وعلمي بأن العالمين هباء
ولكن زهد تولستوي لم يكن بالسكوت والعزلة، بل بتجريد قلمه لمحاربة الاستبداد والظلم والفساد والملكية والاشتراكية، فانتهى إلى النتيجة التي انتهى إليها فيلسوف روسي آخر هو البرنس كوروباتكين؛ أي إلغاء التجنيد ومحو الحدود، والوطنية، وإبطال المحاكم والعقاب بالموت، ولا فرق بين الاثنين سوى أن كوروباتكين يدعو إلى التمرد، وتولستوي يوصي بالرفق واللين. بل هو يذهب إلى أبعد من زميله؛ فلا يكتفي بشجب النظام الحالي وحقوق الملكية، والقمع والقصاص، بل يصب سخطه على المدنية بأسرها، متهما العلم والرقي بأنهما منبع الشر والفساد، متمنيا خراب المدن الكبرى التي هي مسرح البذخ والتهتك والإجرام. وهو كجان جاك روسو يطلب العودة إلى الطبيعة وساحة الحياة البدوية الأولى.
ومذهبه في الحب يملأ ناحية كبرى من فلسفته الاجتماعية، فيصف في «أنا كرانين» شقاء الفسق ونفاقه، ويذهب في كتاب آخر إلى أبعد من ذلك، فيصدر حكمه القاسي على الزواج بالحب. هذا الحب الزوجي الذي اعتاد الكتاب أن يصوروه في رواياتهم تصويرا عاريا، فاضحين أسرار الأسر بلا خجل، من كتاب
Monsieur, madame et bébé
لكوستاف دروز إلى «العاشقة» لبورتوريش، إلى «الزوج الشهواني» لموريس دوناي. لقد أثر في نفس تولستوي هذا اللون من الحب، وبدا له مشبعا بحب الذات والأثرة، فأراد أن يبرهن للناس أن الزواج الذي توحيه عاطفة الشهوة الجسدية لا يمكن أن يجلب السعادة، وأن هذه الدقائق المعدودة التي يرتمي فيها كل من الزوجين بين ذراعي الآخر حلم سرعان ما يزول، فإذا هدأت ثورة الأعصاب وجد كل من الزوجين نفسه بعيدا عن الآخر بعد النجوم.
وفي كتابه «البعث» يدرس وجها آخر للحب - أمير يغوي خادمة - فيجول في وصف البغاء والإثم جولة شاعر ملهم، طارحا على بساط البحث مسألة التبعة الأدبية، محاولا أن يجد في الطبيعة البشرية مهما بلغت من الانحطاط عذرا يبررها، ويدفع عنها العار، قائلا مع هيكو باحترام المرأة الساقطة، وأن يبرهن لنا أن مكارم الأخلاق وروح التضحية لا تنحصر بقوم دون آخرين؛ فقد تكون عند الحقير والفقير ولا تكون عند السيد الكبير.
وعلى الجملة كان تولستوي واقعيا وخياليا معا؛ ولهذا لم يخل من المناقضات، وأعظم تناقض كان في شخصه؛ فإن تعاليمه تقضي بالعزوبة وهو لم يحافظ عليها، وبالفقر ولم يتجرد أبدا من المال. على أن هذا لا يطعن في إخلاصه الذي يتجلى في كل ما كتب، ولا تجد صفحة لا يقطر من سطورها لبان الحنو والرحمة، وكل من كان يدنو منه كان يشعر بسحر أخلاقه الملكية، وما في حركاته من البساطة والبعد عن التكلف.
وهو وحده القائل: إن كل إصلاح اجتماعي يجب أن يبدأ بالآداب، وأن لا يفرض فرضا، بل يجب أن ينبع من أعماق الضمير الفردي. وهكذا يرجع في النتيجة إلى التمرد في كل شيء كسترنر، فيقول: على الإنسان أن يسمع صوت ضميره ولا يخضع إلا له.
كل فرد يحمل في نفسه الشريعة والأنبياء، ولكن طبيعة تولستوي لا تنتهي به إلى حب الذات مثل سترنر، ولا إلى قسوة نيتشه الأرستقراطية، بل إلى الرحمة وإنكار الذات.
غوته
نامعلوم صفحہ