دعاء الكروان

طه حسین d. 1392 AH
45

دعاء الكروان

دعاء الكروان

اصناف

وأقبل سيدي الجديد علي مبتسما راضيا يحدق النظر في وجهي تحديقا طويلا، ثم يفصل النظر إلى جسمي كله تفصيلا، كأنه يمتحن متاعا يريد أن يشتريه، ولو قد استطاع لنهض إلي فاختبرني اختبارا وتعرفني باللمس، ولكنه كان فيما يظهر قد احتفظ لنفسه ببقية من حياء، فاكتفى بهذه النظرات المتصلة الطوال التي تجرد المرأة من ثيابها تجريدا، والتي كنت ألقاها مضطربة لها أشد الاضطراب ثائرة لها أشد الثورة.

ولكني كنت أتمالك ما وسعني الجهد وضبط النفس، حتى لا يرى علي اضطرابا ولا ثورة ولا شيئا ينكره، وهو يسألني عن اسمي، وعن أهلي، وعن أمري كله، فألفق له من ذلك ما ألفق، وأزين له من ذلك ما أزين، وهو يسمع مني مصدقا لي أو غير حافل بما يسمع، إنما يريد أن يعرف صوتي ووقع حديثي، ثم هو يأمرني أن أقبل وأن أدبر، وأن أدنو وأن أبعد، وأن أنحرف إلى يمين وأن أنحرف إلى شمال، وأنا أستجيب لكل ما يدعوني إليه، وقد هدأ اضطرابي وسكنت نفسي، وعاودني صوابي، وأنا أتحدث إلى نفسي بأن هذا الفتى يعرف حقا كيف يكون شراء الرقيق ...!

ثم يقبل آخر الليل ولم يكن يقدر أني سألقاه قائمة باسمة. أقبل إلي في ظلمة الليل يسعى كأنه الحية أو كأنه اللص، ولكنه لم يكد يبلغ باب الغرفة ويتبين شخصي ماثلا في وسطها وعلى وجهه ابتسامة شاحبة كأنها ابتسامة الأشباح، حتى أخذه شيء من الذعر، فتراجع خطوات ثم قال في صوت أبيض جعل يأخذ لونه الطبيعي قليلا قليلا: ماذا؟ ألا تزالين ساهرة إلى الآن؟ أتعلمين أين أنت من الليل؟ قلت: لقد جاوزت ثلثيه، وما كان ينبغي لي أن أنام قبل أن ينام سيدي، فما يدريني! لعله يحتاج إلى شيء.

قال وقد عاد إليه ثباته وهدوء نفسه، واسترد صوته شيئا من قحته المألوفة ودعابته البغيضة: ما رأيت قبلك خادما مثلك تحسن العناية بسيدها وتسهر منتظرة لمقدمه إلى آخر الليل، لقد كنت أحسبك نائمة كما تعودت أن أرى من سبقك في خدمتي، وكنت أقدر أني سأجد في إيقاظك بعض الجهد، فلست أدري ما بال نوم الخدم يثقل حتى كأنهم أموات! قلت: فقد أرحت سيدي من هذا الجهد، وانتظرت مقدمه كما تعودت منذ اصطنعت خدمة المترفين الذين لا يحبون إنفاق الليل في دورهم؛ فليأمر سيدي بما يريد. قال وهو يضحك ضحكا سمجا وقد مد إلي يدا وودت لو استطعت قطعها، ولكن تراجعت حتى لا تبلغني: فإن سيدك يأمرك أن تتبعيه. ثم انحدر إلى غرفته ومضيت في أثره ...

وصدق المسكين أني كنت أنتظره، ولو قد نفذ إلى قلبي واستمع إلى أحاديث نفسي لعرف أني لم أكن أرقة في انتظاره، وإنما كنت أسامر أشباحا حمراء لو رآها لملئ قلبه رعبا ولولى منها فرارا، ولكن لم ير إلا إياي، ولم يفكر إلا في، وماله وللأشباح الحمراء!

