Doroos Al-Sheikh Hassan Abu Al-Ashbal
دروس الشيخ حسن أبو الأشبال
اصناف
هل أنا أحب الله ورسوله
حب الله ورسوله ﷺ واجب متحتم على كل مسلم، ويتجسد هذا الحب في امتثال أوامر الله تعالى وأوامر رسوله ﷺ، وإلا كان ادعاء، فالاتباع دليل الحب، وعلامة صدق المحب، ولقد جسد الصحابة رضوان الله عليهم هذا الحب بأقوالهم وأفعالهم من المدح والثناء والتضحية والفداء، كل ذلك حبًا لله تعالى ولرسوله ﷺ.
1 / 1
وجوب تقديم حب الله سبحانه ورسوله ﷺ على النفس
إن الحمد لله تعالى؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:١٠٢].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:١].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:٧٠ - ٧١].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله وعليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة الأخيار! سؤال يطرح نفسه بين الحين والحين، بل الواجب أن يطرح نفسه في كل وقت وحين؛ لأنه فرق بين الإيمان والكفر، كما أنه سبيل وسبب إما إلى الجنة وإما إلى النار.
هذا السؤال هو: هل أنا أحب الله تعالى ورسوله أم لا؟ ولا تبادر بالجواب لنفسك، فإنني أعلم أن كل واحد وإن كان من أفجر الناس لابد وأنه سيجيب نفسه بالإجابة: نعم.
أنا أحب الله ورسوله، فما علامة ذلك؟ وما ثمرته في الدنيا والآخرة؟ وهذا هو الفيصل، وما هي حقيقة الحب لله ورسوله؟ أما الحب لله ورسوله فإنه واجب محتم على كل مسلم، ولذلك (أخذ النبي ﷺ -فيما رواه البخاري في صحيحه- بيد عمر بن الخطاب ﵁ فبادر عمر القول فقال: يا رسول الله! والله إني لأحبك أكثر من كل شيء إلا من نفسي.
فقال النبي ﷺ: لا يا عمر؛ حتى أكون أحب إليك من نفسك التي بين جنبيك.
فقال عمر: والله يا رسول الله إنك لأحب إلي من نفسي التي بين جنبي.
فقال: الآن يا عمر).
أي: الآن كمل إيمانك، الآن زاد إيمانك يا عمر، فلابد أن أكون أحب إليك من نفسك التي بين جنبيك.
وروى البخاري أيضًا من حديث أبي هريرة ﵁ قال: قال النبي ﷺ: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده)، وعند مسلم من حديث أنس ﵁ قال: قال النبي ﷺ: (لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من أهله، وماله، والناس أجمعين).
فإذا كنت صادقًا في مدعاك حب الله ورسوله فلابد أن يكون الله ورسوله أحب إليك من كل شيء، حتى من نفسك التي بين جنبيك، وولدك الذي هو من صلبك، ووالدك الذي أنت من صلبه، ومالك الذي هو قوام حياتك.
1 / 2
علامات حب الله ورسوله ﷺ
رب سائل يسأل فيقول: أنا لا أدري إذا كنت حقيقة أحب الله ورسوله أم لا، فهل هناك شيء من العلامات أو الأمارات التي إذا شعرت بها علمت أنني أحب الله ورسوله؟ أقول: ما ترك النبي ﷺ شيئًا يقربنا إلى الله إلا وقد دلنا عليه، وفي ذلك روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة ﵁ قال: (ثلاث من كن فيه)، ثلاث خصال إذا توافرت في العبد كان محبًا لله ورسوله، وكان مؤمنًا خالصًا.
(ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان)، وهل الإيمان له حلاوة، له طعم، له لذة؟ نعم له لذة يشعر بها المتقون، العابدون، الحامدون، الراجعون إلى الله، أما الذين ركبوا هواهم، واقترفوا المعاصي، وتركوا الأوامر فلا يشعرون بشيء من ذلك عقوبة لهم.
(ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما).
إذا أمرك أبوك بأمر يخالف شرع الله، فقل له: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق).
إذا حاد ولدك عن الطريق فأدبه كما أمرك الله ورسوله، ولا تقل: إن الولد في سن المراهقة، ثم إذا كبر قلت: إن الولد في سن الشباب، فدعه يتمتع بعمره وأيامه، وإذا كبر أكثر قال الناس: خرف الرجل؛ لأنه قد طعن في السن، فمتى يتربى المرء على دين الله إذا كان في كل طور من أطوار حياته له عذر في المجتمع، في الابتعاد عن دين الله وعن شرعه؟! متى يتربى المسلمون؟ ومتى يوحدون الله ﷿؟ ومتى يأتمرون بأوامره، وينتهون عما نهاهم؟ (وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله) أداة حصر وقصر، ألا يربطك بأخيك إلا كتاب الله وسنة الرسول والمسجد.
هذا هو الرباط المتين، وهو الإيمان الكامل، (من أحب في الله، وأبغض في الله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان).
فهل أنت تحب من بجوارك لله؛ لأنه يصلي ويصوم ويزكي، ويحل الحلال ويحرم الحرام؟ وإن كان
الجواب
لا، فأنت تحبه للدنيا، للمال، للجاه، للسلطان، للرئاسة، للكرسي، بل ربما تحبه لأنك تخونه في أهل بيته، هذا حادث وحاصل وواقع مؤلم! (وأن تكره أن تعود إلى الكفر بعد إذ أنقذك الله منه كما تكره أن تقذف في النار).
من منا يصبر على النار؟ الجواب: لا أحد، ومن فعل ذلك وصف بأنه مجنون! فكذلك من ترك الإيمان والصفاء والنقاء، ورجع إلى الكفر بعد أن عرف الإيمان فقد ذهب عقله، وذهب دينه، واحترق لحمه بالنار.
وقد حدد الله ﷿ في كتابه في سورة التوبة أنواعًا من المحبة فقال: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا﴾ [التوبة:٢٤] فانتظروا: ﴿حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾ [التوبة:٢٤] إذا كانت هذه الأصناف الثمانية أحب إليكم من الله ورسوله، وجهاد في سبيله، فانتظروا العقوبة من الله ﷿: ﴿وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [التوبة:٢٤].
فكم منا من يقدم زوجه على الله، وكم منا من يقدم هواه على الله، وكم منا من يحب الدينار والدرهم والدولار أكثر من حبه لله.
وأنا متأكد أن الفئة العظمى من الناس تقول: أنت قد أخطأت الحساب، فهل أحد يحب الدولار أكثر من حبه لله؟ إن ذلك يا إخوة عجيب له علامات، إذا كنت مرابيًا فقد قدمت رباك على ربك، وأحببت الدينار والدرهم أكثر من حبك لله.
ولذلك بين الله ﷿ أمارة الحب والصدق في الحب، فقال سبحانه: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي﴾ [آل عمران:٣١] شرط وعلامة حبك لله أن تكون متبعًا للرسول ﷺ بما جاء به من كتاب وسنة.
﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي﴾ [آل عمران:٣١] هذا في نفسه: ﴿يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران:٣١].
1 / 3
ثمرة حب الله ورسوله ﷺ في الدنيا والآخرة
لعل سائلًا يسأل فيقول: وما ثمرة ذلك؟ فنقول: إن ثمرته في الدنيا والآخرة: أما ثمرة الطاعة والاقتداء فأنت تجد حلاوتها في قلبك.
