84

دموع البلياتشو

دموع البلياتشو: مجموعة قصصية تنشر لأول مرة

اصناف

ضحكت وأنا أمسح ظهر يدك بكفي وأرفعها إلى فمي: وصيتك في القلب والعين يا أمي.

أسرعت قائلة وأنت تسحبين يدك وتسددين السبابة في وجهي: هي وصية أبيك أيضا يا بني، قلت مستدركا: فهمت فهمت يا أمي، بدر الصغير وبدر العجوز في عيني، وعيني زينب. قالت محتدة بعض الشيء: ولكنك لا تعلم كل شيء يا بني، لا تعلم كل شيء وطلبت مني أن أقترب وأفتح أذني، وتدفقت الكلمات من فمك كما تتدفق قطرات الماء الأخيرة من بئر زحف عليه الجفاف: هل تذكر يوم ذهبت مع أبيك إلى السيرك لآخر مرة قبل وفاته؟

هتفت: بالطبع يا أمي، وأذكر السوق التي اشترى منها بدر.

قالت: عمرك أطول من عمري، لكنك لا تدري كم تعب وسهر وداخ دوخة الكلاب حتى استطعت أن تأخذ البلياتشو في حضنك بعدها بيومين، قلت بصوت الشاعر بالذنب لكي أريحها: لا يا أمي. قالت مؤكدة: ولا نحن قلنا لك شيئا، نبهني أبوك ألا أفتح فمي بكلمة، ظل يكرر علي في شهوره الأخيرة قبل أن تفاجئه السكتة: المهم أن يضحك كلما نظر في وجهه يا أم عبد الرحيم، المهم أن يسعد به ولا يعرف شيئا عما قاسيناه. بقيت ساكتا بينما تحدق عيني في وجهها ويتابع قلبي تموجات صدرها اللاهث، وما هي إلا لحظات تشهق فيها حتى تستأنف حديثها كقطار عجوز يندفع بأقصى سرعة إلى محطته الأخيرة قبل أن ينفد منه الوقود: باختصار يا ولدي أخفينا عنك كل شيء وصممنا على إخفائه طول العمر، حتى جاءني الليلة في المنام وأوصاني.

هتفت بغير وعي: أنت أيضا؟

نظرت إلي مستفسرة فأسرعت أطمئنها: لا، لا شيء، أكملي يا أمي.

لمع في عينيها الشك لحظة، ولكن اللهاث ألح على صدرها فسعلت ووضعت يدها على قلبها كأنها تسكت جرس إنذار وعادت تقول:

ربما تتذكر يا ولدي أنه أخذ البهلوان الذي لم يكف عن الصياح على اليانصيب على جنب وارتفع صوتهما، وتلاحقت صيحات أبيك وإشاراته حتى كاد أن يفجر بركان غضبه فوق رأسه: خمسين جنيه يا ظالم يا مفتري؟ خمسين جنيه ماهيتي في ثلاث سنين؟! والبهلوان يتضاءل وينكمش في ردائه الفضفاض ويحلف بأغلظ الأيمان: أنا ظالم ومفتري يا عبد الرحيم؟ يخونك العيش والملح والعشرة الطويلة يا أخي؟ الظالم والمفتري هو الكبير، اسأله بنفسك يا عبد الرحيم اسأله وذكره بنفسك سيقول لك نفس الكلام. زأر أبوك وهو ينتفض من ساسه لراسه: كلامي معك أنت يا عوضين والعيش والملح كان معك، الولد سيموت على البلياتشو وأنت تحكي الحواديت؟ ما لي أنا وأوروبا وإيطاليا والشحن بالباخرة ومصانع الخزف الأصلي؟ قلت لك الولد متسمر أمام التمثال هدية العمر لطفل صغير مثل ابنك تصرف أنت يا أخي، تصرف.

أقسم عوضين أن هذا هو السعر الذي حدده الكبير لكل التماثيل الخزف، للأسود والبهلوانات والفيل أبي زلومة وسبع البحر، وكلها في اليانصيب لمن يدفع أكثر، هذه هي التعليمات وأنا العبد المأمور.

هدأ أبوك قليلا وأخذ يعاتبه ويذكره بالعشرة القديمة، واتفق معه بحق العيش والملح والأخوة أنه لن يزيد على الثلاثين قرشا واحدا ، وأن الله وحده يعلم كيف سيتصرف في المبلغ ويذوق المر في جمعه، وإذا كان الأعيان والبهوات يملكون المال والأطيان فهو الآن موظف على قد الحال في المشروع، واتفق معه أن يحافظ له على البلياتشو مهما كانت الأحوال وليضرب البهوات رءوسهم في الحائط أو في العز الذي يتمرغون فيه ليل نهار، ليشتروا التحف الأخرى إذا أرادوا فلا تنقصهم التحف، المهم أن يكون البلياتشو في يد الولد وإلا قتلتك يا عوضين، أنت تعرفني من زمان ولا داعي للكلام.

نامعلوم صفحہ