الجزء الأول
الطبع والتقليد في الشعر العصري
الإهداء
الورد
الماضي
الدار المهجورة
الجمال إذا هوى
الإخوان
فتى في سياق الموت
المناجاة
أحلام الموتى
أماني وذكر
ثورة النفس
ليلة وداع
رقية حسناء
الوردة الذابلة
لحظ الحبيب
بعد الموت
لفظ الحبيب
مناجاة شاعر
إلى صديق قديم
الذكرى
مناجاة حسناء
قبر الشعر
عتاب
مناجاة ملاح
السلو
حالة
ليلة
هيهات بابل من نجد
استقبال صديق
حلم اليقظة
الكتمان
النظر
إلى صديق
الخمر والحب
وصية
الخمر والحب
إلى عاتب
الإسكندرية
حلم اليقظة
مناجاة الهاجر
العتاب
الملل من الحياة
الخاتمة
الجزء الثانى
الإهداء
المقدمة
الراعي المعبود
الوردة الرسول
نهر الحياة
لشاكسبير
حواء والمرأة
من رباعيات عمر الخيام
كل يوم لي شكاة
وإلا
ألحان بنات البحر
البحر والظلام
في المناجاة
الماضي الحي
فلسفة المحب
الصدق في الكذب
القطيعة
الربح والخسارة
ظمأ النفس إلى المعرفة
على لسان الأقدار
الأقدار
شفاعة الحب
مراجعة الحب
لا ملام ولا عتاب
العاشق المعشوق
الإنسان والغرور
أشباح الماضي على جثة الأمس
سحر الحب
الشوكة الجديدة
مخلوق الخيال
الشاعر المحتضر
خواطر الظلام
عزاء الشعراء
زهرة الشر أو الحب
محاسبة النفس
تقديم الصبوات
عظة المحبوب
عبث الحياة وباطلها
حلم الشباب
الشاعر
إلى العقاد
إلى صديق
أنشودة الشتاء
الأسافل والأعالي
مناجاة الحسن
الأزاهير الميتة
زهرة الصخر
إكليل الشوك
الموت ثمرة الحياة
وحشة الحياة
الطفولة
عالم الكرى وعالم اليقظة
إلى رجل يشتمنا
إلى مدل بجماله
اللحظ المصروف
إلى صدقي
الشعر والريح
في الرثاء
في العتاب
الغزال الأعمى
ليلة
العقل والموت
الليل والهم
الضمير
الملاح المسحور
مخاوف النفس
حصاد عيش
محمد وعزوز أو الموسيان
يا أم
الميت الحي
الجزء الثالث
معاهدة غرامية
اللص
خواطر في الموت
إلى صديق
في رثاء بنت لي
غدا
خواطر الأرق
وصية شاعر
هاجس
ولهلم الثاني
كان لي
وقفة في الحياة
إنشاء الشاعر شعره
إلى العقاد
النسر المهيض
الحمار المستأسد
كأس النسيان
الغريرة
شهداء الغربة
أين أمك
إلى العقاد
رثاء الشهيد محمد بك فريد
ليلة وصباح
الدهر والحياة
تحية البطل
العراك
في المناجاة
انظر إلى وجهي
إلى صديق
الجزء الأول
الطبع والتقليد في الشعر العصري
الإهداء
الورد
الماضي
الدار المهجورة
الجمال إذا هوى
الإخوان
فتى في سياق الموت
المناجاة
أحلام الموتى
أماني وذكر
ثورة النفس
ليلة وداع
رقية حسناء
الوردة الذابلة
لحظ الحبيب
بعد الموت
لفظ الحبيب
مناجاة شاعر
إلى صديق قديم
الذكرى
مناجاة حسناء
قبر الشعر
عتاب
مناجاة ملاح
السلو
حالة
ليلة
هيهات بابل من نجد
استقبال صديق
حلم اليقظة
الكتمان
النظر
إلى صديق
الخمر والحب
وصية
الخمر والحب
إلى عاتب
الإسكندرية
حلم اليقظة
مناجاة الهاجر
العتاب
الملل من الحياة
الخاتمة
الجزء الثانى
الإهداء
المقدمة
الراعي المعبود
الوردة الرسول
نهر الحياة
لشاكسبير
حواء والمرأة
من رباعيات عمر الخيام
كل يوم لي شكاة
وإلا
ألحان بنات البحر
البحر والظلام
في المناجاة
الماضي الحي
فلسفة المحب
الصدق في الكذب
القطيعة
الربح والخسارة
ظمأ النفس إلى المعرفة
على لسان الأقدار
الأقدار
شفاعة الحب
مراجعة الحب
لا ملام ولا عتاب
العاشق المعشوق
الإنسان والغرور
أشباح الماضي على جثة الأمس
سحر الحب
الشوكة الجديدة
مخلوق الخيال
الشاعر المحتضر
خواطر الظلام
عزاء الشعراء
زهرة الشر أو الحب
محاسبة النفس
تقديم الصبوات
عظة المحبوب
عبث الحياة وباطلها
حلم الشباب
الشاعر
إلى العقاد
إلى صديق
أنشودة الشتاء
الأسافل والأعالي
مناجاة الحسن
الأزاهير الميتة
زهرة الصخر
إكليل الشوك
الموت ثمرة الحياة
وحشة الحياة
الطفولة
عالم الكرى وعالم اليقظة
إلى رجل يشتمنا
إلى مدل بجماله
اللحظ المصروف
إلى صدقي
الشعر والريح
في الرثاء
في العتاب
الغزال الأعمى
ليلة
العقل والموت
الليل والهم
الضمير
الملاح المسحور
مخاوف النفس
حصاد عيش
محمد وعزوز أو الموسيان
يا أم
الميت الحي
الجزء الثالث
معاهدة غرامية
اللص
خواطر في الموت
إلى صديق
في رثاء بنت لي
غدا
خواطر الأرق
وصية شاعر
هاجس
ولهلم الثاني
كان لي
وقفة في الحياة
إنشاء الشاعر شعره
إلى العقاد
النسر المهيض
الحمار المستأسد
كأس النسيان
الغريرة
شهداء الغربة
أين أمك
إلى العقاد
رثاء الشهيد محمد بك فريد
ليلة وصباح
الدهر والحياة
تحية البطل
العراك
في المناجاة
انظر إلى وجهي
إلى صديق
ديوان المازني
ديوان المازني
تأليف
إبراهيم عبد القادر المازني
الجزء الأول
سبق طبع هذا الجزء في حياة الشاعر - رحمه الله - وهو مشروح بقلمه.
الطبع والتقليد في الشعر العصري
للشاعر الكاتب العبقري الجليل عباس محمود
العقاد
حسب بعض الشعراء اليوم أنه ليس على أحدهم إن أراد أن يكون شاعرا عصريا إلا أن يرجع إلى شعر العرب بالتحدي والمعارضة، فإن كانت العرب تصف الإبل والخيام والبقاع، وصف هو البخار والمعاهد والأمصار، وإن كانوا يشببون في أشعارهم بدعد ولبنى والرباب، ذكر هو اسما من أسماء نساء اليوم، ثم حور من تشبيهاتهم، وغير من مجازاتهم بما يناسب هذا التحدي؛ فيقال حينئذ: إن الشاعر مبتدع عصري، وليس بمقلد قديم.
وهذا حسبان خطأ؛ فما أبعد هذا الشعر عن الابتداع! والأخلق به أن يسمى الابتداع التقليدي؛ لأنه ضرب من ضروب التقليد، فلولا أن شاعرا سبق هؤلاء الشعراء لما استطاعوا أن يعارضوه، وإن شئت فارفع النموذج من أمام أعينهم تقف الأقلام في أيديهم ولا يخطون خطا، فلو أن الشاعر منهم كان نقاشا لما عرف كيف يطلي جداره بالدهان الأبيض، ما لم ير أمامه جدارا أسود الدهان.
وليس المبتدع كمن يبتني له حوضا تجاه ينابيع المطبوعين، يرصفه بحجارتها وحصبائها، ويملؤه بطينها ومائها، ثم يدعوه بغير أسمائها، ولكن المبتدع من يكون له ينبوع يستقي منه كما استقوا، ولا قبل بذلك إلا لمن كان له سائق من سليقة تهديه إلى مواقع الماء، وبصر كبصر الهدهد يزعمون أنه يرى مجاري الماء تحت أديم الأرض وهو طائر في الهواء.
كان شعر العرب مطبوعا لا تصنع فيه، وكانوا يصفون ما وصفوا في أشعارهم ويذكرون ما ذكروا؛ لأنهم لو لم ينطقوا به شعرا، لجاشت به صدورهم زفيرا، وجرت به عيونهم دمعا، واشتغلت به أفئدتهم فكرا، وأما نحن فلا موضع لتلك الأشياء من أنفسنا؛ فهي لا تهتاجنا كما اهتاجتهم، ولا تصبينا كما أصبتهم، وإذا سكتنا عن النظم فيها لا تخطر لنا إلا كما تمر الذكرى بالذهن، والمرء إذا تذكر لا يقلد من يتذكرهم، ولكنه يتحدث بهم، ويصف ما عنده من الأسف عليهم، أو الشوق إليهم.
والشعر العصري كهذا الشعر في أنه شعر الطبع، وأنه أثر من آثار روح العصر في نفوس أبنائه، فمن كان يعيش بفكره ونفسه في غير هذا العصر، فما هو من أبنائه، وليس خواطر نفسه من خواطره.
تمر على صفحة الزمن عصور خابية، لا تسمع لها حسا، ولا تختلج العين من جانبها بقبس، ويكاد يكون الفلك قد قذف بها من جوفه ميتة، فهي من لحدها في مهد، ومن مهدها في لحد.
هذه عصور لا ترى لأحدها ملامح ينماز بها عما قبله أو ما بعده، وهي عصور الغفلة التي تعقب إدبار الدول، تنعدم فيها ملكة الابتكار، وينشر التقليد رواقه على كل مزاولات الحياة؛ فلا ترى عالما ولا أديبا ولا حاكما ولا تاجرا ولا صانعا إلا وهو مقلد في عمله، ويكل الناس أمرهم إلى فئات تصوغ لهم الأفكار والعقائد والأذواق، وتخرجها إليهم متشابهة، كما تخرج المعامل مصنوعاتها إلى الشراة من طراز واحد.
وقد أصاب الأدب العربي هذه الآفة، فقتلت فيه روح البراعة والصدق، وقصرته زمانا على التقليد والمحاكاة، حتى لقد بلغ بهم الولوع بما سميناه الابتداع التقليدي، أنهم وصفوا الدمع الأحمر، والدمع الأصفر، والدمع الأزرق، والدمع الأخضر، والدمع البنفسجي، وحسبوا ذلك من بدائع الافتنان، وأنهم جاءوا بطائل كبير.
على هذه الوتيرة من الكذب في الإحساس، والتقارب في سياق النظم، ومعاني الشعر، كان غالب شعراء اليتيمة، حتى لتحسب الكتاب - لولا قليل من الشعر الجيد الحي فيه - ديوانا لشاعر واحد.
وأخذ ينقه الأدب من هذه الآفة منذ نحو العشرين سنة، أي حين بلغت دعوة الحرية الفكرية مسامع الشرقيين فراغوا إلى أنفسهم يسألونها عن سالفهم ومؤتنفهم، ويستفسرونها عن حياتهم ومماتهم، كما يسأل الناشئ نفسه إذا وكل إليه أمره، وانفصل عن رعاية أبيه أو وليه؛ وكانت علامة ذلك أن ظهر التفاوت في الأساليب، وانفرد كل كاتب أو شاعر بطريقة في كتابته أو نظمه، والتفاوت في الأساليب دليل الاستقلال، والاستقلال دليل الطبع والحياة، وهل يتفق التشابه والتماثل إلا فيما له قوالب وأنماط؟ وأين القوالب والأنماط إلا في صيغ الألفاظ وتراكيبها؟
وكما يكون التفاوت في الأساليب بين شعراء الأمة دليلا على حياتها، وتنبه الطباع في أبنائها، يكون التفاوت في شعر الشاعر دليلا أيضا على حياته وطبعه، ولقد سمعت أديبا يعيب شاعرية المتنبي ويصغرها لبعد ما بين جيده ورديئه، وهو الآية على شاعريته عندي، إن لم تكن آية سواه؛ لأن الشاعر قد يحكم قلمه، ويدعو الألفاظ فتسعفه، ولكنه لا يحكم طبعه، ولن يكون الطبع عند دعوته، بل إنما الإنسان عند دعوة طبعه، وهو رهن مما توحي إليه سجيته.
ولسنا نعني بذلك أن كل شاعر له في شعره الجيد والرديء، هو شاعر مطبوع، فإن لكل ذهن خامد جلوة، ولكل طبع بارد سورة، والريشة الميتة قد ترفعها الريح إلى حيث تحوم أجنحة الكواسر، وقد يسمو الطبع الكليل إذا استفزته العاطفة، فيسترق السمع من منازل الإلهام، ثم لا يكاد يلتفت إلى نفسه حتى يهوي إلى مقره، ويروقني في هذا المعنى قول لويس مترجم جيتي شاعر الألمان، وذلك إذ يقول في عرض كلامه عن رواية فوست: «ربما كانت مقدرة العقل الكبير لا تظهر إلا في مثل هذه الصغائر، وأما الكتاب الأصاغر فإنهم يبالغون في هذه الأغراض أو يقصرون عنها، ولكنهم لا يعطونها حقها، انظر إلى الأجسام فإنها تضيء كلها على درجات مختلفة من الحرارة، وكذلك صاحب العقل الخافت قد يأتي بالفلق، وينطق بالحكمة، وهو مضطرم النفس، محتدم الطبع، ولكن من تلك الأجسام ما يعود إلى المألوف من حاله، فينم عن غلظه وكثافته، والعقل الخافت إذا فترت حرارته، عاودته ضآلته، وفارقته تلك القوة التي اقتسرها على الخروج ضغط الأفكار المزدحمة عليه، ولذع العاطفة المتأججة فيه، وفي ذلك مصداق المثل السائر القائل: إن الكبائر تظهرها الصغائر، والريح إذا هبت على الماء تشابه الغمر بالضحضاح، حتى إذا استقرت الأمواج رأينا قاع الضحضاح قريبا، وعلمنا أن غور الغمر أبعد مما يصل إليه مسبارنا.»
وربما تشدد بعض النقاد فجعلوا شعور الشاعر بنفسه، حدا بين الطبع والتكلف، فإذا خيل للناقد وهو يقرأ القصيدة أنه نسي الشاعر، ولا يذكر إلا شعره، فالشاعر مطبوع، وإن كان يلوح له وجه الشاعر من حين إلى حين بين أبيات القصيدة، فهو عنده متكلف صناع. ولست أنا ممن يميلون إلى هذا الرأي؛ لأنه يخرج كثيرا من الشعراء المجيدين من عداد الشعراء المطبوعين، ولا فرق عندي بين شاعر يشعر بنفسه في كلامه، وشاعر يغيب في عاطفته، إلا كالفرق بين المليح المزهو بجماله، والمليح الذي يوهمك كأنه قد نسي أنه جميل، على أن لكل منهما جماله، ونحن عسيون أن ننظر إلى ذلك الشعر، فإن كان صادقا مؤثرا فهو من شعر الطبع، وإلا فهو من شعر التكلف، وهو إذن لا بالمليح المزهو، ولا بالمليح الغافل عن جماله، وإنما هو دميم يتحالى بالطلاء والزينة.
ويختلف شعر الطبع في لغة الأمة بين عصر وعصر، كما يختلف منهاجه في العصر الواحد بين شاعر وشاعر، وكما تختلف درجته من الإجادة في شعر الشاعر الواحد بين قصيدة وقصيدة.
فالشعر العربي قد اتخذ له في كل عصر طريقة تناسب روح ذلك العصر، وهذه الطريقة العصرية لا تشبه طريقة البداوة، ولا هي في شيء من طريقة الدولة العربية، ولكنها طريقة يمليها عصر تغير فيه محل الإنسان من بيئته ومجتمعه، وخلعت فيه الطبيعة أمام عينيه ثوبا بعد ثوب، حتى وقفت بالمجسد بين يديه؛ فظهر له ما كان خافيا، وازداد توقه إلى استطلاع ما لم يبد، وكان فيما بدا له مقابح ومحاسن، كان سابق ظنه بها غير ما عاينه منها، فلو أن شعراء المذهبات بعثوا اليوم من أرماسهم، لما نظموا حرفا واحدا من مذهباتهم، ولكانوا في المذهب العصري أشد من أشد دعاتنا غلوا في الدعوة إليه.
قلنا: إن الشعر العربي نشأ منشأ جديدا من نحو العشرين سنة، ونقول: إنه كان نضالا نزع فيه الظافر أسلاب المخذول، ولكنه لبسها؛ فكان ظافرهم ومخذولهم أقرب الناس زيا، وأشبههم بزة، ونحن اليوم غيرنا قبل عشرين سنة؛ لقد تبوأ منابر الأدب فتية لا عهد لهم بالجيل الماضي ، ونقلتهم التربية والمطالعة أجيالا بعد جيلهم، فهم يشعرون شعور الشرقي، ويتمثلون العالم كما يتمثله الغربي، وهذا مزاج أول ما ظهر من ثمراته أن نزعت الأقلام إلى الاستقلال، ورفع غشاوة الرياء، والتحرر من القيود الصناعية، هذا من جهة الأغراض والأنساق، وأما من جهة الروح والهوى، فلا يعسر على الندس البصير أن يلمح مسحة القطوب للحياة في أسرة الشاعر العصري الحديث، ويتفرس هذا القطوب حتى في الابتسامة المستكرهة التي تتردد أحيانا بين شفتيه.
