محو الأمية التربوية

Mohammad Ismail Al-Muqaddim d. Unknown

محو الأمية التربوية

محو الأمية التربوية

اصناف

ـ[محو الأمية التربوية]ـ المؤلف: محمد أحمد إسماعيل المقدم مصدر الكتاب: دروس صوتية قام بتفريغ بعضها موقع الشبكة الإسلامية [الكتاب مرقم آليا، ورقم الجزء هو رقم الدرس - ١٥ درسا]

نامعلوم صفحہ

محو الأمية التربوية قد يفهم كثير من الناس بكافة مستوياتهم الثقافية معنى الأمية التعليمية، لكن الخطأ المشترك بين كل هؤلاء، والذي يقع فيه حتى عِلية القوم من المثقفين، هو جهلهم بمعنى الأمية التربوية، ولذلك يمارسون مع أبنائهم أساليب تربوية خاطئة، سواء كانت تنتهج القسوة أو التدليل، وسواء كانت موروثة أم مستوردة، ولهذا فالواجب على كل أب أن يتعلم أسس التربية، ويلتزم الطريقة الصحيحة في ذلك.

1 / 1

اهتمام الإسلام بتربية النشء الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، لاسيما عبده المصطفى، وآله المستكملين الشرفا، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: فإن الإسلام كالبناء الجميل، من أي النواحي أتيته أعجبت بجماله وبهائه وروعته؛ فسواء نظرت إليه من جهة عقيدة التوحيد التي تميز بها، أو كمال التشريعات التي شرعها، أو النظام الاقتصادي في الإسلام، أو النظام السياسي، أو الإعجاز العلمي، أو بلاغة وآداب القرآن وهكذا. ومن الجهات التي إذا طرقناها بالنظر والتأمل نجد أن هذه الجهة وهذا الموضوع هو موضوع التربية والاهتمام بتنشئة الأطفال والأجيال التي تشكل الحاضر والمستقبل، ويتميز المنهج التربوي الإسلامي بوسائل معينة توصل إلى أهداف محددة. أما الهدف فهو إنقاذ هذه الذرية من النار، وأن يشبوا أبناء صالحين يعملون لدينهم ودنياهم، ويسعدون في الدارين بالصلاح والتقوى والإيمان والتوحيد. وقد وضح الله ﷾ ذلك حينما قال ﷿: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ [التحريم:٦]، قال علي بن أبي طالب: علموهم وأدبوهم. والمعنى: ﴿قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ [التحريم:٦]، بالتربية والتعليم والتأديب والتهذيب، فيكفي في بيان خطر هذه المسئولية: أن الخلل فيها يؤدي إلى عقوبة النار. وحينما كانت امرأة من الأسرى تجد في البحث عن ولدها، فحينما رأته بعد بحث وعناء ألصقته ببطنها في حنان شديد، قال النبي ﵌ لأصحابه: (أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قالوا: لا، قال: لله ﷿ أرحم بعباده من هذه بولدها)، فالله ﷾ وضع الرحمة في قلوب الآباء الأسوياء، ومن ثم لم تكثر النصوص القرآنية والأحاديث النبوية التي توصي الآباء بالأبناء، وإنما رأينا العكس، فكثير من النصوص توصي الأبناء بالآباء؛ لأن الله ﷿ تكفل بوضع هذه الرحمة الذي تضمن لهم هذا المعين الذي ينبض بالحب والحنان والعطف. وقد جعل الله ﷾ من دعاء الصالحين وعباد الرحمن: ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ [الفرقان:٧٤]، فحينما يراهم صالحين أتقياء فلا شك أنهم يكونون قرة أعين للعبد الصالح. وقد حذر النبي ﷺ من أن يجني الأب على ولده، فقال ﵊: (ألا لا يجن والد على ولده)، رواه الدارقطني. وهناك كثير من النصوص فيما يتعلق بإعطاء الإسلام أهمية كبرى لموضوع التربية، فتربية الإسلام للطفل ليست كأي تربية أخرى، إنما هي تربية لغاية ولمقصد ولمستقبل في الدارين، فيقول النبي ﵊ للأطفال: (ارموا فإن الرمي أنكأ للعدو)، فمن أول طفولتهم يخاطبهم بهذا الخطاب. فحينما رأينا الإسلام العظيم ربط الهدف التربوي بهذه الغاية العظمى، وهي سعادة الدارين، في نفس الوقت وجدنا جميع تعريفات التربية في المفهوم الغربي الذي يلهج به كثير من المسلمين تركز على إعداد الطفل ليكون قادرًا على تحقيق رغباته الدنيوية، بغض النظر عن كون التعريف بالتربية علمانيًا ينفصل تمامًا عن التربية الإسلامية. وقد اهتم المسلمون اهتمامًا شديدًا بموضوع تربية الطفل، والحفاظ على نفسيته من التشويه والإعاقة النفسية، أذكر مثالًا عارضًا لذلك: كان المسلمون الأوائل يوقفون الأموال على الأطفال أو العبيد الذين إذا أرسلهم آباؤهم لشراء شيء معين وضاعت منهم الأموال، فمن أجل حماية هؤلاء الأولاد من العقوبة أو القتل التي قد يتعرضون لها أوقفوا أموالًا ليعوض هؤلاء الأطفال من هذه الأموال، حماية لهم من قسوة الآباء الذين قد يعاقبونهم بشدة بسبب ضياع المال منهم.

