Explanation of the Book of Tawhid by Ibn Khuzaymah - Muhammad Hassan Abdul Ghaffar
شرح كتاب التوحيد لابن خزيمة - محمد حسن عبد الغفار
اصناف
شرح كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب - نبذة عن سيرة الإمام ابن خزيمة
إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة هو الإمام الحافظ الحجة الفقيه، كان بحرًا من بحور العلم، طاف البلاد ورحل إلى الآفاق في طلب الحديث والعلم، فكتب الكثير، وصنف وجمع، وهو من المجتهدين في دين الإسلام، جاهد أهل البدع بلسانه وبنانه، وبين بطلان عقائدهم الزائفة، وفصل عقائد السلف وبينها وأظهرها بدلائل القرآن والسنن والآثار.
1 / 1
فضل العلماء وطلب العلم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:١٠٢].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:١].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:٧٠ - ٧١].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فأشرف الناس على الإطلاق هم العلماء الذين هم واسطة بين الخالق وبين المخلوق، قال ابن عيينة: أفضل البشر على الإطلاق هم الواسطة بين رب البشر وبين البشر، وقال النبي ﷺ: (العلماء هم ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا درهمًا ولا دينارًا، ولكن ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر).
العلم العلم، والطلب الطلب، فإن شمس البدعة قد بزغت، ولا تخمد نار الفتنة إلا بالطلب، ولما ظهرت البدع في القرون الخيرية في القرن الثالث انبرى لها أساطين العلم، ومن أفاضل الأمة على الإطلاق هذا الإمام العظيم إمام الأئمة ابن خزيمة.
وعلم التوحيد هو أشرف العلوم على الإطلاق، إذ شرف العلم من شرف المعلوم، ولا أحد أشرف من الله جل وعلا، بل قال ابن القيم: لن ترسخ معرفة أحد ولا قدم أحد في الإيمان ولن يستقيم إيمان أحد حتى يتعرف على رب البرية جل وعلا في صفاته وأسمائه جل وعلا.
والعلم علمان: علم بالله، وعلم بأمر الله ونهيه، والعلم بالله هو الأصل، والعلم بأمر الله ونهيه هو علم الفروع كالفقه وغيره، فعلم الأصول هو العلم بالله جل وعلا وبأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وتوحيد ربوبيته، وتوحيد الإلهية.
وأشرف الناس هم العلماء، وطلبة العلم الذين يسيرون على درب العلماء، ولن يستقيم إيمان عبد إلا بالعلم، قال الله تعالى في مطلع الوحي: «اقْرَأْ»، ما قال الله: بلغ، ولا قال: تعبد، ولا قال: وحد، بل قال له: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق:١]، وفي التوحيد قال: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ [محمد:١٩]، لأنك لن توحد الله حتى تعلم.
وطلب العلم هو أشرف العبادات، كما قال الإمام أحمد: لا أرى عبادة مثل طلب العلم لمن خلصت نيته.
1 / 2
أهمية كتاب التوحيد لابن خزيمة
سندرس بإذن الله في هذا الكتاب العظيم: كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب ﷿ لـ ابن خزيمة، وهذا كتاب جليل مهم جدًا، فوائده جليلة وقيمة، تناول مؤلفه فيه صفات الله جل وعلا وأسمائه الحسنى، وتناول الكلام عن الإيمان بالغيبيات والقبر ومنازل الآخرة، وتناول أيضًا الكلام عن القدر.
وقد ألفه مؤلفه ردًا على أهل البدعة والضلالة، إذ في عصره بزغت شمس البدعة من الخوارج والشيعة والجبرية والقدرية والمعتزلة والجهمية، فقام هذا العالم الجليل يرد على أهل الأهواء وأهل البدع، ومن ضمن المصنفات التي كانت نورًا في سماء العلم هذا الكتاب العظيم الخاص بالتوحيد، كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب ﷿.
1 / 3
التعريف بابن خزيمة
مؤلف هذا الكتاب هو أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة بن صالح بن بكر السلمي النيسابوري الحافظ الحجة الفقيه، جمع الله له العلمين، فكان فارسًا في ميدان الحديث أستاذًا في علم النقد والجرح والتعديل، وأيضًا كان فقيهًا مستنبطًا، ولا عجب أن يكون كذلك وقد أخذ العلم عن أكابر علماء الشافعية عن المزني والربيع، وكان يروي عنهما كتب الشافعي، وكان حافظًا حجة فقيهًا، وكان على فقه الإمام الشافعي، ولقب بإمام الأئمة صاحب التصانيف.
1 / 4
مولده ونشأته
ولد إمام الأئمة في شهر صفر من عام ٢٢٣ في نيسابور، ونشأ بها وطلب الحديث منذ حداثة سنه، فسمع من عالم خراسان ومحدثها الإمام إسحاق بن راهويه.
كان تقيًا زاهدًا عابدًا، وثمرة العلم تظهر عند التطبيق، فالعلم وسيلة لا غاية، والغاية من العلم هي التطبيق، وكان كثير من طلبة العلم لا يأخذون عن أحد العلم حتى ينظروا في صلاته وفي ذكره وفي تعبده، وينظروا في تقواه وفي ورعه، فكان هذا الإمام ممن تعلم ليعمل، فكان تقيًا زاهدًا ورعًا قوامًا صوامًا، وكان كريمًا سخيًا شجاعًا ﵁ وأرضاه، ورضي عن السلف أجمعين الذين حملوا لنا هذا العلم العظيم.
سلك الإمام ابن خزيمة طريقة طلاب العلم في عصره وهي تلقي العلم أولًا عن شيوخ بلده ثم الرحلة في الطلب، والرحلة هذه كأنها سنة أميتت، وهي لم تمت بحمد لله، لكن الله جل وعلا عوضنا بكسلنا وبقلة همتنا وضعف الوازع عندنا بأن العلماء وإن كانوا في مشارق الأرض ومغاربها يصل إلينا علمهم عن طريق الاسطوانات أو عن طريق شرائط الكاسيت.
