في هذا البيت تركت أختي قلبها، وهي من أجل ذلك ذاهلة ذهولا متصلا، وهي من أجل ذلك عاجزة عن أن تسمع لنا أو تفهم عنا أو ترد علينا جواب ما نلقي عليها من سؤال، كنت أحسبها محزونة لما تورطت فيه من خطيئة، وما أشك في أنها أحست هذا الحزن، وما أشك في أن الندم قد عذبها تعذيبا، لكني بعد أن أنفقت معها ليلة كاملة وتبينت من أمرها ما تبينت استقبلت الصبح ونفسي تذوب أسى وحسرة على هذه الفتاة التي تنظر وراءها فترى حبا مضيعا، وتنظر أمامها فترى خوفا مروعا، وتود لو استطاعت أن تعود أدراجها إلى حيث الحب وما يمكن أن يستتبع من نعيم أو بؤس، ومن سعادة أو شقاء، ولكنها تدفع إلى أمام، تدفع إلى حيث الخوف والروع، وإلى حيث اليأس والقنوط، تدفع فتندفع، لا تستطيع أن تقاوم ولا أن تظهر شيئا ينم عن مقاومة أو ممانعة، يا لها من قوة هائلة تسيطر على النفوس فتمحو حظها من الشخصية والإرادة محوا، هذه القوة التي يسمونها الحياء ورعاية العرف وما له من حرمات!
أنا أكذب على أختي فأزين لها ما أكره، وهي لا تكذب على أحد ولا تحفل بما تسمع ولا تكذب على نفسها، وإنما أسلمت نفسها للقضاء واستيقنت أن خير ما في حياتها قد انقضى منذ أمرت أمنا بترك المدينة، فلم نخالف من أمرها وإنما استجبنا طائعتين، ولكن مم كانت تخاف؟ وما هذا الروع الذي كانت آياته تبدو على وجهها بين حين وحين، والذي كان يبعث في جسمها من وقت إلى وقت رعدة قوية توشك أن تدفعها إلى الوثوب؟ إن في هذا الغرب الذي ندفع إليه خمودا وخمولا ويأسا وقنوطا، وكل هذا يسوء، وكل هذا يملأ القلب حزنا وأسى! ولكنه لا يروع، ولا يبعث في النفوس هذا الجزع، ولا يثير في الأجسام هذه الرعدة العنيفة المخيفة. كلا! لم تكن مخطئة ولا غالية حين كان الروع يملأ نفسها، فقد كانت تعلم ما لا أعلم، وكانت تقدر ما لا أقدر، وكانت تمر أمامها صور حزينة شاحبة، ممتقعة مذعورة باعثة للذعر، صور فتيات ثلاث لم أسمع بهن قبل هذه الليلة، ولكنهن كن حديث المدينة منذ عام وبعض عام، خرجن من المدينة كما خرجنا نحن، أو أخرجن منها كما أخرجنا نحن، ثم لم يعدن إليها ولم تعد إليها أسرهن، وإنما عادت إليها أحاديثهن، كلها خوف وروع، وكلها يأس وقنوط، وكلها جزع وفزع، وكلها يلونها الدم وقد يساقط منها قطرات.
ما أنت وهذه الخواطر الدامية أيتها الفتاة التعسة؟! إنما ترحلين بين أمك وأختك وخالك إلى قريتك التي ولدت فيها لتعيشي بين قوم أحبوك وأحببتهم، وما زالوا يحبونك ولقد كنت تحبينهم منذ حين، أتذكرين! لقد كنت أكثرنا حديثا عنهم وحنينا إليهم في المدينة كلما التقينا، ما بالك تخافين منهم وتشفقين من لقائهم وإنك لواجدة عندهم من الحماية والأمن ما لا سبيل إليه في حياة الغربة والعمل في هذه البيوت التي لا يعطفها علينا حب ولا ود؟! ولكنها لا تسمع لي أو لا تفهم عني ، وإنما هي مشغولة بما تركت من حب وبما تستقبل من روع، تمر أمامها صور ذلك الشاب الجميل المترف الذي أحبته، وتمر أمامها صور هؤلاء الفتيات خائفة مخيفة مروعة مثيرة للروع، أما هذه التي تسمى أمينة فقد احتز رأسها احتزازا، وأما هذه التي تسمى مارتا فقد شق صدرها شقا، وأما هذه التي تسمى ملزمة فقد يقال إنها دفنت حية ولقيت حتفها مختنقة في التراب. ما الذي ينتظرني من ألوان الموت هذه؟! وأنا أرد عنها هذه الخواطر جاهدة، أتلطف حينا حتى أقبلها وأداعبها، ثم أشتد في التلطف بها حتى أستعطفها بما أسفح من دموع، ثم أعنف وأغلو في العنف وأنذرها بأني سأقص خوفها كله على أمنا وخالنا، وسأستوثق لها منهما أو سأمتنع عليهما فلا أتبعهما ولا أدعها تتبعهما، وسأستجير لنفسي ولها منهما بهذا الرجل الكريم الذي نحن ضيف عنده، ولكنها إذا سمعت مني ذلك ثابت إلى نفسها وردتني إلى الأناة والمهل، وأظهرت التجلد والصبر، وتكلفت ثقة لا تلبث أن تضطرب واطمئنانا لا يلبث أن يزول.
