ولكنني أستقبل النهار ذات يوم هادئة النفس مستريحة الجسم، قد ألح الضعف علي فما أكاد أتحرك، على أني أجد في هذا الضعف نفسه دعة وأمنا فأستعذبه وأستلذه وأستسلم له استسلاما، وأجد في نفسي دهشا لذيذا حلوا لأني أفتقد شيئا كنت أخاف أن أجده، أفتقده افتقاد السعيد بالنجاة من شر يخشاه، فقد يخيل إلي أن قد بعد العهد بيني وبين الظلال والينبوع ووجوه أهل الدار، وأني قد قضيت وقتا غير قصير لم أر حمرة الينبوع، ولم أشهد اضطراب الظلال، ولم يرتفع صوتي بالصياح ولم يسرع إلي أهل الدار، ثم لا أكاد أتمثل هذا كله حتى أجتهد ما استطعت في أن أذود هذه الخواطر عن نفسي مخافة أن يطول تفكيري فيها فيكون ذلك استحضارا لما أتمثله من الهول، ودعاء لما أجد من السعادة في الإفلات منه، ورفعا للستار عن الينبوع الذي منه يتفجر الدم والذي تطيف به الظلال. فأنا أذود هذه الخواطر عن نفسي، وأستسلم لهذا الضعف الذي أجده، وأود لو بقيت كما أنا هامدة خامدة لا أقدر على شيء حتى على التفكير، ولكن هذه هي أمي تدنو مني وعلى وجهها الكئيب شيء من آيات الرضا، وهي تقول لي في هذا الصوت الذي يخيل إلي أني لم أسمعه منذ زمن بعيد: لقد نمت الليلة كلها يا آمنة، فأنت بارئة، وما أرى إلا أنك ستسرعين نحو الشفاء. ليتها لم تقبل علي، وليتها لم تدن مني، وليتها لم تتحدث إلي! فقد اقشعر لقربها بدني كله، واضطربت نفسي كلها، وأخذت غشاوة غريبة تلقى على عيني، وأخذت الأشياء تضطرب من حولي اضطرابا، وآذاني هذا كله أشد الإيذاء حتى كدت أصيح لولا أني حبست صيحتي في حلقي ولكن لم أستطع أن أمسك يدي وأن أمنعهما عن أن ترتفعا إلى عيني لتردا عنهما منظر هذه الأشياء الراقصة، وظنت الأم البائسة أني أتقيها فولت باكية، ووجدت في انصرافها عني سرورا وراحة ورضا.
ولا بد مما ليس منه بد، فلم يكن سبيل إلى أن تمتنع أمي عن عيادتي والعناية بي، ولم يكن سبيل إلى أن أرفض لقاءها وأخلص من محضرها، ولم يكن بد من أن تنظر إلي وأنظر إليها ومن أن تتحدث إلي وأسمع منها وأرد عليها رجع الحديث؛ ولم يكن ذلك دون أن يثير في نفسي من الموجدة والغيظ ما كان يردني أحيانا إلى بعض ما كنت فيه؛ ولم يكن ذلك دون أن يثير في نفس هذه المرأة البائسة آلاما وشقاء إلى شقاء فترسل عبراتها حينا وتنهداتها حينا آخر، وربما أثار في نفسها غضبا تجتهد في حبسه أن ينفجر. وأنا أدنو إلى البرء وأستزيد من القوة وأسترد النشاط قليلا قليلا، وآتي بعض الحركات اليسيرة فأجلس وقد كنت لا أستطيع الانتقال، ثم تثوب الحياة إلي في قوة كأنما كان بينها وبيني سد، فلما أزيل أخذت تغمرني من كل وجه، وإذا أنا أنهض وأسعى، وإذا أنا أسترد حظا من القوة غير قليل وأجد رغبة في كل شيء إلا في الحديث. وأمي تدور حولي وتتلطف لي وتغلو في العناية بي، وتود لو تجد إلى نفسي سبيلا، وتنفق جهودا مثيرة للرثاء تريد بها أن تصل أسباب الحديث بينها وبيني، ولكنها لا تصل مما تريد إلى شيء، وقد ألقي بين نفسها ونفسي سور صفيق فهما لا تلتقيان. ومع ذلك فإن خاطرا من الخواطر كان يتردد في نفسي ترددا لا يكاد ينقطع، وكنت أدافعه دفاعا متصلا؛ لأني كنت أجد في اضطراب نفسي به ألما فيه الخوف والرعب وفيه البغض والحقد، فقد كنت أسأل نفسي وأريد أن أسأل أمي أو أن أسأل بعض من حولي عن خالنا ذلك الشيطان الآثم المريد: أين هو وأين استقرت به الدار؟ فما أذكر أن صورته البغيضة تمثلت لي فيما كان يتمثل لي من الصور أثناء العلة، وما أذكر أني سمعت له ذكرا أو عرفت من أمره خبرا منذ أخذ البرء يسعي إلي ويدب في أعضائي، وما أذكر أن أحدا من أهل الدار قد أشار إليه أو ألم بالحديث عنه منذ أخذت أخالط أهل الدار وأشترك معهم في بعض شئون الحياة، وكنت مع ذلك أريد أن أعرف من أمره بعض الشيء، أو أكره أن أعرف من أمره بعض الشيء، أحي هو أم ميت؟ أأفلت بجريمته أم أخذه السلطان؟ أمقيم هو في القرية أم ذهب في الأرض يلتمس مأمنه بعد الإثم وراء هضبة من هذه الهضاب؟