سمع في صغره كما أسلفنا من علماء نيسابور مثل ابن راهويه ومحمد بن حميد، وكان يرغب في الذهاب إلى قتيبة فاستأذن أباه فأجابه: اقرأ القرآن أولًا، وأنا أهيب بكل طالب علم أنه لا بد أولًا أن يصبر نفسه في الحفظ، أنا جلست مع بعض مشايخي وسألته عن الجد في الطلب فقال: لا تسأل عن شيء حتى تحفظ القرآن، أصل العلم في القرآن، والشيخ محمد بن إسماعيل دائمًا يقول: احفظ القرآن ثم بعد ذلك تكلم عن الطلب، وهذا تأصيل أصله الشيخ أسامة العظيم من مشايخ القاهرة، لو قلنا: إنه حلية زهاد هذا العصر فهو كذلك، فهو دكتور في الأزهر متخصص في أصول الفقه، وقد درس وأخذ بكالوريوس هندسة، ثم بكالوريوس شريعة، ثم ماجستير، ثم دكتوراه في أصول الفقه، رجل عابد يقيم الليل، نسأل الله جل وعلا أن يرفعه في عليين مع الصحابة الكرام مع النبي ﷺ، إذا قام الليل بالإخوة في رمضان لا ينتهي إلا قرب الفجر، الذين يصلون خلفه يريدون السحور وهو ما يفكر إلا بالعبادة.
رأيته في الحج وقد اسودت الوجوه من شدة حر الشمس، فرأيته ورب السماوات والأرض وكأن وجهه يشع نورًا! فالرجل متعبد جدًا وزاهد، وهو شافعي المذهب، فـ الشافعي كان يقول: تفقهوا قبل أن تسودوا، وكان هو يبين هذا ويقول: لا يتزوج أحد حتى يطلب العلم؛ حتى تكون امرأته تحته، فمن كان ذا علم سيستطيع أن يسير امرأته خلفه، فكان يقول: ما يتزوج أحد حتى يحفظ القرآن.
وكان السلف لهم منهج في طلب العلم، يقول العالم لمن أراد العلم: احفظ القرآن، فإذا حفظ القرآن وجاء إلى مجلس التحديث، قالوا: لا تجلس مجلس التحديث حتى تتعلم الفرائض، لأن هذا أول علم يندثر، فيتعلم علم المواريث ثم بعد ذلك يبدأ بطلب الحديث.
هنا الأب فعل ذلك مع الابن فقال له: لن تذهب إلى قتيبة لتسمع عنه وتروي عنه حتى تحفظ القرآن، والآن في عصرنا هذا لا تستطيع أن تقول لرجل كبر سنه: لا تطلب العلم حتى تحفظ القرآن؛ فتضيعه، الآن نحن نقول لمن كبر سنه وما استطاع أن يستدرك هذه المسألة: اطلب علم التوحيد، فعلم التوحيد هو أهم العلوم، وإن لم يستطع أن يجمع بين حفظ القرآن وعلم التوحيد فعلم التوحيد يقدم؛ لأنك لن تصل إلى ربك إلا بتوحيد خالص، ولن تخلد في الجنة وتنجو من نار جهنم إلا بتوحيد خالص.
يقول ابن خزيمة: فاستظهرت القرآن، يعني: حفظته عن ظهر قلب، فقال لي: امكث حتى تصلي بالختمة، ففعلت، فلما عيدنا أذن لي، فخرجت إلى مرو وسمعت بمرو من محمد بن هشام وغيره.
ثم واصل رحلاته في طلب العلم ورحل إلى بلدان كثيرة، رحل إلى بغداد، والري، والشام، والبصرة، والكوفة، والجزيرة، ومصر، وواسط، وفي هذه المدن سمع من علماء أعلام في السنة والفقه وغيرها من العلوم.
1 / 5
شيوخه
كان ابن خزيمة من قرناء البخاري ومسلم، وأعظم الشيوخ الذين سمع منهم: محمد بن يحيى الذهلي شيخ البخاري، وأيضًا إسحاق بن راهويه.
أما مكانته العلمية فكانت مرموقة جدًا بين أهل العلم، وكفاه فخرًا أن لقب بإمام الأئمة.
كان يجمع بين علم الحديث والفقه، وقد قلنا: من طلب الحديث دون الفقه زل في المسائل الفقهية وضعف، ومن طلب الفقه دون الحديث احتج بالضعيف ولم يستطع أن يتقوى، ولا بد من الجمع بين الحديث والفقه، وأنا أسأل ربي أن ييسر علي إتمام بحث معين سميته فقهاء المحدثين، فهؤلاء هم أفاضل الناس، هؤلاء الشموس هم العلماء بحق الذين يحتذى حذوهم، قال الإمام أحمد: كنا نسمي أهل الحديث صيادلة، وكنا نسمي أهل الفقه أطباء، فخرج علينا الشافعي، فكان طبيبًا صيدلانيًا جمع بين الفقه وبين الحديث.
والعلماء يعيبون جدًا على يحيى بن معين الناقد الجهبذ الذي كانت ترتعد فرائص أي عالم من علماء الحديث إذا وجد يحيى بن معين؛ لأنه كان نقادًا في علم الجرح والتعديل، ومع هذا كانوا يعيبون عليه عدم علمه بفقه الحديث، جاءته امرأة تسأله: هل لي أن أغسل زوجي الذي مات وأنا حائض؟ وكان قد وصى أن تغسله، فوقف يحيى بن معين حائرًا يضرب أخماسًا في أسداس كما يقولون، ثم مر أبو ثور الكلبي صاحب الشافعي، فقال يحيى: اسألي هذا الرجل، فقال أبو ثور: إن رسول الله ﷺ كان يخرج رأسه لـ عائشة فترجله وهي حائض، وهذا قياس الأولى، فلما أبيح للحائض أن تفعل ذلك، والمعتكف يمكنه ذلك، فالذي هو أحوج إلى التغسيل والتنظيف فالحائض يحل لها أن تغسله.
فقال يحيى بن معين: نعم هذا الحديث جاءنا من طريق فلان عن فلان عن فلان، وطريق فلان وفلان، وأتى بكل الطرق، فقالت المرأة: ولماذا لم تجبني لما سألت؟! وأين فلان وفلان التي تتحدث عنهم عندما سألتك؟! فعابوا عليه ذلك.
والإمام أحمد بن حنبل اشتد على يحيى بن معين؛ لأنه كان يتكلم في الشافعي، والشافعي جبل لا يؤثر فيه كلام أحد، حتى وإن كان يحيى بن معين، فـ الشافعي إمام كالشمس، فكان يتكلم فيه يحيى بن معين فعابوا عليه ذلك، واشتكوا إلى أحمد بن حنبل ذلك وقالوا: أما تسمع صاحبك يتكلم في الشافعي؟! فقال أحمد بن حنبل: أما إن يحيى بن معين يجهل ما يقوله الشافعي، ومن جهل شيئًا عاداه.