هذا في الدنيا.
وأما الآخرة: فانظر إلى ما رواه البخاري ومسلم أن رجلًا اعترض النبي صلى عليه وسلم في طريقه فقال: (يا رسول الله! متى الساعة).
وهذا مما استأثر الله ﷿ بعلمه، ولم يطلع عليه أحدًا لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولكن لها أمارات وأشراط وعلامات.
فقال النبي صلى عليه وسلم: (وما أعددت لها؟ فقال: والله ما أعددت لها كثير صلاة، ولا صيام، ولا صدقة ولكني أعددت لها حب الله ورسوله، فقال النبي ﷺ: أنت مع من أحببت).
ومن ثمرة الطاعة في الآخرة: أن يدخلك الله ﷿ بمنه وكرمه وفضله الجنة، فتكون مع النبيين والصديقين والشهداء، وحسن أولئك رفيقًا.
وأتى آخر وقال: (يا رسول الله! ما يصنع المرء إذا أحب القوم ولما يلحق بهم؟ -لم يعمل بعملهم، ولكن حسبه أنه يحبهم- فقال ﷺ: أنت مع من أحببت.
يقول أنس بن مالك ﵁ راوي الحديث: فما فرح المسلمون بعد إسلامهم فرحهم بهذا الحديث.
ثم قال أنس: وأنا أشهدكم أني أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر).
كما أني أشهدكم أني أحبكم في الله بعد حبي لله ورسوله، وبعد حبي للخلفاء الراشدين والصحابة والصالحين، أحبكم في الله الذي جمعني وإياكم في هذه البقعة الطاهرة المباركة.
1 / 4
حقيقة حب الله ورسوله ﷺ عند الصحابة رضوان الله عليهم
روى البخاري ومسلم من حديث عبادة بن الصامت ﵁ قال: (بايعنا رسول الله ﷺ على السمع الطاعة في المنشط والمكره، في العسر واليسر).
في كل أحوالهم، المرء منا إذا وقع في ضائقة عرف الله ولجأ إليه، فإذا كان في رخاء ورغد من العيش ظن أنه في غنى عن الله، انظر إلى الفرق بيننا وبين الصحابة قال: (بايعنا رسول الله ﷺ على السمع والطاعة في المنشط والمكره، في العسر واليسر، وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله، إلا أن نجد كفرًا بواحًا لنا فيه من الله برهان، وأن نقول الحق لا نخشى في الله لومة لائم).
وهذا سلمة بن الأكوع يأتي في نفر من أصحابه فيقول: (ابسط يمينك يا رسول الله فلنبايعك، قال: على ماذا يا سلمة؟ قال: على الموت).
رجل يفدي النبي ﷺ بدمه فبماذا فديته أنت؟ ولذلك قال النبي ﷺ لأصحابه في إحدى الغزوات قبل بدء الحرب: (لو أن الله كتب لكم الغنيمة لكان لكل واحد كيت وكيت، فقام واحد من أصحابه وقال: يا رسول الله! ليس على هذا بايعناك، قال: على ماذا؟ قال: على أن أرمى هاهنا - وأشار إلى حلقة - قال: إن صدقت الله صدقك.
فنظروا في القتلى فإذا سهم قد أصابه في حلقة).
فهؤلاء قوم ﴿صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ﴾ [الأحزاب:٢٣].
لو أنك يا عبد الله قارنت نفسك بهؤلاء هل يكون جوابك ما كان أولًا: أنني فعلًا أحب الله ورسوله؟ هل تبذل نفسك ومالك لله؟ بل هل تقول: إنك مسلم، ولكل قول حقيقة وأمارة، فما حقيقة قولك وأمارته؟! هذا أبو بكر الصديق ﵁ لما أمر النبي ﷺ بالهجرة من مكة إلى المدينة، أتى إلى بيت أبي بكر وأخبره بخبره، فقام أبو بكر ولم يتلعثم ولم يتردد، وجهز بعيرين وقال: (الصحبة الصحبة يا رسول الله).
وأخذ كل ماله، وأوهم أهله أنه قد وضع لهم في البيت مالًا، وإذا بها حجارة قد صرها، وكان أبوه ضريرًا فقال النبي ﷺ: (يا أبا بكر! ماذا تركت لأهلك؟ قال: تركت لهم الله ورسوله)، فهذا بذله للمال.
وأما بذله للنفس: فلما انطلقوا من مكة متوجهين إلى المدينة تبعهم سراقة بن جعشم يريد أن يقتلهم، وكان أبو بكر ﵁ إذا أحس بالخطر من الأمام سبق النبي ﷺ، وإذا أحس بالخطر من الخلف تأخر عنه ليحميه.
انظروا إلى الأدب، وإلى الحب الجمّ! فلما عرف أن الخطر أتى من جهة مكة تأخر خلف النبي صلى الله وعليه وسلم وقال: (يا رسول الله! إن سراقة كاد أن يلحقنا، فقال النبي ﵊: لا تحزن يا أبا بكر فإن الله معنا.
حتى كان سراقة على قدر فرسخ أو فرسخين، فبكى أبو بكر، فقال له النبي ﵊: ما يبكيك يا أبا بكر؟ قال: والله لست على نفسي أبكي، وإنما عليك، فإن موتك موت لدين الله، أما أنا فعبد من عباد الله!).
انظروا إلى الفهم العميق، إلى الإيمان، إلى الحب الصادق النقي.
(نظر أبو بكر خلفه وإذا بـ سراقة على بعد فرسخ واحد، فقال: يا رسول الله! ادع الله لنا أن ينجينا من سراقة، فقال النبي ﷺ: اللهم اكفناه بما شئت.
فساخت فرسه إلى بطنها في الأرض).
أي: غرقت فرسه في الأرض إلى بطنها، ثم جاء سراقة بنفسه إلى النبي ﷺ واعتذر إليه مخافة الغرق.
وفي غزوة أحد لما انهزم المسلمون وانكشفوا؛ بسبب مخالفة مجموعة منهم أمر النبي ﷺ، تسلل خالد بن الوليد وأتاهم من الخلف، وكان القوم قد انصرفوا لجمع الغنائم، فلم يبق مع النبي ﷺ إلا اثنا عشر رجلًا، فلما رأى ذلك النبي ﷺ قال: (من لي بالقوم؟ فقال طلحة بن عبيد الله: أنا يا رسول الله، فقال: لا عليك يا طلحة، فقام آخر فقاتل حتى قتل، والثاني مثله حتى قتل أحد عشر منهم، فقال: من لي بالقوم؟ فقال طلحة: أنا يا رسول الله، فقام طلحة فقاتل قتال أصحابه أجمعين، فقال النبي ﷺ: من أراد أن ينظر إلى شهيد يمشي على الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله).
وكان أبو بكر ﵁ إذا ذكر يوم أحد بكى، وقال: ذاك يوم طلحة، فلم يبل أحد بلاءه في تلك المعركة، وكان إذا صوب المشركون سهامهم إلى النبي ﷺ تلقفها بيمينه وشماله حتى أصابه سهم فق
1 / 5
صور ونماذج لمحبة الله ورسوله ﷺ
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلامًا على عباده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا ورسوله.
