آداب التربية في تراث الآل والأصحاب
آداب التربية في تراث الآل والأصحاب
ناشر
مبرة الآل والأصحاب
ایڈیشن نمبر
الأولى
اشاعت کا سال
١٤٣٧ ه - ٢٠١٦ م
پبلشر کا مقام
الكويت
اصناف
آداب التربية في تراث الآل والأصحاب
نماذج من تعامل الآل والأصحاب مع صغارهم
تأليف
أحمد الجابري
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة مبرة الآل والآصحاب
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين الغر الميامين، أما بعد؛
فلا ريب أن للقدوات الصالحة أثرًا بالغ الأهمية في الارتقاء بحياة الأمم والشعوب؛ وذلك أنهم هم الذين يقدمون الدليل الواقعي والتطبيق العملي للتعاليم التي تمثّل منظومة القيم والأخلاق التي تشكّل هوية تلك الأمم، وتعتبر مثالها السامي الذي تستهدف احتذاء حذوه والاهتداء بهديه.
وقد نبّه القرآن الكريم على ذلك المعنى وأشاد به في آيات كثيرة، مبينًا فضلَ الاقتداء بالأنبياء والصالحين، قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: ٢١]، وقال ﷿: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ [الممتحنة: ٤] وقال سبحانه: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ﴾ [الممتحنة: ٦] وقال عقب ذكر صفوةٍ من رسله وأنبيائه: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ
1 / 9
هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: ٩٠]، وقال عزّ مِن قائل: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف: ٣٥]، وغير ذلك مما يفهم من النصوص بأدنى تأمّل.
والواجب على أمتنا الإسلامية أن تصوغ رؤيتها الأخلاقية والقيمية والحضارية انطلاقًا من الوحي قرآنًا وسنةً، في تناغم مع معطيات العلم في جميع المجالات، ومواكبةٍ لمستجدات العصر الذي نعيش فيه وما يزخز به من تحدياتِ عظيمة. فلا يحسن أن نقتصر في تدبرنا للوحي على مجرد الأمور الدينية العبادية المحضة، فإن الوحي قد أنزله الله هدى ونورًا للإنسانية تنتفع به في معاشها ومعادها، وإن كان مقصوده الأساس الفلاح الأخروي وما يقرب إليه؛ إلا أنه لا شك في كونه يرشدنا بهداياته في جميع مناحي الحياة العملية، ولو في صورة ضوابط ومعايير وقيم كلية نافعة، نستلهم منه ما يرضي ربنا ويحقق فلاحنا في الدنيا، مع عدم إغفال البحث والعلم في جميع المجالات بأدواتها ووسائلها.
ونحن إذا ذهبنا نستلهم قيم الوحي على مختلف الأصعدة العلمية والسلوكية؛ لم نجد امتثالًا وتطبياقًا وتفعيلً؛ خيرًا مما نجده عن صحابة النبي ﷺ الأخيار وأهل بيته الأطهار، فهم الذين انتهجوا الوحي كتابًا وسنة في جميع جوانب حياتهم، فسادوا وقادوا، وصاروا أئمة أعلامًا هداة.
وقد أخذت (مبرة الآل والأصحاب) كعادتها على عاتقها مهمةَ تفعيلِ ذلك المعنى، وتقديمه في صورة بحثية توعوية منضبطة؛ لكونها
1 / 10
مؤسسة متخصصة في تراث الآل والأصحاب حتى صار لها - بفضل الله الريادة في ذلك المجال.