أيضًا شيخ الإسلام ابن تيمية كان يجلس مع مناظريه وهم مقلدة، يحفظون الفروع من الفقه فقط، ولا يعرفون فقه الأدلة، بينما شيخ الإسلام ابن تيمية أعطاه الله قوة في العلم وبسط له، فكان يقف يناظرهم، فيقولون: هذا رجل ما يفقه شيئًا! نسأله عن الشمال فيتكلم عن الجنوب والشرق والغرب ويبعد عن المسألة، قال ابن القيم: هذا من سعة علمه وفقهه وغوصه في الأدلة، ومن شدة جهلهم وضيق أفقهم، فأي إنسان يجهل ما يقال يعادي صاحب المقولة.
1 / 6
ثناء العلماء على ابن خزيمة
ابن خزيمة شهد له فحول العلماء بالحفظ والفقه، والقدرة على الاستنباط والفهم، وقد جاء هذا الاعتراف والثناء من تلاميذه الذين أخذوا عنه العلم، ومن شيوخه الذين تلقى عنهم، مثل أبي حاتم الرازي الذي قيل: إنه أحفظ من البخاري، ومثل أبي زرعة الذي كان أيضًا أحفظ من البخاري، لكن البخاري كان أتقن منهما في العلل وغير ذلك، سئل أبو حاتم عن محمد بن خزيمة فقال: ويحكم! هو يسأل عنا ولا نسأل عنه، هو إمام يقتدى به، وهذا كما سئل يحيى بن معين عن أحمد بن حنبل فقال: أو أحمد يسأل عنه؟! هو يسأل عنا، أحمد إمام الدنيا.
والربيع صاحب الشافعي حامل فقهه، هو أحد من تفقه عليه ابن خزيمة، قال لبعض تلاميذه: هل تعرفون ابن خزيمة؟ قلنا: نعم، قال: استفدنا منه أكثر مما استفاد هو منا.
قال الدارقطني: كان ابن خزيمة إمامًا عديم النظير.
قال الذهبي: كان هذا الإمام جهبذًا عالمًا بالحديث، بصيرًا بالرجال.
وقال أيضًا: ابن خزيمة الإمام الحافظ الحجة الفقيه.
وقال ابن حبان: ما رأيت من يحسن صناعة السنن ويحفظ ألفاظها الصحاح وزيادتها حتى كأن السنن كلها بين عينيه إلا ابن خزيمة.
قال ابن كثير عنه: كان بحرًا من بحور العلم، طاف البلاد ورحل إلى الآفاق في الحديث وطلب العلم، فكتب الكثير وصنف وجمع، وهو من المجتهدين في دين الإسلام.
قال أبو علي: لم أر مثل محمد بن إسحاق كان يحفظ الفقهيات من حديثه كما يحفظ القارئ السورة، وهذا معناه أنه كان يذكر الحديث وأيضًا يفقه متن هذا الحديث.
فقد كان محدثًا وفقيهًا مثل البخاري جبل الحفظ، فكتاب البخاري يدلك على فهم دقيق واستنباط بديع من الأحاديث، كان يقطع الأحاديث ويبوبها على أبواب، فتراجم أبواب البخاري تثبت لك أنه كان فقيهًا؛ ولذلك تنازعه الحنابلة والشافعية فكل ينسبه إلى مذهبه، فالشافعية كتبوا: البخاري شافعي المذهب، وفي تراجمه كثيرًا ما يرجح مذهب الشافعي، وقال الحنابلة: حدث عن شيخه الإمام أحمد بن حنبل في الصحيح، والراجح أنه إمام مجتهد مطلق.
قال الذهبي: كان لـ ابن خزيمة عظمة في النفوس وجلالة في القلوب؛ لعلمه ودينه، ولاتباعه لسنة النبي ﷺ.
1 / 7
عقيدة ابن خزيمة
كان ابن خزيمة سلفي العقيدة على طريقة أهل الحديث، يقول بما قاله الصحابة رضي الله تعالى عنهم والتابعون وتابعوهم، ومما يبين هذا قوله في هذا الكتاب: فنحن وجميع علمائنا من أهل الحجاز وتهامة واليمن والعراق والشام ومصر مذهبنا: أنا نثبت لله جل وعلا ما أثبته لنفسه، نقر بذلك بألسنتنا ونطبق بذلك بقلوبنا من غير أن نشبه وجه خالقنا بوجه أحد من المخلوقين، وعز ربنا عن أن نشبهه بالمخلوقين، وجل ربنا عن مقالة المعطلين، وعز أن يكون عدمًا كما قاله المبطلون.
والفرق بين التشبيه والتمثيل أن التشبيه هو المطابقة في أغلب الصفات، والتمثيل: في كل الصفات، قال الله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَي﴾ [الشورى:١١].
فكل معطل مشبه باللزوم؛ لأنه شبه أولًا فخشي من إثبات التشبيه فقال: يد الله كيد البشر، عين الله كعين البشر، لا، ليس له يد ولا عين؛ فعطل خوفًا من التشبيه.
والتعطيل تعطيلان: تعطيل كلي وجزئي، تعطيل بنفي الاسم والصفة، وهو تعطيل غلاة الجهمية، يقولون: لا عليم ولا علم، ولا كريم ولا كرم، ولا عزيز ولا عزة، أعوذ بالله من هذا الضلال المبين والكفر الفاحش، فغلاة الجهمية ينفون عن الله الاسم والصفة، هذا هو التعطيل الكلي، نفي الاسم والصفة.
والتعطيل الجزئي: نفي الصفة دون الاسم، يثبتون الاسم فيقولون: الله من أسمائه الحسنى العليم، لكن لا يثبتون العلم، ولذلك كثير من القدرية يقولون: الله لا يعلم أفعال العباد حتى يعملوها، فهؤلاء عطلوا الصفة دون الاسم.
وهم في تعطيل الصفة متفاوتون، فمنهم من يعطل جميع الصفات، ومنهم من يعطل أغلب الصفات وهم الأشاعرة الذين أثبتوا السبع الصفات التي يدل عليها العقل كما زعموا.