1 / 2

مفهوم الأمية التربوية الضائع لا نتصور أن مثل هذه القضية التي هي غاية في الخطورة يمكن أن تناقش وتعطى حقها في هذا الزمن القليل، فليكن كلامنا مجرد مدخل ومقدمة لسلسلة تستمر -إن شاء الله تعالى- فيما بعد عن هذا الموضوع. بالنسبة لمفهوم الأمية التربوية لابد أن يتداعى الناس بين وقت وآخر للحديث عنها، والإعلان عن مراكز محو الأمية وأهمية محو الأمية، بمعنى الجهل بالقراءة والكتابة، لكننا قل أن نجد من يلتفت إلى نوع آخر من الأمية، وهي الأمية في مجال التربية، فضلًا عن أن يفكر في محوها، وسلوك منهج علمي دقيق في محو هذه الأمية.

1 / 3

الفرق بين الأمية التربوية والأمية بالقراءة والكتابة هناك فرق شديد بين أمية القراءة والكتابة وبين أمية التربية؛ إذ أمية القراءة والكتابة من حيث آثارها أخف بكثير جدًا من أمية التربية، أما أمية التربية فقد تخرج أجيالًا مشوهة نفسيًا تعاني وتتعذب وتنحرف في كل مظاهر الحياة. الأمية في القراءة والكتابة قد نجدها تتفشى في طائفة معينة من الناس، ولكن الأمية التربوية لا ترحم، فإنها قد تتفشى كالداء الوبيل، وقد نجدها في أعلى الناس من حيث المستوى العلمي، كأستاذ الجامعة، أو حتى خواص الناس وليس عوامهم، فهؤلاء بلا شك أعلى الناس من حيث تنزههم عن أمية القراءة والكتابة، ولكن مما يؤسف له: أن الأمية التربوية متفشية فيهم بصورة مؤلمة جدًا على أعلى المستويات، بل على مستوى الوزراء وغيرهم من علية القوم، وهذه الظاهرة نلمسها في مناهج التعليم، أو وسائل الإعلام كل هذه تعكس وتشير إلى مدى الأمية التربوية؛ هذا مع حسن الظن بهم! الأمية بالقراءة والكتابة قد تكون ظاهرة، أما الأخرى فهي تتخفى، ثم تظهر لنا فيما بعد آثارها الخطيرة على الأبناء والأولاد، أي: يمكن أن يكون الرجل خبيرًا وقائدًا في التربية وهو رجل فقير لا يقرأ ولا يكتب، ومع ذلك تجد سلوكه مع أولاده سلوكًا راقيًا مهذبًا مستنيرًا يخرج الأولاد الأصحاء، وقد يكون رجلًا على النقيض من ذلك، ومع ذلك يكون غارقًا في الأمية التربوية. إذًا: ليس المقصود من محاضرتنا هذه محو الأمية التربوية كما هو العنوان، ولكنه تحت عنوان مضمر: أهمية محو الأموية التربوية؛ فإن المحو لهذه الأمية يحتاج زمنًا طويلًا وجهودًا مكثفة، والمقصود هو أن ننقل هذه القضية إلى دائرة الاهتمام ليسلط الضوء عليها، ونعطيها القدر الذي تستحقه.

1 / 4

عوائق معالجة الأمية التربوية كان ينبغي معالجة هذه القضايا منذ زمن بعيد، لكن هناك عوائق وعقبات أمام ذلك، وأكبر عقبة أنه كان يفترض في هذه القضايا التربوية أن يقسم الناس فيها إلى شرائح عمرية، ويوجه لكل طائفة كلام غير الكلام الذي يوجه للطائفة الأخرى، إلا أن مشكلاتنا في مجتمع المسجد أنه تتواجد فيه جميع الفئات العمرية من الجنسين، ولا شك أن هذا توجد معه بعض الصعوبة من حيث اختلاف مستويات الناس في فهم الأشياء. أيضًا الكلام الذي يقال للأطفال غير الذي يقال للشباب المراهقين، وهو غير الذي يقال للناضجين، وهو غير الذي يقال للشيوخ، كذلك ما يقال للبنات غير ما يقال للبنين؛ علاوة على أن هناك قضايا لابد من طرقها لكن لا يناسب طرحها بصورة مكشوفة أمام كل هذه المجموعات العمرية، لأنها تناسب طائفة معينة؛ فهناك من الشباب مثلًا من له بعض المشكلات الخاصة جدًا التي لا يناسب أن تذكر أمام الجميع، أو تناقش بانفتاح أمام هذه المجموعات كلها. أيضًا: يحتاج هذا الموضوع لتوعية نفسية وصحية، ونحن وإن كنا قد أغنانا الله ﷾ بنور القرآن ونور السنة وهدي السلف الصالح، لكننا في نفس الوقت نحتاج لتوعية نفسية وصحية في قضايا لا تكون كالقضايا التي نعتاد على دراستها في المسجد، لكننا نرجع فنذكر أنفسنا بأن المسجد طالما كان له دور شامل لجميع مقاصد الحياة، ويشمل كل مجالات الحياة، فلا حرج على الإطلاق إن شاء الله تعالى من تناول هذه الأشياء، من باب تصديق قول النبي ﷺ: (احرص على ما ينفعك)، كما أن هذه الأمور النافعة تفيدنا دينًا ودنيا، فلا حرج إن شاء الله تعالى من ذكرها. أيضًا مما يتخوف منه الإنسان: أن بعض الناس يسيء أحيانًا فهم الكلام، وبالتالي تطبيق الإرشادات، لكن مع التفصيل والإيضاح نأمل تجاوز هذه المخاطر. ما دمنا نتكلم عن التربية فمحور هذه القضية هو أهم شريحتين في الأمة: الأطفال والشباب؛ لأنهما الطائفتان القابلتان للتربية والتوجيه، وكلما تقدم السن كلما كان الأمر أصعب.

