وما أكاد أذهب إلى بيت المهندس وآخذ مع الخدم في العمل والحديث حتى أعلم - وليتني لم أعلم - وأفهم - وليتني لم أفهم - أن أسرة المهندس مقبلة من القاهرة إذا كان الغد لتقيم مع ابنها أياما أو أسابيع، وأن هذه الزيارة ليست كغيرها من الزيارات، وإنما هي زيارة تتم لأمر يراد، فستخطب بنت المأمور للمهندس الشاب، وستشهد المدينة أفراحا لم تشهدها منذ عهد بعيد، وسيسمع أهل المدينة من ألوان الغناء ما لم يتعودوا أن يسمعوا من قبل؛ فلن يقرأ عليهم المولد هذا المغني المشهور الذي يقيم في عاصمة الإقليم، والذي يتعصب له أهل العاصمة وما حولها من القرى وما يجاورها من المدن، ولن يقرأ لهم المولد هذا المغني الآخر الذي يقيم في أقصى الإقليم نحو الشمال والذي ينافس صاحبه أشد المنافسة ويتعصب له نصف الإقليم أو ما يقرب من نصفه، ولن يقرأ لهم المولد الشيخ مدكور هذا الذي يقيم في المدينة نفسها ويحبه أهل الريف، ولكن شهرته لا تتجاوز المدينة إلا قليلا، لن يقرأ لهم المولد واحد من هؤلاء المغنيين، ولكنهم سيسمعون لمغن يأتي من القاهرة، قد يكون عبد الحي، وقد يكون الشيخ يوسف، وقد يكون غيرهما من كبار المغنيين، وستأتي العوالم من القاهرة، وستأتي مغنية مشهورة تطرب السيدات، وستقام الزينة وتولم الولائم على أحسن طراز وأجمل شكل، وسيأتي المنظمون لذلك والمشرفون عليه من القاهرة لا من المدينة ولا من عاصمة الإقليم، وكان الخدم يفيضون في ذلك، ويجرون في تفصيله مع هذا الخيال الريفي الساذج الذي يحسب أنه يمضي أمامه إلى أبعد أمد على حين لا يزال في مكانه لم يتجاوزه أو لم يكن يتجاوزه إلا قليلا.
كانوا يفيضون في الحديث عن المغني والمغنية، وفي الحديث عن الطهاة الذين سيهيئون الطعام، وعن الفراشين الذين سينظمون الوليمة ويطوفون على الناس بالأطباق والأقداح، وعن الموسيقى التي ستأتي من القاهرة فتقضي في المدينة يومين أو أياما تطرب الناس في الصباح وتطرب الناس في المساء، وعن المدعوين الذين سيشهدون الحفل والذين يدعون إليه من قريب ومن بعيد، وفيهم البشاوات والبكاوات، وفيهم العلماء من شيوخ الأزهر.
كانوا يفيضون في هذا كله، ويجدون في الإفاضة فيه لذة يتعجلون بها الحوادث ويستبقون بها إلى ما ينتظرون من فرح وغبطة وابتهاج. وكنت أنا أسمع لأحاديثهم فأفهمها، وأعي أقلها وأهمل أكثرها، وأفكر فيما لم يكن بد من أن أفكر فيه، وهو أن هذا المهندس الشاب قد أغوى أختي ثم دفعها إلى الموت، ثم أخذ يخونها وينتهك ما كان يجب لها عنده من حرمة، ثم هو الآن ينظم الخيانة تنظيما، ويريد أن يأتيها ويقدم عليها ويمضي فيها جهرة باسم الدين والعرف والقانون.
نعم! ولن تكون سكينة هذه الغافلة البلهاء التي لا أعرفها ولا تعرفني إلا منذ حين، لن تكون خليفة هنادي على بيت هذا الفتى وقلبه ومجونه وإثمه، ولكن التي تخلف هنادي على هذا كله ستكون خديجة! خديجة أحب الناس إلي وآثرهم عندي وأحسنهم مكانا من قلبي، خديجة التي أجد عندها - وعندها وحدها - العزاء عما لقيت من شر وما احتملت من نكر وما ألم بي من مكروه، خديجة التي أستعين بها على احتمال هذا الخطب الذي أصابني في أختي وفي أهلي، هذه هي التي ستراد على أن تأخذ من قلب المهندس الشاب، ومن بيته، ومن حياته كلها مكانا ما ينبغي لفتاة أن تأخذه بعد أن سبقت إليه هنادي وأدت ثمنه بذلك الدم الزكي الذي أريق في ذلك الفضاء العريض!