وقال ابن خزيمة أيضًا: نحن نقول: إن الله سميع بصير كما أعلمنا خالقنا وبارئنا، ونقول: من له سمع وبصر من بني آدم فهو سميع وبصير، ولا نقول: إن هذا تشبيه المخلوق بالخالق، ونقول: إن لله ﷿ يدين يمينين لا شمال فيهما، ونقول: إن من كان في بني آدم سليم الجوارح والأعضاء فله يدان يمين وشمال، ولا نقول: إن يد المخلوق كيد الخالق عز ربنا عن أن تكون يده كيد خلقه.
ومعنى كلامه أن الأسماء والصفات توقيفية، يعني: لا بد من وجود نص من كتاب أو من سنة حتى نقول: هذا اسم لله أو هذه صفة من صفات الله جل وعلا.
والله جل وعلا اسمه السميع البصير، ويوصف المرء بالسمع والبصر، فيقال: إنه سميع بصير، فاتفقا في التسمية لكن يختلفان في الكيفية، قال الله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى:١١].
وأسماء الله تتضمن صفات كمال، لكن الإنسان قد يسمى باسم لا يتضمن الصفة، فمثلًا: يسمى كريمًا وهو أبخل البشر، أو شجاعًا وهو أجبن الناس.
وهنا قال ابن خزيمة: إن لله جل وعلا يدين لا شمال فيهما، والدليل على أن لله يدين اثنتين قول الله جل وعلا: ﴿مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا﴾ [يس:٧١] فهو من باب التعظيم، والعظمة كلها لله، فحق لله أن يعظم نفسه، أما ترى أن الملك مثلًا يقول لأتباعه: إن الملك يأمر بكذا، وما يقول: أنا، يعظم نفسه.
أما قوله: لا شمال فيهما فقد اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: لله يد يمين ويد شمال؛ بدليل الحديث الذي في صحيح مسلم قال: (ثم يأخذ السماوات بشماله) فصرح بالشمال.
القول الثاني: قالوا: في الحديث: (كلتا يدي ربي يمين)، فلا نثبت لله يد شمال.
ونحن نقول: إذا ثبت أن لله شمالًا سمعنا وأطعنا، وأثبتنا ما أثبته الله لنفسه، وأثبتنا ما أثبته له رسوله، لكن الزيادة في هذا الحديث ضعيفة، إذ إن الثقة خالف الثقات وذكر لفظة (الشمال)، فلا شمال لله جل وعلا؛ لضعف هذا الحديث، ولو ثبت لأثبتا الشمال لله.
قال ابن خزيمة: ونحن نقول: لربنا الخالق عينان يبصر بهما ما تحت الثرى وتحت الأرض السابعة السفلى، وما في السماوات العلى، وما بينهما من صغير وكبير لا يخفى على خالقنا خافية في السماوات السبع والأرضين السبع، ولا ما بينهما ولا فوقهن ولا أسفل منهن، لا يغيب عن بصره من ذلك شيء، يرى ما في جوف البحار كما يرى عرشه الذي هو مستو عليه، وبنو آدم وإن كانت لهم عيون يبصرون بها فإنهم إنما يرون ما قرب من أبصارهم، مما لا حجاب ولا ستر بين المرء وبين أبصارهم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
1 / 8
شرح كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب - المقدمة
أمر التوحيد أمر عظيم، فهو أول ما يجب على العبد في الإسلام، وهو آخر مطلوب من العبد، وهو المدخل إلى الجنة والمنقذ من النار، وقد قسمه العلماء إلى أقسام؛ كي يسهل فهمه وتتيسر دراسته، وهذا التقسيم له ما يشهد له من الأدلة.
2 / 1
أقسام التوحيد
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:١٠٢].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:١].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:٧٠ - ٧١].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: إخوتي الكرام! بمناسبة افتتاح هذا الكتاب الكريم العظيم؛ كتاب التوحيد لـ ابن خزيمة سنذكر مقدمة أصيلة وتأصيلًا كاملًا لعلم التوحيد؛ حتى يظهر جليًا لطلبة العلم ما يأسسون عليه بنيانهم، ثم يسيرون على نهجه.
إن التوحيد هو أشرف العلوم على الإطلاق، فشرف العلم -كما بينا سابقًا- من شرف المعلوم، ولا أحد أشرف من الله جل وعلا، والناس حاجتهم إلى التوحيد أشد من حاجتهم إلى الماء والهواء، فلا يستقيم إيمان عبد، ولا يقبل عند ربه جل وعلا، ولا ينجيه الله من الخلود في نار جهنم إلا بالتوحيد الخالص من الشرك.
والتوحيد قسمه بعض المتأخرين تقسيمًا استنباطيًا اجتهاديًا، وقد استنبط هذا شيخ الإسلام، وهذا التقسيم هو تقسيم التوحيد إلى قسمين: القسم الأول: هو التوحيد العلمي الخبري.
القسم الثاني: التوحيد الإرادي الطلبي.
أو بتقسيم آخر: توحيد العبادة، أو توحيد الله جل وعلا بأفعاله.
القسم الثاني: توحيد الله بأفعال العباد.
2 / 2
توحيد المعرفة والإثبات
القسم الأول من التوحيد هو توحيد المعرفة والإثبات، وهو نوعان: توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات.
وتوحيد الربوبية: هو أن تعتقد اعتقادًا جازمًا لا شك فيه أن الله هو الرب الخالق الرازق المدبر السيد الآمر الناهي، وأن له مطلق السيادة ومطلق الحكم والأمر والنهي، فأما الخالق فقال الله تعالى: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الرعد:١٦]، وأما الرازق فقال: ﴿مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ [الذاريات:٥٧ - ٥٨]، فالرزق المطلق هو من قبل الله جل وعلا، والخلق المطلق هو من قبل الله، وهناك خلق آخر ناقص وليس بكامل، يقوم به الإنسان كما قال الله تعالى: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [المؤمنون:١٤]، فالخلق المطلق وهو الإيجاد من العدم يتفرد به الله جل وعلا.
وأما الخلق الناقص وهو النقل من صورة إلى صورة، كنقل الحديد إلى سيارة، والخشب إلى باب، فهذا يسمى خلقًا لكنه خلق ناقص وليس بخلق مطلق.
وهو المدبر، قال تعالى: ﴿يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾ [السجدة:٥]، وقال الله تعالى مبينًا ذلك بيانًا جليًا: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ [الرحمن:٢٩].