وقد كان أصل هذا المشروع الذي بين أيدينا فكرةً من قِبل رئيس مجلس إدارة المبرة د. عبدالمحسن الجارالله الخرافي تتضمن توسيع نطاق الأبحاث المتعلقة بالآل والأصحاب لتضمّ مجالات جديدة ورحابًا أوسع ولا تقتصر على الموضوعات الدينية المألوفة، ثم أوعز بهذه الفكرة وبعض عناصرها إلى مركز البحوث والدراسات بالمبرة؛ فقام المركز مشكورًا مأجورًا بوضع خطة طموحة تتضمن العديد من الموضوعات الهادفة، العلمية والعملية؛ التي نستهدف أن نستضيء فيها بتراث الآل والأصحاب، ونكشف عن ملامح تطبيقهم الوحي على جميع الأصعدة والأنحاء، بشكل يتجلّى فيه الجانب الإبداعي من تخصص المبرة في خدمة تراث الآل والأصحاب، و"التخصص يقود إلى الإبداع" بحمد الله وتوفيقه، بحيث نقدم للمكتبة العلمية والدعوية تجميعًا غير مسبوق لبعض الجوانب الدقيقة في تراث الآل والأصحاب؛ ومِن ثَمَّ نسَّق المركز مع مجموعة من الباحثين ليقدموا جهودهم في تحويل تلك الأفكار والموضوعات إلى أبحاث علمية وفق منهجية مركز البحوث والدراسات المنضبطة، القائمة على التحقيق العلمي، والاستدلال الصحيح، والاسترشاد بكتب أهل العلم السابقين والمعاصرين، واستمر جهد المركز في متابعة الأبحاث ومراجعتها وتعديل ما يحتاج منها إلى تعديل، عبر خلية عمل تفرغت للمشروع تحت إشراف رئيس مركز
1 / 11
البحوث والدراسات الشيخ محمد سالم الخضر مباشرة، فالشكر موصول لجميع الباحثين الكرام في المركز.
ثم تضافرت جهود أقسام المبرة الأخرى كقسم الإعلام في إتمام العمل بتنسيق الكتب وإخراجها؛ فكانت هذه السلسلة من الموضوعات، التي تندرج في سلسلة (تراث الآل والأصحاب)؛ ثمرةً لهذا التعاون المبارك.
وقد أرفقنا في ذيل هذا الكتاب قائمةً بعناوين هذه المجموعة المتكاملة من الموضوعات الدقيقة والمهمة في تراث الآل والأصحاب.
نرجو من الله ﷿ أن يوفقنا في مسعانا، وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وأن يجمع لنا الأجرين: أجر الاجتهاد وأجر الصواب، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
مبرة الآل والأصحاب
1 / 12
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدِّمة
الحمد لله منزِّلِ القرآن، معلِّمِ الإنسان البيان، باعثِ محمَّد إلى كافَّة الخلق من إنسٍ وجان، نحمده ما تعاقبت الأزمان، وخُطَّ كلامٌ بقلم وبنان، والصلاة والسلام على خير رسل بني الإنسان، من ملك أزمَّة اللغة وخُطُم البيان، أفصح من تكلَّم وبلَّغ وأبان، وعلى آل بيته وأصحابه الضاربين بسهام الخير في كل سباق وميدان.
وبعد؛
فتعدُّ مرحلة الطفولة والصغر من أهمِّ مراحل الحياة الإنسانية، إن لم تكن أهمها على الإطلاق، لما لها من أثر بالغ في حياة الأمة والمجتمعات في المستقبل، فالصغار لَبِناتٌ يقوم عليها بناء المستقبل؛ لأنهم سيمثلون القوة البشرية التي يُعتمَد عليها في البناء الحضاري، لذا أصبح من مسلَّمات عصرنا الحاضر: الاهتمام بهذه المرحلة العمرية، والعناية بها، والرغبة الأكيدة في الوصول إلى أفضل السبل التي تساعد على وضع الأسس السليمة لتربية الصغار.
1 / 13
ومما يزيد هذه المرحلة خطورة وأهمية: أنها إحدى المحطات الهامة التي تُبنى فيها شخصية الفرد، ففيها تُرسَم الخطوط الكبرى لما سيكون عليه الإنسان في المستقبل، حيث أكَّدت الدراسات النفسية على أهمية السنوات الأولى في حياة الفرد، لكونها تلعب دورًا هامًّا في تشكيل شخصيته، وتكوين اتجاهاته، وميوله، ونظرته للحياة، ويتم فيها وضع غالبية الأسس للجوانب التربوية المختلفة، كما أكَّدت تلك الدراسات على أنَّ كثيرًا من الانحرافات التي تظهر في الكبر ترجع إلى ما تعرَّض له الفرد في مواقف الحياة أثناء مرحلة الطفولة (^١)!
