Explanation of the Creed of Imam Muhammad ibn Abd al-Wahhab
شرح عقيدة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب
اصناف
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله تعالى – في رسالته إلى أهل القصيم لما سألوه عن عقيدته:
بسم الله الرحمن الرحيم
أشهد الله، ومن حضرني من الملائكة، وأشهدكم أني أعتقد ما اعتقدته الفرقة الناجية، أهل السنة والجماعة.
قوله: «أشهد الله ومن حضرني من الملائكة وأشهدكم»، كأن هذا مأخوذا من قوله تعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ﴾ [آل عمران: ١٨]، فهو يشهد الله – جل وعلا -، ويشهد الملائكة، ويشهد العلماء على عقيدته، وأنه ما جاء بشيء جديد أو بتغيير لدين الله كما يقال عنه، وإنما جاء بالحق الصريح.
وقوله: «أني أعتقد ما اعتقدته الفرقة الناجية»، عقيدة الفرقة الناجية هي التي قال فيها النبي ﷺ: «ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي» .
1 / 15
سميت الناجية لأنها نجت من النار، كل هذه الفرق في النار إلا هذه الفرقة، فهي الناجية من النار، وهذه أوصافها:
أولا: أنها الناجية.
ثانيا: أنهم أهل السنة، الذين يأخذون بالسنة، وهي طريقة الرسول ﷺ. وهي تعني القرآن وتعني الأحاديث الصحيحة، ما كان عليه الرسول ﷺ؛ كما قال: «من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي»، ولم يأخذوا بمذهب الجهمية أو المعتزلة أو الخوارج أو غيرهم من الفرق، إنما أخذوا منهج أهل السنة المتمسكين بالسنة.
ثالثا: «والجماعة»، سموا بالجماعة؛ لأنهم مجتمعون على الحق، ليس بينهم اختلاف، لا يختلفون في عقيدتهم، إنما عقيدتهم واحدة، وإن كانوا يختلفون في المسائل الفقهية والمسائل الفرعية المستنبطة، فهذا لا يضر، الاختلاف في الفقه لا يضر؛ لأنه ناشئ عن اجتهاد، والاجتهاد يختلف، والناس ليسوا على حد سواء في ملكة الاجتهاد، أما العقيدة فإنها لا تقبل الاجتهاد، بل يجب أن تكون واحدة؛ لأنها توقيفية، قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: ٩٢]، هذه أمة واحدة لا تقبل الاختلاف، تعبد ربا واحدا، وفي الآية الأخرى: ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [المؤمنون: ٥٢، ٥٣] .
ذم الذين اختلفوا؛ لأن الاختلاف في العقيدة لا يجوز، فالله أمرهم أن يكونوا أمة واحدة فعصوه، ﴿فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا﴾، أي:
1 / 16
كتبا؛ كما قال قتادة ومجاهد، كل واحد عنده كتاب، وكل واحد عنده عقيدة، وعقيدة هذا غير عقيدة هذا، ﴿كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ كل يرى أنه على الحق وغيره على الباطل، لا يقول: نرجع إلى كتاب الله وسنة رسول الله كما قال تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [النساء: ٥٩]، بل كل يقول إنه على الحق وحده ﴿كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ ومقتنع بما لديه، بل ومتعصب له، ولا يرى أن قوله عرضة للخطأ والصواب.
1 / 17
من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره.
هذه أصول الإيمان وأركانه، يؤمن بها الشيخ، وهي: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره؛ كما في حديث جبريل لما سأل النبي ﷺ بحضرة أصحابه، فقال: «أخبرني عن الإيمان، فقال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره» . قال العلماء: هذه أركان الإيمان.
والإيمان له أركان، وله شعب، أركانه ستة، وشعبه: «بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها: قول لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق..»، فالإيمان له شعب كثيرة، وأما أركانه – أي جوانبه التي يقوم عليها – فهي ستة أركان:
الركن الأول: الإيمان بالله، وهو الأساس، والإيمان بالله يشمل أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.
