Eclarification of the Truth in the Biography of Aisha al-Siddiqah
إجلاء الحقيقة في سيرة عائشة الصديقة
ناشر
مؤسسة الدرر السنية-المملكة العربية السعودية
ایڈیشن نمبر
الأولى
اشاعت کا سال
١٤٣٢هـ - ٢٠١١م
پبلشر کا مقام
الظهران
اصناف
الْمُقَدِّمَةُ
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَاصِرِ أَوْلِيَائِهِ الصَّادِقِينَ، ومُذِلِّ أَعْدَائِهِ الْكَاذِبِينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمدٍ الصَّادِقِ الأَمِينِ، وعَلَى إِخوانِهِ مِنَ الأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وأَصْحَابِهِ الْغُرِّ المَيَامِينَ، وَأَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فإِنَّ إِشَاعَةَ مَنَاقِبِ أُمَّهَاتِ المؤمنين، وبيانَ فضْلِهن، والذَّبَ عَنْ عِرضِهِنَّ، مِن أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ، وَمِن أَوْجَبِ الْوَاجِبَاتِ، كَيْفَ لاَ وهنَّ زَوْجَاتُ النَّبِيِّ الكريم ﷺ، وهنّ أُمهاتنا بنص القرآن: ﴿النَّبِيّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ (١).
ومن المَعْلومِ أَنَّ الأمَّهات لهن علينا حقوقٌ عظيمة، وواجباتٌ جسيمةٌ، فَبِرَّهُنَّ يُدْخِل الجنة، وعقوقهن يُدْخِل النار، وكان من أدنى البر أن نذكر فضائلهن، ونذب عن عرضهن.
وفي هذا البحث أتناولُ سيرةَ إحدى أمهاتنا: أُمِّ المؤمنين، وحبيبةِ رسولِ ربِّ العالمين، الصديقة بنت الصديق، الطاهرة العفيفة، المبرأة من فوق سبع سماوات: عَائِشَة ﵂ وأرضاها.
لا يُذكرُ الطُّهرُ إلا قيلَ عَائِشَة ... رمزٌ لهُ وهوَ نورٌ في مُحيّاها
نُجِلُّها نُطرِبُ الدنيا بِرَوعتها ... إذا انبرى بكلامِ السوءِ أشقاها
نُرتِّلُ الوحيَ صفوًا عن طهارتِها ... ولا نُبالي بصوتٍ خاسئٍ تاها
صدِّيقةٌ وابنةُ الصدِّيقِ ليس لها ... من مُشبِهٍ في الصَّبايا في مزاياها (٢)
_________
(١) سورة الأحزاب، الآية:٦.
(٢) لم أقف على قائل هذه الأبيات بعد البحث.=
1 / 5
كنتُ مهتمًا بسيرة زوجات رسول الله ﷺ، وبسيرة عَائِشَة ﵂ على وجه الخصوص، ولكن بعد حادثة الإفك الحديثة الخبيثة، بدأت أقرأ عن كثب وبتأنٍ ورعايةٍ في فضائل عَائِشَة ﵂، وَطَفِقْتُ أبحث عن كل ما يختص بسيرتها ومناقبها وخصائصها، ومن ثم الرد على الشُّبُهَات المثارة حولها، حتى وقفتُ على (مسابقة أمنا عَائِشَة ملكة العفاف) التي قامت بها مؤسسة الدرر السنية، فعزمتُ على المشاركة فيها رغم كثرة الانشغالات، وتجدد الصوارف، والله المستعان، وقد سميتُ البحث: (إجلاء الحقيقة في سيرة عائشة الصديقة).
وقد عملت في هذا البحث بما وسعه الجهد، وسمح به الوقت، وتوصَّل إليه الفهم المتواضع، ولا أدعي فيه الكمال فهو كغيره من جهد البشر فيه الصوابُ والخطأُ، والزيادةُ والنقصانُ، فحسبي أنَّي اجتهدتُ، فما كان فيه من صوابٍ فمن الله وحده، وما كان فيه من خطأ فمن نفسي والشيطان، والله ورسوله منه بريئان.
1 / 6
خطة البحث
قد التزمتُ في كتابة هذا البحث بالخطة الموضوعة في المسابقة مع بعض التعديل، وكانت في مقدمة، وستة فصول، وخاتمة، وفهارس، على النحو التالي:
المقدمة، وتشتمل على ما يلي:
o أهمية الموضوع.
o دوافع الكتابة في الموضوع.
o خطة البحث.
o منهج البحث.
o كلمة شكر.
الفصل الأول: حياة أُمِّ المؤمنين عَائِشَة ﵂، وفيه ستة مباحث:
المبحث الأول: اسمها ونسبها.
المبحث الثاني: مولدها ونشأتها.
المبحث الثالث: زواجها من النَّبِيّ ﷺ.
المبحث الرابع: منزلتها عند النَّبِيّ ﷺ.
المبحث الخامس: منزلتها عند المؤمنين.
المبحث السادس: وفاتها ﵂.
الفصل الثاني: فضائل ومناقب أُمِّ المؤمنين عَائِشَة ﵂، وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: صفاتها الخِلْقِيَّة والخُلُقِيَّة، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: صفاتها الخِلْقِيَّة.