1 / 5

بعض مظاهر الخلل في التربية من المناسب أن نبدأ بإظهار بعض مظاهر الخلل، وموقفنا نحن من موضوع التربية.

1 / 6

إهمال التربية أو تبني التربية المخالفة للإسلام إذا قلت لشخص: ما هذا؟ فقال: لا أدري، فهذا جهل، لكن لو قلت لآخر عن كوب: ما هذا؟ فقال: هذا كتاب، فقد أخطأ، فهو لا يعرف الكتاب من الكوب، فالخطأ في العلم نوع من الجهل، وقد يكون أخطر من الجهل العادي الذي يعني انعدام العلم. أقصد بذلك أن عندنا بعض الناس لا يخطر الموضوع لهم على بال، والبعض الآخر يتبنى مناهج تربوية خاطئة؛ لأنها مصادمة للمنهج الإسلامي الصحيح والسوي، فهذا أيضًا نوع من المرض والانحراف ينبغي أن يعالج، وأن تقتلع المفاهيم المنحرفة؛ لأنها لا تخرج عن حيز الجهل؛ لأنها مناهج خاطئة تصادم المنهج الصحيح. نحن أقسام: إما أن بعضنا غافل تمامًا عن شيء يسمى تربية، فيمارس نوعًا من اللامبالاة، والموضوع لا يخطر له على بال، وكل نظره يتجه إلى نمو الطفل: أنه الآن يحبو الآن بدأ يتكلم الآن كذا وكذا مضغة لحم تنمو وتكبر ويتلهى بها، ويغفل أنواعًا أخرى من النمو ينبغي أن يعتنى بها، وأن يعطى الطفل احتياجاته فيها. فالوعي التربوي لدى أغلب الناس وعي منخفض جدًا حتى عند المثقفين منهم، فالتربية لا تأخذ عندهم مأخذًا جادًا كعلم يكتسب، ومهارة تحتاج إلى تدريس، وإنما ينظر إليها أغلب الناس على أنها شيء تلقائي يدركه الفرد بإحساسه العفوي، فإن أراد الاجتهاد فإنه يضيف شيئًا من خبراته المكتسبة وراثيًا عن طريق ما تعلمه من الآباء. وغالبية الناس يجهلون كيف يتعاملون بالأسلوب السليم مع أولادهم في هذا العصر الذي صعبت فيه التربية جدًا؛ لأنه عصر يكتظ بالمتناقضات، وتتزاحم فيه الأضداد، وأصبح الإنسان تتنازعه جوانب عدة واتجاهات مختلفة؛ فلا يجد الفتى أو الفتاة سوى التخبط والضياع عندما لا يكون هناك من هو كفؤ لقيادته إلى الطريق الصحيح في هذا الخضم المتلاطم من الأفكار والنزعات.

1 / 7

الحديث عن التربية من أبراج عالية لا تناسب بسطاء العقول بعض الناس يتكلمون كثيرًا عن التربية لكنهم يتكلمون من برج عاجي، أو دراسات أكاديمية معقدة لا يفقهها إلا من كان على هذا المستوى الأكاديمي، وكما نلاحظ في الدراسات المتخصصة فإنها لا تعطينا وجبة سهلة قابلة للتطبيق، لأن كل الكلام على مستوى أكاديمي يناسب المتخصصين ويستغلق على الإنسان العادي، وربما عقدت بعض المؤتمرات لمناقشة بعض المشكلات، وقد حضرت مرة مؤتمرًا يناقش مشاكل المراهقين، وتطرق أساتذة كبار في كلية الطب إلى هذه المشاكل؛ فوجدت أن الكلام كله يدور في إطار مشاكل طبقة المترفين، وفيه تفاصيل لا تمت للأغلبية من الناس بصلة. أيضًا بعض الناس افتتن بالمنهج التربوي الغربي وأراد إسقاطه عشوائيًا على بيئتنا، وهذا كقصة المثل الذي يحكي أنه كان هناك سمكة جرفها السيل، وأخذ يدفعها أمامه، وهناك قرد أراد أن ينقذ هذه السمكة، فأخرجها من الماء حتى ينقذها، نحن إذا تم التعامل معنا على أساس ثقافة غير ثقافتنا ومذهب غير ديننا فإن هذا لا يناسبنا؛ لأن صلاحنا لا يكون إلا بما صلح به أمر أول هذه الأمة. وبعض الناس يرون التربية الحسنة، في أن يوفر الأب لأولاده أحسن ملبس وأحسن مأكل، ووسائل الترفيه، والبعض يسلك مسلك التربية القاسية المتسلطة، حتى إن منا من يستحسن ذلك حين يحكي عن شخص أنه حين ينظر لابنه بعينيه فإن الولد يرتجف، فينظر إلى هذا الأب على أنه مرب جيد، وأن هذا الولد متربٍ، وعلى الجهة الأخرى نجد التدليل المفرط الذي يدمر الأطفال ويسيء إليهم.