وحسب الأدب العصري الحديث من روح الاستقلال في شعرائه أنهم رفعوه من مراغة الامتهان التي عفرت جبينه زمنا، فلن تجد اليوم شاعرا حديثا يهنئ بالمولود، وما نفض يديه من تراب الميت، ولن تراه يطري من هو أول ذاميه في خلوته، ويقذع في هجو من يكبره في سريرته، ولا واقفا على المرافئ يودع الذاهب ويستقبل الآيب، وما بالقليل من هذه الروح الشماء في الأدب أنها استطاعت أن تجهز على آداب المواربة والتزلف بيننا، أو تردها إلى وراء الأستار، بعد إذ كانت تنشد في الأشعار، وينادى بها في ضحوة النهار.
ولا مكان للريب في أن القيود الصناعية التي أشرنا إليها ستجري عليها أحكام التغيير والتنقيح، فإن أوزاننا وقوافينا أضيق من أن تنفسح لأغراض شاعر تفتحت مغالق نفسه، وقرأ الشعر الغربي، فرأى كيف ترحب أوزانهم بالأقاصيص المطولة والمقاصد المختلفة، وكيف تلين في أيديهم القوالب الشعرية، فيودعونها ما لا قدرة لشاعر عربي على وضعه في غير النثر، ألا يرى القارئ كيف سهل على العامة نظم القصص المسهبة، والملاحم الضافية الصعبة، في قوافيهم المطلقة؟ وليت شعري بم يفضل الشعر العامي الفصيح إلا بمثل هذه المزية؟
ولقد رأى القراء بالأمس في ديوان شكري مثالا من القوافي المرسلة والمزدوجة، والمتقابلة، وهم يقرءون اليوم في ديوان المازني مثالا من القافيتين المزدوجة والمتقابلة، ولا نقول إن هذا هو غاية المنظور من وراء تعديل الأوزان والقوافي وتنقيحها، ولكنا نعده بمثابة تهييء المكان لاستقبال المذهب الجديد؛ إذ ليس بين الشعر العربي وبين التفرع والنماء إلا هذا الحائل، فإذا اتسعت القوافي لشتى المعاني والمقاصد، وانفرج مجال القول، بزغت المواهب الشعرية على اختلافها، ورأينا بيننا شعراء الرواية، وشعراء الوصف، وشعراء التمثيل، ولا تطول نفرة الآذان من هذه القوافي، ولا سيما في الشعر الذي يناجي الروح والخيال أكثر مما يخاطب الحس والآذان.
وما كانت العرب تنكر القافية المرسلة، فقد كان شعراؤهم يتساهلون في التزام القافية، كما في قول الشاعر:
ألا هل إن لم تكن أم مالك
بملك يدي أن الكفاء قليل
رأى من رفيقيه جفاء وغلظة
إذا قام يبتاع القلوص ذميم
فقال أقلا واتركا الرحل إنني
بمهلكة والعاقبات تدور
فبيناه يشري رحله قال قائل
لمن جمل رخو الملاط نجيب
وكقول غيره:
بنات وطاء على خد الليل
لا يشتكين عنتا ما أنضين
وكقول الآخر:
جارية من ضبة بن أد
كأنها في درعها المنعط
وبعض هذه القوافي - كما تراها - قريبة مخارج الروي، وبعضها تتباعد مخارجه، ولكنهم كانوا على حالة من البداوة والفطرة لا تسمح لغير الشعر الغنائي بالظهور والانتشار، وكانوا لا يعانون مشقة في صوغ هذه الأشعار في قوالبهم، فلم يلجئوا إلى إطلاق القافية، ولا سيما في شعر يعتمد في تأثيره على رنته الموسيقية، وجاء العروضيون فعدوا ذلك عيبا، وسموه تارة بالإكفاء، وتارة بالإجازة أو الإجارة؛ لقلة ما وجدوا منه في شعر العرب، فلما انتقلت اللغة العربية إلى أقوام سلائقهم وحالهم أميل إلى ضروب الشعر الأخرى، اعتسروا القوافي على أداء أغراضهم، ولم تشعر آذانهم بهذا الذي عده العروضيون عيبا في القافية، فاحتملت لغتهم المحرفة وقوافيهم المتقاربة ما لم تحتمله أوزان الجاهلية وقوافيها.
على أن مراعاة القافية والنغمة الموسيقية - في غير الشعر المعروف عند الإفرنج بشعر الغناء - فضول وتقيد لا فائدة منه، ولا بد أن ينقسم الشعر إلى أقسام، يكون الشعر في بعضها أكثر من الموسيقى، ومن بقايا الموسيقى الأولى في الشعر هذه القيود اللفظية، وقد ذهب سبنسر في مقاله عن الرقي إلى أن الشعر والموسيقى والرقص، كانت كلها أصلا واحدا، ثم انشق كل منها فنا على حدته، ومن قوله في ذلك: «إن الروي في الكلام ، والروي في الصوت، والروي في الحركة، كانت في مبدئها أجزاء من شيء واحد، ثم انشعبت واستقلت بعد توالي الزمن، ولا تزال ثلاثتها مرتبطة عند بعض القبائل الوحشية؛ فالرقص عند المتوحشين يصحبه دائما غناء من نغم واحد، وتصفيق بالأيدي، وقرع على الطبول، فهناك حركات موزونة، وكلمات موزونة، وأنغام موزونة ... وفي الكتب العبرية أنهم كانوا يرتلون القصيدة التي نظمها موسى بعد قهر المصريين، وهم يرقصون على نقر الدفوف، وكان الإسرائيليون يرقصون ويتغنون بالشعر في وقت معا عند الاحتفال بالعجل الذهبي ...
على أن الشعر وإن لم ينفصل بعد عن الموسيقى، إلا أنهما قد انفصل كلاهما عن الرقص، فقد كانت قصائد الإغريق الدينية القديمة ترتل ولا تتلى تلاوة، وكان ترتيل الشاعر مقرونا برقص السامعين، فلما انقسم الشعر أخيرا إلى شعر غنائي، وشعر قصصي، وأصبحوا يتلون الشعر القصصي، ولا يرتلون إلا الشعر الغنائي، ولد الشعر المحض، وأصبح فنا مستقلا.»
ونحن لا نريد أن نفصل الشعر عن النغمة الموسيقية بتاتا، ولكنا نريد أن يكون نصيب الشعر المحض في غير شعر الغناء أكبر من نصيب النغم، وأن نبقي أثر دقة الرجل - ونعني به القافية - في الشعر الذي كانوا يدقون الأرض بأرجلهم عند إنشاده، أي شعر النزوات النفسية، والعواطف المهتاجة.
والآن وقد أتينا على طرف من رأينا في تأثير العصر على أنساق الشعر وأغراضه نرى من تمام الكلام أن نقول كلمة عن تأثيره في روح الشعر، ونفوس الشعراء فنقول:
إن كان هذا العصر قد هز رواكد النفوس، وفتح أغلاقها كما قلنا، فلقد فتحها على ساحة من الألم تلفح المطل عليها بشواظها، فلا يملك نفسه من التراجع حينا، والتوجع أحيانا، وهو العصر، طبيعته القلق والتردد بين ماض عتيق، ومستقبل مريب، وقد بعدت المسافة فيه بين اعتقاد الناس فيما يجب أن يكون، وبين ما هو كائن، فغشيتهم الغاشية، ووجد كل ذي نظر فيما حوله عالما غير الذي صورته لنفسه حداثة العصر وتقدمه، والشاعر بجبلته أوسع من سائر الناس خيالا؛ فالمثل الأعلى أرفع في ذهنه منه في أذهان عامة الناس، وهو ألطفهم حسا، فألمه أشد من ألمهم، وإنما يكون الألم على قدر بعد البون بين المنتظر وبين ما هو كائن، فلا جرم إن كان الشاعر أفطن الناس إلى النقص، وأكثرهم سخطا عليه، ولا جرم إن كان ديوان شاعرنا على حد قوله:
كل بيت في قرارته
جثة خرساء مرنان
خارجا من قلب قائله
مثلما يزفر بركان
أيقال: إننا بالغنا إذا قلنا: إننا في عهد لا نشاهد فيه إلا مسخا في الطبائع، وارتكاسا في الأخلاق، ونفاقا في الأعمال والأقوال ...؟ لا والله بل يقال: إننا تغاضينا إذا لم نقل ذلك، وما يبالي متحرج في عهدنا أن يغمض عينيه، ثم يمضي على رأسه في الأسواق والنوادي، والمجامع والمعابد، فأي عاتق وقعت عليه يده، فيسأله ألا تعرف المعنى بهذه الأبيات:
يتلقاك بالطلاقة والبش
ر وفي قلبه قطوب العداء
كالسراب الرقراق يحسبه الظم
آن ماء وما به من ماء
عاجز الرأي والمروءة والنف
س ضئيل الآمال والأهواء
ألف الذل فاستنام إليه
وتباهى به على الشرفاء
ينسج الزور والأباطيل نسجا
والأكاذيب ملجأ الضعفاء
مستميت إلى المكاسب والرب
ح دنيء الإسفاف والكبرياء
فاسق يظهر العفاف ويخفي
تحته الخزي يا له من مراء
مظلم الحس والبصيرة كالتم
ثال خلو من الحجا والذكاء
قد زهاه الشموخ فاختال تيها
ولوى شدقه على الخلصاء
فإنه لا يخطئ مرة إلا أصاب ألفا؛ فقد وصف المازني في هذه الأبيات نموذج الرجل العصري، فلم ينس صفة من صفاته، وأنى لرجل العصر أن يكون غير ذلك، وهو يبصر غير ما يسمع، ويسمع غير ما يعتقد، ويعتقد غير ما يجرأ على الجهر به، وذلك ديدن الناس في كل زمان تحس في النفوس بالحاجة إلى الانتقال، فترسم مثال الكمال، ثم تكر إلى عالم الحقيقة، فلا تقابل إلا النقص والقصور، وإنها لتظل كذلك تتذبذب بين الباطن والظاهر؛ وهذا هو عين التصنع والرياء، وإن اشتد، فقل الخبث والصفاقة والكبرياء.
فإذا رأيت شاعرا مطبوعا في أمثال هذه الفترات المشئومة يبتهج ويضحك، فاعلم أن بين جنبيه قلبا صدئ من نار الألم، أو حمأة الشهوات، وإلا فهو رجل مقلد ينظم بلسانه، ولا ينظم بوجدانه.
ألا ترى كيف كان حال الأدب في الفترة التي تقدمت الانقلاب الفرنسي؟ ألا تراهم كيف لعبت الحيرة بعقولهم؟ فمن داع يدعو الناس إلى الطبيعة، ومن باحث يفكر في خلق مجتمع جديد، هذا ينحى على الدين، وهذا يسب الحياة ويلعن الوجود، وذلك تهوله فوضى الأخلاق، فيحسبها ضربة لازب، لا تنصلح ولا تتبدل، فيقوم في جنون الدهشة والذهول يحسن للناس التهتك والإباحة، أرأيت كيف استحكمت السآمة بشاتوبريان زعيم الأدب في تلك الفترة، فجعل يقول: «لقد سئمت الحياة حتى قتلتني السآمة، فلا شيء مما يحفل به الناس يعنيني، ولو أنني كنت راعيا أو ملكا، لما عرفت كيف أصنع بعصا الراعي، أو بتاج الملك، وما أظنني في الحالتين إلا كنت زاهدا في المجد والعبقرية، ملولا من العمل والبطالة، متبرما بالنعمة والشقاء؛ لقد أمضني الناس في أوروبة، وأسأمتني الطبيعة في أميركا، فليس في هذه ولا في تلك ملاذ يهش إليه قلبي، وإنني لسليم القلب، طيب النحيزة، ولكن بغير غبطة، وإخالني لو خلقت مجرما لكنت أكون كذلك بغير ندم، فليتني لم أولد! ليت أن اسمي يعفي عليه النسيان فلا يذكر أبدا ...»
وبعد، فهل ينبغي أن يحمد الناس كل زمان رأوه، وهل ثم ضرر عليهم في الشكوى من بعض الأزمنة، والنقمة عليها؟ كلا، ليس في الاستياء من الزمن السيئ ضرر، بل هذا هو الواجب الذي لا ينبغي سواه، وأولى أن يكون الضرر جد الضرر في الاطمئنان إلى زمان تتأهب كل بواطنه للتحول والانتقال.
وما أهون التعليل السلبي! لقد سهل على بعض الكاتبين أن يعللوا هذا التذمر فحسبوا أنهم أدركوا الغاية، وأصابوا النتيجة.
نظروا إلى السخط الفاشي بين طبقات الناس، فلم يصعب عليهم أن يقولوا: إنه عرض من أعراض الحياة في المدن والحواضر، وهذا صحيح، وأي عجب في ذلك؟ إنما لحكمة كانت المدن مثار القلق والشكوى؛ لأن المدينة ربيئة المدنية، وحاملة أمانة الرقي الإنساني، ولئن كان التجاج الأصوات بالشكوى في هذه الأيام أشد وأجهز منه في الأيام القديمة ؛ فذلك لأن الانتقال الوشيك أعظم من كل انتقال أحدثته الحياة المدنية إلى يومنا هذا.
ولو كان الناس كلهم على شاكلة الريفي في سكينته وقنوعه؛ لما بقي لهم بعد أن يفيض الماء، ويسلم الجو، وينجب الزرع مطلب في الحياة، وما برح أهل المدن بأيديهم زمام العلم والصناعة والفنون، والكفاح يدفعهم إلى الحركة وطلب الانتقال؛ فتتقدم على أيديهم هذه الفنون وتنشأ من تقلبهم المذاهب الاجتماعية المختلفة؛ فترتقي حقوق الناس وواجباتهم، وترتقي الحياة تبعا لارتقاء هذه الحقوق والواجبات، وقد صدق «لاندور» حيث يقول على لسان بارو: «إن القانعين يجلسون ساكنين في أماكنهم، وأما الساخطون الناقمون فهم الذين يجني منهم العالم كل خير.»
ونظر أولئك الكتاب هذه النظرة إلى رجال العبقرية في الأزمان المتأخرة، فوجدوهم لا يسلم أحدهم من علة في الجسم، فظنوا أنهم قد وقعوا على السر، وقالوا: لو لم يكن هؤلاء العبقريون مرضى لما عمت فلسفة السخط، كأنه ليس بين هذا العصر وبين أن يكون أقدم العصور أخلاقا، وأرغدها عيشا، وأتمها نظاما، إلا أن يبرأ مائة رجل أو أكثر، أو أقل، من الداء!
بل لقد طاش بعضهم، فسمى عبقرية هؤلاء العظماء مسخا راقيا، وألحقهم بالممسوخين من زمنى الطبائع، ومرضى النفوس، الذين يخرج من بينهم القتلة والسرقة والمخبولون، ولو أنهم كانوا ألحن للغة الطبيعية، لعرفوا أنها لا تجمع بين المرض والعبقرية عبثا، وأن عظماء الأمم لو سلموا من الأدواء والعلل لوقفت الإنسانية اليوم عند حدود الآجام والكهوف.
ونحمد الله على أن ليست عقول هؤلاء الكتاب في رأس الطبيعة! فكانت تبدلنا من كل نبي وحكيم وشاعر مصارعا مضبور الخلق، عريض العنق، ولا ريب أن هذا العمل أريح لها من عناء تركيب الأمزجة، وتقسيم المواهب على قدر وحساب.
العبقري رجل أريد به أن ينسى نفسه ليخلص نفعه لنوعه، فلو أنه خلق مكين المرة، قوي الأسر، لصرفته دواعي اللحم والدم عن المضي لوجهته، ولشغله ما يشغل سائر الناس من أمور المعاش والأبناء عما خلق لأجله، ولا بد أن تضعف غريزة حفظ الذات فيه لتقوى بإزائها غريزته النوعية، ولن تضعف الغريزة الذاتية إلا بمرض في الجسد؛ أرأيت رجلا معافى البدن ينسى نفسه ليعيش بعد موته في ذاكرة نوعه؟ أم أنت تراه قاصر الهم على حياته لا يعنيه من الدنيا سواها؟
وللنوع فرض عام يطلبه من جميع أفراده، وهو التكاثر بالتوالد، بيد أنه كلما سفل النوع وسفل الفرد، كان التوالد أكثر، ويطرد هذا الأمر في الإنسان؛ فإن أكثر الناس توالدا هم أعجزهم عن حفظ النوع بغير وسيلة التوالد، وهم أحط الناس مدارك وعقولا، ثم ينشأ في بعض الأفراد قوى أدبية ينفعون بها النوع، ويحفظونه من جهات شتى، فتعدو هذه القوى على غريزة النسل، حتى يبلغ الأمر نهايتيه في النابغة، فيكون أنفع الناس لنوعه بقواه الأدبية، وأقلهم نفعا له بنسله؛ ولذلك لا يرغب النابغون في الزواج، وإن تزوجوا لا يلدون، وربما ولد لهم، ولكن لا يعيش أبناؤهم، أو يعيشون ولكنهم يهملون في الغالب تربيتهم وإنباتهم، وتلك لعمري حكمة بالغة، وسر دقيق من أسرار الاقتصاد الطبيعي في تقسيم العمل.
إن كان للأمة جهاز عصبي، فإن الشاعر العبقري أدق هذه الأعصاب نسجا، وأسرعها للمس تنبها، ولا غنى لجسم الأمة عن هذه الأعصاب المفرطة في الإحساس، لتزعج الأمة لأخذ الحيطة بينما تجمد الأعصاب الصلبة في صمم البلادة والأنانية.
فلا ينظرن الذين ينفقون فلسفة الرضى عندنا إلى المسألة من جهة واحدة، ولا يقولن نحن في عصر العمل، فزخرفوا لنا الحياة وشوقونا إليها، كلا! لسنا يا قوم في عصر العمل، فكم من عمل يدعو العاملين ولا يجيبونه! وكم من عامل يفتأ يدعو العمل فلا يجيبه! بل نحن في عصر التردد والاستياء، ولا بد لهذا الاستياء أن يأخذ مداه، ويطلع على كل نقص في أحوالنا، حتى إذا تمكن من النفوس فحركها إلى العمل، وعاد عليها العمل بالرضى، فلا ينس الناس يومئذ فضل شعر الضجر والاستياء.