يا لك من ليل طويل بغيض، لم نعرف فيه راحة ولا أمنا ولا هدوءا، وإنما كنا فيه نهب الندم المضني على ما فات، والخوف المهلك مما هو آت، والضيق الشديد بما نحن فيه، والليل يطول ويطول، كأنه يحمل أثقالا لا قبل له بها ولا قدرة له على المسير معها، فهو يزحف زحفا بطيئا أشد البطء، والهم يغشي نفوسنا تغشية، وهذه الخواطر المنكرة تدور في رءوسنا دورانا متصلا يكاد يفنيها، ولكن ما هذا الصوت الذي يشق هذا السكون الذي نحن فيه شقا ويردنا إلى أنفسنا فزعتين جزعتين كأنه أخرجنا من نوم عميق؟ إنه صياح الديك يودع الليل ويؤذن بمقدم الصبح، بماذا تصيح أيها الديك؟ وبماذا تريد أن تنبئنا أو تتنبأ لنا؟ قالت أختي: أتذكرين صاحبة الودع؟ إنها رأتني بين رجلين أحدهما آذاني وسيحبني والآخر أحبني وسيؤذيني، ألم تفهمي عنها شيئا؟ قلت: وماذا تريدين أن أفهم عن هذه العجوز الحمقاء ومن هذا السخف الذي تردده في كل مكان وتقدمه إلى الناس جميعا؟ كل رجل عندها بين امرأتين أو بين نساء، وكل امرأة عندها بين رجلين أو بين رجال. قالت أختي: فإني أرى هذين الرجلين رأي العين وأعرفهما كما أعرفك، وسترينهما وستعرفينهما، وستبغضين أحدهما أشد البغض وستحبين الآخر حبا كثيرا!
وهذا الهواء يضطرب ويضطرب معه صوت المؤذن يدعو إلى الصلاة، والناس يستيقظون ويخرجون من منازلهم أفرادا بين ذاهب إلى المسجد وذاهب إلى الحقل، ونحن نستقبل هذا الصبح الشاحب بنفوس شاحبة وقلوب واجفة ووجوه حائلة، لو استطعنا لأحجمناه، ولكننا ندعى إلى الإقدام ولا نستطيع امتناعا على هذا الدعاء.
هذان الجملان قد هيئا للرحيل، وهذا خالنا قد قام عندهما كأنه الشيطان، وهذه أمنا تدعونا إلى الخروج في رفق، وها نحن أولاء نودع من عرفنا من أهل الدار، ثم تمضي ساعة وساعة وإذا ضوء الضحى يغمرنا في هذا السهل الريفي الجميل الذي تمتد فيه عن يمين وشمال هذه الحقول النضرة ترتاح إليها النفوس والأبصار، ولكن هناك نفوسا لا ترتاح وإنما هي مضطربة دائما، وأبصارا لا تستقر وإنما هي زائغة دائما ... إلى أين يمضي بنا هذان الجملان؟!
الفصل العاشر
إنما يمضيان بنا إلى حيث الأمن والدعة، وإلى حيث العز والمنعة، وإلى حيث نقضي حياتنا كما تعود أمثالنا من فتيات القرية أن يقضين حياتهن هادئات ناعمات، حتى إذا تقدمت بهن السن وأدركتهن ميعة الشباب ونضرته سعى إليهن الأزواج من شباب القرية أو من شباب القرى المجاورة، فأصبحت كل واحدة منهن سيدة في البيت أو سيدة في الخيام، واستقبلت حياة الجد والعمل والكد، وفيها الأبناء والبنات وما يستتبعون من بهجة وقرة عين، ومن شقاء وحزن وأمل وإشفاق، انظري يا ابنتي الكبيرة إلى كل هذا النور الذي يصبه الضحى علينا صبا والذي يغمرنا، والذي نمضي فيه كأنما نخوض لجة البحر. انظري إلى هذا النور الذي يغمرنا ويغمر السهل من حولنا؛ وانظري إلى هذه الحقول تنبسط عن يمين وشمال لا تكاد تنتهي؛ وانظري إلى هؤلاء الرجال والنساء وإلى هؤلاء الفتيان والفتيات وقد ملأهم النشاط، وبعث فيهم الجد حياة لا حد لها، فهم يذهبون ويجيئون وهم يعملون لا يعرفون كلالا ولا سأما، وأصواتهم ترتفع لا بالشكوى ولا بالأنين وإنما ترتفع بهذا الغناء الساذج الحلو الذي يبعث في هذا الجو نغمات ساذجة حلوة، والذي يصور الأمل في غير إسراف، والرضا في غير استكانة، والاطمئنان في غير حزن، وحب العمل على كل حال، والثقة بالله على كل حال أيضا.