قال ابن مسعود: يرفع أقوامًا ويخفض آخرين، ويعطي هذا ويمنع هذا، ويميت هذا ويحيي هذا.
وكل ذلك من لوازم الربوبية.
وله الحكم المطلق، ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾ [يوسف:٤٠]، وقال الله تعالى: ﴿أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ﴾ [الأعراف:٥٤].
فالخلق إن كان من لوازم الربوبية فالأمر أيضًا والتشريع من لوازم الربوبية، فالأمر كله لله جل وعلا.
فهذا هو معنى توحيد الربوبية: أن تعتقد اعتقادًا جازمًا بهذه الصفات التي هي من لوازم الربوبية.
ولم يشرك أحد في الربوبية، بل إن كل المشركين إلا النزر اليسير كانوا يؤمنون بالربوبية ولم يشككوا فيها، والنبي ﷺ لما أتى بشريعته إلى مشركي العرب ما عارضوه في ربوبية الله جل وعلا، وإنما عارضوه في الإلهية، فقالوا: ﴿أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ [ص:٥]، وقال الله تعالى مبينًا أنهم يقرون بالربوبية: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [الزمر:٣٨]، وهذا يدلك على خطأ بعض العلماء المعاصرين الذين فسروا قول الله تعالى: ﴿لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ [محمد:١٩] لا رب إلا الله، فهذا ليس بصحيح.
وقالوا أيضًا: إذا أتى بلوازم الربوبية واعتقد اعتقادًا جازمًا أن الخالق والمكون والمدبر هو الله فقد تم توحيده، ودخل الجنة، وهذا خطأ فاحش، إذ إن المشركين يقرون بذلك، والفارق بين المشرك والمؤمن هو توحيد الإلهية كما سنبين.
فلم يشرك إلا النزر اليسير في توحيد الربوبية، وجحد به من جحد وهو عالم به كفرعون، ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾ [النمل:١٤].
وأيضًا المانوية والثانوية، فهم يقولون: إن للكون خالقين، خالق للنور وخالق للظلمة، فهؤلاء أشركوا في الربوبية، وأيضًا الشيوعيون الدهريون في عصرنا الذين يقولون: ما يهلكنا إلا الدهر، ويقولون: هكذا خلقت، والناس خلقوا صدفة، والطبيعة هي التي أوجدتهم! فهؤلاء نزر يسير، وأما المشركون قاطبة فهم مقرون بربوبية الله جل وعلا.
والنوع الثاني من القسم الأول وهو من أهم وأجل أقسام التوحيد، وهو الذي زلت فيه الأقدام، وظهرت فيه البدعة على أوجها، ألا وهو: توحيد الأسماء والصفات.
ومعنى توحيد الأسماء والصفات: أن تعتقد اعتقادًا جازمًا أن لله جل وعلا أسماء حسنى وصفات علا، هذه الأسماء أعلام على ذات الله جل وعلا، وكلها حسنى؛ لأنها تتضمن صفات كمال، فالله اسم من أسماء الذات الإلهية، وعلم على ذات الله جل وعلا، وهو يتضمن صفة كمال ألا وهي الإلهية، والكريم اسم من أسماء الله جل وعلا، وهو من الأسماء الحسنى؛ لأنه يتضمن صفة الكمال وهي الكرم، والقدير اسم من أسماء الله الحسنى، وهو علم على ذات الله، وإذا قيل لك: العليم القدير فذهنك ينصرف إلى الذات الإلهية المقدسة، فكل اسم يتضمن صفة كمال.
2 / 3
قواعد في الأسماء والصفات
هنا قواعد مهمة تضبط لنا هذه الأسماء: أولها: كل هذه الأسماء حسنى؛ لأنها تتضمن صفات كمال، وباب الأسماء أضيق من باب الصفات، وباب الصفات أوسع؛ لأن كل اسم يحمل صفة ولا عكس، فليست كل صفة تحمل اسمًا، فالعزيز يتضمن صفة العزة، والرءوف يتضمن صفة الرأفة، وهكذا الكريم والرحيم والرحمن، وأما الصفات فلا تستطيع أن تشتق من كل صفة اسمًا، قال الله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه:٥] فصفة الاستواء لا نستطيع أن نشتق منها اسمًا وهو المستوى، وهذا يدلك على أن باب الأسماء أضيق من باب الصفات.
ثانيها: أسماء الله لا تنحصر، فهي كثيرة وعديدة ولا تنحصر في عدد، ودليل ذلك قول النبي ﷺ: (اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو علمته أحدًا من خلقك).
إذًا: فهناك بعض الخلق يعلمون من أسماء لله ما لا يعرفها الآخرون.
ثم قال: (أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك)، فهناك أسماء لله كثيرة يعلمها الله ولا يعلمها أحد من خلقه، فهذه دلالة على أن أسماء الله كثيرة جدًا وليست محصورة بعدد.
وأيضًا حديث النبي ﷺ في الشفاعة العظمى وفيه: أن آدم يقول: اذهبوا إلى نوح، اذهبوا إلى إبراهيم، اذهبوا إلى موسى، حتى تحال إلى النبي ﷺ فيقول: (أنا لها أنا لها، فيذهب تحت العرش فيسجد يقول: فيعلمني الله جل وعلا محامد أحمده بها) أي: محامد الآن تعلمتها، والحمد ثناء على الله جل وعلا بما هو أهل له، فيثني على الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، إذًا: ففيها أسماء لا يعلمها النبي ﷺ إلا عندما يسجد عند العرش، ويدلك ذلك على أن أسماء الله لا تنحصر.
ولا يشكل علينا حديث النبي ﷺ: (إن لله تسعة وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة)، فالإجابة يسيرة جدًا وهي: أن هذه الأسماء التسعة والتسعين لها ميزة خاصة عن بقية الأسماء كلها، وهذه الميزة هي: (من أحصاها دخل الجنة)، ومعنى أحصاها أي: حفظها عن ظهر قلب، وتعبد بها لله، يعني: ما يتوسل إلا بها، فقد حفظ اسم الكريم فيقول: يا كريم! أكرمني برضاك عني، وحفظ اسم القدير فيقول: يا قدير! أنجني من الظالمين، يا عزيز أعزني بطاعتك، فيتعبد لله بهذه الأسماء.