المطلب الثاني: صفاتها الخُلُقِيَّة.
1 / 7
المبحث الثاني: مكانتها العلمِيَّة، وفيه ستة مطالب:
المطلب الأول: أقوال العلماء في مكانتها العلمِيَّة.
المطلب الثاني: علمها بالقرآن وعلومه.
المطلب الثالث: علمها بالسُّنَّة النَّبوِيَّة.
المطلب الرابع: علمها بالفقه والفتوى.
المطلب الخامس: علمها بِاللُّغَةِ والشِّعْر.
المطلب السادس: علمها بِالطِّبِّ والتَّدَاوِي.
المبحث الثالث: الفضائل العامة التي شاركتْ فيها أمَّهات المؤمنين.
المبحث الرابع: الفضائل التي انفردتْ بِهَا ﵂.
الفصل الثالث: العلاقة الحسنة بين أُمِّ المؤمنين عَائِشَة وآل البيت، وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: العلاقة الحسنة بين عَائِشَة وعلي ﵄.
المبحث الثاني: العلاقة الحسنة بين عَائِشَة وفاطمة ﵄.
المبحث الثالث: العلاقة الحسنة بين عَائِشَة وذُرِّيَّة عليِّ وبقية آل البيت.
الفصل الرابع: أباطِيل وشُبُهَات حول أُمِّ المؤمنين عَائِشَة ﵂ والرَّد عليها، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: الافتراءات والأباطيل المكذوبة على عَائِشَة ﵂، وفيه سبعة مطالب:
المطلب الأول: أقوال أهل العلم في كذب الرَّافِضَة.
المطلب الثاني: قول الرَّافِضَة: إنَّ عَائِشَة سَقَتْ النَّبِيّ ﷺ السُّمَّ.
المطلب الثالث: قولهم إِنَّ عَائِشَة اتَّهمتْ مارية القبطية بالزِّنا فنزلت فيها
1 / 8
آية الإفك.
المطلب الرابع: قولهم: إِنَّ عَائِشَة رضي الله عنهاانتْ تبغض عثمان وتقول: "اقتلوا نعثلًا فقد كفر".
المطلب الخامس: قولهم: إِنَّ عَائِشَة مَنَعتْ من دَفْنِ الحسن بن علي عند جَدِّه.
المطلب السادس: قولهم: إِنَّ عَائِشَة رضي الله عنهاانتْ تَكْذِبُ على رسول الله ﷺ.
المطلب السابع: قولهم: إِنَّ عَائِشَة أغْضَبَتْ فاطمة حتى أبْكَتْها.
المبحث الثاني: الشُّبُهَات المثارة حول أُمِّ المؤمنين عَائِشَة ﵂، وفيه سبعة مطالب:
المطلب الأول: التَّحْذِير من الْوُقُوعِ في شِبَاك الشُّبُهَات.
المطلب الثاني: قول الرَّافِضَة: إِنَّ عَائِشَة خَرَجَتْ لقتالِ علي ﵄.
المطلب الثالث: قولهم: إِنَّ عَائِشَة رضي الله عنهاانتْ تُبْغِضُ عليًا ﵄.
المطلب الرابع: قولهم: إِنَّ الفِتْنَة خَرجتْ من بيت عَائِشَة.
المطلب الخامس: قولهم: إِنَّ عَائِشَة رضي الله عنهاانت لا تحتجب من الرِّجال.
المطلب السادس: قولهم: إِنَّ عَائِشَة رضي الله عنهاانت تُزيِّن الجواري وتطوف بهنّ.
المطلب السابع: قولهم: إنَّ عَائِشَة رضي الله عنهاانتْ تُسِيءُ إلى النَّبِيّ ﷺ.
الفصل الخامس: الفوائد والآثار الإيجابية لحادثة الإفك القديمة والحديثة، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: الفوائد والآثار الإيجابيَّة لحادثة الإفك القديمة.
المبحث الثاني: الفوائد والآثار الإيجابيَّة لحادثة الإفك الحديثة.
1 / 9
الفصل السادس: حكم من سَبَّ أُمّ المؤمنين عَائِشَة ﵂، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: حكم من سبَّ أُمّ المؤمنين عَائِشَة بما برَّأها الله منه.
المبحث الثاني: حكم من سبَّ أُمّ المؤمنين عَائِشَة بغير ما برَّأها الله منه.
الخَاتِمة، وفيها أهمُّ النتائج والتوصيات.
الفهارس، وتَشْمِلُ:
فهرس المصادر والمراجع.
فهرس الموضوعات.
1 / 10
منهج البحث
المنهج الذي اتبعته في هذا البحث يتلخص في الآتي:
أولًا: جعلتُ الآيات بين قوسين مُزهرين، هكذا: ﴿...﴾، وذكرتُ اسمَ السورة ورقم الآية في الهامش.