فلئن توسم القارئون في شعر هذا الديوان هذه السمة، فليذكروا أنهم يقرءون ديوان شاعر يترجم عن زمنه «والمرء في نفسه يرى زمنه» كما يقول.
ويخيل إلي أن أخانا إبراهيم لو لم ينبغ في هذا العصر السوداوي، ونبغ في عصر فجر التاريخ، لكان هو واضع أسماء الجنة، عمار الغيران والجبال، وساقة السحب والرياح والأمواج، فإن به لولعا بوصفها، وإن أذنه لتتسمعها كأنها تنشد عندها خبرا، وأظنه لو كان خلق الدنيا، لما خلقها إلا جبالا عظيمة، وكهوفا جوفاء، ورياحا مدوية، وغماما مرزما رجاسا، وبحرا مصطخئا عجاجا، انظر كيف يصف الغار الذي يتمناه في قصيدة مناجاة الهاجر:
يا ليت لي والأماني إن تكن خدعا
لكنهن على الأشجان أعوان
غارا على جبل تجري الرياح به
حيرى يزافرها حيران لهفان
هل أنس ليلتنا والغيث منسكب
وللبروق بقلب السحب أثخان
وقوله لي من لي أن تظللني
من السحاب على الأطواد غيران
ريح تهب لنا من كل ناحية
وديمة كحلها نور ونيران
يلفنا الليل في طيات حندسه
كما يغيب سر المرء كتمان
نكاد نلمس بالأيدي السماء ونج
تلي بها الرعد يطغى وهو غضبان
وللصدى حولنا حال مروعة
كأنما تسكن الغيران جنان
لكل صوت صدى من كل منعطف
كما تجاوب عساس وأعيان
يطير كل صدى عن كل شاهقة
كما يطير عن العقبان عقبان
تبدو لأعيننا البلدان كالحة
كالوجه غضنه سن وحدثان
ومثله قوله في أحلام الموتى:
أجنوني إذا ما مت رمسا
ينادمني به خضل الغمام
ترقرق عنده غدران ماء
على ضفاتها أثر الهوامي
تغنيني الحمائم في ذراها
وقد هب النسيم مع الظلام
أو قوله في ثورة النفس:
أبيت كأن القلب كهف مهدم
برأس منيف فيه للريح ملعب
أو اني في بحر الحوادث صخرة
تناطحها الأمواج وهي تقلب
أو قوله من قصيدة أحلام اليقظة:
إني سمعت في الدجى اصطخابا
كأن في إهابه ذئابا
سيمت أذى فطلبت وثابا
مستهولا ينتزع الصوابا
يهتك من فؤادك الحجابا
مثل الصدى قد عمر الخرابا
أو قوله في مناجاة الملاح:
القلب يم لا قرار له
جم العواصف مزبد القنن
أو قوله من قصيدته الرهيبة «ثورة النفس في سكونها»:
وما لي كأني ظللتني سحابة
لها من مخوفات الأساود هيدب
وليل كأن الريح فيه نوائح
على أنجم قد غالها منه غيهب
تجاوبها من جانب اليم لجة
تزاءر فيها موجها المتوثب
كأن شياطين الدجى في إهابه
تغني على زمر الرياح وتغرب
إلى أن يقول:
سأصرخ أما هاجت الريح صرخة
تقول لها الموتى ألا أين نهرب
واقرأ له الدار المهجورة، أو فتى في سياق الموت، أو الحياة حلم، تحس في كل منها هذه الروعة والفخامة.
وللمازني أسلوب خاص، لا يدلك على أنه أسلوب السليقة والطبع أكثر من هذا التآلف الذي تجده بين قلمه ونفسه، فإن قلمه يتحرى الفخامة في اللفظ، والروعة في حوك الشعر، كما تتحرى نفسه - على لطافتها - الفخامة في المشاهد، والروعة في مظاهر الكون والطبيعة.
والتآلف بين الطبع والتعبير شأن كل شعر في هذا الديوان، اقرأ فيه بعد شعر الوصف الذي تقدم التمثيل له شعر الغزل، فإنك ترى عبارته أليق ما عبر به عن عاطفته؛ لأنها عاطفة لا تسعر بالوقود من الخارج، وليس الحب فيها حبا تضرمه عين المحبوب كما تضرمه نفس المحب، وهي عاطفة تحيا بغذاء من حرارتها، ومثل هذه العاطفة يحلو لها ترديد نفسها، وتقليب وجوه ماضيها وحاضرها، وأهواء النفس تختار الأسلوب الذي يلائمها، فلو أن الحب هنا حب تأخذ منه البواعث وتعطي لكان نعاماه إذا امتلأ به الصدر أن يصعد من القلب صرخة تفرج عن صاحبها ثم ينساها، ولا يعود إليها حتى يراجعه الوله والوجد، ولكن حب يطاول القلب، ويدور في جوانب النفس، فلا يوافقه إلا أسلوب يدور في الأذن، ويطن في جوانب الأسماع.
فلا غرو أن ينسجم هذا الهندام على ذلك القوام، وأن يستشف القارئ ألوان العواطف من هذا الأسلوب، على أحكام نسجه وتفصيله، فيعلم أن شعر الطبع والإخلاص غير شعر الصنعة والتقليد.
الإهداء
إلى الذي نام عن ليلي وأسهرني
ومن إليه على الأيام تحناني
ومن أكاتمه وجدي وأوهمه
أن اقترابي وبعدي عنه سيان
ومن غذائي ذكريه وإن بعدت
أوطانه ونأت بي عنه أوطاني
أذكيت في الصدر نارا لا خمود لها
فاقبس ثوائر أنفاسي وأشجاني
هدية لك فيها الفضل أجمعه
وليس لي غير إنصافي وعرفاني
إبراهيم عبد القادر المازني
الورد
خده أحسن أم ثغره
بل كلا الحسنين فتان
كل جزء من بدائعه
لفنون الحسن بستان
لي كئوس من مراشفه
ومن الأطيار ندمان
كلما قبلت وجنته
خلت أن الورد خجلان
ظمئي ترويه قبلته
كيف ريي وهو ظمآن
رب طل بات يكلؤه
فكأن الطل غيران
وكأن الورد إذ سطعت
منه ريح الطيب نشوان
أنا أخشى أن أراعيه
ما لهذا الورد جثمان
كيف لا تذوى غلالته
وهي للأعين ميدان
الماضي
مسافة الشمس دون أقربه
وإن دعونا أعارنا أذنه
القلب قبر وأنت ساكنه
لا يبرح القبر ميت سكنه
ما مر يوم بما يصرفه
إلا جعلناك فيه ممتحنه
أو راقنا ثوبه ونضرته
إلا رأينا في ثوبه كفنه
آليت لا يستخفني أمل
في الغد أو تسغرني حسنه
الدهر لولا الآمال مشتبه
والمرء في نفسه يرى زمنه
الدار المهجورة
لم يدع منه البلى إلا كما
تترك التسعون من غض الشباب •••
وهي في سكونها كأنما
فارقتها روحها إلا ذما
حكم الدهر بها فاحتكما
وكساها الهجر ثوبا مظلما
ما أضل الطرف في هذا الإهاب •••
ما ترى العين بها إلا رماما
باليات تملأ النفس ظلاما
وسعتها الريح دفعا ولطاما
لغط اليم إذا اليم طما
والتقت فيه هضاب بهضاب •••
ليس يلفى عندها الصوت قرارا
كلما أرسلته مل الجوارا
واسترد المرء منها ما أعارا
تثب الأصداء عنها مثلما
طارت العقبان طيرا عن عقاب •••
إيه يا مهد مسرات الصبا
عجبا أصبحت قبرا عجبا
حاملا عن هاجريك الوصبا
كنت للهو فقد صرت وما
أنت إلا طيف أيام عذاب •••
أوصدوا الأبواب بالله ولا
تدعوا العين ترى فعل البلى
وامنعوا دار الهوى أن تبذلا
إن للدار علينا ذمما
وقبيح خونها بعد الخراب
الجمال إذا هوى
يا ليتني لو يصح لي أمل
أعمى له من كفافه شغل
أبيت لا مرهقا ولا قلق ال
أحشاء مما تحرك الغلل
ولا فؤادي كالوكر مضطربا
تجني عليه بلحظها المقل
كم نعم قد أصارها نقما
على الليالي الخطوب والعلل
بذلت ودي لغير صائنه
أين رماني العثار والزلل
يا حسرة للجمال يسلبه
روعته مصرع له جلل
بيناه كالزهر مونق أرج
إذاه كالشوك حظه العطل
بيناه كالشمس في جلالتها
تضيء ما حولها وتشتعل
إذا بها قد خبت لها شعل
أخلق من نور نارها الطفل
وإنما الحسن إن هوى جدث
عليه زهر من الندى خضل
إن راق عينيك روضة أنف
منه لقد راع قلبك الثكل
الإخوان
سل الخلصاء ما صنعوا بعهدي
أضاعوه وكم هزلوا بجدي
ركبت إليهم ظهر الأماني
على ثقة فعدت أذم وخدي
وصلت بحبلهم حبلي فلما
نأوا عني قطعت حبال ودي
وكانوا حليتي فعطلت منها
وغمدي فالحسام بغير غمد
أذم العيش بعدهم ومن لي
بمن يدري أذموا العيش بعدي
وما راجعت صبري غير أني
أكتم لوعتي في الشوق جهدي
ولو أطلقت شوقي بل نحري
وروى وبل غاديتيه خدي
جفاء في مطاويه حفاظ
كحسن القد في أسمال برد
وكم من نزوة للقلب عندي
وهجعة سلوة وقيام وجد
على أني وإن أطرب لقرب
ليعجبني عن المخفار بعدي
إذا ما ضن بالتسليم قوم
فإن الجود بالتوديع ردي
لكل في احتمال الناس طبع
ولست على تملقهم بجلد •••
وغر ماضغ بالغيب لحمي
خلاه الذم إذ جدنا بحمد
صفوت له على العلات دهرا
فرنق بالسفاهة ماء وردي
وكنت إذا هتفت به أتتني
قوارص شر ما يحبو ويهدي
وإني حين تغشاني أذاة
ليشفع للمسيء الود عندي
فإن يسبق إلى كفر وظلم
فقد سبقت يداي له برفد
ظلمتك أن تخذتك لي وليا
ولو أنصفت كان سواك قصدي
غرورا كان ما وعدت ظنوني
وأشقى الناس مغرور بوعد
أيغضبه السكوت وقد سكتنا
ولو قلنا لما أرضاه نقدي
وجهل بين في غير شاك
تعرضه لشاك مستعد
مضى زمن التسامح والتغاضي
وذا زمن الترامي والتحدي
لئن أعلى خسيستهم سكوتي
فسوف يحطها بدئي وعودي
وإن أثمر لهم ذما كثيرا
فهم غرسوا بذور الذم عندي
فتى في سياق الموت
نعد أنفاسه ونحسبها
والليل فيه الظلام يلتطم
إذا خروج الحياة أجهده
تساقطت عن جبينه الديم
صدر كصدر الخضم مضطرب
جحافل الموت فيه تزدحم
إن قام ملنا له بمسمعنا
أو نام خفت بوطئنا القدم
يرتاع من طول نومه الأمل
ويشتكيه الرخاء والسأم
كأنما الخوف من تردده
خيل لها من رجائنا لجم
خلناه قد مات وهو في سنة
ونائم الجفن وهو مخترم
قد قلصت ثغره منيته
كأنه للحمام يبتسم
المناجاة
إن وجها رأيته ليلة السب
ت رماني بحبه وتولى
عجب كيف يرتضي البعد عنا
من عبدنا في حسنه الله جلا
هل حباك الإله بالحسن إلا
لنرى فيك آيه تتجلى
أنت أفسدتني وعلمتني الح
ب فهلا أصلحت مني هلا
نظرة منك لو رحمت تعيد ال
روح فينا كالروض جيد وطلا
مالنا غير ذلك الصد مأوى
أو معاذ وجل ذاك وقلا
لم أكن أحسب الزمان يريني
موضعا لست فيه جنبي حلا
أجدر الناس بانعطاف وأولى
أنت إن تتبع القطيعة وصلا
بعد العهد غير ذكرى ليال
قد تقضت وما شفت لي غلا
وقفة العيش بغيتي غير أني
أجد الدهر ما يثقل رجلا
ليت شعري ما حجة الزمن الجا
ئر أم كيف عذره حين زلا
ثقلت وطأة البعاد على كا
هل صبري وآذنت أن تظلا
أتأناك كي ترق وما تز
داد إلا على المؤمل بخلا
كان خيرا من السهاد رقادي
في حمى ظلك الوريف وأحلى
غير أني في الحب أقنع بالذك
ر إذا ما الحبيب لم يك سهلا
إن لي مهجة يصدعها الشو
ق وما إن أخال إلا مبلا
لم تلمني أني هويتك لكن
لمت أني رعيت عهدا وإلا
لست تأبى علي حبيك لكن
أنت تأبى الحفاظ ظلما ودلا
بأبي أنت مغضبا ولعمري
ما أقل الفداء مني وأغلى
لكم الدل والتجني علينا
وعلينا الحفاظ أحسنت أم لا •••
ليت شعري متى تشق بنا الني
ل جوار ويا عسى ولعلا
محقبا خمرة لنطرب كالبح
ر وتغدو لصحبة البحر أهلا
أي شيء ألهاك عن مركب الني
ل وقد كنت لا تني عنه قبلا
ما برحنا نرجو قدومك حتى
قد مللنا خلف الرجاء وملا
إن لي مجلسا على النيل فيا
حا فألا وافيتني فيه ألا
متعة العين من ملاحة مرأى
ومنى النفس من صباحة مجلى
حيث لا نرهب الزمان ولا نر
قب سحا من الملام ووبلا
وهي الراح لا نشعشع منها
وعلي الإكثار نهلا وعلا
نقطع الليل في احتساء شراب
ليس أنفى للهم منه وأجلى
بين أقداحنا حديث هو السح
ر يناجيك فيه قلب تملى
ليس تستعذب المدامة إلا
بنديم أرق منها وأحلى
صاحب مؤنس وكأس دهاق
ذاك حسبي لو يجمل الدهر فعلا
هل أرى نجح ما وعدن ظنوني
أم ترى باعها يعود أشلا
لست بالملحف الملح ولا بال
طامع العين إن وهبت الأقلا
إن تجودوا سحبت ذيلا رفلا
أو تضنوا فلست أعدم خلا
أحلام الموتى
أرسل إلينا صديقنا الشاعر الجليل عباس أفندي محمود العقاد قصيدة بهذا العنوان يقول في مطلعها:
ستغرب شمس هذا العمر يوما
ويغمض ناظري ليل الحمام
فهل يسري إلى قبري خيال
من الدنيا وأنباء الأنام
ويمسي طيف من أهوى سميري
ويؤنس وحشتي ترجيع هام
فأجبناه بهذه الأبيات:
لهان علي أن ألقي حمامي
وأطوى تحت طيات الرغام
إذا ما الليل نام رأيت قلبي
كلوءا مطعما مر الفطام
وما طاف الكرى بالعين إلا
ليفتحها على الكرب العظام
وفي ظلم القبور لنا مجير
يجلي وحشة العيش الجهام
أجنوني إذا ما مت رمسا
ينادمني به خضل الغمام
ترقرق عنده غدران ماء
على ضفاتها أثر الهوامي
تغنيني الحمائم في ذراها
وقد هب النسيم مع الظلام
تذكرني ليالينا وكانت
مسلسلة البشاشة في نظام
وما إن أرتجي شيئا ولكن
هي الأحلام عون ذوي السقام
إذا ما الموت رنق في جفوني
وبات بكفه يوما زمامي
فما يغني خيال من حبيب
يزورك بالتحية والسلام
وكيف يصد عنك وأنت حي
ويمسي واصلا لك في الرجام
أماني وذكر
يا حبذا أمسي من
مفارق وإن قصر
ما في الخوالي غيره
يوم به العين تقر
نسيمه إذا جرى
يغض من لفح الذكر
قضيت فيه وطرا
من مسمع ومن نظر
والأفق داج مدجن
يكاد يهمي ويدر
والشمس تزوي وجهها
أمن حياء وخفر؟
كم ليلة صيفية
أنساكها يوم خصر
وحبذا القهوة لا
تأخذ منا وتذر
ما خير راح تقر ال
سمع وتمضي بالبصر
ضل لعمري المحتسي
للراح أيام أخر
أيام لا يلقى الفتى
معاونا على الفكر •••
يا يوم جددت لنا
منى فمن لي بالظفر
وكان جرحي قد أوى
على الليالي فغفر
يا ليت حبي وردة
تروق حسنا من نظر
يومض فيها طلها
مبتسما إلى الغدر
تفاوح الغيث كما
فاوح شعري من سحر
وليتني حمامة
أصدح في ضوء القمر
أبكي إذا ألوت بها
هوج الرياح والمطر
أبكي وأستبكي لها
بمعزل عن البشر
حتى إذا عاد الربي
ع واكتسى الروض الحبر
غنيتها مؤهلا
مرحبا بين الشجر
أو ليتني لؤلؤة ال
طل عليها في السحر
أنعم فيها ليلتي
بطيب ذاك المختبر
حتى إذا الصبح جلا ال
ظلام عنا وحسر
ركبت متن الريح أر
جو كرة لما غبر
ثورة النفس
أرسل إلينا صديقنا الشاعر الجليل عبد الرحمن أفندي شكري قصيدة بهذا العنوان من القافية المزدوجة قال فيها:
هياج كما هاجت قطاة تعلقت
بأحبولة الصياد إذ ليس مهرب
أما في سكون الليل يا نفس واعظ
أما في سكون الروض ملهى ومطرب
فأجبناه بهذه القصيدة:
أخا ثقتي كم ثارت النفس ثورة
تكلفني ما لا أطيق من المض
وهل أنا إلا رب صدر إذا غلا
شعرت بمثل السهم من شدة النبض •••
لبست رداء الدهر عشرين حجة