وأيضًا أن يتخلق بآثار هذه الصفات، فالله جل وعلا رءوف يحب كل رءوف، وكريم يحب كل كريم، فأنت من تعبدك لله بالاسم أو بالصفة أن تتخلق بأثر هذا الاسم، فاسم الله الكريم فأنت تكون كريمًا، واسم الله العفو، فهو عند المقدرة يعفو، فأنت إن كنت قادرًا على ظالم فاعف عنه إلا أن يكون في هذه مساءة، أو يكون هذا فيه زيادة كبر لهم، وإن كنت تعلم أن الله عزيز فاعتز أنت بطاعته، وتخلق بآثار هذه الصفات.
فالتسعة والتسعون اسمًا من أحصاها دخل الجنة، فهذه هي الميزة لها، ولا يخفى علينا أن لله أسماء كثيرة كما في هذه الأحاديث.
وقبل أن ننتقل إلى الكلام في الصفات أضبط لطالب العلم قاعدة مهمة جدًا وهي: أن الاشتراك في الاسم لا يستلزم الاشتراك في المسمى، فإذا قلت: الله الرحيم، أو الله الكريم، وسمي أحد الناس كريمًا، فهذا الاشتراك هو بالنسبة للاسم والصفة، وهو لا يدل على الاستواء، فكرم الله جل وعلا فيه الكمال المطلق، وكرم هذا المخلوق ناقص ولو كان كرمه ككرم حاتم الطائي.
وأيضًا قال الله تعالى: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ [الفتح:١٠] فالله له يد، والإنسان له يد، فاشتركا في الاسم، فهذه يد وهذه يد، لكن لا يلزم من ذلك أن تتساوى يد الله ويد المخلوق أبدًا، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى:١١].
2 / 4
صفات الله تعالى
الصفات تنقسم إلى قسمين: صفات ثبوتية، وصفات سلبية.
فالصفات الثبوتية: هي الصفات التي أثبتها الله لنفسه في كتابه، وأثبتها له رسوله في سنته.
وهذا يعني: أن أسماء الله كلها توقيفية، وهذا فيه رد على النصارى الذين يسمون الله جل وعلا بالأب.
وأما الصفات السلبية فهي الصفات المنفية التي نفاها الله عن نفسه، ونفاها عنه رسوله ﷺ في سنته.
والصفات الثبوتية قد ذكرها الله بنفسه في كتابه ورسوله في سنته، قال الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [الحجرات:٨]، فأثبت لنفسه صفة العلم والحكمة، وقال الرسول ﷺ: (أربعوا على أنفسكم إنكم تدعون سميعًا بصيرًا)، فأثبت له السمع والبصر.
إذًا: الصفات الثبوتية أثبتها الله لنفسه وأثبتها له رسوله ﷺ.
2 / 5
الصفات الثبوتية
الصفات الثبوتية تنقسم إلى أقسام ثلاثة: صفات ذاتية، وصفات فعلية، وصفات خبرية.
فالصفات الذاتية هي الصفات التي لا تنفك عن الله بحال من الأحوال، فهي أزلية أبدية لم يزل متصفًا بها ولا يزال، مثل العلم، فالله لم يزل متصفًا به ولا يزال، فليس هناك لحظة لا يعلم الله جل وعلا فيها كما قالت القدرية، فهم يقولون: إن الله لا يعلم أفعال العباد إلا بعدما تفعل! وهذا غير صحيح، فهذا علم أزلي لم يزل الله ولا يزال متصفًا به.
وأيضًا العزة والقدرة والحياة فكل هذه صفات ذاتية أزلية أبدية لا تنفك عن الله بحال من الأحوال.
النوع الثاني: الصفات الفعلية، وهي الصفات التي تتجدد وتتعلق بالمشيئة، مثال ذلك: النزول، كما قال النبي ﷺ: (ينزل ربكم إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر)، فالله ينزل نزولًا يليق بجلاله وكماله جل وعلا، وأما البشر فنزولهم يليق بنقصهم.
وأيضًا قال النبي ﷺ: (يضحك ربكم من رجلين يقتل أحدهما الآخر ويدخلان الجنة)، فالله يضحك ضحكًا يليق بكماله، كما قال الصحابي للرسول ﷺ: (أيضحك ربنا؟ قال: نعم، قال: إذًا لم نعدم خيرًا من رب يضحك)؛ لأن لازم هذا الضحك أن يرحمنا، وأنت لو دخلت على صديق لك مسرور وطلبت منه أي شيء فإنه يعطيك إياه برحابة صدر، ولله المثل الأعلى، فإن كان ربك يضحك فلازم ذلك أن يغدق عليك النعم ويرحمك رحمة واسعة، فهذه الصفات تسمى صفات فعلية.
النوع الثالث: الصفات الخبرية وهي: الصفات التي لا مدخل للعقل فيها، وأما الصفات الأزلية الأبدية فالعقل يثبتها ويقبلها وإن كانت توقيفية، فالعقل يثبتها ولا يعارضها، كالعلم، فهذا الكون وهذه البحار وهذه الجبال وهذه الأشجار والنجوم والشمس التي تطلع في الصباح وتغرب في المساء، كل هذا الكون المدبَّر لابد أن يكون نابعًا عن علم وعن حكمة، فهذه تدلك على إثبات العلم والحكمة عقلًا.
وأما الصفات الخبرية فلا مدخل للعقل فيها، وضابطها: أن مسماها بالنسبة لنا أجزاء وأبعاض، كاليد والساق والعين، فاليد جزء مني لكنها بالنسبة لله تسمى صفة خبرية، ولا يقال: جزء من الله، بل هي صفة من صفات الخبرية.
فلله يد ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ [الفتح:١٠]، ولله ساق ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ﴾ [القلم:٤٢]، ولله عين ﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا﴾ [القمر:١٤]، ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ [طه:٣٩]، وهذا كله ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى:١١].
إذًا: فهذه الصفات الثبوتية تضبطها قاعدة مهمة جدًا وهي: أنها كل ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله بلا تمثيل؛ لأن الله جل وعلا قال: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى:١١]، وننزه الله بلا تعطيل.