الركن الثاني: الإيمان بالملائكة، أنهم عباد من عباد الله تعالى لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يأتمرون، خلقهم الله من نور، وهم من عالم الغيب الذين لا نراهم، ولكن نؤمن بهم، وقد جعلهم الله أصنافا، كل صنف من الملائكة له عمل يقوم به في هذا الكون، فمنهم الحفظة الذين يحفظون أعمال بني آدم ويكتبونها ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾
1 / 18
[الانفطار: ١٠ – ١٢]، ومنهم حملة العرش، ومنهم الموكل بالوحي وهو جبريل ﵇، ومنهم الموكل بالقطر وهو ميكال، ومنهم الموكل بالموت: وهو ملك الموت، ومعه ملائكة الموت، ومنهم أصناف لا يعلمها إلا الله ﷾: ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾ [المدثر: ٣١]، جنود الله ﷿ كثيرة.
الركن الثالث: الإيمان بالكتب التي أنزلها الله على الرسل، فالله – جل وعلا – أرسل الرسل وأنزل الكتب من عنده سبحانه، بوحيه وشرائعه وأمره ونهيه، منها التوراة، ومنها الإنجيل، ومنها الزبور، ومنها القرآن، ومنها كتب لم يذكرها الله لنا، ولكننا نؤمن بها جملة، ونؤمن بما ذكره الله باسمه مفصلا، وآخرها وأعظمها: القرآن العظيم الذي أعجز الثقلين – الجن والإنس – على أن يأتوا بسورة واحدة من مثله.
الركن الرابع: الإيمان بالرسل الذين أرسلهم الله بشرائعه ودينه لهداية خلقه، الله – جل وعلا – أرسل الرسل ليبين للناس ما يضرهم وما ينفعهم، ويبين لهم دينهم، والله – جل وعلا – أقام الحجة بهم ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء: ١٦٥]، أما عددهم فلا يعلمهم إلا الله، وهم كثيرون، ومنهم من سمى الله لنا في قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: ٨٣ – ٨٦] . فهؤلاء سماهم الله،
1 / 19
فنؤمن بهم بأعيانهم، ومن لم يسمه الله نؤمن به جملة.
قال الله – جل وعلا -: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ﴾ [غافر: ٧٨]، فنؤمن بهم جميعا من سمى الله، ومن لم يسم منهم، فمن كفر بنبي واحد كفر بالجميع، فلا بد من الإيمان بهم جميعا، ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا﴾ [النساء: ١٥٠، ١٥١]، والله – جل وعلا – قال لنا: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: ١٣٦] .
الركن الخامس: الإيمان باليوم الآخر، وهو البعث بعد الموت؛ لأن الدنيا دار عمل، والآخرة دار جزاء، والدنيا مزرعة للآخرة، فهي دار عمل وليس فيها جزاء، والآخرة دار جزاء وليس فيها عمل، لا بد من الإيمان باليوم الآخر، من لم يؤمن باليوم الآخر فهو كافر، قال تعالى: ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ﴾ [التغابن: ٧]، أيها الإنسان تعيش في هذه الدنيا وتأكل وتشرب وتكفر وتفسق كأنه ليس أمامك بعث وحساب وجزاء، فالله – جل وعلا – جعل الآخرة للجزاء، وهذا عدل منه سبحانه أنه لا يضيع عمل العاملين، يجازي كلا بعمله: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ [المؤمنون: ١١٥]، لو لم يكن هناك بعث لصار الخلق عبثا، والله سبحانه منزه عن العبث.
الركن السادس: الإيمان بالقدر، والقدر هو سر الله – جل وعلا -،
1 / 20
والقدر هو ما قدره الله مما كان وما يكون إلى أن تقوم الساعة، جرى القلم بالمقادير، وكتب في اللوح المحفوظ ما هو كائن إلى يوم القيامة، فلا يقع شيء إلا بقدر ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: ٤٩]، فالأمور ليست عبثا أو أنفا، بل هي مقدرة من قبل ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا﴾ [الحديد: ٢٢]، قوله: ﴿كِتَابٍ﴾ هو اللوح المحفوظ، وقوله: ﴿قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا﴾ يعني: نخلقها ونوجدها.