وبعد: فهذا كعب بن الأشرف -عليه لعنة الله- لما رأى ما أصاب المشركين في غزوة بدر -وكان من يهود المدينة- عز عليه ذلك، وذهب وقطع الفيافي والقفار إلى أهل مكة، وإلى صناديد الشرك والكفر، فرتب أن يخون معهم من الداخل، وأن يهجموا هم من الخارج، ظنًا منهم غياب ذلك عن اللطيف الخبير، فلما رجع كعب بن الأشرف لم يسكت ولم يكتف بذلك، بل شبب بنساء المسلمين، وهذا أمر يؤذي أهل الإيمان أيما إيذاء، أن يتكلم أحد عن امرأتك وأمك وأختك إلا أن يكون ديوثًا يقبل ذلك.
فلما فعل ذلك قال النبي ﷺ: (من لي بـ كعب بن الأشرف؟ فقام محمد بن مسلمة ﵁ وقال: أنا يا رسول الله، قال: قم.
فاقتله، قال: ائذن لي يا رسول الله، فإن الأمر لا يتم إلا بذلك -أي: بالطعن في رسول الله- قال: أنت في حل من ذلك فافعل ما شئت، فلما سمع ذلك أبو نائلة ﵁ قام مع محمد بن مسلمة وأتيا كعب بن الأشرف، فلما نادى عليه أبو نائلة قالت امرأته -وكانت ذكية-: يا كعب! إن هذا الصوت صوت قاتل، فجعل من نفسه شهمًا وشجاعًا، وقال: لو نادى علي أمير أو ملك في هذا الوقت لأجبته، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: جئنا لنتكلم معك في شأن ذاك الرجل الذي ادعى أن الله أرسله، قال: ألم أقل لكم إنه يفرق بين المرء وزوجه، ألم أقل لكم كيت وكيت، فأتى بكل ما عنده، فقالوا: وإنا قد أجدبنا -أصابنا القحط والجوع- فهل لنا أن نستطعمك، قال: أترهنوني نساءكم؟ وكان جميلًا -قالوا: يا كعب! ماذا تقول عنا العرب وأنت أجملهم، قال: ترهنوني أولادكم؟ قالوا: يا كعب! وهل يرضيك أن يعير أولادنا بعد ذلك من صبية المدينة، قال: فماذا ترهنون؟ قالوا: نرهنك دروعنا وسيوفنا، فقبل ذلك، فأخذ السيف وأعطاهم الطعام، فلما أراد محمد بن مسلمة أن يعطيه سيفه، قال: هي عليك يا محمد، وسلم أبو نائلة سيفه وبقي مع محمد بن مسلمة سيفه، فأخذا الطعام وانصرفا، ثم رجعا إليه في اليوم الثاني، فناديا عليه فنزل إليهما فرحًا مسرورًا، فسار معهم في شعاب المدينة، فلما وجدوا أمانًا أطاحوا برأسه، وأتوا به على ذبابة سيف محمد بن مسلمة إلى النبي ﷺ فقال: هذا جزاء من حارب الله ورسوله).
انظروا لأقوام يدخلون هذه المخاطرة الخسارة فيها كبيرة، ولكن ذلك إنما كان دفاعًا عن النبي ﷺ وعن دينه وشرعه.
من علامات الإيمان والحب أن تظهر سنة النبي ﷺ، وأن تذب عن دينه وشرعه، وأن تكون علمًا على دينك بين الناس، إذا سرت في شارع قال الناس: هذا تابع لمحمد، فهل يقول عنك الناس ذلك؟ ما الفرق بينك وبين حنا؟ ما الفرق بينك وبين بولس؟ ما الفرق بينك وبين جرجس؟ ربما يكون هناك شبه في المظهر.
لو أني لقيتك في طريقي يا عبد الله ما يدريني أنك مسلم أم كافر، إلا أن تظهر بمظهر الإسلام، وباطنك الله أعلم به.
عنوان طاعتك لله أن تكون منقادًا عند سماع الأمر والنهي، تمتثل الأمر وتنتهي عن النهي، وتفعل كما فعل المهاجرون والأنصار.
انظر إلى موقف واحد: كان النبي ﷺ يصلي أولًا باتجاه بيت المقدس، فتمنى أن يصلي إلى الكعبة، فبعد أن صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا، أو سبعة عشر شهرًا، أنزل الله ﷿ عليه وهو في المدينة: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة:١٤٤].
فنسخت الصلاة تجاه بيت المقدس، وأمر الناس أن يصلوا إلى بيت الله الحرام، فصلى رجل من الأنصار العصر مع النبي ﷺ، وانطلق إلى مسجد آخر وهم يصلون العصر، وهم ركوع، فوقف على باب المسجد، وقال: إني صليت مع النبي ﷺ العصر نحو الكعبة، فلم ينتظر القوم حتى يصلوا العصر ثم يستأنفوا من المغرب أو العشاء، أو يتأكدوا من رسول الله، وإنما بادروا إلى الفعل، وتحولوا وهم ركوع إلى الكعبة! انظر إلى هذه الطاعة.
وهذا أنس بن مالك ابن أم سليم، وكان زوج أمه أبو طلحة، يقول أنس: (كنت ساقي الخمر، فأمر النبي ﷺ مناديًا: ألا إن الخمر قد حرمت، قال أنس: فسمع القوم وهم جلوس في بيت أبي طلحة ذلك المنادي، فقال أبو طلحة والقوم: يا أنس اخرج وأهرق هذا الماء في سكك المدينة).
انظر إلى سرعة تنفيذ الأمر، من دون تردد، أو استنكار.
قال أنس: (فلما
1 / 6
الحدود في الإسلام
لقد شرع الإسلام عقوبات محددة مقدرة على جرائم لا يستقيم المجتمع بحصولها فيه، وحكمة هذا التشريع هي الردع والتطهير، ومن هنا تظهر الأهمية البالغة لهذه الحدود الشرعية، ودون ذلك جرائم وإخلالات شرع لها الإسلام عقوبات التعزير، وجعل مرد تقديرها إلى اجتهاد الحاكم بما يحقق مصلحة الفرد والمجتمع.
2 / 1
أهمية الحدود في الإسلام
إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
موضوع محاضرة اليوم هو: الحدود في الإسلام.
ولماذا هذا الموضوع بالذات؟ لا شك أن هذه الصحوة المباركة لها من المناقب والفضائل ما لها، ولا يخلو الأمر من مثالب ومعايب.
ونحن لا ننتظر أن يأتي دخيل علينا فيعالج أخطاءنا، ولكن لا بد من ناصح من بيننا، فكنا نظن أنه بانقراض جماعة التكفير قد عافى الله ﷿ هذه الجماعات وهذه الطوائف المسلمة أنها لا تقيم الحدود فيما بينها.
ثم فوجئنا بعد ذلك أن هذا الشر لا يزال موجودًا، وإن كانت بصورة خفية دقيقة قليلة، لكن على أية حال يعد هذا الأمر مخالفة عظيمة لدين الله ﷿، أن يقيم الأفراد حدود الله ﷿ فيما بينهم، وليس هذا الأمر موكولًا إليهم.
ولذلك آثرنا أن تكون هذه النصيحة من أخ شقيق رحيم ودود يعز عليه جدًا أن يكون في هذا الصف أخطاء فيتلقفها أعداء هذا الدين فيجعلون منها موضوعًا يتكلمون فيه، ويوجهون سهامهم وطعونهم لا إلى الأفراد الذين خالفوا في هذه المسألة، وإنما إلى دين الله ﷿، ويحسن بنا أن نتكلم في مقدمة يسيرة قليلة عن أهمية الحدود في الإسلام.