وفي هذا المعنى يقول صالح بن عبدالقدوس:
وإن من أدَّبتَه في الصِّبا ... كالعود يُسقى الماءُ في غرسه
حتى تراه مُوَنَّقًا ناضرا ... بعد الذي أبصرتَ من يبسه
والشيخ لا يترك أخلاقه ... حتى يُوَارَى في ثرى رمسه
إذا ارعوى عاد إلى جهله ... كذا الصبا عاد إلى نكسه (^٢)
ومن هنا: غَدَت العناية بالصغار اليوم معيارًا من المعايير التي يُقاس بها مدى تقدم الأمم، فأُنشئت منظَّمات محلية، وإقليمية، ودولية
_________
(^١) عبدالمحسن عبدالعزيز حمادة، «أسس تربية الطفل في الخليج العربي»، مجلة دراسات الخليج والجزيرة العربية، العدد (٢٨) سنة ١٩٨١ م، (ص/ ٨٩).
(^٢) ابن عبدالبر، «جامع بيان العلم وفضله» (١/ ٣٧٠)، قال: "أنشدني غير واحد لصالح بن عبدالقدوس في شعر له:" فذكره.
1 / 14
لرعايتها، وتوفير المقومات الأساسية التي تكفل وقايتها، وتغذيتها، ونموها، وعلاجها.
وإذا كانت كل الأمم تُعنَى بالأطفال؛ فإنَّ الإسلامَ أشدُّ عنايةً بهم، فهو الدين الوحيد الذي نطق كتابه المقدَّس بأنَّ الله ﷿ قضى أن يجعل في الأرض خليفة، وأنَّ هذا الخليفة هو الإنسان الذي كرمه الله وفضَّله على كثير ممن خلق تفضيلًا، ورَسَمَ القرآن خطى حياته الجسدية: نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم مخلوقًا سويًّا، ورسم خطى حياته النفسية، التي تبدأ من حين إخراجه من بطن أمه لا يعلم شيئًا، ثم يكتسب معارفه عن طريق الحواس، ثم يرتد إلى أرذل العمر لا يعلم شيئًا!
ولذا كانت حفاوة الإسلام بالطفل عظيمة، من قبل أن يُولَد، ومن بعد ولادته، فكانت التشريعات التي تُنظِّم حقوق الطفل من جميع النواحي، حتى يشبَّ على ما أراد له الإسلام من أقصى درجات الكمال البشري الممكن؛ ليكون -بحقٍّ- لَبِنةً في بناء صرح الإسلام (^١).
وقد حدَّد القرآن الكريم في آياتٍ متعدِّدةٍ حقوقًا للطفل، ودعا إلى احترامها وحمايتها؛ كحقِّه في الحياة. قال تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا﴾ (^٢)، وخصَّه بعدَّة حقوق
_________
(^١) أحمد العيسوي، «إتحاف أولي الألباب، بحقوق الطفل وأحكامه في سؤال وجواب» (ص/ ٩).
(^٢) سورة الإسراء (٣١).
1 / 15
ما دام لم يبلغ سنَّ الرشد؛ كحقه في الرضاعة، والحضانة، والولاية، كما خصَّ الطفل المحروم؛ كاليتيم، واللقيط، وذي العاهة، بحقوق إضافية، وأحاطه بأنواع من الكفالة المادية، والمعنوية، لتضمن تربيته تربية صالحة.
وبالرغم مما صدر حتى الآن من اهتمامات خاصة بحقوق الطفل، على الصعيدين الدولي والمحلي؛ إلا أن الطفولة الإسلامية تمر حاليًا بمرحلة لا تُحسدُ عليها، حيث تمر بأزمات تربوية نتيجة للتغيرات الثقافية والحضارية الجديدة السريعة والمتلاحقة، ونتيجة للتغيرات في الأدوار داخل الأسرة والمجتمع، ولقد جاءت النتائج تؤكِّد صحة هذا، فقد أوضحت أبحاث الجمعية الكويتية لتقدم الطفولة العربية أن الطفولة المعاصرة تعاني من مشكلات مختلفة؛ مصدرها: تواجد هذه الطفولة في مجتمع ينغمس في موجة زاحفة من التبدل المادي السريع والمستعار، وما يصاحب ذلك من تحولات نفسية وأخلاقية (^١).