وثنتين يا شوقي إلى خلع ذا البرد
عزوفا عن الدنيا ومن لم يجد بها
مرادا لآمال تعلل بالزهد •••
تراغمني الأحداث حتى كأنني
وجدت على كره من الحدثان
فلا هي تصمي القلب منها إذا رمت
ولا ترعوي يوما عن الشنآن
أبيت كأن القلب كهف مهدم
برأس منيف فيه للريح ملعب
أو اني في بحر الحوادث صخرة
تناطحها الأمواج وهي تقلب •••
أدور بعين حير العيش لحظها
وأرجعها محمرة كالشقائق
كأن فؤادي بين سجو وترحة
أديم تفريه أكف الحوالق •••
أكن غليلي في فؤادي ولا أرى
سبيلا إلى إطفاء حر جوى الصدر
أعالج نفسا أكبر الظن أنها
ستذهب أنفاسا حرارا على الدهر •••
إذا اغتمضت عيناي فالقلب ساهر
يظل طويل الليل يرعى ويرصد
وما إن تنام العين لكن إخالها
تدير بقلبي نظرة حين أرقد •••
وهل نافعي أن الرياض حلية
منورة النوار هادلة الطير
وما فرحي أن الرياح رواقد
إذا كنت سهران الفؤاد مدى الدهر •••
نسيم يرد النفس حينا لناشق
وأي أوام بعده وأوار
تطول ظلال النبت والشمس طفلة
فإن هي جدت صرن جد قصار •••
سأقضي حياتي ثائر النفس هائجا
ومن أين لي عن ذاك معدى ومذهب
على قدر إحساس الرجال شقاؤهم
وللسعد جو بالبلادة مشرب •••
خليلي مهلا بارك الله فيكما
فما في سكون الليل مسلاة واجد
إذا ثار ما بين الحجابين والحشا
فكل سكون يستثير رواقدي •••
وإن سكنت نفسي فليس بضائري
رياح تجر الذيل حولي وتعصف
فليس يضير الحوت في البحر أنه
يهيج وأن الموج يطغى ويعنف
ليلة وداع
ودعته والليل يخفرنا
والبدر يرمقني ويرمقه
والماء يجري في تدفقه
ويكاد ماء العين يسبقه
والدل ينهاه تمنعه
والحب يأمره ترفقه
ولرب خد بت ألثمه
والدمع يطفئ ما أحرقه
والورد أقطفه لوجنته
والشوك في قلبي مفوقه
لما رأيت الليل زايلنا
وأذاع سر الصبح مشرقه
طأطأت لا أرنو لرونقه
فالحسن يطغي الصب رونقه
رقية حسناء
نم هنيئا في ظلي الفينان
وانس برح الهموم والأشجان
وانس ما كان من زفير على الهج
ر ودمع يجري بغير عنان
وانظر العيش في منامك والده
ر بعين قريرة الإنسان
هذه راحتي على وجهك الغ
ض وروحي وريفة الأفنان
وفؤادي مرفرف بجناحي
ه حنانا فانشق نسيم الحنان
وبناني مخضب كعصا السا
حر يجري الحياة في الأبدان
لك من أدمعي حياة كما لل
زهر من صيب الحيا الهتان
ورياض من حسن وجهي حوال
وجنان من منظري الأضحيان
وأغان خرساء ترصف في الأس
ماع منثور مفرحات الأماني
ونسيم لنا يهب على النف
س بعرف الريحان والأقحوان
وضياء يشيع في ساحة الصد
ر فيجلو مخيم الأدجان
ويرد الشاب حتى كأن ال
مرء يختال فى شباب ثان
الوردة الذابلة
أرج كأنفاس الحبي
بة حين تدني منك فاها
وغلائل بات الغما
م يجودها حتى رواها
ذبلت وأخلق حسنها
يا ليت شعري ما دهاها
رويتها بمدامعي
لو كان يحييها حياها
وضممتها ضم الحبي
ب عسى يعود لها صباها
وزفرت عل زوافري
تجدي فزادت في ذواها
فرميتها وبرغم أن
في أنني من قد رماها
ولو استطعت حنيت أض
لاعي على ذاوي سناها
لحظ الحبيب
ما أفصح اللحظ يا حبيبي
وأعذب البث بالعيون
ما الشاعر الفحل حركته
على النوى هزة الحنين
أخلب لي منطقا وأحلى
من نظرة الطرف في سكون
لحظ يضيء الذي توارى
في ظلمة الغابر الدفين
له ضياء إذا ترامى
على النجيات والشجون
أعارها نوره فعادت
تندى على مهدي الحزين
يا قرة العين أنت حسبي
لولاك ما أثمرت غصوني
لولاك لم أحتمل حياتي
ولم أطق صفقة الغبين
وددت لو تنفع الأماني
لو كنت لدنا من الغصون
وليتني صيدح يغني
في ظلك الوارف الأمين
كن لي فإني إذا استهلت
على الثرى ديمة الشئون
لينبت الورد والأقاحي
وضاحة الثغر والجبين
وإنما سجعة القماري
في الليل ترجيعة الأنين
بعد الموت
ترى يذكر الأحياء أهل المقابر
ويعتادهم فيها كشوق المسافر
وهل تظمأ الأم العطوف إلى ابنها
إذا انتزعتها منه أيدي المقادر
تقول ألا يا ليته لصق أضلعي
كعهدي به والنوم ملء المحاجر
أضم إلى صدري حشاشة نفسه
وأملأ قلبي منه بعد النواظر
وهل يحمل الصب المشوق ولوعه
ويصبو إلى سحر العيون الزواهر
ويذكر أيام القطيعة والنوى
وأيام وصل الآنسات الغرائر
فإن جشأت في صدره غصص الجوى
وجلله وجد الحسان النوافر
بكى شجوه في ظلمة القبر وانثنى
يعالج إلمام الخيال المزاور
وما حال طفل ضامر ظامئ الحشا
إذا غاله سهم المنايا الجوائر
أيذكر ثدي الأم في كل لحظة
ويبكي حجور المحصنات الحرائر
وهل يحلم المفلوك في رقدة الردى
بما كان يلقى في الليالي الغوابر
فيحلم بالإيسار طورا وبالغنى
وبالفقر والإملاق في كل آخر
وهل يسع الملحود ريعان زفرة
ينفسها قلب جريح الضمائر
على هرم هم برى الدهر عظمه
وقوسه عبء السنين المواقر
قراه أسى قد ضاق عنه احتماله
ومؤنسه في العيش سود الخواطر
وتحسبه مما تقيد دمية
سوى حسرات أردفت بزوافر
وتحسبه مما تقوس طائرا
ولكنه عن عشه غير طائر
ستخبرني نفسي إذا حان حينها
وصرت كمن بادوا رهين حفائر
لفظ الحبيب
لذيذ إذا در قطر الرهام
وأضمرت البدر سجف الغمام
هبوب النسيم بعرف الرياض
يرقرقه في حواشي الظلام
لذيذ تحدر ماء الغدير
وقد أنطق الليل خرس الحمام
لذيذ دبيب الكرى في الجفون
بعد الكلال وطول القيام
ولكن لفظك من ذاك أحلى
وأوقع في قلبي المستهام
أظل إذا استك في مسمعي
يرف علي جناح الغرام
كأن فؤادي مسحورة
من الفلك في موجه المتسامي
تعانقها نفحات النسيم
ويرقصها زجل ذو التطام
شفاه يؤججن أنفاسه
ويلثمن ألفاظهن الظوامي
تمهل ألفاظه علها
تبرد في فيه حر الأوام
وتقرع أذني فتهتاجني
كأن لها نشوات المدام
إذا قيد الهم خطو الرجا
ء أيطلقه لي سحر الكلام
مناجاة شاعر
يا شاعر النفس كم أبكاك مصرعها
لقد بكيت على خرقاء مضياع
أسبلت آذي عين ما تركت لها
دمعا يراق على رزء وأوجاع
آذاك دهرك حتى لست تحفله
فما تبالي بإخماص وإشباع
واستطعمتك الليالي كل حاذقة
فما رأت منك إلا غير مجزاع
إنا شبيهان في شجو وفي ظلع
وراء نجم من الأحلام لماع
كذبت نفسي كما كذبت بارقها
وكان بالرغم تصديقي لأطماعي
يسلك صوت المنى سمعي وتومض لي
ثغورها عن بديع جد خداع
فأنثني غير مخدوع وكم فتنت
لبي الأماني بإيماء وتلماع
لله صرخة وجد أنت مرسلها
ضاعت عليك بواد غير ممراع
وما بهم صمم لكنهم جهلوا
معنى النداء فضلوا وجهة الداعي
إلا تجبك نفوس لا تعي أبدا
فقد أجابك قلب السامع الواعي
تدعو المعاني فتأتي وهي طائعة
إذا التوين على فدم وجعجاع
يعنو لك اللفظ والمعنى كما امتثلت
هذي العوالم أمر الخالق الراعي
إلى صديق قديم
كان لنا صديق أخلصنا له الولاء، وصدقناه الإخاء، فما زال يوهن من حبلنا، ويفصم من عرى ودنا، حتى انفرجت الحال، ووقعت النبوة، وجرى بيننا كلام، فبعثنا له بهذه القصيدة:
بعض بغضائكم أولى البغضاء
إنما الشتم شيمة السفهاء
ليس يشفي السباب غل حسود
قد طوى صدره على الشحناء
إن داء القلوب داء عياء
مثل داء المنون للأحياء
فاستر الضغن إن تشأ أو فجاهر
قد عرفناك فاسد الأهواء
أنت كالذئب خدن غدر ولؤم
ليس للذئب في الورى من وفاء
ما رأيناك بالإخاء خليقا
ورأيناك أهل هذا الجفاء
قد تكلفت أن أعارض طبعي
وأجاريك مرة في الهجاء
فرأيت الكريم يعجز عنه
عجز برد الشتاء عن إدفاء
ورأيت الهجاء يرفع منكم
إن ذم الوضيع كالإطراء
ما يبالي مستهتك نلت منه
أم عليه وقفت كل ثناء
لا تغض العيوب طرف بغي
نشأت بين بيئة شنعاء
كيف يندى جبين من غاض منه
كل ماء وغار كل حياء
رب قول لو كان في الصم بضت
لم يؤثر في أنفس اللؤماء
ومقال تسوخ منه جبال
عاد كالسيف نابيا عن مضاء •••
يا حماة الآداب نمتم طويلا
نومة نبهت جيوش البلاء
من لستر الحياء يهتكه الغ
ر ويفري في جوفه كالداء
من لوجه الأحساب يخدشه الغ
ر وينعي بالخدشة النكراء
ولقلب الأخلاق يطعنه الغ
ر ويجري دماءه كالماء
ولروض الآداب جف وأمسى
ظاهر الجدب لابسا من عفاء
ذهب الود والحياء جميعا
لهف أرضي عليهما وسمائي
وتبدلت من رجال وفاء
كل غر مماذق في الوفاء
يتلقاك بالطلاقة والبش
ر وفي قلبه قطوب العداء
كالسراب الرقراق يحسبه الظم
آن ماء وما به من ماء
عاجز الرأي والمروءة والنف
س ضئيل الآمال والأهواء
ألف الذل فاستنام إليه
وتباهى به على الشرفاء
ينسج الزور والأباطيل نسجا
والأكاذيب ملجأ الضعفاء
لو تراه بالليل يخطر عجبا
في مسوك الفرنجة السوداء
قلت قرد من آل «دروين» ناش
أخذت منه سورة الصهباء
مستميت إلى المكاسب والرب
ح دنيء الأسفاف والكبرياء
فاسق يظهر العفاف ويخفي
تحته الخزي يا له من مراء
مظلم الحس والبصيرة كالتم
ثال خلو من الحجا والذكاء
قد زهاه الشموخ فاختال تيها
ولوى شدقه على الخلصاء
وعدا طوره فأركبه الجه
ل جموحا ألقته في عوصاء
فغدا كالحمار أوهمه الشي
طان أمرا فصاح من خيلاء
هو حمى الجليس يدفع في الصد
ر ثقيل الكلام والإيماء
أعجمي اللسان فه عيي
يدعي أنه من الفصحاء
يملأ السمع والقلوب كما يز
عم رطب اللسان عذب الأداء
يا قطيع اللسان مالك والشع
ر وصوغ الكلام جم العناء
أنت في الأرض نقمة الله للنا
س جميعا قريبهم والنائي
قد لعمري نكبت عن جدد الرش
د وأوغلت في شعاب الرياء
أنت في الزهو والسفاهة واللؤ
م عديم المثال دون مراء
لو على قدر بطء حسك يوما
كنت كيسا ذا أربة وذكاء
لبلغت السنام من قلل المج
د وجاوزت رتبة الأنبياء
ضج من لؤمك الخلائق في الأر
ض وعاذوا من شره في السماء
صار إبليس عند ربك مقبو
لا وقد كان قبل في الأشقياء
عشش اللؤم في فؤادك وارتا
ش فيا رحمة على الأحياء •••
لا أقال الإله من خانني الغي
ب وجازى الحفاظ شر جزاء
ظن أني على التحلم ماض
فمضى ضلة على الغلواء
وغلا في الضلال فاشتبه الأم
ر عليه وبات في عشواء
وأراه الغرور أنا سواء
فتباهى وليس من نظرائي
كيف تعطو وليس عندك نوط
وتسامي وأنت في البوغاء
أسفا للعقول ضلت وزاغت
عن سبيل الهدى ووضح السواء
كنت في ظلنا الوريف مقيما
آمن البال وادع الأحشاء
فاستثرت المنسي من فارط الذن
ب وأوغرت صدرنا بالبذاء
أنت أسخطتنا عليك فحلنا
عنك لما جهلت وجه الرضاء
أنت وثبتنا عليك وقد كن
ت موقى في غرة ورخاء
أنت ضاغنتنا وخشنت صدرا
كان يحنو عليك في البأساء
أنت قطعت حبل خلك بالغد
ر وأيبست ثدي هذا الإخاء
أنت ناوأتنا وعلمتنا الثل
ب فرشنا لكم سهام الهجاء
حزت ذمي وللرياح السوافي
مثل ذم التراب والحصباء
لا يغرنك ما ترى من أناتي
واحتبائي بالحلم والإغضاء
ربما استنزل الحليم عن الرف
ق وثارت سكينة الحكماء
قد أذقناك حين أصفيتنا الو
د وفاء أعذب به من وفاء
كان ودي مصفقا لم أعكر
ه برنق من القلى والرياء
ولقد أينع الوداد على الأ
يام واستحصفت حبال الإخاء
كم ركضنا إلى المسرة والله
و برغم الهموم والبرحاء
واغتبقنا الشراب حتى اصطحبنا
لم نشعشع صراحه بالماء
لم أطع فيك واشيا يزرع الحق
د ويجني ثماره في الخفاء
ضمنا عاطف المودة دهرا
وافترقنا على القلى والجفاء
فلك اليوم في المحافل ذمي
ولماضيك عنفوان الثناء
لست أبكي على فراقك ما عش
ت فإن البكا على الأوفياء
لن ترى البين فاجعي أبد الده
ر فما كل خلة بسواء
كان شأني الحفاظ والرعي فالآ
ن أرى الرعي أعظم الأرزاء
فيك أبصرت كيف يكدر صفوي
بصنوف الأكدار والأقذاء
كنت أرجوك للزمان فأنت ال
يوم دائي في البعد منك شفائي
رب قرب أفضى إلي بضرا
ء وبعد أفضى إلى السراء
طبت نفسا عن ذكركم وشفا السل
وان قلبي من لاعج العرواء
كنت بالذكر بين عيني وقلبي
فجررنا عليك ذيل العفاء
قد كبا بيننا الوداد فلا قا
م وغص الهوى بماء الهجاء
خلت جهلا أن الفؤاد هواء
ليس يصميه كثرة الإيذاء
لا أرتني الأيام وجهك ما عش
ت ولا قربتك بعد التنائي
وتنائي الدارين خير وأحرى
من تدانيهما على البغضاء
قد مضينا كما مضيت وما دم
ت ودمنا فما لنا من إخاء
لن تراني بالباب بابك أستغ
زر فيض الدجنة الوطفاء
أقرع السن نادما وأذم ال
دهر ذما ولات حين عزاء
عل ماء الشئون يطفئ نارا
قد أذابت لفائف الأحشاء
واقفا أندب اعتدال زمان
طال فيه بين الكرام ثوائي
بين أهل الليان والخلق السك
ب الشآبيب والحجا والذكاء
حيث عز الوقار والجانب السه
ل وذلت طيرورة الضرساء
يا خليلي قد صرت جلدا على الهج
ر متين العرى وسيع الفناء
ولئن قدر الزمان اجتماعا
فبكرهي يكون لا برضائي
بأبي أنت. أنت أول إلف
ردني من بلابلي للعراء
كنت لا أملك الدموع فقد صر
ت ألاقي النوى بالاستهزاء
حبذا أنت غير أنك تبغي
أن تداني أهل السنا والسناء
تلك أحلام نائم وأحادي
ث لمستمسك بحبل الهباء
وغبي الأنام من ظن أن ال
زرع يزكو في التربة المظماء
كل ماضيك قد وسعت بحملي
غير ما جئت ليلة الأربعاء
قضي الأمر بيننا فسلام
وسقى الله عهد ذاك الإخاء
الذكرى
تقبس النار وإن طال القدم
من ينابيع الزمان المنصرم
كم لنا من ليلة مطوية
نشرتها فكأنا في حلم
ربما عاد بها اليوم وفي
وجهه الطلق من الأمس غمم
ربما اهتز بها ذاوي المنى
ولقد توقظ شيطان الندم
رب صوت نبهت نائمه
يسمع السامع منه كالنغم
بذل الماضي لها طاعته
وابتنت دارا لها بين الرمم
مناجاة حسناء
لا أنس منظرها وقد طلعت
للعين بين خمائل الورد •••
والماء يرقصه تدفقه