ثانيًا: خرَّجتُ الأحاديث والآثارَ من مصادِرها الأصلية، وجعلتُها بين قوسين (هلاليين مزدوجين)، هكذا: «...» فإن كان الحديث أو الأثر في الصحيحين اكتفيتُ بهما - إلاّ إذا كانت هناك زيادة في غيرهما - وإن كان في غيرهما خرجته من كتب السنن الأربعة، وإن لم يكن فيها خرجته من باقي الكتب التسعة، وإلا بما في كتب السُّنة الأخرى، وذلك بذكر اسم الكتاب، ثم الباب، ثم الجزء والصفحة، ثم رقم الحديث، وأما ما عدا الصحيحين والسنن، فاكتفي بالجزء والصفحة ورقم الحديث إن وجد.
ثالثًا: حكمتُ على الأحاديث والآثار وبيَّنتُ درجتها، معتمدًا على أقوال العلماء في ذلك، وإن لم أجد اجتهدتُ في الحكم على الحديث، بعد النظر في إسناده، ومتنه، حسبما تقتضيه قواعد الصنعة الحديثية.
رابعًا: ضبطتُ الأحاديث بالشكل ضبطًا كاملًا، حتى يتيسر فهم ألفاظ الحديث.
خامسًا: ضبطتُ بالشَّكل ما يحتاج إلى ضبط مما تُشْكِلُ قراءته، ويَلْتَبِسُ نطقه.
سادسًا: وثَّقتُ النقولات والأقوال وجعلتُها بين قوسين صغيرين، هكذا: " ... "، وإذا حذفت شيئًا من النص المنقول وضعتُ مكانه نقطًا هكذا: ...، وذكرت في الحاشية اسم الكتاب والجزء والصفحة.
1 / 11
سابعًا: قمتُ بوضع علامات الترقيم وفصل الجمل عن بعضها بما يبين المراد منها.
ثامنًا: ترجمتُ للأعلام الواردة أسماؤهم في البحث عند أول ورودها، باختصار بحيث تتضمن: نسبه ومذهبه، وبعض مؤلفاته ووفاته.
تاسعًا: شرحت الكلمات الغريبة والغامضة من كتب اللغة وغريب الحديث وغيرها.
1 / 12
كلمة شكر
ختامًا: الشكر أولًا وآخرًا لله تعالى، فبفضله تيسَّر لي إتمام هذا البحث المتواضع، فلولا توفيقه وإعانته لما تشرفتُ بالكتابة في سيرة إحدى أمهات المؤمنين، اللائي نتعبد الله ونتقرب إليه بحبهن.
ثم الشكر كل الشكر لمؤسسة الدرر السَّنِيَّة على تبنِّيها لمثل هذه الأعمال العلميَّة، التي شجَّعتْ فيها عددًا كبيرًا من المسلمين على الإطلاع والبحث والكتابة في موضوع مهم، يُعَدُّ أصلًا من أصول أهل السنة والجماعة، فجزاهم الله عَنَّا وعن الإسلام خير الجزاء.
والشكر أيضًا لأخي وشقيقي أبي سهل طه الزَيَّاتِي، على مساعدته لي في هذا البحث خصوصًا فصل الشُّبُهَات والافتراءات، فجزاه الله خيرًا.
وشكري الخاص للوالدة العزيزة - حفظها الله وأطال عمرها في طاعته - فإنها بذلت الغالي والنفيس من أجل تربيتي وتعليمي.
كما لا أنسى بالشكر زَوْجَتِي أم العباس على تَحَمُّلِها وصبرها على انشغالي بالبحث.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
وكتبه
ياسين الخليفة الطيب المحجوب
القصيم - بريدة
al_khaleefa@hotmail.com
1 / 13
الفصل الأول
حياة أُمِّ المؤمنين عَائِشَة ﵂:
وفيه ستة مباحث:
المبحث الأول: اسمها ونسبها.
المبحث الثاني: مولدها ونشأتها.
المبحث الثالث: زواجها من النَّبِيّ ﷺ.
المبحث الرابع: منزلتها عند النَّبِيّ ﷺ.
المبحث الخامس: منزلتها عند المؤمنين.
المبحث السادس: وفاتها ﵂.
1 / 15
المبحث الأول
اسمها ونسبها
هي أمُّ المؤمنين عَائِشَة، بنتُ الإمام الأكبر، خليفة رسول الله ﷺ أبي بكر الصديق، (عبدِ الله) بنِ أبي قحافة (عثمانَ) بنِ عامرِ بنِ عمروِ بنِ كعبِ بنِ سعدِ بنِ تَيْمِ بنِ مُرَّةَ بنِ كعبِ بنِ لؤي بن فهر بن مالك بن كنانة، أمُّ عبد الله، القرشيةُ، التَّيْمِيَّةُ، المَكِّيَّةُ، ثم المَدَنِيَّةُ، زوجةُ النَّبِيّ ﷺ (١).
كُنْيَتهَا: أمُّ عبد الله، كناها بها النَّبِيّ ﷺ، وذلك عندما طلبت منه أن يكون لها كنية، فكناها بابن أختها أسماء، تطييبًا لخاطرها، فعن عروة عن عَائِشَة ﵂ أنها قالت: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُلُّ صَوَاحِبِي لَهُنَّ كُنًى، قَالَ: "فَاكْتَنِي بِابْنِكِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ" - يعني ابن اختها -، فَكَانَتْ تُدْعَى بِأُمِّ عَبْدِ اللهِ حَتَّى مَاتَتْ» (٢).
