ الإيمانُ كالإقرارِ
وكونُه التصديقَ بالأخبارِ
عندَ المُحققينَ لا يُسَلمُ
لأوجهٍ من الفُروقِ تُعلمُ
(في اللغة) متعلقٌ بالإيمان (الإيمانُ) مبتدأ خبره (كالإقرار) الكاف للتشبيه، وهذا يفيد التغايُرَ بينَ مُسمَّيَيِ الإيمانِ والإقرارِ، إذ الأصل أن المشبَّهَ ليس في قوةِ المشبهِ به: وقد يُعكس في التشبيهِ المقلوبِ، وفي الحالتين معا فهما مختلفان إجمالا، وإن اتفقا في بعض الأمورِ، فأنت لا تشبِّهُ الشيءَ بما هو مرادف له. وسيأتي كلام شيخ الإسلامِ ابن تيميةَ ﵀ في هذه المسألة، بحول الله تعالى.
1 / 21
(وكونُه) مبتدأ، والضمير عائد على الإيمان اسم الكون و(التصديق) خبره منصوب، وهو مصدر صدَّق يصدِّق إذا نسبه إلى الصدق و(بالأخبار) متعلق بالتصديق، وهو جمع خبر، والخبرُ – وهو قَسيم الإنشاء – هو ما احتمل الصدقَ والكذبَ لذاته، أي لغير قرينة خارجية، فبعض كلام الله تعالى خبر مع أنه لا يحتملُ غيرَ الصدق، ولكن ذلك لقرينة خارجية وهي الجزمُ بصدقِ المتكلِّم به (عند المحققين) أي العلماء المدققين في الفهم والتمحيص، الغائصين وراء دُرَرِ المعاني (لا يسلم) به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ: "كونه" (لأوجه) متعلق بلا يسلم (من الفروق) اللفظية والمعنوية بين الإيمان والتصديق (تعلم) لمن تأمل هذه القضية بعيدا عن التعصب لما دَرَج عليه المتأخرون من اللغويين والمتكلمين من الترادف بين اللفظتين، حتى كاد أن يكون إجماعا لديهم.
وحاصل هذا المبحث أن الإيمانَ في اللغة مصدرُ آمن يُؤمِنُ إيمانا فهو مؤمن، قال الجوهري: أصل آمن أأمن بهمزتين لُيِّنت الثانية. واشتقاقه من الأمن، كما في القاموس (١) وغيره، وأصل الأمن كما ذكر الراغب: طمأنينة النفس وزوال الخوف (٢) . قال شيخ الإسلام في الصارم المسلول:» فإن اشتقاقه من الأمن الذي هو القرار والطمأنينة. وذلك إنما يحصل إذا استقر في القلب التصديقُ والانقياد «(٣) . قال الزمخشري في الكشاف:» الإيمان إفعال من الأمن، ثم يقال آمنه إذا صدقه، وحقيقته آمنه من التكذيب والمخالفة «(٤) .
_________
(١) - القاموس المحيط: ١٠٦٠.
(٢) - مفردات ألفاظ القرآن: ٩٠.
(٣) - الصارم المسلول: ٥١٩.
(٤) - الكشاف: ١/٤٧.
1 / 22
هذا عن الاشتقاق اللغوي للفظة الإيمان، أما معناه في اللغة، فاختلفوا فيه على أقوال، منها ما ذكره الفيروزأبادي:» هو الثقة، وإظهار الخضوع، وقبول الشريعة «(١)، ولعله لاحظ المعنى الاصطلاحي أيضا. ومنها الطمأنينة والإقرار. لكن أشهرها هو التصديق، قال الألوسي:» والإيمان في اللغة التصديق أي الإذعان لِحُكمِ المُخبِر وقَبولُه وجعله صادقا «(٢) . ولعل الأصح أن يقول» ونسبته إلى الصدق «بدل» وجعله صادقا «إذ المخبر إما صادق وإما كاذب في نفس الأمر، لا بجعل جاعل، والله أعلم. وتأمل في هذا التعريف الذي ذكره الألوسي، كيف أنه جعل التصديق شاملا للإذعان والقبول!