والبدر أشحبه تأرقه
والليل طفل شاب مفرقه
والغصن مياد وقد عبقت
حلل النسيم بنفحة الرند •••
العين تناجيها
هل تعرف الحسناء وا عجبي
لشحوب لون الورد من سبب
وذبول جفن النرجس العجب
وصدودها عني وقد علمت
أني ليطرفني قذى الصد •••
القلب يناجيها
لون الربيع بوجنة الزهر
والروض مشرق صفحة البشر
وبحبتي يا أنفس الذخر
برد الشتاء فهل ترى سمعت
عصف الهوى وتهزم الوجد
قبر الشعر
ليت ديواني يكون له
من بديع الزهر تيجان
فكأن الشعر في جدث
فوقه ورد وريحان
يا لها من حفرة عجب
كل ما تطويه أشجان
كل بيت في قرارته
جثة خرساء مرنان
خارجا من قلب قائله
مثل ما يزفر بركان
عتاب
ذهب الوفاء فما أحس وفاء
وأرى الحفاظ تكلفا ورياء
الذنب لي أني وثقت وأنني
أصفي الوداد وأتبع الغلواء
أحبابي الأدنين مهلا واعلموا
أن الوشاة تفرق القرباء
إلا يكن عطف فردوا ودنا
ردا يكون على المصاب عزاء
إلا يكن عطف فرب مقالة
تسلي المشوق وتكشف الغماء
إلا يكن عطف فلا تحقر جوى
بين الضلوع يمزق الأحشاء
هب لي وحسبي منك أن تك فرقة
لفظا يخفف في النوى البرحاء
فإذا ذكرت لياليا سلفت لنا
حن الفؤاد ونفس الصعداء
دعني أقول إذا النوى عصفت بنا
وأجد لي ذكر الهوى أهواء
ما كان أسلس عهده وأرقه
ولى وألهج بالثنا الشعراء
لا تبخلوا بالبشر وهو سجية
فيكم كما حبس السحاب الماء
لا يحسن التعبيس أبلج واضح
ضحك الجمال بوجهه وأضاء
قد كنت آمل منك أن سيكون لي
قلب يشاطرني الوفاء سواء
فإذا بكم كالشمس يأبى نورها
أبد الزمان تلبثا وبقاء
مناجاة ملاح
يا قرة العينين يا سكني
بلل غليل الموجع الضمن
بيني وبينك زاخر هزج
تمشي به الأجبال في قرن
لو شئت أدنتنا وإن بعدت
طرق الفراق طوائر السفن
تجوى وقد لزت بما ركبت
فكأنها رأس على بدن
لا تخش أشجاني إذا اعتلجت
أولست تركب هائل الشجن
القلب يم لا قرار له
جم العواصف مزبد القنن
لكن في أغواره دررا
ولآلئا أبقى من الزمن
السلو
أبليت فيك العمر وهو جديد
وعرفت فيك الصبر كيف يبيد
وغدوت أجلك في الحياة محسدا
تغلي علي ضغائن وحقود
وتركتني مثلا شرودا في الهوى
يومي إلي الأصبع الممدود
لي كل يوم منك موقف ذلة
صعب على الطبع الحمي شديد
وأراك تلقاني ووجهك عابس
وبناظريك بوارق ورعود
مهلا حبيبي إن في لعزة
أبدا علي لواؤها معقود
لا يخدعنك ما ترى من حبنا
فكأنه مع يومه ملحود
إن الهوى كالنار يخمد جمره
والحسن ليس له كذاك خلود
ولقد تكون غدا وما في قربكم
ري ولا في بعدكم تصريد
ولسوف يطوي اليأس صفحة ذكركم
ويصد نثر عنكم وقصيد
ما أنت أول من سلوت وردني
عن حبه شمم بنا محمود
إن الشتاء وإن تطاول عهده
للأرض بعد ذهابه تجديد
يمضي بأدمعه التي ما إن تني
تهمي ويحلو بعده التغريد
فابسط غضونا في جبينك إنني
قد ذدت عنك القلب قبل تذود
حالة
ثورة النفس في سكونها
فؤادي من الآمال في العيش مجدب
وجوي مسود الحواشي مقطب
تمر بي الأيام وهي كأنها
صحائف بيض للعيون تقلب
كأن لم يخط الدهر فيهن أسطرا
يبيت لها الإنسان يطفو ويرسب
شغلت بماضي العيش عن كل حاضر
كأني أدركت الذي كنت أطلب
وما كلت الأيام من فرط عدوها
ولا عطل الأفلاك خطب عصبصب
وما فتئ المقدار يمضي قضاءه
وما انفك صرف الدهر يعطي ويسلب
وما زال ظهر الأرض في جنباته
مراح لمن يبغي المراح وملعب
ولكن قلبا خالجته همومه
ترى أي ملهى طيب ليس يجنب
وكيف يسري عنه ملهى ومطرب
وما يطبيه غير ما بات يندب
لقد كان للدنيا بنفسي حلاوة
فأضجرني منها الأذى والتقلب
وقد كان يصبيني النسيم إذا هفا
ويعجبني سجع الحمام ويطرب
ويفتنني نوم الضياء عشية
على صفحة الغدران وهي تسبسب
فما لي سقى الله الشباب وجهله
أراني كأني من دمائي أشرب
وما لي كأني ظللتني سحابة
لها من مخوفات الأساود هيدب
وليل كأن الريح فيه نوائح
على أنجم قد غالها منه غيهب
تجاوبها من جانب اليم لجة
تزاءر فيها موجها المتوثب
كأن شياطين الدجى في إهابه
تغني على رمز الرياح وتغرب
لقيت به ذا جنة وتدله
له مقلة عبرى وقلب معذب
فقلت له ويلي عليك ولهفتي
ترى أين يرميك السرى والتغرب
ركبت الدجى والليل أخشن مركب
فهل لك عند الليل ويبك مطلب
فقال وفي عينيه لمع مروع
وفي شفتيه رجفة وتذبذب
ليهن تراب ضم حسنك أنه
سيرويه منه عارض متصبب
سقاها ورواني من المزن سمحة
فإني في ملحودها سأغيب
كفاني إذا ما ضم صدري صدرها
تحية سحب قلبها يتلهب
أأنت معيني إن قضيت بدمعة
يحدرها عطف علينا ويسكب
فقلت له ما لي لدى الخطب عبرة
تراق ولا قلب يرق ويحدب
سكنت فما أدري الفتى كيف يغتدي
تجد به الأشجان طورا وتلعب
ولكنني إن لم تعنك مدامعي
سأستهول الموت الذي بت تخطب
سأصرخ أما هاجت الريح صرخة
تقول لها الموتى ألا أين نهرب
ليلة
أشيع أني غرقت فجاءني صديق قديم يبكي ويستفسر عن صحة الخبر.
زارنا واصلا على غير وعد
وانثنى هاجرا على غير ذنب •••
من غديري من الذي يبكيني
قبل يوم الردى بدمع هتون
لعب ما أرقت من ذلك الدم
ع ودل أم أنت جد حزين
كم بكينا كما بكيت فلم تر
ث ولم تكترث لدمعي السخين
لم تكن عبرتي أفيكة أفا
ك ولا وجه حبنا بظنين
يا أخا الحسن والملاحة بالله
ترفق بجفنك المحزون
أزجر العين عن بكاها ففيما ان
هل منها وفاء دين العيون
حسنت ليلة الخميس وطابت
فهي حسبي من الزمان الضنين
صرحت رغوة البعاد عن القر
ب وباحت بودك المكنون
فوجدنا بك السرور كما يف
رح بالزاد ناظر المسكين
كم معز عني ولو كان يدري
ما أفاد النعاة هنى لحيني
عاد نعي النعاة بالفرح الشا
مل والوصل من خليل أمين
أتراك الغداة ترجع للصد
وتغضي عن لوعتي وحنيني
ابق أنسي فليس يحلو لي العي
ش إذا لم تكن عليه قريني
دع مؤاخاة معشر وسعوا حس
نك جهلا وعد لهذا الفطين
إنني عائذ بعطفك فاخفض
لي جناحا من رحمة يئويني •••
عم مساء، لا بل تمهل قليلا
تعست ساعة الفراق الطحون
لشجينا بمن يحيي ويمضي
فارغ القلب لا يحس شجوني
زدتني فتنة وليس جميلا
منك هجران واله مفتون
حاجة النفس كلها ومنى النف
س جميعا في سحر هذي الجفون
أتراني ألذ شيئا إذا ما
غبت عن ناظري وقلبي الحزين
إنما يحسن المساء ويحلو
بك فاقعد - أولا وهذي يميني!
قد ظفرنا من اللقاء بحظ
فاقض حظي من الفراق الشطون
حسبي الله في كفاية ما يع
تادني منك وهو خير معين
هيهات بابل من نجد
هل من معين على نجوى ووسواس
أو من سبيل إلى تبريد أنفاسي
أكر طرفي في الماضي فيبسم لي
وأنثنى وأمامي جد عباس
ليس الذي فات أياما أعددها
لكنه العمر وا لهفي ويا ياسي
والدهر لا فلتات السعد يرجعها
ولا يجدد ما يبلى من الناس
لو كان في مقبل من مدبر عوض
لم أودع الذم للأيام أطراسي
قضى لي الدهر بلوى في تصرفه
لا برء منها وعافى غير ذي باس
قد كنت أمرح في روض مطارفه
مطرز طرفها بالورد والآس
أرضي مفضضة ربى مذهبة
وفي سمائي نجوم هن إيناسي
إن شئت غنتني الأطيار ساجعة
أو شئت كانت ثغور الورد أكواس
أو شئت في ظل أغصان مهدلة
تحنو علي بألوان وأجناس
ملأت عيني حسنا لا مخالسة
لكن مرامقة ملآى بإحساسي
فالآن قد ذهب العيش الرقيق وما
بدلت منه سوى جدب وإيباس
وأصبح الورد يخفي حر وجنته
عن العيون ويبدي شوكه القاسي
عهد تصرم لم أظفر بمأربتي
منه ولا أورقت أعواد أغراسي
ما للحمام يغنيني على فنن
غض التثني منير النور مياس
والروض كيف اكتسى بالوشي محتفلا
وراح فيه وقلبي واجد آس
دنيا تغيض من بشري وتبسم لي
كالعضب مؤتلقا يهوي إلى الراس
هيهات ما تحفل الدنيا بملتهف
ولا تبالي بإسعاد وإنحاس
لن يخلع الروض أبراد الحيا جزعا
ويكتسي دارس الأفواف للناس
أو يعبس النور من شجو يهضمني
أو يخرس الطير بلبالي ووسواسي
إن يسلب الدهر ما أولاه من هبة
فشيمة الدهر إعراء الفتى الكاسي
أو يشعب الصبر أكبادا فيذهلها
عن ذكرنا ففؤادي ليس بالناسي
وكيف أنساهم والقلب يتبعهم
على جديد لبانات وأدراس
استقبال صديق
كيف به والجفاء يبعد به
وفرقة الصب منتهى أربه
تالله ما أن يني يباعدنا
بالغدر في جده وفي لعبه
إن يصغ للشوق بعد ذاك فقد
أسرف في كبره وفي غضبه
وكيف يرجو البقاء من رجل
لم يبق من وصلة إلى سببه
إن مر لم يكترث لخطرته
أو قال لم يلتفت إلى خطبه
قد قل من يصدق الوداد فما
أحس من ودهم سوى كذبه
أعطشني الناس بعد أن «رويوا»
من مستهل الوفاء منسكبه
جفوا كما جفت الحياة فما
أعرف من عودهم سوى حطبه
ما لي وما للزمان وا عجبي
وا عجب أن يكف عن عجبه
غاض غدير الوفاء في زمن
فاض بما لا يجف من نوبه
ما جو هذا الزمان من أربي
رجال هذا الزمان أخلق به
أصحب من لا أود صحبته
ومن أذوق البعاد في قربه
لم يبق عندي من الرجاء سوى ال
قنوط من برقه ومن صببه
وزفرة تحطم الضلوع لها
على زمان عريت من قشبه
وحسرة إثر غلمة ذهبوا
عني فلج الزمان في حربه
يسرع دمعي إذا ذكرتهم
إسراع فيض الغمام في صببه
أما فتى صادق الهوى كأخي «شكري» يرد الزمان عن نوبه
أوثق من تصطفي وأكرم من
تأخذ من عقله ومن أدبه
خلائق سهلة موطأة
كالبارد العذب غب منسكبه
كم مجلس الوداد ثالثنا
والراح تجلى كالحق من حجبه
ذاك قريبي وليس من رحمي
وهو نسيبي ولست من نسبه
إن ضرب الدهر بيننا فلقد
لف كما كان قبل شملي به
حلم اليقظة
الحياة حلم
وسم الربيع الأرض فهي كأختها
قبل العيون وأختها كالتوأم
بأبي جلال راعني فنشدته
وأصبت معنى فيه يخطئه العمي
فطفقت أرمق وردة فتانة
ضحك الندى في ثغرها المتكمم
فرأيت أني ناظر حسانة
يقظى اللحاظ جليلة المتوسم
رفعت يدا فإذا الغصون كواعب
يرشقنني بنواظر المتهكم
وإذا بساط الروض لج زاخر
لله روعة موجه المتحطم
وكأنما الورق النضير حمائم
كخواطر طافت برأس مهوم
ووجدت صوتا مثل أنفاس الصبا
عذب الورود كأنه من مغرم
صوت من البحر العميق كأنه
همس النسيم أو الحيا المترنم
عجبا لمعنى في مطاوي لفظه
يذر الخلي رهين شجو مضرم
يا من تأوبه الهموم حياته
والهول يغشى كل كهف مظلم
قد طال ما قطبت وجهك للدنا
حتى نسيت بشاشة المتبسم
لا تحسب الزمن النضير براجع
إن السعادة فذة لم تتئم
هل كنت دهرك غير طيف حائر
أو كان عيشك غير حلم مبهم
ولهذه الآن التي تزهى بها
من طيبها حلم بحلم أدوم •••
ولى الظلام وأجفلت أحلامه
فرجعت أرمق غضة المتنسم
فإذا مكان الطل دود فاتك
يا للحياة من الأذى المتحتم
الكتمان
يا وردة عرفها جزيل
وبث عشاقها طويل
يستوقد الصدر مجتلاها
والنفس يهتاجها الجميل
آه على حسنها وآه
لو ينفع الواجد الغليل
وكيف يجدي الإعجاب صبا
واليأس في قلبه دخيل
لكن حرام على عيون
تشهد حسنا ولا تميل
ألم يخبرك يا حبيبي
تهضم الوجه والنحول
بأنني عاشق كتوم
يبطن غير الذي يقول
أم تبتغي أن يضيق ذرعي
فيشتكي قلبي الحمول
وليس بدعا إن استجار ال
طعين واستوصف العليل
لكن في مقولي إباء
والناس أخلاقهم شكول
لم يخلق الله «في» لغير ال
زفير فليفرح العذول
النظر
غض عني بالله طرفك إني
ليس لي طاقة بسحر فتوره
كيف لي أن أقص أمري إذا أن
ت عقلت اللسان عن تحريره
والقوافي إلى الشرود سريعا
ت وللنظم ناثر من مثيره
وقليل أن أكبرتك القوافي
يا جميلا بحورها من مطيره
إن للبدر دولة يخضع البح
ر ويعنو لحكمها في أموره
ما عسى طاقة الجليد على الشم
س إذا مسه اللظى بسعيره
إلى صديق
وهي أبيات قافيتها غربية
لا تزر إن قضيت قبري ولا تبك
عليه كسائر الأصحاب
خل عنك الوفاء واسمع لداعي ال
غدر فينا فلات حين وفاء
وقبيح أن تسحب الذيل مختا
لا وتمشي على رقاب الصحاب
مزعجا بالسلام روح كريم
أنت غيبته بجوف العراء
قضت منكم الليالي هوانا
ونفضنا أكفنا من غرامك
فدع السحب تسحب الذيل فينا
وتروي ثراي وامض لشانك
الخمر والحب
لا تذرها فإنني غير صاح
رب راح شربت من غير راح
كم صريع لم يرشف الكأس يوما
صرعته كأس الهوى السفاح
فأجزها عن مغرم مستهام
تبلت قلبه عيون الملاح
ما صدفنا عن ودها علم الله
ولسنا لهجرها في ارتياح
غير أني لثمت ثغر مليح
أين منه مراشف الأقداح
ذا كذوب النضار والتبر لكن
ذاك أروى لغلة الملتاح
وصية
كفنوني إن مت في ورق الزه
ر ورشوا ثراي بالصهباء
واذكروني والوجه منطلق البش
ر كأني ما زلت في الأحياء
وإذا ما أديرت الكأس يوما
فاشربوا لي من صرف ما في الإناء
إنما يهرب الرجال من الذك
ر لما قد يثير في الأحشاء
الخمر والحب
طاف بالراح علينا
واضح سبط القوام
فسقانا من سلاف
وسقانا من غرام
وتمشى الحب قبل ال
خمر مشيا في العظام
فشفى منا سقاما
ورمانا بسقام
إلى عاتب
ما أضعت الهوى ولا خنتك الغي
ب وحاشا لمثلنا أن يخونا
حاربتني الأقدار فأعتب عليها
ودهتني وما وجدت معينا
ما حمدنا ما كان قبل ذميما
أو رضينا ما كان لا يرضينا
ليس برح الهموم ما رحت تبدي
ه ولكن ما بات فيك دفينا
الإسكندرية
لي نفس موصولة بك ما عش
ت وكالنجم أنت مني بعدا
هل تعيد الأيام فيك ليال
ي وعيشا قضيته كان رغدا
بين نور الربيع والنرجس الغ
ض وبحر يروع جزرا ومدا
ومدام لم نقذها بمزاج
ونديم يسبيك لعبا وجدا
ما حننا إلا إليها ولا ها
ج سواها لنا ادكارا ووجدا
إن تعد أغتفر لدهري ما فا
ت وإلا فقد ترى الحر جلدا
حلم اليقظة
الحروب
سيل همومي قد طغى عبابا