وأبوها: عبد الله بن أبي قُحَافَة: عثمان بنِ عامرِ بنِ عمروِ بنِ كعبِ، القُرَشِيّ، التَّيمِيّ، أبو بكر الصديق، أول من آمن برسول الله ﷺ من الرجال، وأول الخلفاء الراشدين، ولد بمكة، ونشأ بها، وكان أحد أعاظم العرب، وسيدًا من سادات قريش، ومن كبار أغْنِيائِهم، عالمًا بأنساب القبائل وأخبارها وسياستها، وكان موصوفًا بالحلم والرأفة، خطيبًا لسنًا، وشجاعًا بطلًا.
_________
(١) ينظر: الطبقات الكبرى ٨/ ٥٨، وأسد الغابة ٧/ ٢٠٥، وسير أعلام النبلاء ٢/ ١٣٥.
(٢) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب في المرأة تكنى ٤/ ٢٩٣، رقم (٤٩٧٠)، وابن ماجه في سننه، كتاب الأدب، باب الرجل يكنى قبل أن يولد له ٢/ ١٢٣١، رقم (٣٧٣٩)، وأحمد ٤٣/ ٢٩١، رقم (٢٦٢٤٢)، وقال ابن حجر في التلخيص ٤/ ٣٦٥: "سنده صحيح".
1 / 17
وكانت له في عصر النبوة مواقف كبيرة، فشهد الحروب، واحتمل الشدائد، وبذل الأموال، بل ودخل مع النبي ﷺ الغار، كما في قوله تعالى: ﴿ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ (١)، وقد ووردت في فضل أبي بكر ﵁ أحاديث كثيرة، منها قوله ﷺ: «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلا غَيْرَ رَبِّي لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الإِسْلامِ وَمَوَدَّتُهُ» (٢).
بُويع ﵁ بالخلافة بعد وفاة النبي ﷺ، وكانت مدة خلافته سنتين وثلاثة أشهر ونصف شهر، وتوفي بالمدينة سنة ثلاث عشرة للهجرة، وعمره ثلاثٌ وستون سنة (٣).
وأمُّ عائشة: أمُّ رُوْمان، - قيل: اسمها زينب، وقيل: دعد - بنتُ عامرِ بنِ عُوَيْمِرِ بنِ عبدِ شمس ابن عَتَّابِ بن أُذَيْنَةَ بن سُبَيْعِ بن دُهْمَانَ بن حارث بن غَنْمِ بن مالك بن كِنَانَةَ (٤)، وقد تزوجها أبو بكر الصديق ﵁ في الجاهلية بعد أن توفى زوجها عبد الله بن الحارث الأَزْدِيّ، وقد أسلمت أم رومان في مكة، وكانت من أوائل المسلمات، وبايعت النَّبِيّ ﷺ، وهاجرت مع أهل النَّبِيّ ﷺ، وآل أبي بكر ﵁ (٥).
"ويلتقي نسب عَائِشَة ﵂ مع النَّبِيّ ﷺ من جهة الأب في الجد السابع
_________
(١) سورة التوبة، الآية:٤٠.
(٢) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب قول النبي ﷺ: "سدوا الأبواب، إلا باب أبي بكر" ٥/ ٤ رقم (٣٦٥٤)، ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة ﵃، باب من فضائل أبي بكر الصديق ﵁ ٤/ ١٨٥٤، رقم (٢٣٨٢) من حديث أبي سعيد الخدري ﵁.
(٣) ينظر في ترجمته: الطبقات الكبرى ٣/ ١٢٥، والتاريخ الكبير ٥/ ١، والاستيعاب في معرفة الأصحاب ٤/ ١٦١٤.
(٤) ينظر: الطبقات الكبرى ٨/ ٢١٦، وتاريخ الطبري ٣/ ٤٢٦، والاستيعاب ٤/ ١٩٣٥، وأسد الغابة ٧/ ٣٢٠.
(٥) ينظر: الطبقات الكبرى ٨/ ٢١٦، والمنتظم في تاريخ الملوك والأمم ٣/ ٢٩١.
1 / 18
(مرة بن كعب) (١)، ومن جهة الأم في الجد الحادي عشر أو الثاني عشر" (٢).
"وأسرة السيدة عَائِشَة ﵂ تنحدر من قبيلة (تيم) العربية، والتي عُرف عنها الكرم والشجاعة والنجدة، ونصرة المظلوم، وإعانة الضعيف، وقد عُهِدَ إلى أبي بكر الصديق باعتباره أحد سادتهم، بأمر تسوية الدم وأداء المغارم والديات" (٣).
_________
(١) ينظر: المعارف لابن قتيبة ١/ ١٦٧، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص (٢٦)، وتاريخ الخلفاء الراشدين لطقوش ص (١٣).
(٢) ينظر: سيرة السيدة عَائِشَة أُمّ المؤمنين ك لسليمان الندوي ص (٣٨).
(٣) السيدة عَائِشَة وتوثيقها للسنة، لجيهان رفعت فوزي ص (١٢).