انظري يا ابنتي واسمعي، ثم سلي نفسك: أتجدين فيما ترين أو فيما تسمعين ما يثير خوفا أو يبعث روعا أو يدفع إلى يأس؟ كل شيء آمن وكل شيء يدعو إلى الأمن، كل شيء هادئ وكل شيء يدعو إلى الهدوء، إن ظلمة الليل لمنكرة وإنها لتحب الخوف وتثيره، وإنها لتبعث الأشباح من مكامنها، وإنها لتغري القلق بالنفوس وتسلط الهم على القلوب ... لقد كنت يا ابنتي تثيرين في نفسي مثل ما كان يثور في نفسك من الخوف حين كنت تتحدثين إلي وظلمة الليل تغمرنا من كل مكان، فأما الآن وقد انجلت هذه الظلمة وأصبحت لا أمد عيني إلا رأيت، ولا أمد أذني إلا سمعت، فإني لأضحك منك ومن تلك الهواجس التي كانت تروعك، ومن تلك الأشباح الحمراء التي كانت تتراءى لك وتمثل أمامك، وإني لأضحك من نفسي ومن انقيادها لك بعض الشيء وتأثرها بك إلى حد ما، انظري واجتهدي في أن تستحضري الأشباح الحمراء، إنها لا تستطيع أن تظهر ولا تجرؤ على أن تتراءى فضلا عن أن تمثل أمامك أو أن تسايرك. إن الأشباح لا تحب النور ولا تستطيع أن تظهر في وضح النهار، إنما الأشباح والخوف والفزع واليأس بنات الليل، تطمئن إليه ويطمئن إليها، تستظل به ويبسط عليها ظله المظلم الساكن المخيف؛ فإذا ابتسم الصبح وأشرق الضحى واستيقظت الحياة ذابت كل هذه المروعات، وانجابت مع الظلام، فلم يبق لها أثر في نفس ولا سلطان على قلب. انظري إلى هذه الضحى المشرق، وأفيضي بعض إشراقه على نفسك، انظري إلى هذه الحياة التي يملؤها النشاط فأفيضي منها على قلبك، ألست تحسين الحاجة إلى أن ترفعي صوتك بالغناء، كما يتغنى هؤلاء الشباب عن يمين وشمال؟! ثم انظري إلى أمنا وخالنا، إن جملهما ليسعى بهما مرحا شديد النشاط، وإنهما ليتحدثان في هدوء وأمن واستبشار وشيء من الحنان كأنما يذكران أيام صباهما وشبابهما، وكأنما يودان لو رجعت بهما الأيام إلى مثل هذه السن التي نحن فيها. أترين عليهما مظهرا من مظاهر الريبة أو آية من آيات المكر، أو دليلا من دلائل الكيد؟ كلا، إنهما ليمتزجان بما حولهما فإذا هما حياة وأمن وأمل، فلنكن مثلهما حياة وأمنا وأملا.
ويسلك حديثي هذا سبيله إلى قلب أختي كما يسلك النور والحياة سبيلهما إلى نفسها، وإذا هي تطمئن بعض الشيء، لا تبسم للحياة ولكنها لا تسرف في العبوس، إنما هي كآبة ملحة تغشى نفسها ولكنها كآبة هادئة لا تثير روعا ولا جزعا ولا يأسا، والطريق تمضي بنا مستقيمة جميلة يحببها إلى النفوس هذا النور القوي الذي يزداد قوة وصراحة وإلحاحا كلما تقدم النهار، وهذه الحقول الخصبة يملؤها هذا النشاط الخصب وهذا الغناء الحلو يرتفع في الجو، ويمتزج بما يملؤه من الضياء والهواء، ونحن لا نجوز قرية إلا دفعنا إلى قرية أخرى، حتى إذا تقدم النهار وكدنا نبلغ العصر، وكنا قد انتهينا إلى بعض القرى، قال خالنا: لقد آن لنا أن نستريح ساعات، ولست أرى بأسا بأن نستأنف السفر إذا أقبل الليل، فقد أشرفنا على بلادنا وما أرى أن الليل سينتصف حتى نكون قد بلغنا البحر عند بني فلان فإذا أسفر الصبح عبرنا إلى أرضنا ولا يرتفع الضحى حتى نكون قد انتهينا إلى بني وركان.
نامعلوم صفحہ