1 / 8

تطبيق طريقة الآباء الخاطئة في التربية أو إيكالها إلى الخادمات من مظاهر الخلل في هذه التربية أيضًا: اعتزاز بعض الناس -إلى حد التقديس- بالطريقة التي ربي هو بها منذ صغره ويعتبرها جزءًا من كيانه لا يستطيع أن يتخلص عنه، وبالتالي يريد أن يحاكي هذه الطريقة ولا يخضعها أبدًا للنقد أو التمحيص أو النقاش أو إعادة النظر فيها. أما مشاكل المترفين: فهم يتركون زمام التربية لغيرهم، كحال الخادمات، فقد أصبحن في هذا الوقت ظاهرة جديدة، حيث يستقدمن من شرق آسيا كافرات لا يعرفن العربية، ويسلطن على الأطفال لتربيتهم، وهذه مصيبة ما بعدها مصيبة؛ لأن لهؤلاء الخادمات دورًا مدمرًا لهوية الأطفال الإسلامية.

1 / 9

ندرة وجود المعلم التربوي من هذا أيضًا: تسليم زمام التربية لمعلمات غير تربويات، ولا حظ لهن على الإطلاق في التربية، فنجد بعض المسالك من المعلمة التي لا تعرف شيئًا في التربية؛ لأن هناك فرقًا بين التربية وبين التعليم، فالتعليم جزء من التربية، كما يقول المثل الصيني: إذا أتاك مسكين من أجل أن تتصدق عليه فأن تعطيه شبكة وتعلمه كيف يصطاد السمك أفضل من أن تتصدق عليه بسمكة. فالمدرس الذي يدرس الرياضيات قد يحل لهم المسألة بسهولة، وهو في هذه الحالة ليس معلمًا فقط لكنه يكون مربيًا إذا علم التلميذ أو الطالب كيف يفكر ويحلها، وكيف يستقل بالإبداع في هذه المجالات؛ فالتربية أعم من التعليم، فقد يوجد معلم لكنه لا يكون مربيًا كما لاحظنا، والأمثلة مؤلمة جدًا.

1 / 10

تسليم زمام التربية لوسائل الإعلام المفسدة الآن ينتزع زمام التربية ويعطى لوسائل الإعلام التي تدمر الأبناء تدميرًا، وفي مقدمتها التلفاز بسلوكه الخطير على نفسية الأطفال بإجماع جميع العقلاء في كل العالم، وفي أمريكا يوجد اقتراح لمنع الفساد عبر أجهزة التلفزيون والفيديو وغيرها، فانضم لهذه الحملة رئيس أمريكا وطالب الناس أن ينضموا ليطالبوا الوسائل التلفزيونية بالحد من النشاط الإجرامي الذي يفسد الأطفال. هذا وهم كفار غير مسلمين، فما بالك بالمسلمين، فلا نشك أن التربية الموازية والمضادة للتربية الإسلامية التي تسلط على الأطفال صباح مساء تصعب المهمة جدًا في واقعنا الذي نعيشه.

1 / 11

أهمية التربية المبكرة من المناسب أن نبدأ بإظهار بعض مظاهر الخلل، وموقفنا نحن من موضوع التربية.

1 / 12

تحذير الشريعة من إهمال التربية إن العملية التربوية عملية في غاية الخطورة، ويكفي أن الخلل فيها يؤدي بنا وبأهلينا وأولادنا إلى النار، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ [التحريم:٦] إلى آخر الآية. ويقول النبي ﷺ: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته)، أي أنه واقف أمام الله، وسوف يسأله الله، فاسم مسئول من سأل، فسوف يسأل ويحاسب ويعاقب إن قصر، ويثاب إن أحسن. ويقول النبي ﷺ: (إن الله سائل كل راع عما استرعاه، حتى ليسأل الرجل عن أهل بيته). فلا تظنوا أن عملية التربية نوع من الكماليات أو الرفاهية، أو نوع من الترف العلمي أو الثقافي بل هي مسئولية في غاية الخطورة، (إن الله سائل كل راع عما استرعاه، حتى ليسأل الرجل عن أهله بيته) فسوف تسأل وتحاسب بين يدي الله ﷾ عن سلوكك مع أولادك وتربيتك إياهم. ويقول النبي ﷺ: (كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يعول)، يعني: لا إثم أعظم من ذلك. فمن القصور أن نتصور أن التضييع إنما يكون بالنفقة، لأن التضييع يكون بأمور هي أخطر من النفقة؛ سواء تركه مع صحبة سيئة، أو توفير أجهزة الفساد له بسهولة، أو سلوك مسالك مدمرة لنفسيته. وقال النبي ﷺ: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه)، فلابد من إتقان التربية وإحسانها، والاستعانة في ذلك بالله ﷿، يقول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت:٦٩].