والإيمان بالقدر على أربع مراتب:
المرتبة الأولى: الإيمان بعلم الله – جل وعلا – الأزلي الأبدي المحيط بكل شيء، أي: نعتقد أن الله علم كل شيء، علم ما كان وما يكون.
المرتبة الثانية: الإيمان بأن الله كتب في اللوح المحفوظ ما هو كائن إلى يوم القيامة.
المرتبة الثالثة: مرتبة المشيئة والإرادة، ما شاءه الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
المرتبة الرابعة: مرتبة خلق الأشياء في أوقاتها المقدرة لها، كل شيء في وقته، كل شيء في حينه الذي قدره الله - جل وعلا -.
لا بد من الإيمان بهذه المراتب الأربع: مرتبة العلم، مرتبة الكتابة، مرتبة المشيئة، مرتبة الخلق والإيجاد. هذا هو الإيمان بالقضاء والقدر.
1 / 21
ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله ﷺ من غير تحريف ولا تعطيل.
لما ذكر أركان الإيمان بين ما يدخل في الأول، وهو الإيمان بالله، أنه يدخل فيه الإيمان بالأسماء والصفات، فمن جحد الأسماء والصفات لم يكن مؤمنا بالله الإيمان الصحيح، وهذا رد على المعطلة الذين عطلوا أسماء الله وصفاته لأنهم لم يؤمنوا بالأسماء والصفات.
فمن الإيمان بالله الإيمان بأسماء الله وصفاته الواردة في الكتاب والسنة «من غير تحريف ومن غير تعطيل»، التحريف: هو التغيير، أي: تغيير الألفاظ، أو تغيير المعاني، هذا هو التحريف.
تحرف الألفاظ بأن يزاد فيها أو ينقص، مثل: «استوى» قالوا: «استولى»، هذا تحريف لفظ، حيث زادوا حرفا.
ومن تحريف المعنى: تفسير الاستواء بالاستيلاء، وتفسير اليد بالقدرة، وتفسير الوجه بالذات، هذا من تحريف كلام الله ﷿، قال تعالى: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ [النساء: ٤٦] .
قوله: «ومن غير تعطيل»، التعطيل هو: جحد الأسماء والصفات وإخلاء الله منها.
1 / 22
بل أعتقد أن الله ﷾: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: ١١]، فلا أنفي عنه ما وصف به نفسه، ولا أحرف الكلم عن مواضعه، ولا ألحد في أسمائه وآياته.
المؤلف – رحمه الله تعالى – يعتقد ما دلت عليه هذه الآية؛ لأنها ميزان في جميع الأسماء والصفات ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ في أسمائه وصفاته، وإن كانت أسماؤه تشترك مع أسماء المخلوقين في ألفاظها ومعانيها لكن لا تشبهها في حقيقتها وكيفيتها، فالاشتراك في اللفظ وأصل المعنى لا يقتضي الاشتراك في الحقيقة والكيفية؛ كما قال تعالى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ في هذا رد على المعطلة، فنفى عن نفسه المثلية، وأثبت لنفسه الأسماء والصفات، السمع والبصر، فدل على أن إثبات الأسماء والصفات لا يقتضي التشبيه. وقوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ هذا فيه نفي ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ هذا فيه إثبات، نفى عن نفسه المثلية، وأثبت لنفسه الأسماء والصفات.
وقوله: «لا أنفي عنه ما وصف به نفسه»؛ كما فعلت المعطلة.
وقوله: «لا ألحد»، الإلحاد في اللغة هو: الميل، والإلحاد في الأسماء والصفات هو: الميل بها عن مدلولها إلى مدلول باطل؛ كتفسير الوجه بالذات واليد بالقدرة أو النعمة، وهكذا. هذا تحريف للكلم عن مواضعه، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا﴾ [فصلت: ٤٠]، ﴿يُلْحِدُونَ﴾ يعني: يميلون بها إما بجحدها كما فعلت المعطلة، وإما بتشبيهها بصفات خلقه كما فعلته الممثلة، وإما بالزيادة عليها شيئا لم يثبته الله ولا رسوله ﷺ، وإما بجعلها أسماء للأصنام كاللات والعزى ... إلى آخره.