وجن حتى ملأ الشعابا
يا ليتني لو تدفع المصابا
ليت وتحلى الصبر المذابا
أدري لداء منهكي طبابا
يبلد الإحساس والألبابا
يفل حد الخطب إن أصابا
ويذهب الأشجان والأوصابا •••
إني سمعت في الدجى اصطخابا
كأن في إهابه ذئابا
سيمت أذى فطلبت وثابا
مستهولا ينتزع الصوابا
يهتك من فؤادك الحجابا
مثل الصدى قد عمر الخرابا
كأن حولي رمما أسلابا
تفصل في مسامعي خطابا
وخلت أني ناظر شبابا
تخالهم على الثرى ثيابا
بيضا وطورا تجتلي ضبابا
منهم يغطي الأفق والرحابا
ويحجب الأطواد والسحابا
تنكره إذا بدا أو غابا
فقمت أسعى نحوهم مرتابا
منجفلا ومرة وثابا
يا ليتني لم أبتغ اقترابا
وليتني جانبتهم جنابا
أي قضاء قد مضى غلابا
وأي خطب قد رمى فصابا
وبز هذي الأنفس الصعابا
أرواحها وأولغ الذئابا
في دمعها ووسد الترابا
خدودها النواضر الرطابا
وبذر الرءوس والرقابا
ونثل الكبود والعيابا
وفرق الخلان والأحبابا
وجمع الوحوش والعقابا
يا ويح أيد جنت المصابا
وهاجت السيوف والحرابا
وتخذت من الردى أسبابا
يا ممطرا على الورى عذابا
وراعيا جماجما صلابا
ومجريا دماءها عبابا
وظالما لا يتقي حسابا
أجلك يبكي الحضر الغيابا
وتألف الوجوه الاكتئابا
وتركب الأرامل الصعابا
وتحمل الكواهل الهضابا
ليت الذي سن لنا القرضابا
يسمع لو يستطيع ذا الخطابا
من ذاهب لا يرتجي إيابا
وسائل لا يحفل الجوابا
يلبس من دمائه جلبابا
متخذا جراحه أكوابا
بكرهه ودمه شرابا
يا ملكا أجبت إذ أهابا
خال الدماء ذهبا مذابا
فساقنا إلى الردى أغصابا
أجر وليدي واحتقب ثوابا
وكن معينا لأب قد شابا
يبكي ويستبكي لي السحابا
وزوجة ألبستها المصابا
تسفي على واضحها الترابا
لا تجعلن ظلم العباد دابا
بل أنت لا تسمع لي خطابا
هل يرحم الضعيف والمصابا
ملك يرى الرحمة فيه عابا
أدعو الذي إن أدعه أجابا
ثم ارتمى وافترش الصحابا
مناجاة الهاجر
غذائي الحب يا من فيه حرمان
مني له أبدا ما عشت نشدان
وهل غذائي إلا أن أراك وأن
يمر بالسمع لفظ منك فتان
وما أقل الذي أبغي وأيسره
لو كنت تنصف إن الحق عريان
ذنبي إليك هوى ينفك يعلنه
شعري وإحسانكم صد وحرمان
يا ليت أن ذنوب الناس قاطبة
شعر عفيف وأشواق وتحتان
عجبت ممن براه الحب كيف غدا
يقلى الهوى والهوى والحسن أخدان
لأي أمر طويت الكشح عن رجل
عف الأديم لفضل فيه برهان
أخفت أن تأخذ العينان منقصة
في حسنك الغض والإنسان إنسان
فقلت أعشى مآقيه بأدمعها
حتى أبيت وكل النقص رجحان
كذلك الشمس يعشى طرفها أبدا
والكون جهم ووجه الجو غيمان
كلا لعمري لقد جلت محاسنه
عن أن يكون بها عيب ونقصان
أرق من دمعة التوديع طلعته
وقد تحمل للتوديع خلصان
وما ابتسامة ولهانين لفهما
بعد النوى وانصداع الشمل لقيان
يوما بأعذب من حسن تسربله
عليه منه على الأيام ريعان
عبدت فيه إلها كنت أكفره
دهرا فأعقب نكرانيه عرفان
هذا نبي ولم يبعث وليس له
إلا الجمال وآي الحسن قرآن
آمنت بالعين عن طوع وفي سعة
وآمنت من نفوس الناس آذان
لو أنه كان في وسعي ومقدرتي
أن ترسم اللحظ ألفاظ لها شان
وأن أصور في القرطاس فتنته
لقالت الناس هذا منك بهتان
سحر لعمرك لم يمنحه من أحد
إلا الملائك لا إنس ولا جان
وشاعر لبق التصوير يحكمه
أحكامه وخيال الفحل معوان
يكسوه من شعره ثوبا يخلده
وليس يبلي جديد الشعر أزمان
فما يعطل شيء من محاسنه
إلا غدا وهو بالأشعار حليان
ورب مسود سطر أنت تحقره
تألق الحسن فيه فهو ضحيان
وعاش فيه جمال طاح لابسه
وماس فيه ورب الحسن ذبلان
والشعر حصن عزيز ليس تقهره
هذي الليالي وغير الشعر وهنان
كم قلت لما رأيت الدهر أيديه
مطاعنات وللأيام تطعان
مقوضات حصونا وهي من ضرع
لها على ذلة التقويض إذعان
يذوي تعاقبها الغصن الرطيب ولا
يبقى على الغصن أن الغصن فينان
وجائع اليم لا ينفك من سغب
له على الأرض عدوان وطغيان
كلاهما أبدا ربح لصاحبه
لا غنم فيه وبعض الربيح خسران
يا ليت شعري ألا شيء نصون به
هذا الجمال فلا يعروه نقصان
أما يثقل هذا الدهر أرجله
أليس في الدهر إرواد وإمعان
وكيف نصرف عنه لحظ طالبه؟
أنى ونائم هذا الدهر يقظان؟!
وهل تغالب هوج الريح رجسة
ما إن لها غير فرط الحسن إمكان
إلا تكن هذه الأشعار خالدة
فلن يدوم لهذا الحسن ريعان
يبلى مع الحسن عشق العاشقيه ولا
يبلى جمال فتى بالشعر يزدان
لا بد من هرم للمرء غير فتى
يصونه الشعر إن الشعر صوان
وإنما الناس كالأمواج بعضهم
في بعضهم غائب والعيش ميدان
إذا الفتى ائتلفت ألوان رونقه
وراح وهو بماء الحسن ريان
عدت على حسنه الأيام فاختلفت
بعد التناسب أصباغ وألوان
ما يسمن الدهر إنسانا ليشبعه
لكن يعجفه والدهر سغبان
وكل ما تزرع الأيام تحصده
وللجمال كما للزرع إبان
أظافر الذئب أحرى أن يقلمها
لو كان في الدهر إنصاف وعرفان
لكن شعري برغم الدهر يكلؤه
وهل لذي الحسن غير الشعر أكنان
ما ضر ذا الحسن أن الحسن عارية
تبقى له الروح إما رث جثمان
كالورد إما ذوت يوما غلائله
ذكى فصار به عنهن غنيان •••
أراه في الزهر مخضلا وأسمعه
في هادل الطير هاجتهن أشجان
وأجتلي نفسه في الماء حف به
على الجوانب ريحان وحوذان
لكنني كسجين مرهق تعب
تسك مسمعه في السجن ألحان
تضيئه الشمس من قضبان محبسه
ودون أن يجتليها الدهر قضبان
يا ليت شعري وهل في ليت من فرج
من أزم ما أنا عان منه أسوان
ماذا أراد بنا حتى نأى ودنا
طيف يخادع طرفي وهو وسنان
إخال أني إذا استوحشت آنسني
على النوى منه أشباه وأقران
يبدي ودادي ويحمي العين رؤيته
لو كان ينصف ساوى ساوى ذاك ميزان
عجبت من مائل عنا وإن لنا
شعرا كما سجعت في الروض مرنان
لكل روض نضير طائر غرد
كذاك نحن حمامات وبستان
أما يرى غايتي في الشعر واحدة
وإن تباين أوزان وأوزان
فما أحوك على الأيام قافية
إلا وفيها على حبيه عنوان
أكسو قديمي أفوافا تجدده
وبعض ما تكتسي الأشعار أكفان
كالشمس غاربة طورا وطالعة
عودا لبدء وما للشمس إيهان
مسبحا باسمه في كل آونة
كما يسبح باسم الله رهبان
كأن ذكريه آيات أرتلها
كما يرتل إنجيل وفرقان
لي من ملاحته وحي يساعفني
إذا أعان على الأشعار شيطان
قليل ذكريه في شعري يزينه
كأنما ذكره در ومرجان
أراك تجرحني باللفظ تبعثه
يا ليتني جرحتني منك أجفان
قتلت بعضي فأتمم ما بدأت به
فالقتل إما استحال البرء إحسان
وكن كما أنت قاس كيسا فطنا
فللجفاء كما للرفق أحيان
أذقتني النار في الدنيا فأحر بأن
يذيقني منك طعم الخلد رضوان
آمنت بالحب فاجز المؤمنين كما
يجزي على طاعة المخلوق ديان
ضننت باسمك حتى لا تدنسه
أفواه ذي الناس إن الناس ديدان
من ذا كرهت فلم أنبذ مودته
حتى كأن لم يكن ود وتحتان
أما تراني إذا هاجرت من غضب
يقتص مني لكم وجد وأشجان
إني أعيذك من ظلمي وأنت فتى
يحميه أن يفعل الأسواء وجدان
لا تحسب البعد يسيليني فتهجرني
فليس في البعد للمشغوف سلوان
هل ينفع الصبر ملتاحا تدافعه
عن الورود فيروى وهو غلان
ما لذة القلب خلوا من دخيل هوى
ما الليل إن لم يكن بالصبح إيقان
هل تمرع الأرض لم تنسج مناسجها
فيها سوار لها سح وتهتان
ما لي بغير الهوى في العيش من أرب
ولا بقلبي أحقاد وأضغان
محا الهوى من فؤادي كل مقلية
فاعجب لقلب خلي وهو ملآن
كأنما ليس في الدنيا سواه فتى
أحبه وكأن الناس ما كانوا
أنساني الحب ما قد كنت أحمله
على الليالي فلي بالذكر نسيان
فعدت أطلب أن أحيا له أبدا
وكان للموت منى مني الدهر نشدان
أحيا وأزهق آمالا شقيت بها
فالحال واحدة والطعم ألوان •••
يا ليت لي والأماني إن تكن خدعا
لكنهن على الأشجان أعوان
غارا على جبل تجري الرياح به
حيرى يزافرها حيران لهفان
والبحر مصطفق الأمواج تحسبه
يهيجه طرب مثلي وأشجان
إذا تلفت في خضرائه اعتلجت
آذيه فلسري منه إعلان
خل القصور لخالي الذرع يسكنها
وخير ما سكن المعمود غيران
حسبي إذا استوحشت نفسي لبعدكم
بالبحر أنس وبالأرواح جيران
لا كالرياح سمير حين ثورتها
إذا ما لأسرارها في الصدر إجنان
تفضي إليك بنجواها زمازمها
نم الصباح بما يطويه أدجان
إذا الفتى كان ذا شجو يميد به
معذبا بالمنى من معشر خانوا
فنعم مسكنه غار له أبدا
من السحاب قلادات وتيجان
ونعم أقرانه بحر له زجل
وساقيات لها سجع وإرنان
وما أبالي وقد أصبحت مطرحا
إذا خلت لي من الإنسان أوطان
ما بي إلى الناس أطراب فأفقدهم
إذا اعتزلت وهل للداء فقدان
بيني وبين الورى بون فأحج بأن
يكون بيني وبين الناس وديان
إني شغلت بمعراض أخى ملل
فلست أدري أفوق الأرض سكان
سيان عندي إذا ما ازور عن نظرى
وأظلم الجو؛ إنسان وعيران
وما علي وليس الناس من أربي
إن قطعت بيننا بيد وغدران
هيهات آنس بالإنسان ثانية
من يألف الكأس يألم وهو صديان
خل الرياح تناجيني وتعزف لي
فللرياح كما للناس ألحان
إن يستخف بما ألقى أخو عنف
لا رفق فيه فإن البحر حنان
تسليك منه وإن أشجتك روعته
وقد تسري من الأشجان أشجان
والبحر للنفس مرآة ترى صورا
منها بها ولعجم الموج تبيان
يا حبذا الغار والأرواح نائحة
والبحر مصطخب والليل طخيان
ومرحبا بهموم لا ارتحال لها
وجون ليل له كالهم إيطان
وأنت بين أبابيل مغردة
كأنهن على الأغصان قنوان
حمائم في نواحي الروض هادلة
وأقحوان على الحافات نعسان
ونرجس كاسف والعين ضاحكة
يا حبذا نرجس لهفان جذلان
والماء كالفضة البيضاء سائلة
طورا وطورا تراه وهو عقيان
بمعزل عن هموم أنت موقدها
أرعى وأنت على الأيام غفلان
لك الرياض عليها الدهر أوشية
خضر يضاحك فيها الورد ريحان
إن شئت حياك فيها النور مبتسما
أو شئت ألهاك مسجاع ومرنان
أو شئت في ظل أغصان موسوسة
تنأى وتدنو كما يختال نشوان
جريت في حلبة السراء منتصفا
من الزمان كمن ضرته أزمان
ولي الجبال عرايا غير كاسية
والبحر والريح سمار وندمان
إن فاتني من ذكي الورد نفحته
فلي بذكرك ريحان وسوسان
وإنما حبب الأجبال أنكم
كنتم تحبونها والوصل فينان
هل أنس ليلتنا والغيث منسكب
وللبروق بقلب السحب أثخان
وقوله لي من لي أن تظللني
من السحاب على الأطواد غيران
ريح تهب لنا من كل ناحية
وديمة كحلها نور ونيران
يلفنا الليل في طيات حندسه
كما يغيب سر المرء كتمان
نكاد نلمس بالأيدي السماء ونج
تلي بها الرعد يطغى وهو غضبان
وللصدى حولنا حال مروعة
كأنما تسكن الغيران جنان
لكل صوت صدى من كل منعطف
كما تجاوب عساس وأعيان
يطير كل صدى عن كل شاهقة
كما تطير عن العقبان عقبان
تبدو لأعيننا البلدان كالحة
كالوجه غضنه سن وحدثان •••
حاشا لمثلي أن ينسى وإن بعدت
مسافة الذكر إن الذكر ديدان
هيهات ما تطفئ الأيام حر جوى
وقد يسعر نار الذكر هجران
كالنهر عمق مجراه تحدره
والنار ألعجها ريح وعيدان
لنا بما قد مضى عن غيره شغل
كأنما عطل الأفلاك خطبان
وصرت لا أنا من ضراء مبتئس
يوما ولا أنا بالسراء فرحان
أعطيتك العهد أن أحيا لكم أبدا
فهل ترى أنني للعهد خوان
ما لي سوى طيف أيامي التي غبرت
خدن إذا شئت وافى وهو مذعان
كأنني حين أدعوه وأنشره
عيسى بن مريم يحيى معشرا حانوا
هذا نديمي أناجيه ويترع لي
كئوس ذكر لمن لي منه نسيان
كم ليلة بات يحييها معي سهرا
يا حبذا هو سمير وملسان
يطوف بى بين أطلالي ويطرفني
فيها بأيامنا والعيش زهران •••
عاد الربيع فهل في ظل بردته
ألفى مقيلا لقلبي وهو حران
واخضرت الأرض واستحيا الموات فهل
يخضر لي بربيع الوصل موتان
حتى الطيور لضم الله ألفتها
فهل لنا بعد طول النأي لقيان
وهل أقول له والسن ضاحكة
والعين باكية والقلب هيمان
يا مرحبا بربيعي جنة وهوى
وحبذا من شهور الحول نيسان
قد كانت السحب تبكي عند فرقتنا
فالآن تبسم للقيان قيعان
وكان يؤنسني ريح مزفزفة
فالآن لي بالنسيم الغض قنعان
أرمي بظني وأخلق أن يطيش وفي
عيني ضباب وفي الآفاق إدجان
طامن رجاءك لا الآمال نافعة
يوما ولا لربيع الحب غشيان
وقل لمسود يأس كنت تألفه
عمر الزمان لنحن العمر إخوان
إنا عشيرا مصافاة مصفقة
وقد وشجت بيننا قرى قربي وألبان
لو أن ما بيننا رثت مرائره
لكان خيرا وبعض الغوث خذلان
لكنني سأرد النفس مكرهة
على الذي تتقي والله معوان
يا يأس فاجعل بساط الروض مرقدنا
والسرو كلتنا فالسرو محزان
واجعل ذراعي إما نمت أوسدة
واعذر إذا لام فقر الحر ضيفان «إلا يكن وجد حر ملء همته
فقد يمد وعاء وهو نصفان»
يا من به اصفر لون العيش وانفصمت
عرى الرجاء ودكت منه أحصان
ومن توسط مجلى الأفق فاحتجبت
به البدور وضلت ثم شهبان
ومن أسالمه والنفس عالمة
بأنه حربها إن طاش حسبان
ومن بكرهي جعلت القلب مسكنه
كما تواري نصال البيض غمدان
إني لأهوى على ذا أن تلابسني
عسى تبرد قلبي وهو هيمان
عسى إذا ما تلابسنا تغيبني
بعض الظلال لها في البعض إجنان
عسى ترنق في قلبي فتقصده
فطالما نام جفني وهو سهران
إني اجتويت مذاق العيش وانتفخت
مساحري منه إن العيش ذيفان
وحن قلبي إلى نوم تخادعني
أضغاث أحلامه والليل نعسان
حتى إخال بأني في بلهنية
وأن عيني لم يدمع لها شان
وأنني لست من ليعت جوانحه
وبات فيها من الأشجان جولان
حتى إذا دب بعد النوم صاحبه
فالجفن من سكرات الموت سكران
وشارف الحين واستروحت نشقته