2 / 6
الصفات السلبية
القسم الثاني من الصفات: الصفات السلبية، أي الصفات المنفية عن الله، وهي الصفات التي نفاها الله عن نفسه ونفاها عنه رسوله ﷺ، كما قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ﴾ [ق:٣٨]، فنفى اللغوب، واللغوب: هو الإعياء والتعب، أي: ما مسنا من تعب ولا إعياء، وقال النبي ﷺ: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام)، فنفى عنه صفة النوم.
إذًا: الصفات المنفية هي التي نفاها الله عن نفسه أو نفاها عنه رسوله ﷺ، وضابط هذه الصفات أن يتقدمها (ما) أو (لا) أو أي حرف من حروف النفي، ولا نتعبد لله بها بالنفي المحض، فالنفي المحض ليس فيه كمال، ونحن قد قعدنا قاعدة وهي: أن لله أسماء حسنى وصفات علا، فهي كلها كاملة، والنفي المحض لا كمال فيه، فتنفي لتثبت كمال الضد، فأقول: إن الله لا ينام؛ لكمال حياته وكمال قيوميته.
والله خلق السموات والأرض ولم يمسه تعب ولا لغوب؛ لكمال قوته وكمال قدرته، إذًا فتنفي هذه الصفات عن الله مع إثبات كمال الضد.
وأيضًا من الأدب عند النفي أن تنفي نفيًا مجملًا ولا تفصل، فلا تقول: الله ليس بعرض ولا بجوهر ولا بكذا ولا بكذا؛ لأن تعدد النفي فيه إساءة أدب مع الله جل وعلا، وأما تعدد صفات الإثبات ففيه أدب مع الله ومدح وثناء عليه جل وعلا.
2 / 7
توحيد العبادة
القسم الثاني: توحيد العبادة، أو توحيد الله في أفعال العباد، وهذا هو الذي من أجله أنزل الله الكتب، وخلق الخلق، ومن أجله ضرب الصراط، ومن أجله جعل الجنة والنار، وهو توحيد الإلهية.
ومعناه: إفراد الله جل وعلا بالعبادة، والقاعدة: أن كل عبادة ثبتت بالكتاب والسنة أنها عبادة فصرفها لله توحيد، وصرفها لغير الله شرك، وأيضًا: كل سبب شرعه الله فالأخذ به توحيد، والأخذ بالأسباب التي لم يشرعها الله جل وعلا ولا رسوله شرك.
وتفسير ذلك مثلًا: أن تأتي إلى سبب شرعه الله جل وعلا كالتبرك بشرب ماء زمزم، فهذا سبب في الشفاء، قال النبي ﷺ: (ماء زمزم لما شرب له)، فهذا توحيد، وأما إذا أخذت سببًا لم يسببه الله جل وعلا، ولم يشرعه في كتابه ولا على لسان النبي ﷺ، فقد دخلت في باب من أبواب الشرك، مثال ذلك: قول النبي ﷺ كما في الصحيح: (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فمن قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فهذا مؤمن بي كافر بالكوكب، ومن قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فهذا كافر بي مؤمن بالكوكب).
وهذا فيه تفصيل، فإن اعتقد أن النجم يتحكم في الكون من دون الله، وهو الذي ينزل المطر، فهذا الاعتقاد كفر يخرج من الملة؛ لأنه اعتقد الربوبية في غير الله جل وعلا، فإن اعتقد أن هناك من يدبر الأمر غير الله كالذين يدعون في الأولياء وأرواح الأولياء فكل هذه الشركيات تخرج من الملة.
وأما إذا اعتقد أن النجوم سبب في نزول المطر كالسحاب فهذا من الشرك الأصغر؛ لأنك جعلت سببًا لم يشرعه الله، والله جل وعلا يقول: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ [الشورى:٢١]، فالله جل وعلا قد بين لك سبب المطر وهو: أنه يثير سحابًا، وهذا السحاب يتراكم وينزل بسببه المطر.
إذًا فتوحيد الإلهية هو إفراد الله بالعبادة، فكل عبادة تصرفها لله بعد ثبوتها بالشرع فهي توحيد، وصرفها لغير الله شرك.
2 / 8
الإسلام والإيمان
الإسلام والإيمان من التوحيد، والإسلام معناه: الاستسلام التام والخضوع والإذعان لله جل وعلا، وقد مدح الله إبراهيم فقال: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة:١٣١] أي: لأوامر الله، وهذا لما أمره أن يذبح ابنه، فقام ليذبحه استسلامًا لأوامر الله جل وعلا.
وأركان الإسلام خمسة كما في الحديث: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلًا).
والإيمان في اللغة معناه: التصديق، وفي الشرع: هو التصديق المستلزم للقبول والإذعان، فلا ينفع التصديق فقط، ولابد من تصديق مستلزم للخضوع والمسكنة، ومستلزم للقبول والإذعان.
وهو يتعدى بنفسه ويتعدى باللام ويتعدى بالباء، فإذا تعدى بنفسه فإنه يكون بمعنى الأمان، تقول: أمنته، أي: أعطيته الأمان ضد الخوف، قال الله تعالى: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾ [قريش:٣ - ٤]، وإذا تعدى بالباء مثل: آمنت بالله وآمنت برسول الله، فمعناه: صدقت بربوبية الله وبإلهية الله جل وعلا، وصدقت برسالة الرسول ﷺ، فإذا تعدى بالباء فيكون معناه التصديق.
وإذا تعدى باللام فيكون معناه الاستسلام والخضوع والانقياد، مثل: آمنت لله، أي: انقدت وخضعت واستسلمت لأوامر الله، ومثل آمنت لرسول الله، أي: استسلمت في اتباعي لرسول الله ﷺ، قال الله تعالى: ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ﴾ [العنكبوت:٢٦] يعني: اتبعه واستسلم له.
فالذي يتعدى باللام معناه الاتباع والانقياد التام.
2 / 9
العلاقة بين الإسلام والإيمان
العلاقة بين الإسلام والإيمان أنهما إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، بمعنى أنه إذا اجتمع الإسلام والإيمان في الذكر افترقا في المعنى، فيكون الإسلام معناه الأفعال الظاهرة، والإيمان معناه الأفعال الباطنة، وأظهر مثال لذلك حديث جبريل ﵊ قال: (أخبرني عن الإسلام، قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة) إلى آخر هذه الأفعال الظاهرة، وسأله عن الإيمان -فاجتمع في الذكر هنا مع الإسلام- فقال: (أخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله وملائكته) أي: أن تقر في قلبك كما سنبين أنه قول وعمل، فتقر في قلبك بالله وملائكته وكتابه ورسله إلى آخر الحديث.