1 / 19
المبحث الثاني
مولدها ونشأتها
وُلِدَتْ أُمّ المؤمنين عَائِشَة ﵂ بمكة، بعد البعثة بأربع سنين أو خمس (١) تقريبًا (٢)، فخرجت إلى الدنيا فوجدت نفسها بين أبوين كريمين مؤمنين، في بيت يدين بدين الإسلام، بل وجدت نفسها ابنة خير الناس بعد رسول الله ﷺ، فوالدها أبو بكر الصديق ﵁ أوَّل من أسلم من الرجال، وبإسلامه أسلمت زوجته أم رومان وابنتاه أسماء وعَائِشَة ﵅، وبذلك تعد عَائِشَة ﵂ من أوائل المسلمات.
وكان أبواها - مع إسلامهما المتين - لهما علاقات حميمة، وصِلات وثيقة برسول الله ﷺ، كما حكت ذلك بنفسها ﵂، فعن عروة بن الزبير أن عَائِشَة زوج رسول الله ﷺ قالت: «لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ إِلا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ طَرَفَيْ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً» (٣).
"وكانت لأسرة أبي بكر الصديق مكانة كبيرة قبل الإسلام، فهي من أكرم الأسر العربية وأعرقها، وبعد الإسلام تعد أسرة أبي بكر الصديق من السابقين إليه،
_________
(١) ينظر: الإصابة في تمييز الصحابة ٨/ ١٦.
(٢) رجَّح سليمان الندوي أن ولادتها في السنة التاسعة قبل الهجرة، فقال: "أصح تاريخ لولادتها هو شهر شوال قبل الهجرة، الموافق يوليو (تموز) عام ٦١٤م، وهو نهاية السنة الخامسة من البعثة".
ينظر: سيرة السيدة عَائِشَة أُمّ المؤمنين ك ص (٤٠).
(٣) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المساجد، باب المسجد يكون في الطريق من غير ضرر بالناس، ١/ ١٠٢، رقم (٤٧٦).
1 / 21
وقد ورثت أُمّ المؤمنين عَائِشَة ﵂ الكثير من عناصر الفخار التي تميزت بها قبيلتها، كما أنها ولدت ونشأت في بيت عامر بالإسلام والإيمان - كما سبق - مما كان له الأثر الكبير والطيب عليها" (١).
وقد أرضعتْ عَائِشَة ﵂ زوجةُ أبي القعيس (٢)، (٣)، فعن عائشة ﵂، قالت: «اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ أَفْلَحُ أَخُو أَبِي القُعَيْسِ بَعْدَمَا أُنْزِلَ الحِجَابُ، فَقُلْتُ: لاَ آذَنُ لَهُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ فِيهِ النَّبِيّ ﷺ، فَإِنَّ أَخَاهُ أَبَا القُعَيْسِ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي، وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةُ أَبِي القُعَيْسِ، فَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيّ ﷺ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي القُعَيْسِ اسْتَأْذَنَ فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَكَ، فَقَالَ النَّبِيّ ﷺ: "وَمَا مَنَعَكِ أَنْ تَأْذَنِي عَمُّكِ؟ "، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي، وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةُ أَبِي القُعَيْسِ، فَقَالَ: "ائْذَنِي لَهُ فَإِنَّهُ عَمُّكِ تَرِبَتْ يَمِينُكِ"» (٤).
فنشأت ﵂ في أحضان هذه الأسرة المباركة، وترعرعت في بيت الصدق والإيمان، وعاشت منذ نعومة أظفارها في ظل تعاليم الدين الإسلامي الحنيف،
_________
(١) السيدة عَائِشَة وتوثيقها للسنة، لجيهان رفعت فوزي ص (١٢) بتصرف.
(٢) ينظر في قصة إرضاع عَائِشَة: أسد الغابة ٥/ ٤٠٧.
(٣) أبو القُعَيْسِ: اختلف في اسمه، فقيل اسمه: وائل، وقيل: الجعد، قال أبو نعيم في معرفة الصحابة ٥/ ٢٧١٤: "وائل بن أبي القُعَيْسِ أخو أفلح، له ذكر في حديث عَائِشَة، ذكره بعض المتأخرين، ولا أعلم له صحبة ولا إسلامًا".
ينظر في ترجمته: معرفة الصحابة ٥/ ٢٧١٤، والاستيعاب ١/ ١٠٢، وأسد الغابة ٥/ ٤٠٧.
(٤) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: ﴿إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ الآية ٦/ ١٢٠، رقم (٤٧٩٦) ومسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب تحريم الرضاعة من ماء الفحل ٢/ ١٠٦٩، رقم (١٤٤٥).
1 / 22
وشهدت في طفولتها أشد المراحل التي مرت بها دعوة الإسلام وما لاقاه المسلمون من الأذى والاضطهاد.