1 / 23
ولا أكيف، ولا أمثل صفاته تعالى بصفات خلقه؛ لأنه تعالى لا سمي له ولا كفؤ، ولا ند له، ولا يقاس بخلقه، فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلا وأحسن حديثا.
هذا القسم الثاني من الضلال في أسماء الله وصفاته: الممثلة، زادوا في الإثبات وغلوا في الإثبات، ولم يفرقوا بين صفات الله وصفات خلقه، ولا يبين أسمائه وأسماء خلقه، هؤلاء مشبهة والعياذ بالله؛ ولهذا قال أهل العلم: «المعطل يعبد عدما والممثل يعبد صنما» . فقولهم: المعطل يعبد عدما؛ لأن الذي ليس له أسماء وصفات: عدم، والممثل يعبد صنما من البشر؛ لأنه جعل الله مثل البشر، تعالى الله عن ذلك.
فقوله: «ولا أكيف، ولا أمثل صفاته تعالى بصفات خلقه»، يعني: لا أعلم كيفيتها ولا مثليتها، وإنما هذا من علم الله - جل وعلا -، لا يعلم كيفية صفاته إلا هو، ولا يعلم كيفية ذاته إلا هو ﷾ ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه: ١١٠]، فالمؤمنون يعلمون ربهم، وأنه هو ربهم وخالقهم، ويعلمون وجوده وكماله، لكن لا يحيطون به.
وقوله: «لا سمي له»، يعني: لا أحد يستحق اسمه على الحقيقة، وليس معنى «لا سمي له»: لا أحد يسمى باسمه؛ لأنه يسمى المخلوق: العزيز، والملك، يسمى المخلوق بما يوافق اسم الخالق في الحروف
1 / 24
والمعنى، لكن لا يوافقه في الكيفية، فمعنى «لا سمي» يعني: لا أحد يستحق اسمه على الحقيقة؛ كما قال تعالى: ﴿فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [مريم: ٦٥]، أي لا أحد يساوي الله - جل وعلا – في أسمائه وصفاته.
وقوله: «ولا كفؤ»؛ كقوله تعالى: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: ٤]، أي لا أحد يكافيه سبحانه ويساويه - جل وعلا -.
وقوله: «ولا ند له»، الند: هو المثيل أيضا ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾ جمع ند، وهو المثيل، ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ﴾ [إبراهيم: ٣٠]، فالذين عبدوا الأصنام جعلوها أندادا لله، مشابهة له ﷾، وإلا لماذا عبدوها معه؟ ولهذا يوم القيامة يقولون: ﴿تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء: ٩٧، ٩٨]، يعترفون أنهم ساووهم برب العالمين في الدنيا، فاستحقوا النار يوم القيامة من باب التحسر. قال تعالى: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ [الأنعام: ١]، ﴿يَعْدِلُونَ﴾ يعني: يساوون به غيره من المخلوقين.
وقوله: «ولا يقاس بخلقه»، فهو سبحانه لا يقاس بخلقه في أسمائه وصفاته، فالأسماء والصفات وإن كانت تشترك في اللفظ وجملة المعنى لكنها تختلف في الحقيقة والكيفية.
وقوله: «فهو سبحانه أعلم بنفسه وبغيره»، هو أعلم بنفسه وأما غيره فلا يعلم عن الله إلا ما علمه الله - جل وعلا -؛ الملائكة تقول: ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾ [البقرة: ٣٢]، والله - جل وعلا – يقول لنبيه: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: ١١٤]، والله - جل وعلا – يقول: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: ٧٦]، ويقول: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾
1 / 25
[الإسراء: ٨٥]، فهو سبحانه أعلم بنفسه وبغيره، وأما غيره فلا يعلم حقيقة الله وكيفية الله - جل وعلا -، لا يعلمها إلا الله ﷾.
وقوله: «وأصدق قيلا وأحسن حديثا»؛ كما في القرآن: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا﴾ [النساء: ١٢٢]، ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾ [النساء: ٨٧]، لا أحد أحسن من الله ولا أصدق من الله، والله قال في كتابه أنه سميع، وأنه بصير، وأنه حكيم، وأنه عليم، وأن له وجها، وأن له يدين، قال هذا عن نفسه ﷾، فهو أعلم بنفسه.