والعين شاخصة والوجه بردان
وكل ذهني حتى ما يحركه
شيء وأعيا لساني وهو سحبان
والتف حولي خلاني وآصرتي
وكلهم شرق بالدمع غصان
مصغين حتى كأن الموت يخطبهم
فالكل حولي آذان وأعيان
طورا وطورا يهي بالخطب صبرهم
فيعولون كأن القوم غيلان
وأضمرتني أرض لست أعذرها
إن عاودتني تحت الترب أديان
وغيبوني بملحود ينادمني
به من السحب هطال وهتان
نضوت عني هموما كنت ألبسها
مع الحياة فلي بالموت سلوان
واستروح القلب من شوق يلدده
ومن دموع لها في العين عينان
في ظلمة القبر للثاوي به فرج
وفي التراب توافي الهم أحيان
من لم تسع نفسه الدنيا بما رحبت
فلن تضيق بها في القبر أعطان
دين علي سأقضيه إلى زمن
في دينه لي تسويف وليان
يا ليت شعري إذا بوئت في جدثي
هل يرهق القلب ضرا منه عدوان
لسوف أسخر منه وهو يطلبني
ودون ذلك صفاح وكثبان •••
ما كان ذلك ظني بالحياة ولا
قدرت أن تجلب الآفات أذهان
ولا تخيلت أن الناس كلهم
في السر والجهر غيلان وذؤبان
ولا توهمت أن الكون واحر بي
حلم يراه من الأرباب سكران
وأنني موجة في زاخر لجب
من الورى ما له كالبحر شطآن
بحر كما شاءت الأقدار مصطخب
أصم ليس له باللين إيذان
ما كنت آمل أن أحيا بمنتزح
عن الهموم وهل عنهن حيدان
أعددت للدهر درعا كنت أحسبها
متينة فإذا بالدرع كتان
وكنت أنظر في قلبي وأحسب في
بطنانه لقلوب الناس ظهران
فشد ما موهت نفسي وجوههم
حتى تشابه عقيان وصيدان
وأنما النفس مرآة إذا كرمت
فكل ما تبصر العينان حسان •••
بين الرجاء وبين اليأس يا أسفي
عليك يا قلب أنت الدهر حيران
لا بل علي وصدري موكن خرع
كبرت يا طير عنه فهو تعبان
إني وإن أطلقت نفسي معتقة
حينا وسرى من الأشجان إخوان
ففي فؤادي ظلام لا يزحزحه
فجر يزوره كأس وخلان
هيهات يؤنسني قوم نكرتهم
لا هم عداة ولا صحب وخلصان
تضمنا صدف قد كنت أحمدها
لو فرقتنا وبعض المنع إحسان
مخاوف القلب شتى غير واحدة
كأنما ما لها إلاه إيوان
حتى السحاب وحتى الريح تفزعني
والنبت أن مرحت منه أغيصان
قسا علي رفيق القلب لينه
فكل شيء تراه العين صوان
رفقا بنا إننا طيف سيخلجنا
عنكم وإن طالت الأيام موتان
ما طال عمري ولكن طال ما حملت
نفسي فسني وإن لم تعل أسنان
كأنني عشت أدهارا وأزمنة
ولم أعش غير أيام لها شان
وأكبر الظن أن الحين يعجلني
فإن مر الرياح الهوج عجلان
طول البقاء لكم إنا على سفر
يريغنا آكل للناس مبطان
أصاب حبك منا شبعه أبدا
وسوف تأكل ما أ بقاه ديدان
أعزز علينا بأن يشجيك مصرعنا
وأن تروح بجفن وهو عبران
قد كنت أشفق حيا إن يصيبكم
سوء وأحذر أن يهمي لكم شان
العتاب
خليلي ما يغني العتاب إذا انطوى
على البغض قلب كالزمان حئول
إذا لم يكن صدقي الوداد بنافعي
فكل مقالات العتاب فضول
الملل من الحياة
أكلما عشت يوما
أحسست أني مته
وكلما خلت أني
وجدت خلصا فقدته
لا أعرف الأمن عمري
كأنني قد رزئته
ما تأخذ العين إلا
ما ملني ومللته
كأن عيني مدلو
لة على ما كرهته
تضيئني الشمس لكن
لأجتلي ما أجمته
ثوب الحياة بغيض
يا ليتني ما لبسته
الخاتمة
إلى صديق
دعني خليلي إذا استوفيت أيامي
وقر ثائر أشجاني وآلامي
وصرت لا الصيف يؤذيني بوقدته
ولا الشتاء بتوكاف وإرزام
ولا يحركني بغض ولا مقة
ولا تريق همومي دمع أقلامي
ولا يسهدني ضيم يراد بنا
ولا أبالي بأرزاق وأقسام
أحيا بقلبك إن ضاق الزمان بنا
وطأطأ الموت من إشراف أحلامي
وإن تقدمني في الشعر قالته
وفاتني كل عنان وأمام
فاحفظ قصيدهم من أجل جودته
واحفظ قصيدي لحبي لا لأحكامي
الجزء الثانى
سبق طبع هذا الجزء في حياة الشاعر - رحمه الله - وهو مشروح بقلمه.
الإهداء
ذهني محراب حسنكم وبه
صورتكم دون سائر البشر
وخاطري لا يني يرتل كال
راهب آيات حسنك العطر
لأبتين مذبحا وأجعل قر
باني فؤادي وما انقضى وطري
إذا خبت ناره وقصت لها
عود المنى فهو غير ذي ثمر
فاقبل فؤادي لحسن وجهك قر
بانا فقد كان خير مدخري
إبراهيم عبد القادر المازني
المقدمة
بقلم صاحب الديوان
الشعر في أصله فن ذاتي يحاول الشاعر أن يرضي نفسه به، ويتعلل ويتلهى، إلا أن هذه الحال التي ليس للشعر فيها إلا غرض ذاتي، ولا غاية إلا الترفيه عن أعصاب الشاعر وإراحته من ثقل الفكرة التي تتحول إلى عاطفة؛ هذه الحال لا وجود لها إلا في العصور الأولى من تاريخ الإنسان، أيام كان يأوي إلى الكهوف والغيران، وينقش على جدرانها صور الحيوان الماثلة في الذهن المتشبثة بأهداب الذاكرة والوجدان؛ أولئك المستوحشون الذين كانوا يزينون كهوفهم بصور الحيوان والأعداء والنساء، ويوقظون الصدى في مخارم الجبال ومنعطفات الأودية بأنغامهم الشاكية الهافية، ويطفئون وقدة الوجد بالرقص في ليالي الربيع على ضوء القمر، ويترجمون عن إحساسهم بظواهر الكون في أغانيهم وأساطيرهم، هؤلاء هم أول - وآخر - من عالج فنا لذاته.
ثم لم يلبث الشاعر أن أحس فرق ما بينه وبين سائر الناس، وأدرك أن إحساساته أدق، وأداءه عنها أبلغ وأوقع، وأنه في الجملة أبعد منهم مرمى، وأرفع مصعدا، وأرقى قدرا، وأن له شأنا غير شأنهم، وأنهم يلتذون كلامه ويشجعونه على إمتاعهم بمثله، ويزفون إليه ثناء لا يلبث أن يصير إعجابا، وخليق أن تحدث هذه الحال الجديدة الناشئة عن شعوره الجديد تطورا في أغراضه وبواعثه، فيصبح ما كان ضرورة جسمية ذاتية - كالطعام - فنا عمليا يزاول ويعالج، ويتعهد بالتهذيب والتنقيح والتجويد، ويصبح ما كان في أصله وحيا لا حيلة له فيه عادة وأسلوبا؛ وسرعان ما يصبح الشاعر يقلد نفسه!
فإذا كرت الأيام، ودار الزمن، وجاء وقت التفكير الهادئ، والعمل المرتب المنظم ذكر الشاعر ساعة تملكته حمى الوحي والإلهام، ودفعته قسرا في طريق الأدب، وإن غريزته ما زالت تلهمه وتوحي إليه، ولكن عمله في الواقع قد صار صناعة تقسره عليها الإرادة الذكية، والرغبة الملتهبة، وما زال يطلب إرضاء نفسه وهو يعالج عمله، ويبغي الترفيه عنها من ضغط عواطفه، ولكنه قد أصبح طماح المعين كثير المراغب يفكر في جمهور قرائه وعشاقه، ويحلم بما يمني به نفسه من النجاح.
وواضح من ذلك أن الشعر كان يعالج لذاته ، أو بعبارة أخرى: ليريح المرء نفسه من ثقل الحاجات الجسمية، ثم صار الشاعر يطلب أن يرضي غيره فضلا عن نفسه، وامتزجت فكرة النجاح والتأثير بعواطفه المنتجة، ولكن الشعر الذي يقع من قلوب الناس ويبتعثهم لا يمكن أن يكون تقليديا مكذوبا؛ فإن القلب لا يخطئ في التمييز بين الشعر الكاذب والشاعر الصادق، وللنفوس معايير حساسة لا يجوز عليها التزييف والتمويه والتزوير.
بيد أني لست أنكر أنك قد تبلغ بالكذب ما لا يبلغه الصدق، وتنال بالتمويه والخديعة ما لا تنال بالحق، غير أن الأديب أكبر من ذلك وأرفع، وغايته أسمى وأبعد، وللشعراء ضمائر شاهدة غير نائمة، والحق أحق أن يستولي على هوى النفس، وينال الحظ الأوفر من ميل القلب؛ وكيف يطبيك رجل يمسك على ما في نفسه ويستر ما يناله حسه، ويفر من شخصيته، أو رجل لا ينظر بقلبه ولا يستعين بفكره ولا يستنجد فهمه، أو آخر يأبى أن يبرز معانيه من ضميره، وأن تدين لتبيينه وتصويره، وأن ترى سافرة بغير نقاب، بادية دون حجاب؟
لقد طال استخفاف المتأدبين بضرورة الصدق والإخلاص حتى استخف بهم الناس، واشتد غلوهم في إنكار مكان الحاجة إليهما، حتى أنكرنا عليهم ما تكلفوه من فضول القول ونفاية الكلام، وما تجشموه من ضروب الأغراب الذي لا يغني من الأدب شيئا، وأنواع المعاياة التي لا تعود بطائل، ولا ترجع بفائدة؛ ولعمري لست أعرف شيئا هو أحلى جنى وأعذب وردا من الشعر إذا صدقنا أهله المقال، وترفعوا عن التقليد الذي لا حاجة بنا إليه ولا ضرورة تحملنا عليه، وتنزهوا عن مجاراة الناس ومشايعة العامة وتوخي مرضاتهم؛ فإن لنا أعينا كأسلافنا وقوة حاسة كقواهم، ومادة الشعر لا تفنى ولا تذهب؛ لأنه ليس شيئا محدودا معلوما.
ولكنه صوب العقول إذا انجلت سحائب منه أعقبت بسحائب.
وما الشعر إلا معان لا يزال الإنسان ينشئها في نفسه، ويصرفها في فكره، ويناجي بها قلبه، ويراجع فيها عقله، والمعاني لها في كل ساعة تجديد، وفي كل لحظة تردد وتوليد، والكلام يفتح بعضه بعضا، وكلما اتسع الناس في الدنيا اتسعت المعاني كذلك، والصدق في الترجمة عن النفس والكشف عن دخيلتها أبلغ في التأثير وأنجح، والأصل في الشعر وسائر الفنون الأدبية على اختلافها وتباين مراميها وغاياتها، النظر بمعناه الشامل المحيط، وإذا كان هذا كذلك أفليس من العبث تقليد السلف والاقتصار على احتذائهم والاقتياس بهم، فإن وصفوا النياق والحمير وصفنا القاطرة والعربات؟ ألا ترى أن العرب الذين وصفوا النياق والحمير والخيول وأشباهها قد أضاعوا أعمارهم؟ لا ريب أن وصفهم ذلك طبيعي، ولكن هذه اللفظة غامضة كل الغموض؛ فإن الحمير طبيعية، والعواطف والانفعالات النفسية طبيعية، بيد أنه لا يجوز الخلط بينها؛ لأنها جميعا مختلفات، والحقائق الطبيعية فيها الضئيل والعظيم والحقير والجليل، وفيها ما هو أخشن من أن يحتمله نسج الشعر الرقيق، وهناك حقائق يخطئها الإحصاء عدا النياق والحمير، وللحياة غايات وآمال أكبر مما يشغل النظر، ويستغرقه من ذاك. وقد يدل وصفها على براعة وإبداع، ولكنه حقيق أن يدل على عجز عن التفطن للحقائق الفنية الجليلة التي ينبغي أن تكون العناية بها أشد من العناية بالحمير والنياق.
إن الشعر ديوان يقيد فيه أهل العقول الراجحة ما يجيش في خواطرهم في أسعد الساعات، وهو الذي ينقذ من الفناء والعدم خواطر الإلهام، وهو يحلق بالمرء فوق الحياة، ويرغمه أن يحس ما يرى وأن يرى ما يحس، وأن يتخيل ما يعلم وأن يعلم ما يتخيل، وهو يجعل القبح جمالا ويزيد الجمال نضرة وجلالا، ويفجر في النفس ينابيع الأمن والفزع والسرور والألم، ويذهب مياه الموت المسمومة المتدفقة في عروق الحياة، فلا جرم كان الشاعر أحس الناس، وأعمقهم حكمة وأجمعهم لخلال الخير وخصال الفضل، نقول الفضيلة والخير ولا نخشى أن يهز القراء رءوسهم إنكارا؛ فإن الشعر أساسه صحة الإدراك الأخلاقي والأدبي، ولست بواجد شعرا إلا وفي مطاويه مبدأ أخلاقي أدبي صحيح، وعلى قدر نصيب الشاعر من صحة هذا الإدراك الأدبي تكون قيمة شعره.
ولا يتعجل القارئ فيحسب أنا نقصد إلى إظهار الإحساس الديني في الشعر، فليس كلامنا على مادة الشعر، بل على مصادره وينابيعه، ولا ينبغي كذلك أن يستخلص أن الشاعر يجب أن يكون صاحب مبدأ عملي لا يتحول عنه، فقد كان بيرنز الشاعر الإنجليزي، وأبو نواس، وامرؤ القيس متقلبي وجوه الحياة ومظاهرها، ولكن نصيبهم مع ذلك من صحة الإدراك الأخلاقي والأدبي عظيم.
ولئن كان لهم معايب نؤاخذهم بها فقد أحالها الزمن هباء لا قيمة له ولا وزن، وأنت خليق أن تنظر إلى ما وراء ذلك، فإن أبا نواس أصح مبادئ وأنقى ضميرا من البحتري على كثرة ما تقرؤه للأول مما يروع ويخجل، وكذلك امرؤ القيس أفطن إلى معاني الفضيلة وأعظم رجولة من أبي تمام وابن المعتز، ولم يكن الأعشى على حبه الخمر واستهتاره بها وتخلعه فيها بالرجل الناضب الفضيلة.
وكأني بهذه المعايب والمظاهر الخادعة من لوازم الحياة، والشر بعد لا ينفي الخير، بل قد ينتج هذا ذاك، فإن مما لا شبهة فيه ولا ريب، أن النفس الإنسانية ليست كخزانة الكتب ترى فيها الفضائل والرذائل مرصوفة مرتبة لا تعدو واحدة مكانها ولا تتجاوزه إلى سواه، وإنما هي ميدان لتلاقيها وتلاحمها، وعالم صغير تتصادم فيه الغرائز والملكات، وتقتتل على الحياة والبقاء كما يحترب الناس في هذا العالم الكبير، ويتنازعون البقاء فيما بينهم، وبحر تتسرب فيه الطبائع بعضها في خلال بعض كما تتسرب الموجة في خلال الموجة وتغيب.
ولكن جمهور الناس وعامتهم لا يفقهون شيئا من ذلك، وهم إنما يقدرون الرجل بما يبدو لهم منه في فعاله أو كلامه؛ إذ كانوا لا يستطيعون أن يوفقوا بين مظاهر الشر والخير، ولا يعلمون أن السكير مثلا قد يكون أصح مبادئ ممن لا يعاقر الخمر ولا يني عن التسبيح في السر والعلانية، ولست أريد أن أدفع عمن يتنزى إلى المقابح، ويتسور إلى المعايب، وإنما أريد أن أقول: إن القارئ ينبغي أن ينظر من شعر الشاعر إلى نفسه، وأن يتلمس من معاريض كلامه ويستشف من وراء لفظه نصيبه من صحة الإدراك الأخلاقي، وأن يجعل ما يستبين له من ذلك مقياسا للشاعر لا ما يقرؤه من ذكر الخمر والتشبيب وغير ذلك.
وبعد، فإن القراء لا ريب ينتظرون منا كلمة فيما قيل عنا من انتحال معاني شعراء الغرب، والإغارة على قصائدهم وادعائها. ولقد كنا نحب أن نغضي عن هذه التهم اكتفاء بإظهار الجزء الثاني من ديواننا؛ فإنه وحده خير رد على ما رمينا به، ولكن الضجة التي قامت حول هذا الموضوع والشماتة الحقيرة التي لم يخفها قتلى المذهب العتيق، لا تجعلان السكوت من الحزامة في شيء، ولقد كان الإنصاف ألا يلام غيري إذا صح ما نسب إلي، ولكن الناس تجاوزوني إلى غيري، واتهموا سواي قياسا علي، وإن كنت لم أرم أحدا ممن نقدوا شعري بالسرقة! وهذا عنت ظاهر يريك مبلغ الناس من الفهم والعدل.