فلما هاجر رسول الله ﷺ مع صاحبه ورفيقه أبي بكر الصديق إلى المدينة تركا أهليهما بمكة، ولما استقر بهما الحال هناك أرسل النَّبِيّ ﷺ من يحضر أهله وأهل أبي بكر، وقد تعرضت الأسرتان في طريق الهجرة لأخطار عديدة ومصاعب كثيرة، ومن ذلك ما روته عَائِشَة ﵂ قالت: «قَدِمْنَا مُهَاجِرِينَ فَسَلَكْنَا فِي ثَنِيَّةٍ (١) صَعْبَةٍ، فَنَفَرَ بِي جَمَلٌ كُنْتُ عَلَيْهِ قَوِيًّا مُنْكَرًا، فَوَاللَّهِ مَا أَنْسَى قَوْلَ أُمِّي: يَا عَرِيسَةُ، فَرَكِبْتُ فِي رَأْسِهِ، فَسَمِعْتُ قَائِلًا، يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا أَرَاهُ أُلْقِيَ خِطَامُهُ (٢)، فَأَلْقَيْتُهُ، فَقَامَ يَسْتَدِيرُ، كَأَنَّمَا إِنْسَانٌ قَائِمٌ تَحْتَهُ يُمْسِكُهُ» (٣).
_________
(١) الثَّنِيّة: الطريق في الجبل. ينظر: مشارق الأنوار ١/ ١٣٢، والنهاية في غريب الحديث والأثر ١/ ٢٢٦.
(٢) الْخِطَام: هو الحبل الذي يُجعل في أنف البعير، حتى يُقاد به. ينظر: كتاب العين ٤/ ٢٢٦، والفائق في غريب الحديث ١/ ٣٨٢.
(٣) أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني ٥/ ٢١١، رقم (٣٠٣٨)، والطبراني في المعجم الكبير ٢٣/ ١٨٣، رقم (٢٩٦)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ٩/ ٣٦٦: "إسناده حسن".
1 / 23
المبحث الثالث
زواجها من النَّبِيّ ﷺ
تزوج النَّبِيّ ﷺ عَائِشَة ﵂ قبل الهجرة ببضعة عشر شهرًا في شهر شوّال، وهي ابنة ست سنوات، ودخل بها في شوّال من السنة الثانية للهجرة وهي بنت تسع سنوات، فعنها ﵂ قالت: «تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِسِتِّ سِنِينَ، وَبَنَي بِي وَأَنَا بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ» (١).
وقد رأى النَّبِيّ ﷺ عَائِشَة ﵂ في المنام قبل زواجه بها، ففي الحديث عنها ﵂ قالت: قال رسول الله ﷺ: «أُرِيتُكِ فِي الْمَنَامِ ثَلاثَ لَيَالٍ، جَاءَنِي بِكِ الْمَلَكُ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ (٢)، فَيَقُولُ: هَذِهِ امْرَأَتُكَ، فَأَكْشِفُ عَنْ وَجْهِكِ، فَإِذَا أَنْتِ هِيَ، فَأَقُولُ: إِنْ يَكُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ» (٣).
ثم بعد هذه الرؤيا المباركة جاءت مرحلة الخطوبة، ولقد ذكرت عَائِشَة ﵂ قصة خِطبة النَّبِيّ ﷺ لها بتفاصيلها الدقيقة؛ وذلك لأنها تمثل عندها ذكريات طيبة
_________
(١) أخرجه البخاري، في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب تزويج النَّبِيّ ﷺ عَائِشَة وقدومها المدينة وبنائه بها، ٥/ ٥٥، رقم (٣٨٩٤)، ومسلم في صحيحه، كتاب النكاح، باب تزويج الأب البكر الصغيرة ٢/ ١٠٣٨، رقم (١٤٢٢).
(٢) أي: في قطعة من جَيِّد الحرير، وجمعها سَرَقٌ. ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر ٢/ ٣٦٢، ولسان العرب ١٠/ ١٥٧.
(٣) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب تزويج النَّبِيّ ﷺ عَائِشَة وقدومها المدينة وبنائه بها، ٥/ ٥٦، رقم (٣٨٩٥)، وفي الموضع السابق، باب النظر إلى المرأة قبل التزويج ٧/ ١٤، رقم (٥١٢٥)، ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب في فضل عَائِشَة رضي الله تعالى عنها، ٤/ ١٨٨٩، رقم (٢٤٣٨).