ثم يأتي هؤلاء المعطلة ويقولون: هذا لا يليق بالله، ما يليق بالله أن يقال: له وجه، ولا يقال: له يد، ولا يقال: إنه سميع ولا بصير؛ لأن هذه الصفات في الخلق موجودة وإذا أثبتناها شبهنا الله بخلقه!!.
1 / 26
فنزه نفسه عما وصفه به المخالفون من أهل التكييف والتمثيل، وعما نفاه عنه النافون من أهل التحريف والتعطيل، فقال: ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الصافات: ١٨٠ – ١٨٢] .
نزه نفسه ﷾ عن مذهب الطائفتين – مذهب الممثلة، ومذهب المعطلة – وأثبت لنفسه الأسماء والصفات على ما يليق بحلاله ﷾؛ ولهذا قال: ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [الصافات: ١٥٩]، وقال: ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الطور: ٤٣]، نزه نفسه عن ذلك.
هذا هو المذهب الحق، وهو الذي عليه أهل السنة والجماعة، وهو الذي قال الشيخ – ﵀ – إنه عقيدته ومعتقده.
قال تعالى: ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾، نزه نفسه عما يصفه به أهل التعطيل وأهل التمثيل، ثم قال: ﴿وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ﴾ سلم عليهم لسلامة ما قالوه في الله ﷿ لسلامته من العيب والنقص، فالمرسلون وصفوا الله بما وصف به نفسه؛ لذلك سلم الله عليهم، وختم الآيات بقوله: ﴿وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ له الثناء كله والحمد كله، لا يستحقه إلا هو ﷾.
فهل بعد هذا البيان يظن أحد أن الشيخ عنده شيء يخالف به أهل العلم كما يتهمه خصومه؟ الجواب: لا، فهذه عقيدته واضحة نقية مما يرمونه به من الشبهات.
1 / 27
والفرقة الناجية وسط في باب أفعاله تعالى بين القدرية والجبرية.
لما ذكر الشيخ ﵀ في أول الرسالة أصول الإيمان، وهي: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خير وشره، وبين أنه على عقيدة السلف في أسماء الله وصفاته مخالفا بذلك فرقتي المعطلة والمشبهة والممثلة، وقرر هذا الأصل، الذي هو داخل في الإيمان بالله ﷿؛ لأن الإيمان بالله يشمل: الإيمان بتوحيد الربوبية، والإيمان بتوحيد الألوهية، والإيمان بتوحيد الأسماء والصفات.
ثم ذكر في هذه الجملة ما يتعلق بالأصل الأخير وهو الإيمان بالقدر؛ لأن هذا وقع فيه خلاف وتفرق بين طوائف القدرية والجبرية.
أما القدرية فالمراد بهم: الذين ينفون القدر، وهم المعتزلة أتباع واصل بن عطاء، سموا بالمعتزلة لأنهم اعتزلوا مجلس الحسن البصري ﵀، وكونوا لهم جماعة وتبنوا مذهبا في التوحيد يخالف مذهب أهل السنة والجماعة. وأيضا في أصول الإيمان جعلوا لهم أصولا غيرها، وهي الأصول الخمسة، وهي:
الأول: التوحيد، ويريدون به نفي الصفات، يسمون نفي الصفات توحيدا؛ لأن إثبات الصفات يقتضي تعدد الآلهة عندهم.
والثاني: العدل، ويريدون به نفي القضاء والقدر؛ لأنهم يقولون: إثبات القضاء والقدر يلزم عليه الجور والظلم في حق الله تعالى، حيث يعذب عباده على شيء قدره عليهم.
1 / 28
والثالث: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويريدون به الخروج على ولاة الأمور، فالذي يخرج على الولاة، هذا هو الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر عندهم.
والرابع: المنزلة بين المنزلتين، وهذه هي التي خالفوا واعتزلوا من أجلها مجلس الحسن، لما سئل الحسن ﵀ عن حكم مرتكب الكبيرة، أجاب بما عليه أهل السنة والجماعة، قال: «هو مؤمن ناقص الإيمان»، فلا يكفر كما تكفره الخوارج، ولا يوصف بالإيمان الكامل؛ كما تقوله المرجئة، بل هو مؤمن ناقص الإيمان، فهو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته.