فالحدود في الإسلام إنما هي جزء من نظام إلهي عظيم أنزله رب العالمين على خاتم رسله ﷺ ليكون نظامًا يكفل لمن اتبعه السعادة والأمان والاستقرار إلى قيام الساعة، كما قال تعالى: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً﴾ [البقرة:١٣٨].
2 / 2
أساس الحدود في الإسلام
وأساس الحدود في الإسلام: أنها ضابط يحفظ التوازن بين حقوق الفرد والجماعة معًا.
فمن حق الفرد على الجماعة: تحقيق مصالحه وحفظها، وصيانة حياته ومقوماتها، والعمل على حمايته ليس فقط من غيره، بل من نفسه كذلك.
يعني: لا يجوز لأحد أن يقيم الحد على نفسه، فلو أن شخصًا قتل، هل يجوز له أن يقتل نفسه فيكون بذلك قد أقام الحد من نفسه على نفسه؟!
الجواب
أنه لا يجوز، فلو أنه قتل الغير لكان قاتلًا، ولو قتل نفسه لكان كذلك قاتلًا.
وللمجتمع كذلك الحق في صيانة كيانه من كل اعتداء أو مساس، وفي الحصول على حياة آمنة وادعة تتسم بالطهر والعفاف، وجميع الجرائم التي حرمها الإسلام إنما هي من النوع الذي لو ترك وشأنه لأدى لاضطراب المجتمع وإشاعة الفوضى والقلاقل فيه، فلا بد من رادع يردع من يخرج على هذا القانون الإلهي الذي شرعه المولى ﷿.
فلا يقبل من أحد أن يسرق أموال الغير ويقول: أنا حر، ولا يقبل من أحد أن يقول: أنا أزني وأنا حر؛ لأن هذا الفعل إنما هو اعتداء على المجتمع بأسره.
2 / 3
اهتمام الإسلام بالوازع الديني
وينبغي أن يعلم أن الإسلام لا يعتمد على العقوبة في إنشاء الحياة النظيفة، بل إنما يعتمد على الوازع الديني، ولذلك الإسلام قبل أن يحرم الزنا إنما بغضه إلى قلوب الخلق، وقبل أن يحرم شرب الخمر إنما بغضه إلى قلوب الخلق، وهكذا في كل حد من حدود الله ﷿، إنما يخاطب الله ﷿ عباده بأن ينفرهم ويزجرهم ويبين لهم المغرم الذي لو أقدموا على هذا الذنب لتحملوا نتيجته نتيجة سيئة.
ولذلك أنت تجد أن العاصي لا يشعر بالأمان فيما بينه وبين نفسه، ولو أنه قام بطاعة الله ﷿ لاطمأن قلبه بذلك، وهذا مصداق قول الله ﷿: ﴿أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد:٢٨].
فالذاكر لله ﵎ بالقول والعمل لا بد أنه مطمئن القلب، وأما العاصي العامل بخلاف الذكر الذي ورد في الكتاب والسنة فلا بد وأن يشعر بالقلق، وعدم الطمأنينة، فلا بد من بيان أن الله ﵎ إنما يخاطب في عباده الوازع الديني، وأنه يربي في قلوبهم ونفوسهم الوازع الديني قبل أن يعتمد على العقوبة، وإنما العقوبة هي الحد، وهي الغرض وهي المنتهى في غير تشريع المولى ﷿.
ولذلك أنت لو قلت لواحد: أعطني ألف جنيه زكاة مالك يدفعها لك طيبة بها نفسه، ولو قلت له: ادفع عشرة جنيهات فقط ضرائب لا يدفعها؛ لماذا؟ لأن عنده في الأول الوازع الديني، وليس عنده وازع في الثاني إلا أن يقهر بالسيف والسلطان، فحينئذ يدفع وإن باع أولاده وامرأته في سوق النخاسة.
أما الإسلام فلم يكن كذلك، وإنما خاطب الناس، ولذلك تجد أن الشخص يأتي بزكاة ماله ويدفعها مختارًا راغبًا في أن يتخلص من هذا المال؛ لأنه يعلم أنه لا حق له فيه.
وهل سمعتم أن أحدًا حمل ماله وذهب إلى مصلحة الضرائب ليدفعه؟ أبدًا.
لماذا؟ لأنه يعلم أن هذا ظلم، وأنه ليس من دين الله ﷿، وأنه لا يؤجر عليه لا في الدنيا ولا في الآخرة.
ولذلك حرص الإسلام ابتداءً على أن يربي الوازع الديني في قلوب العباد، ولذلك أنت بإمكانك أن تقتل، وأن تسرق، وأن تزني، وأن تسب وأن تشتم وغير ذلك، فما الذي يحجبك وما الذي يمنعك؟ إنما هو خوفك من الله ﷿، فلو أنك تمكنت من السرقة وأنت تعلم أنه لا يراك أحد من الخلق فأنت تقول فيما بينك وبين نفسك: إنما يراني رب الخلق.
فقولك: (يراني رب الخلق)، هذا هو الوازع الديني الذي رباه الله تعالى في قلوب عباده الصالحين.
فإن الإسلام لا يعتمد على العقوبة في إنشاء الحياة النظيفة بين الناس، ولا يتخذها الوسيلة الوحيدة لذلك، وإنما يعمل على الوقاية من الجريمة، ومحاربتها بالضمير الوازع، والنفس المهذبة والسلوك المستقيم، وتوفير أسباب الحياة النظيفة لكل الناس، فمن ارتضى هذه الأسباب واتخذها منهج حياته ارتقى وعز بالإسلام، وسعد بالمجتمع، وسعد به مجتمعه.
ومن هجر هذه الأسباب، ونفر منها، وسعى في الأرض فسادًا دون رادع من خلق، أو وزاع من ضمير، فهو كمن يتمرغ في الوحل مختارًا، وحق للإسلام أن ينزل به عقابه؛ ليحمي الناس من شروره، ويوفر للمجتمع أمنه واستقراره.
فالإسلام لم يرصد عقوبة دنيوية لكل انحراف أو معصية، بل إن هناك كثيرًا من الانحرافات والمحرمات اكتفى الإسلام فيها بأن أنذر مرتكبيها بغضب الله وعقابه، كما قال النبي ﵊: (ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: المنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب، والمسبل إزاره).
فليس هناك عقاب عملي في كتاب الله أو في سنة رسول الله يؤدب هؤلاء.
فالمنان يعطيك المال، ويمن عليك، ويقول: أنا أعطيتك في يوم كذا كذا وكذا، فهل في الإسلام عقوبة رادعة هل يضرب بالعصا على أم رأسه حتى لا يمن بعد ذلك؟!
الجواب
لا، وإنما ذلك راجع إلى الوازع الديني، وخوف هذا المنان من الله ﷿؛ لأنه لا يكلمه، ولا ينظر إليه يوم القيامة، ولا يزكيه، وله عذاب أليم في الآخرة.
وكذلك قول النبي ﵊ لما ذهب إلى المقابر: (إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستنزه من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بين الناس بالنميمة).
والنميمة كذلك ليس لها جزاء في الدنيا، فما الذي يمنعك أن تنم إذا لم يكن هناك عقاب، وليس من حق واحد وإن كان واليًا أو حاكمًا أن يضربك، وأن يؤدبك على هذه النميمة؟ ما الذي يمنعك من هذا؟ إن الذي يمنعك هو: خوفك من الله ﷿ الذي يسميه أهل العلم: الوازع الديني.