1 / 25
لا تنسى، فقالت ﵂: «لَمَّا تُوُفِّيَتْ خَدِيجَة، قَالَتْ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ الأَوْقَصِ - امْرَأَةُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ ﵄ وَذَلِكَ بِمَكَّةَ -: أَيْ رَسُولَ اللهِ، أَلا تَتَزَوَّجُ؟ قَالَ: "وَمَنْ؟ " قَالَتْ: إِنْ شِئْتَ بِكْرًا، وَإِنْ شِئْتَ ثَيِّبًا، قَالَ: "فَمَنِ الْبِكْرُ؟ " قَالَتْ: بِنْتُ أَحَبِّ خَلْقِ اللهِ إِلَيْكَ عَائِشَة بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ ﵁، قَالَ: "وَمَنِ الثَّيِّبُ؟ " قَالَتْ: سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ بْنِ قَيْسٍ آمَنَتْ بِكَ، وَاتَّبَعَتْكَ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ قَالَ: فَاذْهَبِي فَاذْكُرِيهِمَا عَلَيَّ قَالَتْ: فَجَاءَتْ فَدَخَلَتْ بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ ﵁ فَوَجَدَتْ أُمَّ رُومَانَ أُمَّ عَائِشَة قَالَتْ: أَيْ أُمَّ رُومَانَ، مَاذَا أَدْخَلَ اللَّهُ ﷿ عَلَيْكُمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ؟ قَالَتْ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَتْ: أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللهِ ﷺ أَخْطُبُ عَلَيْهِ عَائِشَة قَالَتْ: وَدِدْتُ (١)، انْتَظِرِي أَبَا بَكْرٍ ﵁ فَإِنَّهُ آتٍ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ ﵁، فَقَالَتْ: يَا أَبَا بَكْرٍ، مَاذَا أَدْخَلَ اللَّهُ ﷿ عَلَيْكُمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ، أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللهِ ﷺ أَخْطُبُ عَلَيْهِ عَائِشَة ﵂ قَالَ: وَهَلْ تَصْلُحُ لَهُ؟ إِنَّمَا هِيَ ابْنَةُ أَخِيهِ، فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَذَكَرْتُ لَهُ، فَقَالَ: ارْجِعِي إِلَيْهِ فَقُولِي لَهُ: أَنْتَ أَخِي فِي الإِسْلامِ، وَأَنَا أَخُوكَ وَابْنَتُكَ تَصْلُحُ لِي، فَأَتَتْ أَبَا بَكْرٍ ﵁، فَقَالَ لِخَوْلَةَ: ادْعِي لِي رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَجَاءَهُ فَأَنْكَحَهُ، وَهِيَ يَوْمَئِذٍ ابْنَةُ سِتِّ سِنِينَ» (٢).
وتقصُّ أيضًا عَائِشَة ﵂ كيف كان وصول الخبر إليها وكيف كانت مراسم
_________
(١) أي: تمنَّيْت وأحْبَبتُ ذلك. ينظر: الصحاح ٢/ ٥٤٩، ولسان العرب ٣/ ٤٥٤.
(٢) أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني ٥/ ١٨٢، رقم (٣٠٠٦) و٥/ ٢٢٩، رقم (٣٠٦١)، والطبري في تاريخه ٣/ ١٦٢ - ١٦٣، والطبراني في المعجم الكبير ٢٣/ ٢٣، رقم (٥٧) و٢٤/ ٣٠، رقم (٨٠)، وابن الأثير في "أسد الغابة" ٧/ ٢٠٥، والبيهقيُّ في السنن الكبرى ٧/ ١٢٩، رقم (١٣٥٢٦)، وفي "دلائل النبوة"٢/ ٤١١ - ٤١٢. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ٩/ ٣٦٢: "رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن عمرو بن علقمة وهو حسن الحديث".
1 / 26
الزفاف، حيث قالت: «فَأَتَتْنِي أُمُّ رُومَانَ وَأَنَا عَلَى أُرْجُوحَةٍ (١) وَمَعِي صَوَاحِبِي، فَصَرَخَتْ بِي فَأَتَيْتُهَا وَمَا أَدْرِى مَا تُرِيدُ بِي، فَأَخَذَتْ بِيَدِي فَأَوْقَفَتْنِي عَلَى الْبَابِ، فَقُلْتُ: هَهْ هَهْ (٢)، حَتَّى ذَهَبَ نَفَسِي فَأَدْخَلَتْنِي بَيْتًا، فَإِذَا نِسْوَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقُلْنَ: عَلَى الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ وَعَلَى خَيْرِ طَائِرٍ (٣)، فَأَسْلَمَتْنِي إِلَيْهِنَّ فَغَسَلْنَ رَأْسِي وَأَصْلَحْنَنِي فَلَمْ يَرُعْنِي (٤) إِلاَّ وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ ضُحًى فَأَسْلَمْنَنِي إِلَيْهِ» (٥).
وتروي عَائِشَة ﵂ استعدادها للزفاف وتجهيز أمها لها، فتقول: «كَانَتْ أُمِّي تُعَالِجُنِي لِلسُّمْنَةِ، تُرِيدُ أَنْ تُدْخِلَنِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَمَا اسْتَقَامَ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى أَكَلْتُ الْقِثَّاءَ (٦) بِالرُّطَبِ فَسَمِنْتُ كَأَحْسَنِ سِمْنَةٍ» (٧).
_________
(١) الأُرْجُوحَةِ: حَبل يعلق طرفاه من جانبين يمِيل براكبه من نَاحيَة إِلَى نَاحيَة. ينظر: الصحاح ١/ ٣٦٤، ومشارق الأنوار ١/ ٢٨٢.
(٢) في قولها: (هه هه) قولان: أحدهما: أنه حكاية تتابع النفس، والثاني: حكاية شدة البكاء، وهي كلمة يقولها المبهور حتى يتراجع إلى حال سكونه. ينظر: مشارق الأنوار ٢/ ٢٧٢، وغريب الحديث لابن الجوزي ٢/ ٥٠٦، وشرح النووي على مسلم ٩/ ٢٠٧.