ومن هنا: وجب على الآباء والمربين والقائمين على أمر تربية الأولاد والصغار أن يُولوا هذا الموضوع اهتمامًا أكبر، وعناية أوفر، وذلك بالاطلاع على ما يستجد من دراسات، وما تناله اليد من أطروحات وإحصائيات؛ ليكون الأمر متمَّما على قواعدَ متينة، وأسسٍ رسيخة، نرجوا من ورائه بناءً سامقًا، وشجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء؛ فتؤتي أكلها كل حين.
_________
(^١) محمد جواد رضا، «الطفولة في مجتمع عربي متغير» (ص/ ٥).
1 / 16
* ومن جوانب الفخر والاعتزاز أن نقول: إنه مع ما بلغته عقولُ البشر من تطوُّر في الفكر وأدواته ووسائله؛ فلا يزال تراث الأمَّة الإسلامية يُشكِّل مخزونًا هائلًا يجترُّ منه أهله المنتسبون إليه، وينهل منه المحبُّون له، ليس في الأفكار فحسب؛ بل أيضًا في طريقة التربية، والتوجيه، والتعليم، ووسائل ذلك.
لذا فالدعوة إلى الانقطاع عن تراث الأمة وأصولها، ليست دعوةً مقبولة، لا في السياق العقلي ولا الشرعي، كما أن نقيضتها على الطرف الآخر من دفن الرأس في الرمال، وغضِّ الطرف عن آخر ما توصل إليه المتخصِّصُون في هذه الأبواب؛ تشابهها في الحكم عليها، والانفضاض عنها، وإنما الدعوة التي نرجوها: التوسُّط في الأمر، عن طريق مواكبة العصر بأصولنا الإسلامية، لتتلاقح الأفكار، ويجني صغارُنا الثمار. والحكمة ضالُّة المؤمن، أنَّى وجدها؛ فهو أحقُّ بها.
لكن: ثمَّ سؤال قد يراود الأذهان؛ وهو: هل دَرَسَ الصَّحْب والآل والسَّلف علوم التربية هذه ووسائلها التي نتحدَّث عنها، حتى نأخذ عنهم، ونستفيد من تجاربهم؟!
والجواب: أنهم حققوا النموذج العملي الراقي في كل مجالات الحياة، وليس فقط في مجال التربية، لكن الأمر كما في علم النحو والصرف، واللغة والبيان والبديع، وغيرها، أن السَّلف لم يدرسوا النحو والصرف وغيره، ومع ذلك كانوا أفصح الناس؛ لأن ذلك كان عندهم
1 / 17
بالسليقة، وبالاستعدادات الفطرية، بجانب تهذيب الوحي الشريف لهم، كذلك التربية، هم مارسوها بالفعل؛ لكن ضبط هذه الأشياء وتبسيطها وتقنينها لا يمكن أن يتصادم مع هذا (^١).
ومن شواهد هذا الجواب وأدلته: ما نجده في سيرهم وتراجمهم، من أقوال وأفعال وتقريرات، تدل على اهتمامهم بالأمر؛ ومن ذلك:
* قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ﵁ في تفسير قوله تعالى: ﴿قوا أنفسكم وأهليكم نارًا﴾ (^٢).
قال: «علموهم وأدبوهم»، وفي رواية: «علموا أنفسكم وأهليكم الخير» (^٣).
وترجم ابن أبي الدنيا لهذا الأثر بقوله: «باب تعليم الرجل أهله، وتعليم ولده، وتأديبهم» (^٤).
_________
(^١) محمد إسماعيل المقدم، «محو الأمية التربوية»، سلسلة محاضرات مفرَّغة.
(^٢) سورة التحريم (٦).
(^٣) في إسناده ضعف: أخرجه عبدالرزاق (٤٧٤١)، والحسين بن حرب في «البر والصلة» (١٨٩)، من طريق منصور بن المعتمر، عن رجل، عن علي؛ به.
وهذا إسناد ضعيف، لإبهام الراوي عن علي.
وقد أخرجه الحاكم (٣٨٢٦) -وعنه البيهقي في «شعب الإيمان» (٨٣٣١) - من طريق عبدالرزاق؛ فسمى ذلك المبهم: ربعي بن حراش، وهذا لو صحَّ: لكان الإسناد مقبولًا صحيحًا.