فهناك عقوبات كثيرة جدًا اعتمدت على الوازع الديني، وتصفية هذه القلوب المؤمنة الطاهرة، وإقبالها على الله ﷿.
والعقوبات في دين الله ﷿ كثيرة لا تعتمد على الحدود فقط، وإنما اعتمدت على أشياء كثيرة فمنها: الحدود، ومنها: القصاص، ومنها: التعزير والغرامات وغير ذلك.
2 / 4
تعريف الحدود
ولذلك لما كان موضوعنا عن الحدود، فيحسن أن نعرف الحد ما هو: فالحدود جمع: حد، والحد في الأصل: هو الشيء الحاجز بين شيئين، تقول: أنا أقمت حدًا بيني وبين فلان، أي: أقمت حاجزًا بيني وبينه حتى لا يبغي أحدنا على الآخر.
ويقال: الحد ما ميز الشيء عن غيره.
ومنه: حدود الدار، وحدود الأرض، وهو في اللغة بمعنى: المنع.
وسميت عقوبات المعاصي حدودًا؛ لأنها في الغالب تمنع العاصي من العود إلى تلك المعصية التي حد لأجلها، كما قال الله ﵎: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا﴾ [البقرة:١٨٧].
فأحيانًا يطلق الحد على المعصية نفسها، فلما كانت هذه المعصية خارجة عما حده الله ﷿ لك أمرك بأن لا تقربها؛ فإن اقتربت منها استوجبت الحد الذي فرضه الله ﷿ لهذا الجرم.
والحد في الشرع: عقوبة مقدرة لأجل حق الله، ومعنى حق الله عند الإطلاق: أي: حق المجتمع؛ لأن الحقوق إما حق الآدمي الفرد، وإما حق المجتمع بأسره.
فحق المجتمع بأسره يطلق عليه حق الله تعالى، فيخرج التعزير؛ لعدم تقديره؛ إذ إن تقديره مفوض لرأي الحاكم، ويخرج القصاص كذلك لأنه حق آدمي.
ولذلك قال الله ﵎: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة:١٧٨] هذا في القصاص: إذا كان لك قصاص في حق أخيك فعفوت عنه فإنما ذلك حقك وقد تنازلت عنه.
2 / 5
جرائم الحدود
فقد قرر الكتاب والسنة عقوبات محددة لجرائم معينة تسمى جرائم الحدود.
فمن هذه الجرائم: الزنا، والقذف، والسرقة، والسكر، والحرابة، والردة والبغي، فعلى من ارتكب جريمة من هذه الجرائم عقوبة محددة قررها الشرع، فعقوبة جريمة الزنا الجلد للبكر، والرجم للثيب، كما قال الله تعالى: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾ [النساء:١٥].
والرسول ﵊ يقول: (خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا: البكر بالبكر جلد مائة، وتغريب عام) البكر بالبكر، أي: لو وقع رجل بكر غير متزوج على امرأة بكر غير متزوجة فعقابه جلد مائة، وتغريب عام، وقد اختلف فيه أهل العلم، (والثيب بالثيب جلد مائة والرجم)، والثيب بالثيب، أي: لو أن رجلًا متزوجًا وقع على امرأة متزوجة فعقابه الرجم اتفاقًا، وأما الجلد فقد اختلف فيه أهل العلم كذلك، وعقوبة جريمة القذف ثمانون جلدة، لو أن واحدًا قذف امرأة محصنة، ومعنى (محصنة) أي: حرة عفيفة، قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [النور:٤].
وعقوبة جريمة السرقة: قطع اليد، كما قال الله تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [المائدة:٣٨].
وعقوبة جريمة الفساد في الأرض -وهي المحاربة- القتل أو الصلب، أو النفي، أو تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، كما قال الله ﵎: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [المائدة:٣٣].
وعقوبة جريمة السكر ثمانون جلدة، أو أربعون على ما سيأتي مفصلًا إن شاء الله تعالى في تناول الحدود حدًا حدًا.
وأما عقوبة الردة فهي: القتل، لقول النبي ﵊: (من بدل دينه فاقتلوه).
وعقوبة جريمة البغي هي: القتل كذلك؛ لقوله ﷾: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الحجرات:٩].
ولقول الرسول ﵊: (إنه ستكون بعدي هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر المسلمين وهم جميع فاضربوه بالسيف كائنًا من كان).
2 / 6
دلالة عقوبات الحدود على حكمة الله تعالى البالغة
فهذه العقوبات إنما دلت على عدل الله ﷿ وحكمته؛ لأن بعض الناس يقول: ليس من الحكمة ولا من العدل أن تقطع يد السارق، أو يضرب الزاني مائة جلدة، أو يرجم حتى الموت، إن هذه وحشية أتى بها الإسلام.
وهذه فضلًا عن أنها قولة كفر إلا أن الواحد منهم لو أنه رأى واحدًا فوق امرأته، أو سرق ماله لأخرج سيفه، أو مسدسه من جيبه، وأطلق النار عليه، وربما يطلق النار على كل من ظن أنه قد سرق دون أن يتحقق من السارق.
فلماذا في هذا الموقف ليس عمله وحشيًا، والذي أتى به الإسلام هو الوحشي، والله ﵎ يقول: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة:١٧٩].
(ولكم في القصاص) مع أنه الموت، فقد أثبت الله ﵎ أن فيه الحياة كل الحياة؛ لأن أحدًا لو قتل أباك فأنت لا تقنع قط إلا أن تقتل من أسرة القاتل مائة شخص، أنت لا تقنع إلا بإبادة الأسرة وأصحاب القبيلة كلها، ولكن الله ﷿ لم يجعل ذلك لك، بينما جعله للحاكم بأن يأخذ القاتل أو القاتلة فقط فيقتله في مقابل قتله لوالدك.
فإذا كان الأمر كذلك فلا بد أن نقول: إن تنظيم أمور القصاص فيه توفير الحياة المستقرة الدائمة بين الناس، فمن قتل يقتل ولا يقتل غيره، ولذلك خاصة هذا الأمر يظهر في أن واحدًا لو قتل آخر من أسرة أخرى لا يبحثون عن القاتل، وإنما يبحثون عن أعظم رجل في أسرة القاتل، عن أعظم رجل الذي إذا قتل أوجعهم وأضرهم، وهذا على خلاف قانون الله ﷿؛ لأن القاتل هو الذي يقتل فقط.
فقول الله ﷿: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ [البقرة:١٧٩].
لا بد وأننا نقتنع ونعتقد أننا لو صرنا بمنهج الله ﷿ لا بد وأن نحيا حياة كريمة، فلا يتصور أن يسكر فلان، وأن نعاقب فلانًا آخر، أو أن يزني فلان وأن يرد على زناه بزنا، فإن هذه فوضى، فهل يتصور أن رجلًا زنى بأخت رجل آخر، أو بأمه، أو بامرأته، فهل يقول: أنا لا أقتله، وإنما آخذ حقي بنفسي، وهو أني أزني بامرأته كما زنى بامرأتي، أو أزني بأمه كما زنى بأمي؟! هذه فوضى، وأما الإسلام فإنه جعل حدًا لا يزيد ولا ينقص لمن وقع في مثل هذه الفاحشة، ومن وقع في مثل هذا الجرم، فوجب اتباع كتاب الله وسنة رسوله ﵊ في تلك الحدود، وهذه العقوبات بجانب كونها محققة للمصالح العامة، وحافظة للأمن العام، فهي عقوبات عادلة غاية العدل، إذ إن الزنا جريمة من أفحش الجرائم وأبشعها، وعدوان على الخلق والشرف والكرامة، ومقوض لنظام الأسرة والبيوت، ومروج للكثير من الشرور والمفاسد التي تقضي على مقومات الأفراد والجماعات، وتذهب بكيان الأمة، ومع ذلك فقد احتاط الإسلام في إثبات هذه الجريمة فاشترط شروطًا لا يقام الحد إلا من خلالها.