(٣) عَلَى خَيْرِ طَائِرٍ: أي: تقدمين على أسعد حظ، دُعَاء بالسعادة وأصل اسْتِعْمَالهَا من تفاؤل الْعَرَب بالطير وَقد يكون المُرَاد بالطائر هُنَا الْقسم والنصيب أَيْضًا. ينظر: مشارق الأنوار ١/ ٣٢٤، وشرح السيوطي على مسلم ٤/ ٢٧، وفتح الباري ٧/ ٢٢٤.
(٤) لَمْ يَرُعْنِي: من الروع: الفزع والمفاجأة، والمعنى: لم يفاجئني وَلم يفزعني. ينظر: مشارق الأنوار ١/ ٣٠٢، والنهاية في غريب الحديث والأثر ٢/ ٢٧٧.
(٥) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب النكاح، باب تزويج الأب البكر الصغيرة، ٢/ ١٠٣٨، رقم (١٤٢٢).
(٦) القِثَّاء: الخيار، وقيل: شبيه بالخيار. ينظر: تهذيب اللغة ٩/ ٢٠٥، والصحاح ١/ ٦٤، ولسان العرب ١٥/ ١٧١.
(٧) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الطب، باب في السمنة ٢/ ٤٠٨، رقم (٣٩٠٣)، وابن ماجه في سننه، كتاب الأطعمة، باب اقثاء والرطب يجمعان ٢/ ١١٠٤، رقم (٣٣٢٤)، وقال الألباني في =
1 / 27
وأما في ليلية الزفاف نفسها فتولى تجهيزها أسماء بنت يزيد (١) وصاحباتها، تقول أسماء ﵂: «إِنِّي قَيَّنْتُ (٢) عَائِشَة لِرَسُولِ اللهِ ﷺ ثُمَّ جِئْتُهُ، فَدَعَوْتُهُ لِجِلْوَتِهَا (٣)، فَجَاءَ، فَجَلَسَ إِلَى جَنْبِهَا، فَأُتِيَ بِعُسِّ (٤) لَبَنٍ، فَشَرِبَ ثُمَّ نَاوَلَهَا النَّبِيّ ﷺ، فَخَفَضَتْ رَأْسَهَا وَاسْتَحْيَتْ. قَالَتْ أَسْمَاءُ: فَانْتَهَرْتُهَا وَقُلْتُ لَهَا: خُذِي مِنْ يَدِ النَّبِيّ ﷺ قَالَتْ: فَأَخَذَتْ، فَشَرِبَتْ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ لَهَا النَّبِيّ ﷺ: "أَعْطِي تِرْبَكِ" (٥) قَالَتْ أَسْمَاءُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، بَلْ خُذْهُ، فَاشْرَبْ مِنْهُ، ثُمَّ نَاوِلْنِيهِ مِنْ يَدِكَ، فَأَخَذَهُ، فَشَرِبَ مِنْهُ، ثُمَّ نَاوَلَنِيهِ، قَالَتْ: فَجَلَسْتُ، ثُمَّ وَضَعْتُهُ عَلَى رُكْبَتِي، ثُمَّ طَفِقْتُ أُدِيرُهُ، وَأَتْبَعُهُ بِشَفَتَيَّ لأصِيبَ مِنْهُ مَشْرَبَ النَّبِيّ ﷺ» (٦).
_________
= السلسلة الصحيحة ١/ ٨٤: "إسناده صحيح".
(١) هي: أسماء بنت يزيد بن السكن بن رافع بن امرئ القيس بن عبد الأشهل الأَنْصارِيّة الأشهلية أم سلمة، ويُقال: أم عامر. صحابية بايعت رَسُول اللَّهِ ﷺ، وروت عنه أحاديث صالحة، وشهدت اليرموك وقتلت يومئذٍ تسعة من الروم بعمود خبائها.
ينظر في ترجمتها: معرفة الصحابة ٦/ ٣٢٥٨، والاستيعاب ٤/ ١٧٨٧، وسير أعلام النبلاء ٢/ ٢٩٦.
(٢) أَي زَيّنْتُ، من التَّقْيين وهو: التَّزيين. ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر ٤/ ١٣٥.
(٣) أي: للنظر إليها مجلوة مكشوفة. ينظر: جمهرة اللغة ١/ ٤٩٣، والصحاح ٦/ ٢٣٠٤، ولسان العرب ١٤/ ١٥١.
(٤) العُسّ: القدح الكبير، وجمعه: عساس وأعساس. ينظر: تهذيب اللغة ١/ ٦٣، والنهاية في غريب الحديث والأثر ٣/ ٢٣٦.
(٥) أي: صاحباتك، والترب: الأقران، وهم الذين يكونون في سنٍّ واحدة. ينظر: الصحاح ١/ ٩١، وتهذيب اللغة ١٤/ ١٩٥.
(٦) أخرجه أحمد في مسنده ٤٥/ ٥٧٠، رقم (٢٧٥٩١)، والحميدي في مسنده ١/ ٣٥٩، رقم (٣٧١)، والطبراني في المعجم الكبير ٢٤/ ١٧١، رقم (٤٣٤)، و٢٤/ ١٧٢، رقم (٤٣٥)، وابن بشران في أماليه ص (٣٧٦)، رقم (٨٦١)، والحديث حسنه الألباني في آداب الزفاف ص (٩١).
1 / 28