56

دموع البلياتشو

دموع البلياتشو: مجموعة قصصية تنشر لأول مرة

اصناف

تساءل محمود مندهشا: مفهوم، مفهوم، هل قلت عمك مصطفى؟

وازداد السيل قوة وتحفزا كأنه يلطم الصخور التي بدأت تهدد اندفاعه: ألم أقل لحضرتك؟ فجأة وصلني منه خطاب مسجل ومستعجل، اندهشت حين وجدت على غلافه طابع البريد وعليه صورة ملكة هولندا، كنت أتصور أنه لا يزال في تشيكوسلوفاكيا أو ألمانيا يواصل تدريبه، ولكن الخطاب أكد الشائعات التي سمعتها عن عمي المليونير .

قاطعه محمود بامتعاض : وهل قال لك إنه فتح كازينو ومطعم شرقي هناك؟ ضحك سمير كأنه يطلق نكتة: ويقدم الفول والفلافل وهز البطن كل ليلة! يظهر أن ربنا أنعم عليه بزوجة عملية جدا، وشقراء وطويلة بطبيعة الحال، طول عمري أقول عمي مصطفى عظيم، حوت وفي بطنه الآن كذا أرنب!

تحسر محمود على لغة الضاد وتنهد ثم سأل بإشفاق: وهل يعرف عمك حامد أنه ... قاطعه سمير مستنكرا: يعرف؟ طبعا لا! سيتصور سيدنا الشيخ أن أموال أخيه نجسة وحرام.

سأل محمود: ومع ذلك وقع على المشروع؟!

قال سمير بعد أن التقط أنفاسه كأنه عبر لتوه نهرا خطرا: قلت له إن عمي مصطفى تاب وهداه الله، دعا له بأن يصلح حاله دنيا وآخرة، تشجعت فقلت إنه مصمم على بناء مسجد تحت الفندق أو في الحديقة.

انتبه محمود فجأة وسأل: هل قلت في الحديقة؟

قال سمير مطمئنا: كذبة بيضاء يا عمي يغفرها الله، سنتصرف في الموضوع بإذن واحد أحد.

بلغ الغيظ بمحمود ذروته، فقال كأنه نوح الذي يئس من تحذير ابنه من الطوفان: مفهوم، مفهوم، مفهوم، أكمل يا سمير.

قالت أنيسة وهي تنهض معتذرة بأنها تريد أن تطمئن على نورة: قل له يا أستاذ سمير على كل التفاصيل، ولا تنس وعدك لي بالإشراف على الفندق والسوبر ماركت! نحن نفهم في الحسابات مثل بعض. نظر إليها سمير ضاحكا وأمن على وعوده بأغلظ الأيمان، والتفت إلى عمه فوجده يتطلع إليها في سكون، وتكوم على نفسه وقوس كتفيه وظهره ليقفز قفزة جديدة، وبدأ يعتلي الأمواج كأنه يشق العباب العاصف إلى جزيرة الأحلام، أما محمود فبدأ يدخل في جلده ويتابع الأطياف التي تخرج من كل أركان الحديقة الصامتة التي تناثرت فوقها الأعشاب والأوراق الذابلة والفروع اليابسة والبقع المحتقنة على وجه عجوز محتضر، وأخذ ينادم الأطياف التي تزاحمت حوله، بينما تتردد في سمعه كلمات يلتقط بعض رذاذها ويترك أمواجها المضطربة تتكسر على الصخور التي يتشبث بها: تفاصيل العقد مع الشركة الهولندية، الخبير الذي ينتظر وصوله مع مصطفى للمعاينة وإنهاء كل شيء، قوافل السياح التي بدأ الاتفاق معها والمفاوضات مع المجلس المحلي والمجلس البلدي في عاصمة المحافظة ووزارة السياحة لإنشاء مطار خاص بالمنطقة، موقع الكافتيريا والشيف السويسري الذي سيديرها، ركن السياحة والحاج أمين الذي عرض أن يزوده بالقطع الأثرية والتحف الفرعونية والإسلامية، ملاعب الأطفال والبيسين والباصات الفخمة للنقل إلى منطقة الآثار والميناء وشاطئ البحر، والحوت الهائل يزحف ويزحف، يغير الجلد والمكان والزمان ويستولي على الأراضي ويبتلع الأسماك الصغيرة ويتدفأ تحت الشمس الخالدة ويجتذب السياح من جهات العالم السبع، وعينا محمود تستنجدان بالبيت النحيل الشاحب المهدد بالهدم، وبالحديقة المهددة بالفندق والديسكو والضوضاء والأقدام الغريبة والأجساد شبه العارية والسيارات والحافلات والكراسي والموائد المفروشة أمام الفندق لاستقبال المزيد من الزوار المحليين والأجانب، توقفت نظراته على بقايا الكوخ الذي مالت أخشابه المتداعية في الركن الآخر من الحديقة، ورأى نفسه يختبئ فيه مع أوراقه وأقلامه الملونة ليرسم وبدون أولى محاولاته الشعرية والنثرية - ثم استقرت ساهمة على جانب السور الشائك الذي تطل عليه شرفة بيت الجيران الذين باعوه ورحلوا عن البلد منذ سنين - ترى أين أنت الآن يا سناء؟ هل تلوحين مرة أخرى لأرسل لك قصائدي الجديدة مع مرسالك الصغيرة التي كنت تبعثين معها بالأوراق الملونة الفواحة بالعطر وفيها كلماتك الصغيرة المشوشة كنبش الدجاج تشكين فيها من رداءة خطي وشعري ومن فظاعة خجلي وحزني؟ ولعبنا في الحديقة كلما حضرت، وجريك إلى الكوخ واختباؤك فيه وتحريضك اليائس لجسدي الغبي؟ وإطلالك في المساء على جلستنا العائلية في الحديقة وسؤالك بعدها عما كان يقوله أبي وهو يرفع يديه إلى السماء بالدعاء، وما تقوله أمي وهي تؤدي طقسها اليومي، وتدور بالمبخرة التي تهزها فوق رءوسنا وهي تتمتم مع البخور الفواح الرائحة الذي كنت تشمينه من مكانك في الشرفة وكان يلف سحبه حولنا ويدور حول أشجار التفاح وتعريشة العنب وحوض الزهور وشجرتي الكافور الصامدتين حتى الآن كخفيرين عجوزين أمام البيت؟

نامعلوم صفحہ