ما أكثر ما ترددت في نفسي هذه الأسئلة وما أكثر ما جاش بها صدري وما أكثر ما هم لساني أن ينطق بها، ولكني كنت أحبسها في ضميري حبسا خوفا منها وبغضا لهذا الرجل الأثيم، على أني لم أستطع ذات صباح أن أملك من أمري ما تعودت أن أملكه فسألت أمي وقد خلوت إليها، سألتها وأنا أكاد ألوي وجهي عنها: أين هو؟ وما أسرع ما فهمت عني، وما أسرع ما أجابتني وهي تشير إلي بالصمت: لقد ذهب إلى الواحات فيمن ذهب. قالت ذلك وانهمرت دموعها غزيرة سخينة، ولكن بكاءها لم يدع بكائي، وحزنها لم يثر حزني فقد كان بين نفسها وبيني سور صفيق. لقد ذهب إلى الواحات فيمن ذهب ... فلم يأخذه السلطان إذن ولم يهرب ملتمسا مأمنه وراء هضبة من هذه الهضاب، وإنما ذهب إلى الواحات فيمن ذهب من أهل القرية ومن أهل القرى المجاورة يحملون إلى أهلها ثمرات الريف ويحملون إلى أهل الريف ثمرات الواحات. لقد ذهب إلى الواحات فيمن ذهب وكانت نفسه هادئة وكان ضميره مطمئنا، وكان قد نسي إثمه نسيانا، وكان قد انجلى عنه هذا الذهول الذي غشيه بعد أن سوى الأرض على ضحيته.
ولم تتمثل له هذه الصور المروعة التي تتمثل لي، ولم تنهكه هذه الحمى التي أنهكتني، وإنما ذهب إلى الواحات فيمن ذهب يبيع ويشتري، ويتحدث مع رفاقه إذا لهوا، كأنه لم يأت شيئا ولم يقترف إثما ولم يسفك دم ابنة أخته بيده ...
ذهب إلى الواحات فيمن ذهب، وسيعود من الواحات فيمن يعود، يحمل وجهه البغيض ونفسه المجرمة وضميره الآثم، ويحمل مع هذا كله تجارة قد ترتضيه وقد ترتضي أهل هذه الدار، وسيلقونه مغتبطين بلقائه وسيلقاهم سعيدا بالعودة إليهم لا يحس ألما ولا ندما، وسيرتفع صياح الفرح لمقدمه في هذه الدار، وسيرتفع صياح الفرح في القرية كلها لمقدم العائدين معه من أهل القرية، وسيقضي الناس هنا أياما كلها أعياد يملؤها السرور والحبور. أما أنت أيتها الأخت التعسة البائسة فلن يذكرك في هذه الدار أحد إلا هذه المرأة التي لا تستطيع أن تذكرك إلا سرا بينها وبين نفسها، وإلا هذه الفتاة التي لا تكاد تفكر فيك حتى يتراءى لها الينبوع الأحمر والظلال المطيفة به في ذلك الفضاء العريض فتشفق من الجنون ...!
ذهب إلى الواحات فيمن ذهب وسيعود من الواحات فيمن يعود ... حرام علي أن أراه، وحرام علي أن أشهد ما سيثير مقدمه من الفرح والابتهاج، إني لعاجزة عن لقائه، وإني لخليقة إن لقيته أن أفضح من أمره ومن أمرنا ما يريد أن يكون سرا. أليست هنادي قد ذهبت مع من ذهب من أهل المدينة بذلك الوباء؟!
وأشرقت الشمس ذات يوم على أهل الدار وارتفع الضحى، وافتقد أهل الدار آمنة فلم يجدوها، ولو أنهم افتقدوها في القرية كلها لما وجدوها فقد كانت آمنة في بعض الطريق قد عبرت البحر مصوبة نحو الشرق ...
الفصل الثاني عشر
وإني لأراها في طريقها نحو الشرق فيمتلئ قلبي رحمة لها وإعجابا بها وخوفا عليها. وأي قلب لا يرحم فتاة غرة لم تكد تتجاوز سن الصبا وقد قذفت بها الأحداث في لجة الحياة الممتلئة بالخطوب والأهوال، وهي وحيدة ليس لها عون، قد صفرت يدها من كل شيء، وفرغ قلبها إلا من هذا الحزن اللاذع الذي يفعمه إفعاما، وعجزت نفسها حتى عن الأمل، فهي قد فرت من بيت أسرتها فرارا، لا تريد شيئا إلا أن تخلص من هذه البيئة التي لم تكن تستطيع فيها مقاما، وتفلت من هذا الشيطان المريد الذي كانت توشك أن تلقاه إن أقامت أياما.
وأي قلب لا يعجب بهذه الفتاة الغرة التي لم تكد تتجاوز الصبا، والتي فرت من أهلها فهي تسعى لا تلوي على شيء، نحيلة هزيلة بائسة كئيبة لا تدري أين ينتهي بها المسير، ولا تعرف كيف يتاح لها القوت، بل لا تفكر في شيء من هذا، وإنما تمضي أمامها مسرعة في المضي يدفعها عزم لا يعرف الكلال، وبغض للشر لا هوادة فيه، وثقة بالعدل لا حد لها.
نامعلوم صفحہ