فجعلت تقول في نفسها: «إن مثل هذا الجفاء والقسوة لا يصدر قط من الرجل إلى المرأة التي يهوى بلا سبب ولا موجب.»
لم تكن إيزابلا بالحمقاء ولا بالمتطرفة ولا بالأنانية، ولو أن إصطفيان أخبرها أنه يحبها، ولكنه لا بد لهما من كتمان عواطفهما، وأن الواجب عليها أن تنتظر؛ لأطاعته ورضخت لحكمه وصبرت الشهور بل السنين، بل لرضيت أن تنزل إلى قبرها صابرة منتظرة وافية بعهده. ولا غرو، فلقد كان لها من الحزم وقوة الإرادة مثلما له، ولقد كانت تبذل له من الإخلاص والحفاظ ما لا تبذله امرأة لإنسان، ولكن إصطفيان تنكب المنهج القويم، وسلك سبيلا عوجاء، وخطة عقيمة كانت نتيجتها اعتقاد الفتاة أنه لا يحبها ولا يحفل بها.
فلما رسخت فيها هذه العقيدة أظلمت في وجهها الدنيا، وضاقت عليها الأرض بما رحبت، وبدت لها روضة الحياة الزاهرة، وجنة العيش الناضرة قفرا يبابا وبلقعا خرابا لا تستطيع البقاء فيه ولا تطيق أن تبصره.
لا تزال حالة الجسم هي الباعث الأكبر للإنسان على إتيان ما يأتي من الأعمال، وفي هذا الوقت كان جسم الفتاة قد نهكه الكد وأوهنه النصب والإعياء، فتلهف على الراحة ... الراحة التي لم يكن في قدرة العقل أن يهبها، كانت الراحة هي أقصى أمنية الجسم المنهوك والأعصاب المتهدمة، ومن هاتين الفكرتين: الراحة والنسيان، تولدت فكرة الموت.
فقالت في نفسها: «ما ألذ النوم والنسيان! ولكني لا أستطيعه! وهبني حصلت على ذلك بالرقاد في فراشي فإني لا أزال مهددة بمصيبة الاستيقاظ.»
سارت إيزابلا من دار إصطفيان إلى دارها فمرت في طريقها بمكتب البريد، فوقفت ونظرت نظرة ذاهلة من خلال زجاج النوافذ.
وقالت في نفسها: «أرسل إليه كتابا، إذ كنت من فرط العي والبلادة بحيث أعجزني أن ألقي على مسمعه القدر اللازم من القول، وبعد إرسال الرسالة إليه ...»
لم تتم الجملة، ولكن وراء هذه الجملة كان ينفسح جناب الراحة والأمن والطمأنينة.
فدخلت مكتب البريد، فاشترت ظرفا وقرطاسا، وكتبت الرسالة الآتية:
لقد كنت أمحضك الحب، وأخلص لك الوفاء لو أنك أردت ذلك ، ولكنك بينت لي الليلة أنك لا تبتغي الحب، أو على الأقل لا تبتغي حبي، ولقد أدركت الآن أني قد أستطيع لقاء الموت، ولكني لا أستطيع العيش من دونك، فأنا من التو واللحظة ذاهبة إلى البحر، وبعد ساعة من الزمن أفارقك إلى الأبد، فسأجهل كل شيء وستتناسى أنت كل شيء، وهذا تعادل مرض، فإليك تتوجه خواطري وفيك تنحصر عواطفي، واسمك آخر أنفاسي!
نامعلوم صفحہ