1 / 13

كلام الغزالي على أهمية التربية المبكرة يقول الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى: الصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل نقش؛ أي أنه مثل العجينة الطرية يمكنك أن تشكله كما تشاء بإذن الله، فإذا أحسنت تشكيله خرج لك قرة عين، وخرجت لك ذرية صالحة، أما إذا أهملتها فهذا ما يبينه الغزالي فيقول: الصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل نقش، ومائل إلى كل ما يمال به إليه، فإن عود الخير وعُلِّمَه نشأ عليه؛ فسعد في الدنيا والآخرة أبواه، وكل معلم له ومؤدب، وإن عود الشر وأهمل إهمال البهائم؛ شقي وهلك، وكان الوزر في رقبة القيم عليه والوالي له. يقول النبي ﷺ: (كل مولود يولد على الفطرة، وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، فالشر طارئ لكن الفطرة البشرية سليمة وقابلة للخير، وإلى هذا أشار أبو العلاء بقوله: وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه وما دان الفتى بحجىً ولكن يعلمه التدين أقربوه فالنبي ﷺ حمل الوالدين مسئولية تربية الأبناء؛ لأن بعض الآباء قد تحصل ظروف معينة في أسرته تجعله يقرر أن يهرب من هذه المسئولية، فيكون مثله كمثل ربان السفينة في وسط البحر إذا غضب من بعض البحارة فترك لهم المركب، وأخذ قاربًا ولن يستطيع القيادة إلا هو، وقد يكون الأمر أخطر لو تخيلنا أنه قائد الطائرة وينزل بالمظلة، فهل يخلو مثل هذا من المسئولية بضياع هذه الأسرة وهؤلاء الأولاد؟ لا. بل سوف يحاسبه الله ﷿، ويكون حسابه أشد إذا كان سلبيًا أو فرر من مواجهة هذه المسئولية.

1 / 14

حث الشريعة على حقوق الأبناء والاهتمام بتربيتهم يقول النبي ﷺ: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته؛ الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها)، إلى آخر الحديث. ويروى في بعض الآثار: أن داود ﵇ قال: إلهي كن لبني كما كنت لي، فأوحى الله تعالى إليه: يا داود! قل لابنك يكن لي كما كنت لي، أكن له كما كنت لك. يقول الغزالي في رسالته: أيها الوالد! إن معنى التربية يلزم عمل الفلاح الذي يقلع الشوك ويخرج النباتات الأجنبية من بين الزرع ليحصل نباته ويكمل ريعه. ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: قال بعض أهل العلم: إن الله ﷾ يسأل الوالد عن ولده يوم القيامة قبل أن يسأل الولد عن والده. أي: فكما أن للأب على ابنه حق فللابن على أبيه حقًا، كما قال الله تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا﴾ [العنكبوت:٨]. وقال تعالى: ﴿قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ [التحريم:٦]. وقال علي بن أبي طالب في تفسيرها: علموهم وأدبوهم. وقال تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى﴾ [النساء:٣٦]. وقال النبي ﷺ: (اعدلوا بين أولادكم). وقال الله ﷿: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ﴾ [النساء:١١]. فإذًا وصية الله ﷾ للآباء بأولادهم سابقة على وصية الأولاد بآبائهم، والدليل من القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا﴾ [الإسراء:٣١]، فهنا وصية لاحترام هذه الروح، وهذه النفس، وهي نفس الأولاد قبل أن يصبح هذا الطفل مكلفًا ببر والديه، ومنذ أن كان جنينًا نفحت فيه الروح والله ﷾ يشرع له من الحقوق ما يحمي له حياته ويصونها، ويجعل لها حرمة، والأحكام في ذلك كثيرة كما سنشير إن شاء الله تعالى. يقول ابن القيم: فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه، وتركه سدى؛ فقد أساء غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء، وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه؛ فأضاعوهم صغارًا فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كبارًا، كما عاتب بعضهم ولده على العقوق فقال: يا أبت! إنك عققتني صغيرًا فعققتك كبيرًا، وأضعتني وليدًا فأضعتك شيخًا. ويقول سعيد بن العاص: إذا علمت ولدي القرآن وحججته وزوجته فقد قضيت حقه، وبقي حقي عليه.

1 / 15

غفلة الآباء عن التربية المبكرة للأبناء تربية الأولاد تبدأ مبكرة جدًا عما نتخيل؛ لأن أغلب الناس تنظر إلى الطفل من ناحية نموه الجسدي، وكثير من الناس يستصحب موقفه هذا مع الطفل الصغير منذ أن يحبو حتى يكبر وهو ما زال ينظر إليه بهذه النظرة. والإسلام في الحقيقة نبه إلى موضوع التربية، وبعض الناس لا يلتفت لها إلا بعدما يكبر الولد ويتعدى الثانية عشرة من عمره، وهذه خسارة ما بعدها خسارة؛ لأن نفسية الطفل وشخصيته تتشكل وتوضع البذرة الأولى لها في الخمس السنوات الأولى، فهذه أخطر مرحلة تشكل كل مستقبل الطفل فيما بعد ذلك، والله تعالى أعلم. وهذه المرحلة حقها أن تحظى بأكبر قدر من العناية، لكنها تحظى بأكبر قدر من اللامبالاة، واللامبالاة لا تساوي عدم التربية، بل تساوي تربية خاطئة، فاللامبالاة في حد ذاتها إساءة.