وعلى أية حال: فإن الإسلام قد جعل حدودًا وتعزيرات وقصاصًا.
فأما القصاص فإنه حق الأفراد فإن شاءوا عفوا، وإن شاءوا أخذوا حقهم.
وأما التعزير فكل جرم ليس فيه حد ففيه التعزير.
2 / 7
أوجه الاتفاق بين الحد والتعزير
وبين الحدود وبين التعزيرات فروق: فالفرق بين الحد والتعزير: أن الحد والتعزير كلاهما يتفقان في مسألتين، ويختلفان في سبع: فالحد هو ما حده الله تعالى حدًا معينًا دون زيادة ولا نقصان لجرم بعينه، بشروط معينة.
والتعزير: ما لم يتوافر فيه ذلك، إلا أن التعزير والحد يتفقان في مسألتين: الأولى: أنهما عقوبتان شرعيتان يستند في إقامتهما إلى دليل شرعي.
فلو أن والدًا أعطى ولده دينارًا ليشتري أشياء للبيت، فاشترى الولد لنفسه أشياء أخرى، فضربه الوالد ضربة أو ضربتين أو ثلاثًا، فنقول: إن الوالد هنا إنما يعزر ويؤدب ولده على تلك المخالفة، بخلاف ما لو أن هذا الولد أخذ من بيت الغير خمسمائة جنيه، أو ألف جنيه فإننا نقول في هذه الحالة: إن هذا لا يعزر، وإنما يحد، فقد وجب إقامته الحد عليه؛ لأنه سارق.
والنبي ﵊ يقول: (لا حد في أقل من ربع دينار).
وفي رواية أنه قال: (حد السرقة في ربع دينار وما زاد).
والدينار والدرهم لغة المال في الكتاب والسنة، ويقصد بها: الذهب والفضة، فالذي يسرق ربع دينار ذهب -يعني: ما يقرب من مائة وأربعين جنيهًا، أو مائة وستين جنيها- فالذي يسرق هذا المبلغ لا بد- أنه قد استوجب حدًا من حدود الله ﷿، فلا يعزر، بخلاف الذي يسرق عشرة جنيهات فإنه يعزر ويؤدب ويلام ويؤنب بما يتناسب مع رده إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله.
أما الذي يسرق فوق حد النصاب، ويسرقه من حرز؛ لأن السرقة لها شروط، فلو أن رجلًا فتح الدرج وأخذ منه مالًا بلغ حد النصاب فإنه سارق، بخلاف من وجد مالًا في الطريق العام فالتقطه، وإن كان قد بلغ حد النصاب، فإنه لا يعد سارقًا، أي: أن اللقطة لها حكم، والسرقة لها حكم آخر.
وهنا نقول: إن الذي يلتقط هذا المال من الطريق العام إن كان هذا المال ذا قيمة فوجب على الملتقط أن يعرفه عامًا كاملًا في المكان الذي التقط فيه هذا المال، فإن ظهر صاحبه دفعه إليه، وإن لم يظهر صاحبه تملكه هو بشرط أن لو ظهر صاحبه بعد ذلك وجب رد المال إليه.
أما لو التقط رجل شيئًا يسرع إليه الفساد، حتى وإن بلغت قيمته النصاب؛ فإنه لا يلزمه الاحتفاظ بهذا الشيء؛ لأنه لو احتفظ به فسد، كمن وجد طعامًا، أو فاكهة يسرع إليها الخراب مع الوقت، فإننا لا نطالبه بالإبقاء والاحتفاظ بهذا الشيء عامًا كاملًا ليعرفه، ولكن نجيز لهذا الملتقط أن ينتفع بهذا المال، بل له أن يبيع هذا المال، وأن ينتفع بثمنه وبقيمته، فإن ظهر صاحبه فإما أن يشتري له مثل تلك البضاعة، وإما أن يدفع إليه المال الذي باع به تلك السلعة.
فهذا لا يقال عنه: سارق، وإنما السارق هو الذي يأخذ المال من حرز مغلق على هذا المال، يأخذه عنوة، يدخل المكان، ويأخذ المال ويهرب، فهذا الذي يقال عنه: سارق، فإن سرق أقل من النصاب استوجب التعزير، وإن سرق النصاب وما زاد استوجب الحد.
الشاهد من هذا: أنه لا يقام حد السرقة على كل من سرق، وإنما على من سرق مالًا بلغ النصاب، وسرقه من حرز، فيقام عليه الحد بهذين الشرطين، فالحد والتعزير إنما هما عقوبتان شرعيتان تستندان إلى دليل شرعي.
الوجه الثاني من أوجه الاتفاق بين الحد والتعزير: أنهما شرعا على سبيل الزجر، والتنكيل ورد العاصي الذي خرج عن سبيل الصراط المستقيم، وعن كتاب الله وسنة رسوله إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله، ويعمل بتقوى الله ﷿، فإنما شرع الحد والتعزير للتنكيل والزجر، ورد العاصي إلى الطاعة، ولذلك حد واحد يقام في الأرض خير للناس جميعًا من أن يمطروا -مع الجدب وشدة الفقر والحاجة- أربعين صباحًا.
فلو أن رجلًا وقع على امرأة أجنبية فزنى بها، فجيء به في ميدان عام، ونقل أمره وأذيع على الهواء، ونظرت إليه تلك الملايين المملينة هنا وهناك وهو يقام عليه الحد -حد الرجم، أو حد الجلد- فلابد وأنه يعطي ردة فعل عند كل من تسول له نفسه أن يزني.
فإقامة الحد إنما هي أكبر عامل على طهارة المجتمعات، وليست فوضى ولا وحشية، وإنما يضحي المجتمع بأسره بواحد للحفاظ على بقية المجتمع، ولذلك أنت لو نظرت كم عقوبة زنى أقامها النبي ﵊ لوجدتها اثنتين فقط، في المرأة الغامدية وماعز الأسلمي.
وكم حالة حد للسرقة أقامها النبي ﵊؟ قيل: واحدة.
وقيل: لا شيء؛ لأن الناس يخافون من إقامة الحد، ولا بأس بذلك؛ لأنني كما قلت: إذا كنت تدعي أن ذلك وحشية فلا بد وأن تنظر أن مالك معرض للسرقة.
فلو عطلت هذه الحدود فإن الواحد منا لا يأمن على نفسه ولا ماله، ولا أهله ولا أولاده في أي مكان؛ لأن الأمانة رفعت من الناس، فإن الواحد منا إذا كان يأخذ راتبه في آخر الشهر الذي شقي به ثلاثين يومًا لا يأمن أن يصل بهذا الراتب إلى بيته.
