ثم بعد أن تلقيت كل شيء - حتى نفسك - من غيرك، أتغضب وتلوم المعطي إذا أخذ أي شيء منك؟ من أنت؟ ولأي غاية جئت إلى العالم؟ ألم يأت بك هذا الواهب وأضاء لك السبيل؟ ألم ينعم عليك برفاقك؟ ألم يهبك حواسك؟ ألم يمنحك العقل؟ وبأية صفة أتى بك إلى هنا؟ أبصفة كائن مخلد؟! ألم يأت بك بصفة كائن يعيش على الأرض بجسد ضئيل لكي تعاين إدارته، وتشاهد معه العرض الرائع ، وتشارك في مهرجان الوجود لفترة وجيزة؟ وبعد أن شاهدت العرض والمراسم بقدر ما أتيح لك ألن ترحل عندما يذهب بك، حامدا وشاكرا له على ما أراك وما أسمعك؟ تقول: «بلى، ولكني ما زلت أريد المزيد من متعة المهرجان.» والمبدأ أيضا يود لو تطول به المراسم، والمتفرجون في الأوليمبياد يودون رؤية المزيد من المتنافسين، ولكن الاحتفال انتهى، فاذهب شاكرا قنوعا ... أخل مكانا لغيرك، ثمة آخرون ينبغي أن يولدوا كما ولدت فيجدوا مكانا لهم ومأوى وحوائج. فإذا لم يرحل السابق فماذا يبقى للاحق؟ لماذا أنت جشع لا تقنع؟ لماذا تزحم العالم؟!» (المحادثات، 4-1). (8) العيش في انسجام مع الطبيعة
كثيرا ما يطلق على وجهة النظر التي يتبناها الطالب الرواقي والأفعال التي يؤديها سعيا إلى الامتياز اسم «اتباع الطبيعة» أو «الحياة في انسجام مع الطبيعة»، إنه على وعي دائم بموقعه وصفته وبالأفعال التي تليق بهما، وتقبل غير مشروط لقدره ومصيره، وإذعان لحدوث الأشياء مثلما تحدث ومثلما شاء لها مصرفها. فإذا عنفه أخوه فإنه لا يستجيب لذلك بالغضب والسخط؛ لأن هذا مضاد للطبيعة التي حددت كيف ينبغي أن يتعامل الأخوان.
ولكي نحفظ أنفسنا في انسجام مع الطبيعة فإن علينا أن ننتبه إلى شيئين: إلى أفعالنا بحيث تأتي استجاباتنا على نحو ملائم، وإلى العالم الذي نجترح فيه أفعالنا والذي يحث تلك الأفعال في المقام الأول: «إذا كنت معتزما القيام بعمل ما، ذكر نفسك بطبيعة هذا العمل. فإذا كنت ذاهبا لكي تستحم فتمثل في نفسك ما يحدث في الحمامات العامة: ثمة من يرشش الماء، والبعض يتدافعون بالمناكب، آخرون يسب بعضهم بعضا، وهناك من يسرق، وهكذا سوف يتسنى لك الاضطلاع بشأنك على نحو آمن إذا قلت لنفسك: لقد اعتزمت الآن أن أغتسل وأن أحفظ إرادتي في انسجام مع الطبيعة، وليكن هذا دأبك في أي عمل آخر، فبذلك إذا ألمت بك في اغتسالك أي عوائق سيمكنك أن تقول: «لم يكن مقصدي الاغتسال فحسب، بل قصدت أيضا أن أحفظ إرادتي في انسجام مع الطبيعة، ولن يكون لي أن أحفظها هكذا إذا أنا تبرمت مما يحدث»» (المختصر، 4).
في هذه الشذرة عن الحمامات يتحدث إبكتيتوس عن المتاعب المتوقعة في مواقف معينة، ويوصينا بتوقع مثل هذه المتاعب بحيث إذا وقعت لا تثير فينا عجبا ولا غضبا. وفي مقابل ذلك ثمة مواقف تحل فيها الشدائد بغتة وعلى غير انتظار، إلا أن استجابة الرواقي تظل واحدة في الحالتين: إنه يتقبل ما قدره الله له، ويجعل من وقوع المحنة مناسبة لممارسة الفضيلة وتقوية الإرادة. «إن الشدائد تكشف الرجال؛ ومن ثم فإذا نزلت بك نازلة فتذكر أن الله يعجم عودك، شأنه شأن مدرب المصارعة الذي يمتحنك بمنازلة شاب شديد البأس، لعلك قائل: «لأي غرض؟» ... عجبا، عساك أن تصبح بطلا أوليمبيا، وهذا لا يتم بدون عرق، وعندي أنه لم يحظ إنسان بمحنة أنفع من محنتك إذا أنت تعاملت معها مثلما يتعامل الرياضي مع خصم فتي» (المحادثات، 1-24).
هكذا ينبغي أن نفهم كل شدة تلم بنا في الحياة، إنها فرصة جديدة لتقوية إرادتنا الأخلاقية. تماما مثلما أن كل جولة جديدة للمصارع هي فرصة له لتدريب مهارته في المصارعة. «الحكيم هو من يسلم أمره لمدبر الكل ويذعن لحكمه مثلما يذعن المواطنون الصالحون لقوانين الدولة. هكذا تكون الحرية الحقة: الحرية ليست في الانفلات والإباحة؛ فالحرية والجنون لا ينسجمان. إنما الحرية التزام بالأصول، حين أمضي في أي شأن؛ الكتابة مثلا، وأريد أن أكتب كلمة
Dion ، هل أكتبها كيفما اتفق أو كيفما يحلو لي؟ كلا، فقد تعلمت أن أكتبها كما ينبغي لها أن تكتب. كذلك الحال في الموسيقى، وفي أي فن آخر أو علم. وإلا فلن تكون ثمة جدوى لأي معرفة إذا كانت المعرفة تخضع لنزوات كل واحد وتتلون بمزاجه ... علي إذن أن أتعلم كيف أجعل رغبتي هي أن يحدث كل شيء مثلما يحدث، وكيف تحدث الأشياء؟ تحدث كما أراد لها مصرفها جل وعلا ... التعلم يجب ألا يتوخى تغيير بنية الأشياء؛ فليس هذا في قدرتنا ولا هو من المستحب أن يكون في قدرتنا، بل يتوخى أن نحفظ عقولنا في تناغم مع الأشياء مثلما هي ومثلما تشاء لها الطبيعة» (المحادثات، 1-12). (9) تشبيهات الحياة عند إبكتيتوس
يستخدم إبكتيتوس عددا من الاستعارات للحياة، لكي يوضح ما ينبغي أن يكونه الموقف الرواقي منها.
الحياة كمهرجان
يحثنا إبكتيتوس على أن ننظر إلى الحياة كمهرجان نظمه الله لمصلحتنا، كشيء يمكن أن نعيشه بابتهاج، ونتحمل مصاعبه التي تحيق بنا لأننا نرنو بأعيننا إلى المشهد الأعرض الذي يدور. «ألم يأت الله بك هنا ككائن فان يعيش على الأرض بجسد ضئيل لكي يشاهد إدارته ويشارك معه، لفترة قصيرة، في مهرجانه؟» (المحادثات، 4-1).
تهيب بنا الأخلاق الرواقية أن نعيش على أفضل نحو ممكن وأن نؤدي واجباتنا كمواطنين في العالم؛ مدينة الله العظيمة.
نامعلوم صفحہ