لكن الراجح عندي أن هذا وهم أو تصحيف، لأنه من غير طريق عبدالرزاق بالإبهام أيضًا. والله أعلم.
(^٤) ابن أبي الدنيا، «العيال» (١/ ٤٩١).
1 / 18
* وفي زمن عمر بن الخطاب ﵁: «كان بالمدينة ثلاثة معلمين يعلمون الصبيان، فكان عمر يرزق كل واحد منهم خمسة عشر درهمًا كل شهر» (^١).
* وابنه عبدالله بن عمر ﵁ ينصح رجلًا ذات يومٍ مؤكِّدا على أهمية التربية والتأديب؛ فيقول له: «أدِّبْ ابنك فإنك مسئول عن ولدك، ما علمته؟ وهو مسئول عن برِّك وطاعته لك» (^٢).
* وكان سعيد بن العاص ﵁ يقول: «إذا علمتُ ولدي، وزوَّجتُه، وأحجيتُه؛ فقد قضيت حقَّه، وبقي حقي عليه» (^٣).
_________
(^١) إسناده ضعيف: أخرجه ابن أبي شيبة (٢٠٨٣٥)، والبيهقي (٦/ ٢٠٦)، من طريق صدقة بن عبدالله السمين الدمشقي، عن الوضين، عن عمر؛ به.
وصدقة هذا قال عنه الحافظ في «التقريب» (٢٩١٣): "ضعيف". كما أن شيخه الوضين لم يدرك عمر!
(^٢) صحيح لغيره: أخرجه البيهقي (٣/ ١٢٠)، والخطيب في «الفقيه والمتفقه» (١/ ١٧٦)، من طريق عثمان بن إبراهيم الحاطبي، عن ابن عمر؛ به.
وهذا إسنادٌ حسن لأجل بعض الكلام في عثمان، كما في «لسان الميزان» (٥/ ٣٧٣)، لكنه لا ينزل بالأثر إلى الضعف، خاصَّة وقد وُجد له طريق آخر عند ابن أبي الدنيا في «العيال» (٣٣٤) من طريق سعيد بن محمد الثقفي، عن عنبسة بن عمار، عن ابن عمر؛ به. والثقفي وإن كان ضعيفًا، كما في «التقريب» (٢٣٨٧)؛ إلا أنه يصلح هنا في تقوية الطريق الأول.
(^٣) إسناده حسن: أخرجه ابن أبي شيبة (٢٦٣١٩)، وابن أبي الدنيا في «العيال» (١٧٠، ٣١٢)، من طريق طلحة بن يحيى بن طلحة، عن أبي بردة بن أبي موسى، قال: قال سعيد؛ به.
وهذا إسناد رجاله ثقات؛ خلا طلحة هذا، فقد قال عنه الحافظ في «التقريب» (٣٠٣٦): "صدوق يخطئ".
1 / 19
* وظهر فيما بعد وظيفة باسم: "المؤدِّب".
بل كان أحد أئمة الحديث، وهو الإمام ابن أبي الدنيا يُلقَّب بـ: "مؤدِّب أولاد الخلفاء" (^١).
وسيرد -إن شاء الله- في ثنايا هذه الفصول من الآثار والنماذج ما يزيد هذه النتائج قوَّة، والشواهد إيضاحًا وتتمَّة.
عملي في هذا الكتاب:
- قمتُ -بحمد الله- بجمع مادة هذا البحث من خلال استقراء بعض كتب المصنَّفات في آثار الصحابة والتابعين؛ مثل: «مصنَّف عبدالرزاق»، والأبواب المفرَدة في كتب السنة، والتي تتعلق بالتربية والتعامل مع الصغار (^٢)، مع مطالعة بعض الأبحاث والمؤلَّفات العصرية، المحتوية على آخر ما تُوصِّل إليه في هذا الباب.
ومما يجب التنبيه عليه هنا: أن هذه الدراسة قائمة على التخيُّر
_________
(^١) الذهبي، «سير أعلام النبلاء» (١٣/ ٤٠٠).
(^٢) بعض الآثار والنماذج المذكورة هنا لم يتضح لي -بعد بحث في طرقها والاستدلال عند العلماء بها- ما إذا كان سنُّ الابن المتعلِّم أو المخاطَب صغيرًا أم كبيرًا، فإن تبيَّن للقارئ -بقرائن عنده- أن الابن كان كبيرًا؛ فلا ضرر إن شاء الله من إدراج هذا النموذج هنا، بجامع باب التربية بينهما.