إذًا: إذا اجتمعا في الذكر افترقا في المعنى، فيكون الإسلام بمعنى الفعل الظاهر، وكان الإيمان بمعنى الفعل الباطن، قال الله تعالى: ﴿قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾ [الحجرات:١٤] يعني: في الظاهر ﴿وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات:١٤].
وإذا افترقا في الذكر اجتمعا في المعنى، فإذا ذكر الإسلام وحده دخل تحته الإيمان، وإذا ذكر الإيمان وحده دخل تحته الإسلام، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ﴾ [آل عمران:١٩]، فكل الأفعال الظاهرة والأفعال الباطنة هي الدين المذكور في هذه الآية: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ﴾ [آل عمران:١٩]، فيدخل معه الإيمان والإحسان، وكما قال النبي ﷺ: (هذا جبريل جاءكم يعلمكم أمر دينكم).
والإيمان: قول وعمل، فهو قول باللسان وقول بالقلب، وعمل بالجوارح وعمل بالقلب.
قول باللسان، أي: أن تقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وقول بالقلب، أي: أن تصدق وتقر بأن الله جل وعلا هو الخالق الرازق المدبر إلى آخر هذه المعاني التي شرحناها، وعمل بالأركان أي: أن تصلي وتزكي وتجاهد وتحج، وعمل بالقلب ومعناه المحبة والرجاء والخوف والتوكل واليقين والخشية والإنابة، فهذا هو عمل القلب، وكل ذلك مترابط، والإيمان كل متكامل.
2 / 10
حكم صاحب الكبيرة
وهنا مسألة وهي: من فعل كبيرة من الكبائر فهل ينسحب الإيمان منه؟ وهل يخرج من الملة ويخلد في نار جهنم؟ الخوارج غلوا وقالوا: إنه يخرج من الملة ويخلد في النار، وأهل السنة والجماعة يقولون: فاعل الكبيرة تحت مشيئة الله، فإن شاء عذبه، وإن شاء غفر له ورحمه.
ولا يشكل علينا قول النبي ﷺ: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، وقول النبي ﷺ: (لعن المؤمن كقتله)، وقوله: (لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض)، وقوله: (من غشنا فليس منا)، وقوله: (أنا بريء ممن جلس بين أظهر المشركين)، فلا يشكل علينا ذلك؛ لأنه مؤول، فقول النبي ﷺ: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) نفى عنه الإيمان المطلق، أي: كمال الإيمان، وأما أصل الإيمان وهو الإسلام فهو موجود في القلب لا يرتفع عنه، ويدل على ذلك قول النبي ﷺ: (إن جبريل جاءني فبشرني أن من مات من أمتي وهو يقول: لا إله إلا الله دخل الجنة، فقال أبو ذر: يا رسول الله! وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، قال: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، وعلى رغم أنف أبي ذر)، فهذا فيه دلالة على أن الزاني والسارق وشارب الخمر تحت مشيئة الله، كما قال النبي ﷺ عن ابن النعيمان: (ما أراه إلا يحب الله ورسوله)، وكان معتادًا على شرب الخمر، ومع ذلك لم ينزع من قلبه حب الله والرسول ﷺ.
2 / 11
أنواع الكفر
الكفر كفران: كفر أكبر وكفر أصغر، كما أن الشرك شركان: شرك أكبر وشرك أصغر.
فالكفر الأكبر: هو الذي يخرج به صاحبه من الملة، ويخلد في نار جهنم، والكفر الأصغر صاحبه على شفا هلكة لكنه أيضًا تحت مشيئة الله جل وعلا، والكفر الأصغر: مثل الحلف بغير الله، كما قال النبي ﷺ: (من حلف بغير الله فقد أشرك)، أو من اتخذ سببًا لم يشرعه الله كالتمائم، وإذا اعتقد أن السبب ينفع ويضر من دون الله فهذا شرك أكبر وكفر أكبر.
والفرق بينهما أن صاحب الشرك الأكبر والكفر الأكبر في نار جهنم خالد مخلدًا، وأما صاحب الشرك الأصغر والكفر الأصغر فهو تحت المشيئة، فقد يدخل الجنة من أول وهلة، وقد يعذب بخطيئته ثم بعد ذلك يدخل الجنة.
ولا يمكن لإنسان بحال من الأحوال أن يكفر أحدًا إلا الجهال المتجرئون، فهم الذين يطلقون التكفير، فلا يمكن لأحد أيًا كان أن يكفر أحدًا من المسلمين حتى يكون معه دليل أوضح من شمس النهار، خوفًا على نفسه من أن يقع في قول النبي ﷺ: (من قال لأخيه: يا كافر! فقد باء بها أحدهما)، فإن كان كافرًا بحق ثبتت عليه، وإن لم يكن حارت ورجعت على هذا المكفر الجاهل الذي تكلم بما لا يعي ولا يعلم، فلا يصح لأي إنسان أن يتجرأ على مسألة التكفير، فإذا كان هناك دليل كشمس النهار على التكفير فهذا مخرج.
ولا يلزم من الوقوع في الكفر تكفير الفاعل، فالقول قد يكون كفرًا، والفعل قد يكون كفرًا، ومع ذلك لا يكون القائل والفاعل كافرًا حتى تقام عليه الحجة وتزال عنه الشبهة، إلا فيما هو معلوم من الدين بالضرورة، كرجل يقوم في وسط الطريق فيسب الله جهارًا نعوذ بالله من ذلك، فهذا كفر وفاعله كافر ولا يلزم إقامة الحجة عليه ولا إزالة الشبهة؛ إذ إن هذا معلوم من الدين بالضرورة، أو رجل يسب رسول الله ﷺ، فهذا لابد أن يقتل، وهو كافر، ولابد على ولي الأمر أن يقتله، وحتى ولو تاب فلابد على ولي الأمر أن يقتله، فهذا كفر معلوم من الدين بالضرورة.
وهنا أمر وهو: أن المعلوم من الدين بالضرورة أمر متفاوت، فقد يكون الحكم معلومًا من الدين بالضرورة في بلد، ولا يكون معلومًا من الدين بالضرورة في بلد آخر، فالذي نشأ ببادية بعيدة ولم يعلم من أحكام الشرع شيئًا لا نطبق عليه هذه القاعدة.
2 / 12