1 / 16

بداية التربية من اختيار الأم الصالحة لا ينظر للتربية على أنها تبدأ عندما يكلف الطفل، فهذا غير صحيح، ولن أقول: إنها تبدأ من ساعة خروجه من بطن أمه، لكنها تبدأ من حين اختيار الأب لزوجته؛ هذه هي البداية الصحيحة، أي: أن حق الأولاد يتقرر في عنقك منذ اختيار أمهم؛ لأن هذا الاختيار يكون له أعظم الأثر فيما بعد على الأولاد، وهذا موضوع في غاية الأهمية، لكننا سنختزله ونذكر أهم ما فيه، فأقول: إن من المهم اختيار الأبوين؛ لأن الرسول ﵊ نبهنا إلى كلا الأمرين حينما قال في الرجل: (إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)، وقال في المرأة: (فاظفر بذات الدين تربت يداك). فإذًا من حق الولد إحسان اختيار أمه حينما يريد أباه أن يتزوج، ولا خير ولا أحسن من المرأة الصالحة كما بين النبي ﵌. يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى: إن البيت قلعة من قلاع هذه العقيدة، ولابد أن تكون قلعته متماسكة من داخلها، حصينة في ذاتها، كل فرد منها يقف على ثغرة لا ينفذ إليها، وإلا تكن كذلك سهل اقتحام العسكر من داخل قلاعه؛ فلا يصعب على طارق، ولا يستعصي على مهاجم. وقال النبي ﷺ: (تخيروا لنطفكم؛ فانكحوا الأكفاء، وأنكحوا إليهم).

1 / 17

أهمية حنان الأم في تربية الطفل وتميز نساء قريش بذلك حينما امتدح النبي ﵌ نساء قريش قال: (خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش) يعني: الصالحات المتدينات من نساء قريش، ثم ذكر المؤهلات اللاتي استحققن بها هذا الثناء من النبي ﵊ فقال: (خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش؛ أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده)، فهن أكثر الناس حنانًا على أولادهن، وهذا أمر في غاية الأهمية؛ لأن الطفل يحتاج إلى الحنان حاجة ماسة، ومع كل وجبة إرضاع ينبغي أن تقدم الأم للطفل وجبة حنان وحب وعطف، وكل هذه الأمور من الاحتياجات الأساسية للطفل. الطفل ينمو، وكما ينمو في جسمه تنمو روحه وعاطفته وإدراكاته، فمما يحتاج إليه الطفل باستمرار: وجبة الحنان، وإلا سهل جدًا الإرضاع. فقد تقوم به الزجاجة، أو الخادمة، لكن المرأة التي ترضع ولدها يشتد الالتصاق بينها وبينه، ووجودها أساسي جدًا في الإشباع العاطفي والوجداني الذي ينعكس انعكاسًا كبيرًا عليه، لذا فإن أخطر السنوات في تشكيل شخصية الطفل هي السنوات الخمس الأولى، ثم يليها الثلاث السنوات التالية، فينبغي أن يهتم بتربيته وقتها أشد الاهتمام. إن الأم التي إذا أرادت أن ترضع ولدها تصرخ فيه، وترضعه بطريقة ميكانيكية آلية قد حرمته من وجبة الحنان، وهي تظن أنه قطعة لحم لا يحس بشيء، ونحن نقول: إن الطفل يحس بكل شيء، يحس بأمه وهو في بطنها، فيحس بها إذا كانت سعيدة أو كئيبة، ولذلك فإن الأم أثناء فترة الحمل محتاجة إلى توجيهات كثيرة جدًا؛ لأنها تختزل فترة من فترات تربية الطفل عن طريق أنها تكلمه وتقوم بعمل حركات معينة على بطنها بحيث يألفها ويحفظ صوتها، وربما سمعتم أن بعض الأمهات الفاضلات كانت دائمًا تسمع القرآن الكريم، والطفل في بطنها، فسرعان ما حفظ القرآن مبكرًا جدًا؛ وذلك لأن الطفل ليس في غفلة، بل يحس بأشياء كثيرة نتغافل عنها، ونحقر من إمكاناته، والحقيقة غير ذلك تمامًا. الشاهد: أن هذا وسام وشرف وضعه النبي ﵊ على نساء قريش، وكافأهن بهذا المديح العظيم على لسانه ﷺ وذلك لسببين. أحدهما: (أحناه على ولد في صغره)، وهذا فيه لفت نظر إلى أهمية الحنان، والأطباء أو الأخصائيون النفسيون حينما يدرسون حالة من حالات الانحراف عند المريض يكون هناك سؤال أساسي جدًا: هل الرضاعة تمت في صغرك بطريقة طبيعية أم بطريقة صناعية؟ لأنه لو حرم من الرضاع فسوف ينعكس هذا على نفسه، وهذا نوع من الحرمان. ثم الفطام: كيف فطمت من الرضاع؟ وأغلب الناس لا يتذكر؛ لكن لو أمكن اجترار هذه المعلومات من الأقارب أو الأم فإنها تكون مفيدة. فالأزمات النفسية توضع جذورها في السنوات الخمس الأولى من حياة الطفل، ثم بعد ذلك تليها في الأهمية مرحلة أخرى تستمر إلى ثمان سنين، ثم تنتهي تقريبًا عند سن الثامنة عشرة، إلى هنا تكون كل مقومات الشخصية قد تكونت لديه، وما يستقبل فهو انعكاس لما مضى في خلال هذه الفترة، والتجارب التي مر بها، والأسلوب الذي ربي به. هذه لفتة عابرة لخطورة العملية التربوية.