الفصل الثالث والعشرون

وعدت إلى غرفتي بعد ساعة، راضية عن نفسي كل الرضا، مطمئنة إلى قوتي كل الاطمئنان، فقد بلوت الخصم ولقيت العدو في ميدانه الذي اختاره هو، وكانت بيني وبينه مقدمات النضال، فلم أضعف له، ولم أشفق منه، وإنما ثبت له ثباتا، ثم انصرفت عنه وقد علقته بين السخط والرضا، ووقفته بين اليأس والأمل. لم أجد في شيء من هذا كبير مشقة، ولم أحتمل في شيء من هذا عظيم عناء، وإنما هو الابتسام المطمع المغري، والاحتشام الذي يفل العزم ويثبط الهمم، ويبسط سلطان الحياء على النفس فإذا هي ترتد بعد امتدادها، وعلى الوجه فإذا هو يظلم بعد إشراقه.

وقد كنت أقدر أن المعركة الأولى ستكون عنيفة يملؤها الهول، ويحدق بها الخطر، وتنتهي إلى الفصل فيما يكون بيني وبين هذا الشاب فإما ضعف واستئثار، وإما قوة وانتصار، يتبعها الطرد العنيف من هذه الدار، ولكني ملكت أمري وملك هو من أمر نفسه ما جعل المعركة الأولى مقدمة لا خاتمة، وما أجل الفصل في هذه الخصومة إلى أجل ظنه قريبا ورأيته بعيدا، وقد انصرفت عنه بعد أن أعنته على بعض أمره وهيأت له ما يحتاج إليه، وتركته كاسف البال يظهر الرضا والابتهاج، وهو يقول: لا بأس! إنك في حاجة إلى التربية والتمرين.

ولم أكد أثوب إلى غرفتي وأغلق بابها من دوني إغلاقا محكما حتى تراءت لي أختي وهذه الظلال التي ترافقها، كأنما كن ينتظرنني ليعلمن علمي وليسمعن نبأ ما أبليت مع الخصم من بلاء، ولقد هممت أن أتحدث إليهن، وأقص عليهن ما سمعت وما رأيت، وما عملت وما أبيت، ولكن ماذا؟ إنهن ينظرن إلي نظرا قصيرا، ثم يلمع في وجوههن الشاحبة ابتسامة الرضا، ثم يستخفين استخفاء كأنما ابتلعهن الظلام ابتلاعا، وكنت أظن أني سأنتظر معهن مطلع الفجر، سامرة كما كنت أسمر منذ حين قبل أن يرقى إلي سيدي كأنه اللص، ولكني ألتمسهن من حولي فلا أرى لهن محضرا ولا مظهرا، وألتمسهن في نفسي فلا أظفر منهن بشيء. لقد غبن عن عيني وغبن عن نفسي، وكأنهن أمرن الذكرى أن تتبعهن وتمضي إلى حيث مضين، فأنا أريد أن أذكر فلا أستطيع، وأريد أن أفكر فلا أجد سبيلا إلى التفكير، وأنا آوي إلى مضجعي وقد كنت أزمعت ألا آوي إليه، ولكن للقوة البدنية حدا، ولكن للتعب سلطانا هو باسطه، وغاية هو بالغها، ولقد قضيت ليلة لم أذق فيها النوم، وهذه الليلة الثانية قد انقضى أكثرها، وكادت توالي نجمها تتغور، فلا بد إذن من بعض الراحة سواء أرضيت أم كرهت ...

ومن أجل هذا فارقتني أيتها الأخت العزيزة، وفارقتني معك هذه الظلال الحمراء. إنكن لرفيقات بي شفيقات علي، وما يمنعكن من ذلك وأنا عندما تردن، لم أهن ولم أضعف، ولم أنهزم لهذا العدو الماكر القوي! ليت شعري! أكنتن ترفقن بي، وتشفقن علي، وتنصرفن عني وتخلين بيني وبين النوم، لو أني خالفت عن أمركن واستجبت أو أظهرت الاستجابة لذلك الدعاء البغيض الذي كان يرسله إلي سيدي بالعين واليد واللسان؟!

نامعلوم صفحہ