فلما أجاب الحسن بهذا الجواب، وكان واصل بن عطاء تلميذا له، قال: أنا أقول: إنه لا مؤمن ولا كافر، بل هو في المنزلة بين المنزلتين، يخرج من الإيمان ولكنه لا يدخل في الكفر، فهو في المنزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر، فإن مات ولم يتب فإنه يكون خالدا في النار؛ كما تقوله الخوارج، فأحدثوا القول بالمنزلة بين المنزلتين وعرفوا بذلك.
والخامس: إنفاذ الوعيد، ويريدون به أن النار لا يخرج منها من دخلها، فأوجبوا خلود مرتكب الكبيرة من أهل القبلة في النار، وقالوا: من استحق العذاب لا يستحق الثواب.
ومحط البحث الآن في الأصل الثاني وهو العدل، وأما مرتكب الكبيرة فيأتي بعده مباشرة.
1 / 29
فالعدل: وهو نفي القدر عندهم، وهذا غلط فيه المعتزلة والجبرية، وهما على طرفي نقيض.
فالمعتزلة يقولون: إن العبد يستقل بفعله وليس لله فيه قضاء ولا قدر، وإنما العبد هو الذي يستقل بفعله، والأمر أنف - يعني مستأنف – لم يقدر ولم يكتب في اللوح المحفوظ، وغلاتهم يقولون: ولم يعلمه الله قبل وقوعه. فينفون العلم، وهؤلا كفار بلا شك؛ لأنهم إذا نفوا العلم فهم كفار.
أما جمهورهم فيقولون: الله يعلمه ولكنه لم يقدره، وإنما علم أن هذا سيقع لكنه بدون تقدير منه ﷾.
وشيخ الإسلام ابن تيمية في «الواسطية» يقول: إن الصنف الأول وهم الذين ينفون العلم انقرضوا. أو القائل به منهم قليل في وقت الشيخ، أما الآخرون فلا يزالون إلى الآن باقون يقولون: إن الله يعلمه لكن لم يقدره، وإنما العبد هو الذي أحدثه بدون أن يقدره الله عليه.
هؤلاء هم القدرية، سموا بالقدرية لأنهم ينفون القدر، فيغلون في إثبات أفعال العباد ويقولون: هم الذين يوجدونها بدون أن يقدرها الله عليهم.
وأما الجبرية: فهم الجهمية ومن أخذ بقولهم، فهم على النقيض، يغلون في إثبات القدر والمشيئة وينفون أفعال العباد، ويقولون: العبد مجبور ليس له اختيار في أفعاله، وإنما يحرك كما تحرك الريشة في الهواء، أو هو كالميت بين يدي الغاسل يقلبه، ليس له اختيار. فهم
1 / 30
غلوا في إثبات القدر وإرادة الله ﷾، ونفوا أفعال العباد، واعتبروهم مجبرين على أفعالهم ليس لهم فيها اختيار ولا مشيئة، ولذلك سموا بالجبرية لأنهم يقولون بالجبر.
أهل السنة والجماعة توسطوا – كما هي عادتهم في كل أمور الدين هم وسط فيها – فأثبتوا أن للعبد فعلا ومشيئة واختيارا، ولكنه لا يخرج بذلك عن مشيئة الله وإرادته، فأثبتوا للعبد مشيئة واختيارا وإرادة وأفعالا، خلافا للجبرية، ولكنه لا يخرج عن قضاء الله وقدره، خلافا للقدرية، وهذا هو الذي تدل عليه الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، فلولا أن للعبد مشيئة واختيارا وقدرة لما عذبه الله على أفعاله، فلو كان مجبرا – كما تقوله الجبرية – لم يعذبه الله على أفعال ليس له فيها اختيار.
ومن أدلة أهل السنة والجماعة قوله تعالى: ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [التكوير: ٢٨، ٢٩]، قوله: ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ﴾ دل على أن الإنسان يستقيم على طاعة الله بمشيئته لا يجبر على ذلك، إما أن يستقيم وإما أن يعصي، فهو الذي يؤمن وهو الذي يكفر، وهو المؤمن، والكافر، والفاسق، والزاني، والسارق، والشارب، هو نفسه.