1 / 18

تربية الطفل النفسية من وجهة نظر إسلامية بعض الباحثين وهو طبيب نفسي له كتاب اسمه (تربية الطفل رؤية نفسية إسلامية) كتب كلامًا جيدًا في موضوع الأولاد، يقول فيه: من أجل ذرية صالحة لابد للزوج من زوجة صالحة، ولابد للزوجة من زوج صالح، هو يظفر بذات الدين، وهي تتزوج ممن ترضى دينه وخلقه، لكن بعد هذه المرحلة تأتي أهمية وضوح الغاية من أن يكون عندنا أولاد، وبصورة أخرى: ما هي النية من وراء إنجاب الأولاد؟ هل ننجب الأولاد ونتعب في تربيتهم السنين الطويلة حتى يكونوا لنا عونًا عندما نبلغ الشيخوخة؟ ربما كنا مرحومين فكان أولادنا بارين بنا، وعونًا لنا عندما نحتاج إليهم، لكن قد لا يكونون كذلك؛ فيذهب جهد السنين في العناية بهم بلا مقابل. وقد نربي الولد السنين الطويلة، ثم يموت أو يبتلى بعاهة وإعاقة دائمة، وقد وقد كل ذلك يجعل الإنجاب والتربية كوسيلة تأمين ضد الشيخوخة مشروعًا أقرب إلى الخسارة منه إلى الربح، وقد ينجب الأولاد لأنهم مثل الأموال زينة في هذه الحياة الدنيا، كما قال تعالى: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [الكهف:٤٦]، والنفس البشرية تحب امتلاك الزينة، لكن العاقل الذي يدرك مدى المسئولية في ذلك، ومدى العبء الذي يحمله الأبوان في تربية أولادهما، فقد لا تعجبه هذه الزينة؛ لأنها باهظة التكاليف. وقد ننجب لنجبر كسر زواج على حافة الطلاق، ولكن زواجًا محطمًا لا يستحق العناء الذي يتطلبه الأولاد، والأولاد قد يزيدون الأمور سوءًا، وقد يعجل ذلك بالطلاق ولا يؤجل. بقي أن ننظر إلى أولادنا على أنهم مشروع رابح، يقول: إن تربية الأولاد ينبغي أن تكون النية والهدف من وراء تربية الأولاد لله، فيقول: إن ما كان لغير الله ينقطع وينفصل، وما كان لله فإنه يدوم ويتصل، فإن أردت بالأولاد مالًا ربما خانوك وضيعوك، وإن أردت زينة فهي مكلفة، وإن أردت كذا إلى آخر هذه الاحتمالات. ثم قال: بقي أن ننظر إلى الأولاد على أنهم تجارة لن تبور، وذلك إذا اتبعنا فيها شرع الله ﷾، يقول: بقي أن ننظر إلى أولادنا على أنهم مشروع رابح لكسب الأجر والثواب، وارتفاع الدرجات عند الله، ولحفظ جهدنا من الضياع؛ لأن الجهد الذي نضيعه على أولادنا قاصدين بذلك تنشئتهم على الإيمان بالله وتوحيده وطاعته جهد باق لا يزول عندما تزول الجبال، ولا يختفي عندما تكور الشمس، أو تكشط السماء، أو تسجر البحار، إنه جهد أودع في إنسان، والإنسان ضمن الله له الخلود بعد أن يبعثه يوم القيامة إلى حياة لا موت بعدها، بينما تزول كل المعاني المادية العظيمة من حولنا، إلا تربية الأولاد. بهذه النية يكون لدينا مشروع لا احتمال للخسارة فيه، فقد قال رسول الله ﷺ: (دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك؛ أعظمها أجرًا الذي أنفقته على أهلك). وعن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: (قلت: يا رسول الله! هل لي أجر في بني أبي سلمة أن أنفق عليهم ولست بتاركتهم هكذا وهكذا إنما هم بني؟ فقال: نعم. لك أجر ما أنفقت عليهم). أي أن هذا عن المال الذي تنفقه في تربية الأولاد لن يضيع سدى، بل تثاب عليه أعظم الثواب، فما بالنا بالجهد الدءوب والتعب وسهر الليالي بعد الحمل وهنًا على وهن، أيعقل أن يكون أجر ذلك كله دون أجر المال الذي ينفقه الأب؟ هل ثواب الأم التي تعاني ما تعاني في تربية الطفل يكون دون ذلك؟ يقول ﵎: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ [آل عمران:١٩٥]. وعندما يكبر أولادنا صالحين مؤمنين فيكون لنا -بإذن الله- من الأجر مثلما يكون لهم كلما صلوا صلاة أو صاموا صيامًا، أو عملوا عملًا صالحًا ما عاشوا، فالرسول ﷺ يقول: (من دل على خير فله مثل أجر فاعله)، والولد من سعي أبيه، أي: أنك إذا ربيته على الطاعة فكل عمل صالح يفعله يكون لك مثل ثوابه، فإذا ذكر الله ﷾ وأثيب على ذلك فأنت أيضًا لا تَقِلُّ عنه في شيء، وهكذا إذا صلى أو صام أو فعل أي شيء؛ لأنك أنت الذي تسببت فيه وجوده؛ فإنه لا تعارض بين هذا وبين قوله تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [النجم:٣٩]؛ لأن من سعيه إنجاب وتربية هذا الولد. يقول: هذه الطمأنينة على أعمالنا أنها لن تضيع سواء أحسن إلينا أولادنا أو لم يحسنوا عندما يكبرون؛ تجعلنا نبذل ونربي بحماسة ورضا، وعندما نشعر أن أولادنا نعمة من الله لأنهم وسيلتنا إلى زيادة حسناتنا؛ فكم منا من له الجلد والمثابرة على الصلوات الكثيرة في جوف الليل، وكم منا من إذا صلى كانت صلاته كلها خشوع، وكم منا من له الصبر على صوم أكثر الأيام، إن أولادنا وسيلتنا لكسب الأجر العظيم الذي نعجز عن كسبه عن طريق النوافل الكثيرة صلاة وصومًا وصدقة وحجًا وذكرًا، فبإخلاص النية لله يصبح سهر الأم على رعاية رضيعها عبادة، ويصبح عمل الأب في مصنعه أو متجره عبادة، والولد الذي يحفظه الله لنا فيعيش يكون مستودعًا يحفظ الله لنا فيه أعمالنا ليكافئنا عليها يوم القيامة، أما الذي يميته الله طفلًا فنصبر فإنه يقف على باب الجنة لا يدخلها حتى يدخل أبويه. أوليس تربية أولادنا على الإسلام تجارة لن تبور إن شاء الله؟ لابد من استغلال الفرص لتحقيق أكبر الأرباح. ثم يلفت النظر إلى أمر في غاية الأهمية، وهو: الدعاء بالصلاح للذرية، يقول الله ﷾: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ [آل عمران:٣٨]. وقال تعالى: ﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ﴾ [الأنبياء:٨٩ - ٩٠]، إلى آخر الآية. يقول: نحن في حياتنا اليومية إذا أردنا شراء قطعة أثاث أو سيارة أو غير ذلك ذهبنا إلى السوق، وحصلنا على ما تمكننا نقودنا القليلة من شرائه، لكن الثري فينا لا يفعل ذلك، فممكن أن يتصل بشركة مرسيدس في ألمانيا ويطلب سيارة فيها كذا وكذا وكذا، ويدفع فيها الملايين؛ لأنه ثري يمكنه أن يبذل هذا المال ليحصل على سيارة حسب مواصفات معينة يرغب فيها، ثم ترسل إليه خصيصًا مقابل ثمنها. أما إذا أردنا ولدًا بمواصفات معينة: أن يكون مقيمًا للصلاة، صالحًا، قانتًا، خاشعًا، حتى لو أردنا شيئًا من الدنيا أيضًا، فما علينا إلا أن نرفع أيدينا ندعو الله ﷾ أن يرزقنا ذلك، وأن نكثر من الدعاء سائلين الله أن يرزقنا ولدًا صالحًا ذكيًا سويًا جميلًا، والولد قد يكون صبيًا وقد يكون بنتًا فندعوه ﷿ ويكون دعاؤنا من هذه الأسباب، والرسول ﵊ يقول: (أعجز الناس من عجز عن الدعاء)، فالدعاء يمكن أن تحصل به أغلى وأثمن الأشياء سواء في الدنيا أو الآخرة، ولا يكلفك سوى أن تخلص النية لله ﷾، ثم ترفع يديك متذللًا سائلًا، فهذا باب سهل جدًا للمؤمن، ولذلك ذم النبي ﵊ من يزهد في الدعاء بقوله: (أعجز الناس من عجز عن الدعاء) وقال ﷺ: (ما يمنع أحدكم أن يقول حين يجامع أهله: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا)، فهذا كله من الإحسان إلى الأطفال، فليس الدعاء وسيلة العاجز، إنما هو سبب من الأسباب التي يحب الله ﷾ أن نأخذ بها، فنؤجر على الدعاء نفسه، ثم يتقبل الله ﷾ منا هذا الدعاء. بعث بعض الخلفاء إلى بعض الناس ممن كانوا محبوسين في السجن وطال بهم المقام فيه، فأرسل إليهم وسألهم: ما أشد ما مر عليكم في هذا الحبس؟ قالوا: ما فقدنا من تربية أولادنا، وكان السلف يهتمون جدًا بموضوع التربية حتى وجدت وظيفة اسمها: المؤدب، وكان الإمام ابن أبي الدنيا يلقب بـ: مؤدب أولاد الخلفاء.

1 / 19