1 / 20
والانتقاء، لا الحصر والاستقصاء، فإن ذلك أمرٌ يتعذَّر كما يعلمه العقلاء، لكن المراد كشف الِّلثام، عن هذا الجزء من حياة الصحب والآل، وأنه لم يكن مهملًا ولا غفلًا، بل بلغ من وضوحه أنه كان يُمارس، ولا يحتاج أن يُدوَّن أو يدرَّس، فلما تباعد الزمان، واختلفت عقول الناس؛ احتيج إلى الكتابة والقرطاس.
* قسمت الدراسة إلى خمسة فصول، وتمهيد:
أمَّا التمهيد:
فقد قسمته إلى مبحثين:
الأول: لبيان معاني المصطلحات والمفردات الواردة في عنوان الدراسة (الآداب، التربية، التراث، الآل، الأصحاب). وقد راعيت في ذلك الاختصار، بما يتناسب مع طبيعة الدراسة.
الثاني: لبيان العناية المبكرة، والاهتمام البالغ بمرحلة الطفولة والصغر قبل بدئها، من خلال نصوص الوحي، وتعامل الآل والصحب، بإيجاز بالغٍ، إذ ليس مقصودًا لنا بالأصالة هنا، وإنما وُضع ليكون بمثابة توطئة للفصول اللاحقة.
١. وأمَّا الفصل الأول (التربية العقدية):
فجاء لبيان أهمية العقيدة في حياة الصغار، واهتمام الصحب والآل
1 / 21
بهذا المكوِّن في التربية، ومظاهر ذلك، وأمثلته، ونماذجه.
٢. وأمَّا الفصل الثاني (التربية التعبدية):
فجاء لبيان دور العبادة في إصقال العقيدة في نفوس الصغار، وأهمية تدريبهم عليها من الصغر، رغم أنهم غير مكلَّفين بها، ومظاهر ذلك عند الصحب والآل مع صغارهم، في أشكال العبادة المختلفة؛ من صلاة، وصيام، وزكاة، وحج وعمرة، وتعلُّم قرآن، وغير ذلك.
٣. وأمَّا الفصل الثالث (التربية الأخلاقية):
فجاء لبيان أهمِّ الأخلاق الأساسية المتَّفق عليها، التي بناها الصحب والآل في نفوس صغارهم، والوسائل التي استخدموها في إيصال تلك الأخلاق، مع الاستشهاد بالنماذج والمواقف التي أُثرت عنهم.
٤. وأمَّا الفصل الرابع (التربية الاجتماعية):
فجاء لبيان معنى هذه التربية وأهميتها، وكيف تعامل الصحب والآل مع صغارهم لدمجهم في مجتمعهم، وجعلهم ناجحين اجتماعيًّا، بعيدًا عن أجواء العزلة والانطوائية، والأساليب التي استخدموها لأجل تحقيق هذا الغرض.
٥. وأمَّا الفصل الخامس (التربية البدنية):
فجاء لبيان الاهتمام بالبناء الجسدي الصحي، والبناء النفسي العاطفي
1 / 22
في آنٍ واحد، وذلك ليخرج الصغيرُ صحيحَ البدن، صحيح النفس، بلا تشويه جسدي أو عاطفي، وبيان أهم الوسائل التي اُستُخدمت لأجل الوصول لهذا الهدف.
- قدَّمتُ لكلِّ فصل من فصول التربية المذكورة بقَبَسٍ يسير من الهدي النبوي الدَّالِّ عليه، الموضِّح لأصله، إذ هو الضوء الذي أنار للصحب والآل الطريق، وشقَّ لهم السبيل.
- قمتُ بتخريج الأحاديث والآثار الواردة في الدراسة، وراعيت في ذلك الاختصار بما يتناسب مع المقام، إلا ما دَعَت الحاجة إلى التوسُّع فيه بعض الشيء، مع تصدير ذلك بالحكم العام على الحديث أو الأثر.
- ذيَّلتُ البحث بقائمة المصادر والمراجع الواردة في الدراسة.
