وأنا أسمع هذا الحديث وأفهمه، ولكنه لا يبلغ مني ولا يؤثر في نفسي، فما لهذا الحديث أقبلت، وما حاجتي إلى أن أسمعه من ربة البيت وقد سمعته ألف مرة ومرة من خديجة! ومتى استطاعت ربة البيت أن تفرق بيني وبين ابنتها في جد أو لعب! كلا! لم أقبل لأسمع هذا الحديث، بل لم أقبل لأسمع شيئا، وإنما أقبلت لأقول شيئا، وقد قلته في صوت هادئ تبله هذه الدموع المنحدرة المنهمرة، وكنت أقدر أنه سيقع من هذه المرأة موقع الصاعقة، وأني قد دخلت هذه الغرفة في هدوء ولن أخرج منها إلا في عنف واضطراب، ولكني قد أتممت ما أردت أن أقول، وانتظرت ثم نظرت، فلم أسمع ولم أر على هذه المرأة اضطرابا ولا دهشا ولا شيئا يشبه الاضطراب والدهش، ثم هممت أن أنصرف خجلة مستخذية، ولكنها وقفتني بالإشارة وتركتني لحظة لا تقول لي شيئا ولا تلقي إلي لحظا، ثم قالت في صوت عادي متزن: وهل أنبأت خديجة من هذا بشيء؟
قلت وقد أغرقت في البكاء: كلا يا سيدتي! وما ينبغي لنفس خديجة الطاهرة البريئة أن يلقى إليها حديث هذا الإثم. ولولا أني أؤثر خديجة وأؤثر الأسرة كلها لما أنبأتك بشيء، ولما أفضيت إليك بسر هذه الأسرة البائسة التي تعيش في بؤسها المظلم في أقصى الريف.
قالت وقد نهضت إلي متثاقلة: لا بأس عليك! فلن يذاع سر أسرتك، ثم ضمتني إليها وقبلتني وهي تقول: لقد أنقذت ابنتي من شر عظيم.
الفصل الثامن عشر
قلت: نعم يا سيدتي، قد أنقذت خديجة من شر عظيم، ولكنك ترين معي أن لا مقام لي في هذه الدار منذ الآن! فكل شيء يأمرني بالتحول عنها. قالت وقد أحسست في صوتها أنها مشغولة البال منصرفة النفس عما يمكن أن أبسط لها من حديث: وما ذاك؟ قلت مقتصدة متعجلة مضمرة أني إنما أتحدث لأعتذر عما سآتي من الأمر: لم أتعود يا سيدتي أن أخفي على خديجة شيئا أو أكتم من دونها سرا، وما ينبغي بل ما أستطيع أن أبقى معها مستأثرة بعلم ما أعلم، طاوية عنها مسعاي عندك، وستعلم خديجة من غير شك أن هذا الأمر الذي بدئ فيه قد أهمل وعدل عنه، وسيكون له في نفسها أثر حاد، ما أشك في ذلك، ولست آمن نفسي حين أحاول ما يجب علي من تسليتها وتعزيتها أن أبوح لها ببعض الحديث، والخير كل الخير في أن أتعجل الرحيل، وما دام الله قد قضى علي الشقاء فلا بد من الإذعان لما قضى الله، قالت: وأين تريدين أن تذهبي؟ قلت : لا أدري! وإنما يجب أن أذهب أولا، فأما إلى أين فشيء سأتبينه بعد ذلك ...!
ولم يرتفع ضحى الغد حتى كنت بعيدة عن دار المأمور قريبة منها مع ذلك، ألحظ من كثب ما يكون بين هاتين الأسرتين اللتين لم تتصل بينهما الأسباب إلا لتنقطع، ولم تنشأ بينهما المودة إلا لتستحيل إلى عداء أو شيء يشبه العداء، ولم أجد في ذلك مشقة ولم أتكلف فيه عناء، وإنما تحولت من دار إلى دار، وقضيت يوما أو بعض يوم عند هذه المرأة التي تحدثت عنها في أول القصة، عند زنوبة تلك التي عرفتها في بيت العمدة وقصصت من حديثها ما قصصت.
أقبلت عليها نحو الظهر، فألفيتها قائمة تكيل بعض ما تكيل من الحب، وأمامها نسوة يشترين منها: هذه تشتري القمح، وهذه تشتري الذرة، وهذه تشتري الفول، هذه تشتري نقدا، وهذه تشتري نسيئة، وزنوبة تحتكم في هذه وتلك صائحة مسرفة في الحركة، لا يستقر لسانها في فمها، ولا يستقر وجهها أو لا يستقر ما يختلف عليه من الصور والأشكال، فهي عابسة حينا، وباسمة حينا، وهي تفعل بعينيها وشفتيها وحاجبيها الأفاعيل، وتدل بها على ما قد يعجز الكلام عن أن يدل عليه، وهي تسب هذه جادة وتسب هذه مازحة، وهي تلمح حينا وتصرح حينا آخر، وهي تمضي في ذلك والنسوة يسمعن لها راضيات عنها معجبات بها، مشاركات لها في بعض ما تقول وفي بعض ما تأتي من الحركات، وأفراد من شباب المدينة قد اجتمعوا غير بعيد ينظرون ويسمعون، ثم يتبادلون بينهم أحاديث فيها الدعابة والرضا، وفيها اللذة والإعجاب.