فأثبت للعبد مشيئة في قوله: ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ﴾، ثم قال: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾، هذا رد على القدرية، فأول الآية رد على الجبرية، وآخرها رد على القدرية، فالآية فيها رد على الطائفتين.
وقوله: ﴿لِمَنْ شَاءَ﴾ هذا رد على الجبرية الذين ينفون مشيئة العبد وإرادته، وأنه يحرك بدون اختيار منه، وقوله: ﴿إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ رد على القدرية الذين ينفون القدر ويغلون في إثبات مشيئة العبد،
1 / 31
ويقولون: إن العبد يشاء ولو لم يشأ الله ولو لم يقدر الله، هو يفعل ويشاء بابتداعه وإيجاده هو. وبعضهم يقول: الله لا يعلم أفعاله قبل أن تقع، وهؤلاء هم الغلاة، وبعضهم يقول: يعلمها لكنه لم يقدرها. هذا هو ملخص البحث في هذه المسألة.
والقضاء والقدر ثابت في كتاب الله وفي سنة رسوله ﷺ، قال الله تعالى: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [الفرقان: ٢]، وقال: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: ٤٩]، وقال: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [التكوير: ٢٩] .
وفي السنة: حديث جبريل لما قال للرسول ﷺ: «أخبرني عن الإيمان، قال: الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره» .
والإيمان بالقدر على أربع مراتب لا بد من الإيمان بها كلها.
المرتبة الأولى: الإيمان بأن الله ﷾ علم كل شيء بعلمه الأزلي الذي هو موصوف به أزلا وأبدا، وهذه المرتبة هي التي نفاها غلاة القدرية.
المرتبة الثانية: الإيمان بأن الله كتب في اللوح المحفوظ كل شيء، لحديث: «أول ما خلق الله ﵎ القلم، ثم قال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما يكون وما هو كائن إلى أن تقوم الساعة»، والله - جل وعلا – يقول: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ﴾
1 / 32
الكتاب هو اللوح المحفوظ ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا﴾ أي نخلقها ﴿إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [الحديد: ٢٢]، والكتابة «قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء»، فالكتابة سابقة بأزمان على خلق السماوات والأرض.
المرتبة الثالثة: مرتبة المشيئة والإرادة، فكل شيء يقع فهو بمشيئة الله وإرادته، وفي هذا رد على القدرية، فلا يكون في ملكه ﷾ ما لا يشاؤه ولا يريده ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ [البقرة: ٢٥٣] ﴿إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ [الحج: ١٨]، فكل شيء يحدث فقد شاءه الله وأراده بعد ما علمه وكتبه في اللوح المحفوظ.
المرتبة الرابعة: مرتبة الإيجاد والخلق، علمه وكتبه وشاءه وخلقه ﷾.
لا بد أن تؤمن بهذه المراتب كلها وإلا لم تكن مؤمنا بالقضاء والقدر.
قوله: «والفرقة الناجية»، سميت ناجية؛ لأنها ناجية من النار، بخلاف بقية الفرق فإنها في النار؛ كما قال ﷺ: «وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة»، هذه الواحدة هي الناجية من النار، وهذه الفرق النار وهي تتفاوت، منها ما هو في النار لكفره، يخلد فيها، ومنها ما هو في النار لمعصيته ولا يخلد فيها، فلا يلزم من هذا أن هذه الفرق كلها كافرة، بل هي متفاوتة؛ لأن الخلاف يتفاوت.
1 / 33
وقوله: «وسط في باب أفعاله تعالى بين القدرية والجبرية»، الجبرية: هم أتباع الجهم بن صفوان، الذي يقول بالجبر، ويقول بالإرجاء، ويقول بالتجهم.
ولهذا يقول ابن القيم في «النونية»:
جيم وجيم ثم جيم معهما ... مقرونة مع أحرف بوزان
يعني جمع بين ثلاث جيمات، والرابعة جيم جهنم والعياذ بالله.
1 / 34