وأخيرًا: فقد وُفِّقت مبرَّةُ الآل والأصحاب بإخراج أمثال هذه الأبحاث والدراسات التي تربط أبناء الأمة بأسلافهم، وتمدُّهم بما له أثرٌ نافعٌ من ماضيهم، في خطوة رائعة لتعريفهم بأهمية تراثهم. كما تبيِّن للشباب ما كان بين الصحب والآل، من اتفاقٍ في المنهج والأسلوب، إذ وردوا جميعًا موردًا واحدًا؛ فلا غَرْوَ أن تتشابه بعد ذلك تربيتهم وطريقتهم.
فجزى الله مبرة الآل والأصحاب، من إدارة، ومسؤولين، ومراجعين،
1 / 23
وعاملين بها، خير الجزاء، وجعل ذلك في صحائف حسناتهم، وأثابهم الحسنى وبيَّض وجوههم ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (٨٨) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ (^١).
والحمد لله حمدًا كثيرًا طيِّبًا مبارَكًا فيه، حمدًا يوافي نعمَه، ويكافئ مزيدَه، ويدفع عنَّا نقمَه.
أحمد الجابري
_________
(^١) سورة الشعراء (٨٨ - ٨٩).
1 / 24
تمهيد
ويشتمل على مبحثين:
المبحث الأول: التعريف بمصطلحات العنوان
(الآداب، التربية، التراث، الآل، الأصحاب)
المبحث الثاني: عناية مبكِّرة
1 / 25
المبحث الأول: التعريف بمصطلحات العنوان
أولًا: التعريف بالآداب
تعريف الأَدَب لغة:
قال ابن فارس: " (أدب) الهمزة والدال والباء أصل واحد تتفرع مسائله وترجع إليه، فالأَدْبُ أن تجمع الناس إلى طعامك. وهي: المأدَبة والمأدُبة. والآدِبُ الداعي. قال طَرَفَةُ:
نحن في المشتاة ندعو الجَفَلَى ... لا ترى الآدِبَ فينا يَنتَقِرْ
والمآدب: جمع المأدبة، قال شاعر:
كأنَّ قلوب الطير في قَعْر عُشِّها ... نوى القَسْبِ مُلقًى عند بعض المآدِب
ومن هذا القياس: الأَدَبُ أيضًا، لأنه مجمَعٌ على استحسانه" (^١).
والأَدَب: الذي يتأدَّب به الأديب من الناس، سُمِّي أَدَبًا: لأنه يأدِب
_________
(^١) ابن فارس، «مقاييس اللغة» (١/ ٧٤).
1 / 27
الناس إلى المحامد، وينهاهم عن المقابح. وأصل الأَدْبِ: الدُّعاء، ومنه قيل للصَّنيع يُدعَى إليه الناس: مَدْعاة، ومأدُبة (^١).
وقال أبو زيد الأنصاري: الأَدَبُ يقعُ على كل رياضة محمودة يتخرَّج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل. وقال الأزهري نحوه.
فالأَدَبُ اسمٌ لذلك، والجمع: آداب، مثل: سبب وأسباب، وأدَّبْته تأديبًا مبالغة وتكثير، ومنه قيل: أدَّبته تأديبًا إذا عاقبته على إساءته؛ لأنه سبب يدعو إلى حقيقة الأدب (^٢).
تعريف الأَدَب اصطلاحًا:
الأدب: رياضة النفوس ومحاسن الأخلاق، ويقع على كلِّ رياضة محمودة يتخرَّج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل (^٣).
وقيل: هو عبارة عن معرفة ما يُحتَرزُ به عن جميع أنواع الخطأ (^٤).
وفيما يتعلق بالسلوك؛ هو: حُسن الأحوال في القيام والقعود، وحُسن الأخلاق، واجتماع الخصال الحميدة (^٥).
_________
(^١) ابن منظور، «لسان العرب» (١/ ٢٠٦).
(^٢) الفيومي، «المصباح المنير» (١/ ٩).
(^٣) المناوي، «التوقيف على مهمات التعاريف» (ص/ ٤٢)، الكفوي، «الكليات» (ص/ ٦٥).
(^٤) الجرجاني، «التعريفات» (ص/ ١٥).
(^٥) التهانوي، «كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم» (١/ ١٢٧).
1 / 28