بل نقل الزَّبيدي الاتفاقَ على أنه التصديق فقال:» الإيمان هو التصديق وهو الذي جزم به الزمخشري في الأساس واتفق عليه أهلُ العلم من اللغويين وغيرهم، وقال السعد رحمه الله تعالى: إنه حقيقة «(٣)، أي ليس مجازا.
ورغم شهرة تعريف الإيمان لغة بالتصديق، فإن لشيخ الإسلام ابن تيمية نظرا في هذه المسألة، ذكره في كتاب الإيمان. وحاصله أن هناك فرقا بين الإيمان والتصديق لأوجه (٤):
الوجه الأول: أن بينَهما فرقا من جهة التعدي، وهو فرق في اللفظ. وذلك أنه يقال للمخبر: صدَّقَه، ولا يُقال آمَنَه بل آمن به أو آمَن له. كما قال تعالى: ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ﴾ وقال: ﴿فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ﴾ وقال فرعون: ﴿قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ﴾ إلى غيرها من الآيات. فالصدق يتعدى بنفسه بخلاف الإيمان، فلا يقال آمنته، إلا من الأمان الذي هو ضدُّ الإخافة.
_________
(١) - القاموس: ١٠٦٠.
(٢) - روح المعاني: ١/١١٠.
(٣) -تاج العروس:.
(٤) -مجموع الفتاوى: ٧/٢٩٠ و٧/٥٣٠ (بتصرف واختصار) .
1 / 23
فإن قيل: فقد يقال: ما أنت بمصدق لنا. فالجواب أن اللام تدخل على ما يتعدى بنفسه إذا ضعُف عملُه، إمَّا بتأخيره أو بكونه اسمَ فاعلٍ أو مَصدرا، أو باجتماعهما، فيقال فلان يعبد الله ويخافه ويتقيه، ثم إذا ذكر باسم الفاعل قيل، هو عابد لربه، متق لربه، خائف لربه، كما أنه إذا ذكرتَ الفعل وأخرتَه، تُقوِّيه باللام كقوله: ﴿وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾ وقوله ﴿إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾ مع أنك تقول: يرْهَب ربه ويعبر رُؤياه.
الوجه الثاني: أن لفظَ الإيمانِ ليس مُرادفا للفظ التصديق في المعنى، فإن كلَّ مُخبر عن مشاهدة أو غيب يقال له في اللغة: صدقت، كما يقال: كذبت، وأما لفظ الإيمان فلا يُستعملُ إلا في الخبر عن غائبٍ، وذلك أنه مشتق من الأمن، فإنما يستعمل في خبرٍ يُؤتمن عليه المخبر، كالأمر الغائب، ولهذا لم يوجد قط في القرآن وغيره لفظ آمن له إلا في هذا النوع.
الوجه الثالث: أن لفظ الإيمان في اللغة لم يقابَلْ بالتكذيب كلفظ التصديق، بل المعروف في مقابلة الإيمان لفظ الكفر، يقال هو مؤمن أو كافر، والكفر لا يختص بالتكذيب، بل لو قال: أنا أعلم أنك صادقٌ لكن لا أتبعك، بل أعاديكَ وأُبْغِضُك وأخالفك ولا أوافقك، لكان كفرُه أعظم، فلما كان الكفر المقابل للإيمان ليس هو التكذيب فقط، عُلم أن الإيمان ليس هو التصديق فقط.
الوجه الرابع: أن الإيمانَ في اللغة مشتق من الأمن الذي هو ضد الخوف، فهو متضمن مع التصديق معنى الائتمان والأمانة كما يدل عليه الاستعمالُ والاشتقاق، أما التصديق فلا يتضمن شيئا من ذلك.
1 / 24