ولذلك تجد الناس في وقت قبضهم لرواتبهم واضعين الراتب في الجيب وواضعين أيديهم على جيوبهم خوفًا على الراتب؛ لأن الأمانة رفعت من كثير من الناس، فعندما يسعى الرجل ويشتغل الشهر كاملًا بهذا المرتب الذي لا يصلح أن يكون ثمنا
2 / 8
أوجه الاختلاف بين الحد والتعزير
2 / 9
تقدير عقوبة الحد دون عقوبة التعزير
أما أوجه الخلاف بين الحد والتعزير فأول هذه الأوجه: أن عقوبة الحد مقدرة ومحددة شرعًا لا تزيد ولا تنقص، فمثلًا: أن الشرع حد للسكر ثمانين جلدة، فهل يتصور أن يضرب السكران خمسًا وثمانين؟ لا يمكن ذلك، فإن هذا تعد من الذي يقيم الحد، كما أنه ليس بإمكانه أن يضربه سبعين فقط، ولكن إن ضربه سبعين أو ستين، أو أقل من ذلك ثم مات عند تلك الضربات؛ فإنه يحرم عليك بعد ذلك أن توفي معه بقية الحد؛ لأنه قد مات.
وأما إذا لم يمت فوجب إتمام الحد عليه، ولا تأخذك الشفقة ولا الرأفة ولا الرحمة به، لماذا؟ لأنه لم يرحم نفسه، وهو الذي عرض نفسه لغضب الله ﷿، كما أن الرحيم الرءوف هو الذي حد له ذلك، وأوجب عليه هذا العدد، فلا يجوز النقصان منه، ولا الزيادة فيه.
فحد الله ﵎ مقدر، ومحدد شرعًا دون زيادة ولا نقصان.
أما التعزير فعقوبته غير مقدرة شرعًا، وإنما تدور ما بين الواحد والعشرة، ولذلك يقول النبي ﵊: (لا يجلد فوق عشرة أسواط، إلا في حد من حدود الله تعالى)، أو كما في الحديث، يعني: لا يعزر بأكثر من عشر، فالعشرة إنما هي حد بين التعزير وبين الحد.
والواحد منا أحيانًا ينقض على امرأته أو ولده فيضربه على وجهه -وهذه مخالفة أخرى- أكثر من عشر ضربات، فلو أنه راجع نفسه واتقى ربه، ووقف عند حده؛ لعلم أنه قد ضرب ولده بما يستوجب حدًا دون أن يختلف الحد.
وهذا تعد وإجرام في الأولاد، ولذلك ينبغي ضبط النفس عند تربية الزوجة، وتربية الأولاد، وتربية العبيد؛ لأن الأب له أن يعزر ولده، والزوج له أن يعزر زوجه، والسيد له أن يعزر عبده، ولكن في الحدود التي أمر الله ﵎ بها، وسمح بها النبي ﵊، فلا يجوز للرجل أن يزيد عما حدده الله وقدره.
ولذلك لا يلزم في التعزير أن تضرب العشرة، وإنما إذا انزجرت الزوجة بعصًا واحدة فلا يجوز ضربها الثانية، وإن انزجرت باثنتين لا يجوز ضربها الثالثة، وكذلك الولد والعم؛ فإن العقوبات إنما هي رادع بسيط ومبدئي لرد العاصي إلى فطرته، فإذا انزجر من أول التأديب فلا يجوز أبدًا الزيادة فيه، وإذا انزجر من وسطه فلا يجوز التعدي، وإن لم ينزجر إلا بإتيان التعزير كاملًا وجب ضربه حتى التعزير كاملًا، وهو عشر ضربات.
وقد ترك الإسلام لولي الأمر ذلك، وولي الأمر سواءٌ كان الأب، أو الحاكم، أو الزوج، فقد ترك الإسلام لهؤلاء وهم ولاة الأمور تقدير حد التعزير دون أن يقرر لهم عددًا معينًا، ولكنه حد لهم عددًا معينًا لا يزيدون عنه، ولا يلزم من ذلك أن يأتوا إلى نهاية هذا الحد، وإنما الأمر كما قررنا آنفًا.
هذا هو الفارق الأول بين الحدود وبين التعزيرات.
2 / 10
ثبوت عقوبة الحد ومقدارها دون عقوبة التعزير
الفارق الثاني: عقوبة الحد ثابتة لا تتغير باختلاف الناس المستحقين لها، فكل من ارتكب ما يوجب الحد أقيم عليه دون اعتبار لمركزه أو بلده.
وكان الناس في الجاهلية إذا زنت المرأة لكنها كانت شريفة في قومها، أو هي من أشراف القوم، أو من عليه القوم، وزنت امرأة أخرى ولكنها من سقط الناس ورعاع الناس، فيقيمون عليها الحد، ولا يقيمون الحد على تلك المرأة الشريفة.
فحد الله تعالى ثابت للشريف والوضيع، والحر والعبد، وعلى كل من استوجب الحد، فإن الذي وقع في جريمة السرقة، أو الزنا أو شرب الخمر أو غيرها، ما دام قد بلغ وجرى عليه القلم، وحتى الشيخ الكبير والمرأة العجوز إذا وقعوا في جريمة من هذه الجرائم فإنهم يستحقون الحد.
فالحدود ثابتة لا تتغير، ولا علاقة لها لا بالزمان، ولا بالمكان، ولا بالأشخاص.
كما لا يختلف الحد باختلاف عظم المخالفة التي تستوجب الحد أو عدمها، فلو أن رجلًا سرق مائتي جنيه فقد بلغ نصاب حد السرقة، فيكون هو والذي يسرق الملايين سواء؛ لأنهما اشتركا في بلوغ حد نصاب السرقة في المسروق، فكذلك لا يختلف الحد باختلاف عظم المخالفة أو عدمها، نعم الذي يسرق مليون جنيه بخلاف الذي يسرق مائتين، ولكن شرع الله ﷿ أوجب الحد على كل منهما على مقدار واحد؛ لأنهما قد اشتركا في بلوغ حد النصاب في المسروق.
والذي يزني بأجنبية هذا جرم عظيم جدًا، وأشد منه جرمًا: أن يزني الرجل بإحدى محارمه، كالذي يزني بعمته، فهذا أشد جرمًا ممن يزني بامرأة أجنبية، ولكن الشرع حدد عقوبة واحدة في الاثنين، لماذا؟ لأنه نظر إلى الفاحشة، ولم ينظر إلى المفعول بها؛ لأنها لو انتشرت لفسد المجتمع كله، ولذلك لا اعتبار أبدًا بعظم المخالفة وعددها، وإنما العبرة ببلوغ العبد المعصية التي حدد الله ﷿ لها عقوبة مقررة.
