أغيرة هذه التي تضطرم في قلبي اضطراما وتحبب إلي التفكير في الموت وكيف يساق إلى الناس ، وتحبب إلي التفكير في الخناجر التي تمزق الصدور وفي السم الذي يمزق الأحشاء؟ أغيرة هذه التي يغلي لها الدم في عروقي ويصعد لها اللهب في وجهي وتقدح لها عيناي بشيء كأنه الشرر، يحمل أهل الدار على أن ينكروا منظري وعلى أن يتساءلوا ما خطبي وإلى أي حال سينتهي بي ما أنا فيه من الذهول؟!
أغيرة هذه التي زادت الحزن عن نفسي وأقامت مكانه غضبا ثائرا متصلا لا يهدأ ولا ينقضي؟ ولمن أغار أو على من أغار؟ أغائرة أنا لهذه الأخت البائسة التي ذاقت الموت في سبيل هذا الفتى دون أن يكون لتضحيتها أهلا؟ أغائرة أنا لهذه الرغبة التي كانت تملأ نفسي وتملك قلبي وتدفعني دفعا إلى أن أعرف من أمر هذا الشاب ما كنت أجهل، والتي لم تكد تبلغ غايتها حتى انتهت إلى يأس مهلك لا مخرج منه ولا آخر له؟ أغائرة أنا لهذا التفكير الطويل فيمن لم يكن أهلا لتفكير؟ لمن هذه الغيرة وعلى من هذه الغيرة، أو إلام تريد أن تنتهي بي هذه الغيرة؟
لا أدري! ولكني أعلم أنها قد جعلت مقامي في دار المأمور عسيرا وعشرتي لخديجة شاقة! فقد توحشت أو كدت أتوحش، وأصبحت نافرة من كل شيء حتى من خديجة التي لم أكن أظن أني سأعرض عنها يوم من الأيام، وقد أخذت أحس أن مقامي قد أخذ يثقل، وأن عشرتي قد أخذت تشق على من حولي، وأن خديجة قد أخذت تجزيني جفاء بجفاء وإعراضا بإعراض.
لك لله يا آمنة! إلام تدفعك هذه النفس المضطربة التي لا تهدأ، وهذه العواطف الثائرة التي لا تستقر، وهذا القلب الهائم الذي لا يعرف ما يريد؟!
الفصل السادس عشر
وأصبحت ذات يوم فإذا شيء غريب يضطرب في جو الدار أحسه ولا أتبينه، وأشعر به ولا أحققه، ألمحه في وجه المأمور وفي وجه ربة البيت حين ينظران إلى خديجة ثم يسترقان نظرات فيها أمل مبتهج وحزن مكتئب، وحين يخلوان للحديث بعد الغداء أو بعد العشاء فتطول بينهما الخلوة أكثر مما تعودت أن تطول. وألمحه في هذا الابتسام الذي يهديه المأمور سخيا كريما إلى أهل الدار جميعا، متحدثا إلى من لم يكن يتحدث إليه، ومتلطفا لمن لم يكن يحفل بوجوده، وفي نظرات طويلة يلقيها علي أنا حين يلقاني، وفيما تظهر ربة البيت من تبسط مع الخدم وعطف عليهم والميل إلى أن تأخذ معهم بأطراف الحديث.
ألمحه في هذا كله، ولكني أجد فيه غموضا يثير ميلي إلى الاستطلاع، ويكاد يسليني بعض الشيء عن المهندس الشاب، وعما يقع في داره من خيانة وإثم، وعما يثير في نفسي من غضب وغيرة، وأهم أن أسأل خديجة عن هذا الذي ألمحه ولا أستبينه، ولكني أجدها غافلة لا تلمح شيئا ولا تحس شيئا فأعرض عما هممت به وأكتفي بالملاحظة والانتظار، على أن الانتظار لم يطل، فما تنقضي أيام قليلة حتى تظهر حركة في دار المهندس الشاب تستتبع حركة في دارنا، ثم تتلاحق الحوادث مسرعة، وإذا هي تملكني وتغمرني وتستأثر بي وتنسيني كل شيء وتذكرني بكل شيء في وقت واحد، وتخرجني من هذا السكون اليائس الذي لزمته إلى نشاط يائس دفعت إليه دفعا.
هذا بيت المهندس الشاب قد ظهرت فيه الحركة وكثر فيه الاضطراب فأثاثه ينقل من مكان إلى مكان ويناله الإصلاح والتنظيف والترتيب، ويؤتى إليه بأثاث لم يكن فيه، بعضه مشترى تظهر عليه الجدة، وبعضه مستعار يظهر عليه القدم، كأنما تتهيأ الدار لاستقبال بعض الزائرين، فهي تعد لهم ما يحتاجون إليه من الغرفات والحجرات ومن الأدوات والأثاث.
والبستاني مسرف في الحركة مندفع في النشاط، أراه هنا وأراه هناك، وقد استعان باثنين أو ثلاثة من شباب المدينة يعملون معه في النقل والتنظيف والترتيب، وسكينة تعمل معهم لا راضية ولا ساخطة، لا مبتهجة ولا مبتسمة، وإنما هي تذهب وتجيء كأنها أداة لا تعرف الرضا ولا السخط، ولا تحس الحزن أو الفرح.
وهذه الحركة المتصلة في بيت المهندس قد أثارت حركة فاترة متقطعة في بيتنا! فهذا سرير ينقل، وهذه وسائد تعار، وهذه آنية تجمع ثم تحمل، وهذه ربة البيت تكلفني راضية باسمة أن أذهب إلى بيت المهندس فأعين الخدم على بعض ما يعملون، وأن أشرف على التنظيم والترتيب، وأن أعنى بأن تهيأ الدار لاستقبال الزائرين تهيئة حسنة لا عيب فيها ولا نقص، ثم هذه ربة البيت تستعد في بيتها لتهيئة الطعام الذي سينقل إلى بيت المهندس إذا كان الغد، ولإعداد الوليمة التي ستقام في دارها إذا كان اليوم الذي يليه.
نامعلوم صفحہ