فلما رأتني زنوبة لم تنكرني، ولكنها لم تغل في الترحيب بي، وإنما نظرت إلي من الرأس إلى القدم، ثم قالت في صوتها النحيف: ها أنت ذي تقبلين! لقد بعد العهد بك منذ التقينا في بيت العمدة، ولكني كنت أنتظرك، وما شككت في أنك ستأتين إلى هذا البيت وستقومين مني هذا المقام. قلت: فهل أنبأك الودع بهذا؟ قالت: وما يدريك! لعل الودع قد أنبأني من أمرك بما تعلمين وبما لا تعلمين، اصعدي إلى هذه الغرفة من فوقنا فتخففي من حقيبتك واستريحي، فسأفرغ لك بعد حين، ولا تتعجلي الطعام إن كنت جائعة فإن وقت الغداء لم يحن بعد، وإن كنت أقدر من أمرك أنك لا تحفلين بالوقت فيما يتصل بالطعام، فما أرى إلا أنك تأكلين في كل وقت، هذا شأنكن أيتها الفتيات تشغلن ببطونكن أكثر مما تشغلن بأي شيء آخر. ومن يدري! لعلكن تشغلن ...
فقطعت عليها حديثها بالانصراف عنها والتصعيد في السلم إلى الغرفة التي دلتني عليها، ولكنها تبعتني مع ذلك بالسخرية والدعابة، وأخذت تقول: اهربي، اهربي، وجدي في الهرب، إن أذنيك النقيتين البريئتين لا تستطيعان أن تسمعا لما ألقي من حديث، إنك تخافين من احمرار الوجه واضطرابه، لن تخدعيني وإن استطعت أن تخدعي غيري؛ فإنك لتحبين هذا الحديث وتخوضين فيه وفي شر منه مع أترابك من الفتيات، ولكنكن تتصنعن الحشمة وتتكلفن الحياء. على أنها لم تمض في هذا اللغو إذ لم تأنس استماعي لها وانصرافي إليها فمضت فيما كانت فيه من بيع وكيل ومن دعابة بالوجه واللسان.
وفرغت لي بعد ساعة، فأقبلت علي هادئة باسمة، تسألني عن أمي وأختي وأجيبها عن أسئلتها بما أريد، فتصدق ما تصدق وتكذب ما تكذب ثم قالت: وأنت الآن تريدين العمل، فأين تحبين أن تعملي؟ وكيف تريدين أن تعيشي؟ إن لك من جسمك الجميل، ووجهك هذا الوضيء، ومنظرك هذا الذي يسحر الشبان ويخلب عقول الرجال، ما يكفل لك حياة فيها ثروة وغنى، وفيها نعيم وترف، وفيها لذة ومتاع، وفيها تسلط وسيطرة واستخفاف وعبث بعقول الشباب والشيب. قلت مغضبة: دعيني من هذا الحديث، ولست أريد منك شيئا، وما أقبلت أستعينك على شيء، وإنما ألممت بك محيية لك قبل أن أترك هذه المدينة فإني عنها مرتحلة، قالت وقد أدارت عينيها وأسبغت على وجهها شكلا مضحكا تملؤه السخرية ويشيع فيه التكذيب والاستهزاء، وأرسلت من فمها شهيقا منكرا أتبعته بشخير منكر ما أشك في أن الشباب المجتمعين غير بعيد قد سمعوه فتضاحكوا له، وانتهى إلينا ضحكهم حيث كنا ، فزادها مرحا ونشاطا، وملأني خزيا واستحياء، قالت: لا تراعي لا تراعي، فلن أعرضك للبيع كما كنت أعرض هذه الحبوب آنفا، ولن أكرهك على ما لا تحبين، ولكني أعرض عليك ما عندي، فأنت تكرهين هذه البضاعة أو تظهرين كرهها الآن! فعندي غير هذه البضاعة، ولكن ثقي يا ابنتي أنك راجعة إلي فطالبة مني ما ترفضين الآن، لست الأولى ولن تكوني الأخيرة ... تريدين عملا كله جد كهذا الذي كنت فيه عند المأمور، فلم تركت بيت المأمور؟ ولكن هذا من أسرارك، وإن لم يكن للفتيات أمثالك على أمهاتهن من أمثالي سر؛ فقد أحب أن أعلم من أمرك جليه وخفيه لأوصي بك عن علم، أخرجت سارقة؟ أم خرجت لسوء العشرة؟ أم خرجت للكذب؟ أم خرجت لكثرة الصياح؟ أأغضبت سيدك؟ أم أغضبت سيدتك؟ أم أغضبت بنت المأمور؟ أم أغضبتهم جميعا؟ وكيف خرجت من هذا البيت في هذا الوقت؟ وهل تعلمين أن في المدينة مأمورين أو بيتين كبيت المأمور؟ وأنت تخرجين في الوقت الذي يستعد فيه البيت للأفراح والليالي الملاح، وتنزلين عما كان يحق لك أن تطمعي فيه من العطايا والهبات! فليس من شك في أنهم كانوا سيمنحونك كسوة فاخرة، وليس من شك في أن كثيرا من النقد كان سيقع إليك من هذا ومن ذاك ومن هذه ومن تلك، فكيف تركت هذا كله؟ أتركته راضية؟ ولماذا؟ أم أكرهت على تركه؟ ولماذا؟ تكلمي! إني لا أحب الغموض، ولا أطمئن إلى الأسرار، ولا خير في التمنع والإباء والكتمان، فما تخفينه اليوم سأظهر عليه غدا، وسأظهر عليه قبل أن تغيب الشمس، ولست بزنوبة إن أخفيت علي أسرار فتاة مثلك لم تبلغ العشرين، وأنا أعلم من أمر هذه المدينة وأسرار أهلها وأخبار الأسر التي تقيم فيها أو تفد عليها أو ترحل عنها ما أعلم. تحدثي! كيف خرجت من بيت المأمور أو كيف أخرجت منه؟
نامعلوم صفحہ