أما التعزير فيختلف باختلاف حال الناس، فتأديب ذوي الهيئة من أهل الصيانة أخف من تأديب أهل السفاهة والبذاءة، وهذا فرق بين التعزير وبين الحد، فلو أن رجلًا سرق مالًا لم يبلغ حد النصاب وكان رجلًا شريفًا مهذبًا لم يعهد عليه ذلك قط، لكنه في لحظة ضعف تسلط عليه الشيطان وسرق خمسين جنيهًا فقط، فهي لم تبلغ نصاب حد السرقة، وهناك صنف آخر يفعل المعصية، وهو مدرك جيدًا لمسألة الحدود والتعزيرات، ولكنه لا يمكن أن يسرق أكثر مما يستوجب تعزيره، فإن الحد يقام إذا كان المبلغ مائة وأربعين جنيهًا، فهو يقول: أنا ما سرقت إلا مائة، فيسرق من ذا مائة، ومن الثاني مائة، ومن الرابع مائة، حتى يعلم عند ولي الأمر أنه بذيء وفاحش وسفيه وسارق، لكن الحاكم لا يقيم عليه الحد؛ لأنه لم يبلغ الحد، فكل ما يسرق يضربه حد التعزير، يؤدبه ويعزره، إذا كان لا يقدر أن يقيم عليه الحد، فهل هذا كالشريف الذي وقع في زلة مرة؟ ولو أن ولي الأمر أتى بهذا الشريف، وقال له: عيب عليك يا رجل؛ أبوك شريف وأمك شريفة وأسرتك شريفة وهذا الفعل يصدر منك! أول ما يسمع هذه الكلمات ربما يخر مغشيًا عليه، فهذا يكفيه، ولا يلزم ضربه؛ لأن التعزير مقصود قد حصل بالتوبيخ، ومثل ذلك الزوجة إن أتت بالوعظ هل يجوز توبيخها؟ لا.
وهكذا إذا لم تأت إلا بالتوبيخ لا يجوز ضربها، ولذلك الله ﵎ لما حدد لنا مراحل تأديب الزوجة وهو الخبير اللطيف ﷾ بما خلق، وبمن خلق، فهناك زوجة لو أنك نظرت إليها تعرف ماذا عملت، وتذوب كما يذوب الملح في الماء، وأخرى مهما تنظر إليها تخرج لسانها ولا يهمها مهما نظرت.
فالأولى مهذبة، إنما يكفيك منها أن تنظر إليها ولا تؤذها بكلمة، ولا بتوبيخ ولا لوم ولا تقريع أبدًا، لا يجوز لك هذا.
وهناك زوجة لو أنك أنت نمت ووجهت إليها ظهرك كأنك قتلتها، وهناك زوجة لا تستريح إلا حين تذهب هي إلى غرفة ثانية وتنام بعيدة عنك.
ونحن طبعًا رأينا في هذه الأيام التي لا تستريح إلا حين تذهب تنام في بيت أبيها، وفي الصباح تقوم أنت تنظف الأولاد وتؤكلهم وتشربهم وتوصلهم إلى المدرسة، وهي تأتي في الضحى أو في الظهر أو في العصر أو حين يرجع الأولاد من المدرسة.
فكل أسلوب ينفع في موطن لا يجوز التعدي والزيادة على هذا الأسلوب حتى في التعزير.
ولذلك يقول: التعزير يختلف باختلاف حال الناس، فتأديب ذوي الهيئات يختلف عن تأديب غيرهم، ولذلك النبي ﷺ يقول: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم).
يعني: إذا وقع واحد صاحب وجاهة وسقط مرة، وليس من عادته السقوط، فلا يضغط عليه، ولا يفتن في دينه، والناس بشر، والبشر يخطئون ويصيبون، فمنهم من الأصل فيه الخطأ، ومنهم من الأصل فيه الصواب والاستقامة.
فإذا وقع أصحاب الاستقامة في الخطأ فاستروهم، ولذلك يقول النبي ﵊: (ومن ستر مسلمًا على خزيه في الدنيا ستره الله ﷿ يوم القيامة).
كما يختلف التعزير باختلاف عظم المخالفة وعدمها، كمن يسرق مالًا دون النصاب بقليل، والثاني: يسرق دون النصاب بكثير.
فلو أن رجلًا سرق جنيهين، وجاء آخر فسرق ثلاثين جنيهًا، أو أربعين جنيهًا فهذا يستحق اللوم أو التعزير أك
2 / 11
امتناع الشفاعة في الحدود دون التعزيرات
الفارق الثالث بين الحد والتعزير: أن الحد لا تجوز فيه الشفاعة، ولا يجوز لأحد أن يسقطه بعد ثبوته.
والمرأة المخزومية لما سرقت قالوا: لا نقيم عليها الحد؛ لأنها من أشراف الناس، فقالوا: بعد وصول الخبر إلى النبي ﵊: لا بد من أحد يشفع لهذه المرأة عند النبي ﵊، فقالوا: لا أحد إلا حِبه أسامة بن زيد ﵄، وكان النبي ﵇ يحبه جدًا، وهو مولاه، فقالوا: إنه لا يقبل إلا من أسامة، فأرسلوا أسامة إلى النبي ﵊ ليشفع في رفع الحد عن تلك المرأة المخزومية، فعاتب ﵇ أسامة بن زيد، وقال: (يا أسامة! أتشفع في حد من حدود الله؟! وظل يرددها وأسامة ينكس رأسه تجاه الأرض، فقال: إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإذا سرق فيهم الشريف لم يقيموا عليه الحد، والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)، يعني: لو أن أحدًا من أهل بيت النبوة استوجب عقوبة محددة قررها الشرع لفعلتها.
فليست هناك شفاعة في الحدود إذا بلغت السلطان، أما قبل ثبوت الحد فيجوز فيه الشفاعة؛ لقول النبي ﵊: (تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب).
يعني: فقد وجبت إقامته، أما إذا كان الحد قد بلغ السلطان فلا بد من إقامته، وإذا لم يبلغ السلطان فالناس فيما بينهم أحرار في أن يتنازلوا عن حقوقهم.
أما التعزير فتجوز فيه الشفاعة، ويجوز للحاكم أن يسقطه بالكلية إذا رأى أن في ذلك مصلحة لا تضر بحق آدمي، فإن كان ذلك له تعلق بحق الآدمي فلا يجوز إلا بإذنه.
وقال النبي ﵊: (اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان رسوله ما يشاء).
وتسن الشفاعة لتخفيف التعزير، أو بإسقاطه بما لا يضر بحق الغير، فإذا علم صدق توبة المسلم وتمزق قلبه على ما بدر منه فلا يجوز تعزيره مخافة فتنته.
2 / 12
جواز تجزئة عقوبة التعزير دون الحد
الفارق الرابع بين الحد والتعزير: أن الحد لا يتجزأ، بخلاف التعزير، فيجب تنفيذ الحد مرة واحدة وبكل بنوده، بخلاف التعزير، فلو استوجب أحد الحد مائة جلدة؛ فلا يجوز توزيعها على عشر مرات كل مرة يضرب عشر جلدات، بل لا بد من إعطائها له مرة واحدة؛ لأنها لا تتجزأ، بخلاف التعزير، فيجوز تجزئته، أو تنفيذه على مراحل، أو الاقتصار على بعضه دون إتمامه.
2 / 13
ضمان التلف في الحد دون التعزير
الفارق الخامس: أن ما يترتب على الحد من تلف فإنه هدر لا ضمان فيه؛ لأن تقدير هذا الحد موكول إلى الشارع، فالشارع أمر بالضرب على الشرب أربعين جلدة، أو ثمانين جلدة، أو على الزنا لمن كان بكرًا مائة جلدة، فلو أننا التزمنا كيفية إقامة الحد، ومع هذا تلف بعض أعضاء المحدود؛ فإنه لا ضمان علينا؛ لأننا ننفذ حدًا من حدود الله ﷿ فلا ضمان، بخلاف التعزير، فإن الوالي الذي أقام الحد لا بد وأن يضمن التلف؛ لأن الأصل في التعزير عدم التلف، فإذا وقع التلف كان مضمونًا، أي: وجب على من أتلف أن يؤدي حق هذا التلف إلى المعزر.
2 / 14