ولم أكن أسأل نفسي كيف يكون موقع هذا النبأ من نفس خديجة حين يلقى إليها: أتنكره وتضيق به، أم تحبه وتبتهج له؟ ولم أكن أسأل نفسي كيف تجد خديجة موقفي منها حين أحاول أن أصد عنها حب هذا الرجل الآثم وأن أردها عنه، وأن أبذل في ذلك من القوة والجهد ومن الحيلة والذكاء ما أملك وما لا أملك؟
لم أكن أسأل نفسي عن شيء من هذا، ولكني كنت ثائرة أشد الثورة وأعنفها، مؤمنة أشد الإيمان وأقواه بأن هذا الأمر لن يكون، مصممة أشد التصميم على ألا يكون مهما تتهيأ له الظروف ومهما تتظاهر عليه القوى.
ثم لم أكن أسأل نفسي عن كل هذه الخواطر التي كانت تجيش في صدري وتبعث في هذه الثورة وهذا الإيمان وهذا التصميم. أكانت خواطر صادقة أم كانت كاذبة؟ أكنت وفية لأختي بالعهد مشفقة على حقها أن يضيع، حريصة على أن أحتفظ لها بهذا العاشق الخائن رغم أنفه، مقاومة في سبيل ذلك قوة الفطرة وقوانين الحياة، أم كنت أتخذ هذه الخواطر حجة وعلة أخفي بها على نفسي ما لا أحب أن تظهر عليه، وأستر بها دون قلبي ما لا أجد الشجاعة على أن أواجهه به في صراحة وجلاء؟
لم أكن أسأل نفسي عن شيء من هذا، بل لم أكن أسأل نفسي عن شيء ما، وإنما كنت أفني قوتي وجهدي وتفكيري في أن أحول بين خديجة وبين هذا التدبير الذي يدبر وهذا الكيد الذي يراد، وكثيرا ما كان يخطر لي أني أحمي خديجة من شر عظيم، وأحول بينها وبين خطر منكر، وأقوم دونها أن يفترسها السبع أو يغتالها الذئب، وأضن بها على أن تبتذل لهذا المجرم الآثم الذي لا يعرف حقا ولا يرعى حرمة ولا يرجو وقارا لخلق ولا دين، وكثيرا ما كنت أقدر أن قيامي دون خديجة وحمايتها من هذا الخطر الذي يوشك أن يلم بها فرض يأخذني به الوفاء لما بيننا من مودة، والرعاية لما لها عندي من جميل، وكثيرا ما كان هذا كله يجتمع ويأتلف بعضه إلى بعض ويتمثل أمام نفسي مجتمعا مؤتلفا قد اتخذ من الوفاء والنصح والإخلاص زينة خلابة، فإذا هو أمامي مرآة نقية صافية، أنظر فيها فترد إلي صورة نفس كريمة عظيمة قد ارتفعت عن كل نقيصة، وأصبحت مثالا للبطولة والشهامة والتضحية في سبيل الأخت التي اغتالها الخطر، والصديق التي يوشك الخطر أن يغتالها.
ولو أني حولت وجهي عن هذه المرآة بعض الشيء في ذلك الوقت، ولو أني نظرت في نفسي ولم أنظر أمامها ولا من حولها، ولو أني تعمقت قلبي وتبينت قرارة ضميري، لرأيت شرا يا له من شر، ولشهدت هولا يا له من هول، ولعرفت أني لم أكن أفي لأختي ولا لصديقي، وإنما كنت أؤثر نفسي بما أراه خيرا وشرا، وأقف هذه النار المضطرمة المتأججة على نفسي وأحميها من أن يحترق بها غيري!
نعم! ولكني لم أكن أنظر في نفسي ولا أحاول النظر فيها، وإنما كنت مدفوعة إلى إفساد هذا الأمر الذي يدبر، ومنع الأسباب أن توصل بين خديجة وبين هذا المهندس الشاب الذي كان لأختي منذ حين، والذي يجب أن يكون لي بعد حين، كأنما ورثته عنها بعد الموت!
نامعلوم صفحہ