أما ما قيل إني سرقته فقصائد بعضها - وهو الأقل - مطبوع في الجزء الأول، والبعض لم يكن قد نشر بعد، ولست أدري كيف استحل الناس لأنفسهم أن يجزموا أنى إذا طبعت الجزء الثاني لا محالة منتحل هذه القصائد؟ وهي «الراعي المعبود»، و«الوردة الرسول»، و«الغزال الأعمى»، و«إكليل الشوك»، وخمسة أبيات من قصيدة «الشاعر المحتضر»، وكلها منشورة في هذا الجزء منسوبة إلى أصحابها.
أما ما اتهمنا بسرقته مما ورد في الجزء الأول من ديواننا، فقصيدة «فتى في سياق الموت» وهي ثمانية أبيات، ولقد راجعنا قصيدة الشاعر «هود» فوجدنا في قصيدتنا أبياتا ليست له، ونحن ننزل عن القصيدة كلها راضين، ونبرأ إلى الله من تعمد أخذها والإغارة عليها، وقصيدة «قبر الشعر» وهي خمسة أبيات نكلها إلى حظ أختها.
ولقد راجعنا الجزء الأول قصيدة قصيدة لنميط عنه هذا الأذى، وراجعنا دواوين الشعراء التي عندنا زهادة منا فيما عسى أن يكون قد علق بخاطرنا من شعرهم ونحن لا نعلم، فلم نعثر على شيء يجوز من أجله اتهامنا بالسرقة إلا أبيات في «رقية حسناء»، وهي ل «شلي»، والجزء الأخير من قصيدة «أماني وذكر»، وهو ل «بيرنز»، وأول هذا الجزء «يا ليت حبي وردة».
ولو أن ما أخذ علينا في الجزء الأول، وما نبهنا القراء إليه من تلقاء أنفسنا حذف، لما أنقص ذلك من قيمة شعرنا؛ فإن في ديواننا الأول نحو ألف بيت، وليس ما أخذ علينا خيرها.
ولئن كان هذا دليلا على شيء، فهو دليل على سعة الاطلاع وسرعة النسيان، وهو ما يعرفه عنا إخواننا جميعا.
هذا ولا يسعنا إلا أن نشكر لصديقنا شكري أن نبهنا إلى مآخذ شعرنا والسلام.
الراعي المعبود
هي قصة قديمة، ول «جيمس رسل لويل» قصيدة فيها، وقد نظمتها بتصرف كثير ما بين حذف وزيادة.
غشى الأرض في شباب الزمان
رائع الحسن من بني الإنسان
وجهه كالربيع روضه القط
ر وكفاه كالنسيم الواني
ما له بالطعان والحرث والزر
ع ولا السعي والدءوب يدان
يقطع العمر بالغناء فتعطو
مصغيات سوانح الغزلان
وتحط العقبان بين قمار
آمنات من وثبة العقبان
وترى الأفعوان ينصت للصو
ت وتصغى الذؤبان في الوديان
كل عين من حسنه تتلقا
ه بوبل من دمعها هتان
وله روعة تبيت لها النف
س تنزى كألسن النيران •••
زعموا أنه اصطفاه مليك
أخذت منه روعة الألحان
فهو ندمانه إذا الكأس دارت
ومغنيه والعشير الداني
وأمين على خزائنه ط
را وراعيه سيد الرعيان
نعمة أرمضت قلوب أعادي
ه وأورت حزازة الإخوان
فمضوا يسخرون منه وينحو
ن عليه بألسن الأضغان
لا رعاه الإله من باهل ك
ل يزجي الزمان بالإرنان
يرسل الصوت ضاجعا فيميد ال
سامعوه تمايد النشوان
كيف لا يحسن الغناء وقد فا
ز بعيش النوامة المبطان
مسمع معجب ولكنه الآ
ل تراءى للاغب الظمآن
عبث كله وإن سحر القل
ب بروعات حسنه الفتان •••
كلهم فيه حائر ليس يدري
أمن الإنس أم من الجنان
يسمع الناس صوته فيخرو
ن سجودا لفاتنات الأغاني
فإذا ما رأوه عادوا فقالوا
إنها خدعة من الآذان
يكتسي منه كل لفظ جمالا
بارع الأخذ مونق الألوان
قصدوا قصده على الرغم منهم
وجروا خلفه بغير عنان
فلهم قول كافر ذي كنود
ولهم فعل راسخ الإيمان
وهو عنهم في غفلة معرض الوج
ه كأن ليس من بني الإنسان
يلحظ الأرض والسماوات والنا
س بعين جنية الإنسان
وكأن الوجود يوحي إليه
بمعاني الجمال والإحسان
ثم وافاه حينه فمضى غي
ر مروع من المنايا الدواني
ترك الأرض ذات حسن جديد
وشباب مخلد الريعان
وغدت بعده مواطئ نعلي
ه حراما يزورها المشرقان
أكبرت شأنه الخلائق حتى
عبدوه في غابر الأزمان
ليتهم أنصفوه حيا فلما
أن قضى شيعوه بالنكران
الوردة الرسول
مترجمة عن «ولر» بتصرف
تضحك عن طلها غلائلها
ودمعها في الخدود مزدحم
تهزها نشوة الجمال ولل
حسن حميا كالخمر تحتكم
تحسبها لافترارها أبدا
قد سرها في منامها حلم
أهديتها شبهها وقلت لها
قولي له لو تساعف الكلم
أما ترى رونقي وزهرته
كأنني بالنجوم ألتئم
فكيف تجفو إن شبهوك بنا
وثوب حسني علي منسجم
يا مانع اللحظ أن يجول به
كأنما حسن وجهه حرم
يعجبني المرء ذو الحزامة وال
فهم ومن لا يغره الوهم
ولا أحب الجمال متهما
في رأيه تستخفه النعم
هبني ببعض القفار نابتة
في حيث لا تهتدي لي القدم
إذا لما حس رونقي أحد
ولا بكى إن دهاني العدم
يا ظالما حسنه رويدك ما
أرخص حسنا تجنه الظلم
فاسمح بأن تشتهى ويطمع في
ودك قلب عليك مضطرم •••
ثم إذ بلى كي تريه مصرعه
فكل حسن بالترب يلتطم
نهر الحياة
مترجمة بالحرف عن قصيدة ل «موريس» اسمها «النهر المتعب».
ماض على غلوائه يجري
أبدا إلى بحر بلا عبر
مترقرق لا شيء يحبسه
متزاحم كتزاحم الشعر
متضاحك سلس وآونة
متوثب عن نزوة الشر
زجل له لحن يذكرنا
همس المنى في رونق العمر
ومزمجر طورا كأن له
رعد الجحيم تثور بالجمر
كم قد أقل عبابه سفنا
وأجن من غرقى ومن كسر
ورمى بكل غير متئد
في قعر بحر هائل القعر
سيظل هذا النهر منجردا
يهوي براكبه إلى البحر
حتى يمل الدهر دورته
وتنام عين الشمس والبدر
ويلي عليه وويل راكبه
منه ومن بحر الردى القفر!
لشاكسبير
أبعدوا عني الشفاه اللواتي
كن يطفئن من أوار الصادي
أغمضوا دوني الجفون اللواتي
هن فجر يضل صبح العباد
واستردوا إن استطعتم مردا
لثماتي من الخدود النوادي
كن للحب خاتما وأراها
عبثا ما طبعن في الأجياد
حواء والمرأة
من الفردوس المفقود ل «ملتون»
وما أنس ذاك اليوم لا أنس طيبه
وقد بعثتني من منامي المقادر
فألفيتني وسنانة تحت وارف
من الظل في أكنافه الزهر يبسم
أسائل نفسي أين كنت ومن أنا
وأعجب مما أجتلي وأشاهد
وغار برود الريح جاشت ضمائره
وفاضت برقراق المياه سرائره
ندي رنين الصوت في أذن سامع
وفتان تلماع الحباب لناظر
تحدر حتى قلت ليس بمنته
وأقصر حتى قلت جفت مصادره
جرى ما جرى ثم استقر أتيه
وشن جمالا بارعا وجلالا
فلله ما أصفى وأصقل ماءه
كأن سماء ركبت بثراه
رميت بلحظي في صقال أديمه
فأفصح عن قد نقي المحاسر
يصد ويدنو ما دنوت وينثني
يصوب مثلى طرفه ويصعد
ومن عجب أني بعينيه أجتلي
نظائر ما أبدي له وأعالن
فلولا رحيم لم أجد غير صوته
لقد ظل هذا القد قيد عياني
يقول رويدا ربة الحسن والصبا
فما ذاك إلا صورة من جمالك
تعالي إلى من لا يعني طلابه
ومن لا يحول الماء دون عناقه
ومن أنت منه صورة هو أصلها
وهل كنت إلا بعض ما ضم جنبه
من رباعيات عمر الخيام
مترجمة عن «فتزجرالد»
1
يا أسفا للربيع يذهب بال
ورد فلا تجتليه أعيننا
وللصبا تنطوي صحائفه
ولم يزل نشرها يفاوحنا
وأين لا أين بلبل غرد
كان يغني على الغصون لنا
غاب فهل عند بعضكم خبر
وهل ترى ينقضي تساؤلنا
2
يا رب باب لم أجد مفتاحه
ورب ستر رمت أن أباحه
فذاد لحظي وثنى طماحه
قد خضن فينا ألسن جراحه
إذا غد راح بنا مراحه
كسر كل طاعن رماحه
3
أترع الكأس يا حبيبي ودعني
من أمور يشقى بها الفطن
ليس يغني يا قرة العين شيئا
علمنا كيف ينطوي الزمن
لم تلد هذه الليالي الحبالى ال
غد والأمس لفه الكفن
فاسقنيها وحسبنا اليوم ما دا
م غريرا ووجهه حسن
كل يوم لي شكاة
كل يوم لي شكاة
بكلام العبرات
أطمع القلب وما ز
ود غير الحسرات
من ذوي الحسن غرير
متناهي الغفلات
غرس الوجد وأجنى ال
شوق ممرور الجناة
معرضا في غير صد
دانيا غير مؤات
نافرا وهو قريب
وهو جم اللفتات
أتمناه ولكن
كيف لي بالأهبات
ضعف الصائد عن ظب
ي كثير الوثبات
لقطفناه لو ان ال
حسن داني الثمرات
آه من قلب إلى الحس
ن كثير الصبوات
يا صحابا أقصدتهم
أعين غير ثقات
يتشاكون غراما
غير كابي الجمرات
في زمان يقظ الآ
لام موفور الأذاة
أنا بالشكوى خليق
فدعوني وشكاتي
واهنئوا أنتم بقرب
من غزال أو مهاة
وإلا
ألا ليت شعري فيك هل أنت ذاكري
فذكراك في الدنيا إلي حبيب
ويا ليت شعري هل تزورن مرة
فتعفو كلوم للهوى وندوب
لقد طال تحناني إليك ولهفتي
وأنت ضحوك لا تحس؛ طروب
بلى كل حب ليس يخلو من الجوى
ولكن جرحي من هواك رغيب
لقد كنت أدري أن للحب أسهما
ولكنني لم أدر كيف تصيب
نشدتك يا طير القلوب تجنبي
شراك الهوى؛ إن الفضاء رحيب
فإنك إن تحدق بكن شراكه
يطل بك عيش بالشقاء خضيب
لقد كنت حرا مثلكن ممتعا
أروح ومالي فكرة وأءوب
فلله أيام إذا ما ادكرتها
جننت جنون اليم وهو غضوب
تحدثني الأحلام أنك مسعدي
وتلك ظنون برقهن خلوب
وكيف وقد جفت حياتي وصوح ال
رجاء فما بين الغصون رطيب
ذبلت ذبول الزهر أخطأه الحيا
وقد ذبت مثل الشمع وهو لهيب
فيا نور عيشي إن في القلب ظلمة
فلح لي فقد أدجى السماء مغيب
ويا نور عيشي فيم صدك والقلى
وفيم ارتداد الطرف وهو طبيب
ويا طير حبي هل تخاف ودادتي
وتكره أن يصبو إليك أديب
ويا طير حبي إن لحنا تقوله
يرد إلي العيش وهو خصيب
دمي في عروقي ليس يهدا فأنجني
فإني من خطب الجنون قريب
وإلا فصب السم في الكأس واسقني
فإن حياة اليأس ليس تطيب
ألحان بنات البحر
انظر إلى عبابي
وصدره الرحيب
ورقصه العجاب
وشدوه الخلوب
وحوره الطراب
وحسنها الرطيب
تدعوك للتصابي
يا غرض الخطوب
في جوفه الرحيب
هل من فتى لبيب
موفق سعيد
قد ضاق بالخطوب
ذرعا وبالوجود
يفوز في شعوبي
باللؤلؤ المنضود
هل من فتى سعيد؟
يمرح في الظلام
مع الحسان الحور
محسورة اللثام
مهدولة الشعور
كأنها أحلامي
أو صورة الحرير
تشدو إلى الأفهام
بالنغم النضير
تفرح بالغرام
كالروض بالغدير
والبحر بالصخور
البحر والظلام
بنات الدجى هذا الذي لم يزل له
فؤاد يناجيكن عن كل نائم
أناخ على الدنيا الظلام بكلكل
وأغرقها في زاخر متلاطم
وأغمض أجفان النجوم بكرهها
وأطلق أشباحا كحيرى الأراقم
لها لغط مستهول الوقع مزئد
يجاوبه يم رهيب الهماهم
يغادر سوار الخيال مرنقا
يئن من الإعياء أن الكوالم
فيا لك من ليل بهيم كأنه
حداد السماوات على نسل آدم
ويا لك من ريح كأن زفيفها
نواقيس دقت للمنايا الهواجم
ويا لك من بحر كأن ضجيجه
صراخ اليتامى في وجوه المآتم
أحقت على الأرضين لعنة ربها
فصب عليها سخطه غير راحم؟
وإلا فما لليل مرا كأنني
بقبة قبر حافل بالرمائم
فليست تحس العين إلا حنادسا
تضيء مجالي هوله المتفاقم
ولا الأذن إلا ما تقص رياحه
على الموج في هباتهن الغواشم
فيضحك منها ساخرا غير أنه
إذا جلدته ثار ثورة ظالم
ورائي وقدامي وفي القلب ظلمة
فكيف فراري من ظلام ملازمي
ومهوى سحيق الغور من تحت أخمصي
يحلل من بأس القوي الضبارم
يرد عرام الريح حتى يعيدها
تلوذ بآناف الصخور القدائم
وتصدمه الأمواج في وثباتها
فترفض عنه كالغمام السواجم
لها زأرة الآساد إن هي أقلبت
وخشخشة الأشجار عند الهزائم
جحيم من الأمواه يغلي عبابه
ويعوي عواء الذئب بين المخارم
ويزبد كالمجهود حتى كأنما
أشابته أحداث الليالي الظوالم
في المناجاة
الله في كلف الأحشاء مفتون
يهتاجه الشوق من باد ومكنون
يقوى ويضعف كالآذي آونة
يطغى وآونة يهدا إلى حين
يمزق الشوق أحشاه كما فتكت
بالغيم عجرفة الهوج المجانين
مقطب فإذا ما افتر عابسه
فذاك سخر أسى في القلب مدفون
قد طارد القلق المضني سكينته
فبات نهزة خوف غير مأمون
باع الرجاء ولم يبتع به بدلا
سوى قنوط طرير الغرب مسنون
في صدره من زمان الصيف وقدته
لكنه مطلخم جد مدجون
حنادس كظلام الموت باردة
وهمس يأس كألحان الشياطين
ماضيه أسحم مرهوب وحاضره
كظته مثل شظيات البراكين
يستقطر الألم الدامي مساربه
كأن في كل عضو نصل سكين
إن نام نغصت الأحلام رقدته
أو قام ناجاه هم غير مظنون •••
هيهات يحنو على قلبي معذبه
أو يحفل السهم إن أصمى بمطعون
وددت لو لان لي لفظ فأودعه
ما ضاق عن بعضه شرحي وتبييني
أستحمل الريح معناه لتنهيه
إلى الذي ليس يدري ما يعنيني
إذا لفاجأه من حيث يأمنه
برق يضيء له قلبي ويبديني •••
لا يخصب الظن في جدب الزمان ولا
يضوع في قفره عرف الرياحين
ولا تهش فراديس الجمال إلى
نار الجوى وجراحات المساكين
ألفت شجوي حتى صرت أحسب في
غير التلهف أخلاقا تنافيني
قوتي همومي، على أن الفؤاد لها
قوت، فدأبي أفنيها وتفنيني
أبكي حياتي في الدنيا وأندبها
من ذا عساه إذا ما مت يبكيني
لو كان يجري الهوى كالنهر مطردا
لكنه البحر يغريني ليرديني
أو كان في الحب هلك لاغتبطت به
لكن لأمر رهيب ما يباقيني
يكوي الفؤاد ويشفيه ليكويه
عودا لبدء ويخليني ليشجوني
هذي الجحيم التي قد حدثوك بها
يا رحمة الله آوي كل مفتون
الماضي الحي
ما أنس لا أنس أياما نعمت بها
في ظله وكلانا ضاحك الجذل
وقوله لي في دل ومعتبة
وقد رآني عن السمار في شغل
يا قاتل الله وسواس الغرام وما
كساك من صنعة الأشجان والغلل
أنصب حبائلك اللاتي عرفت بها
فإن شعرك سحر نافذ العمل
ماذا تريد بإطراق وقد ضحكت
وجوه ليلتنا عن غرة الأمل
هذا الشراب وهذي الكأس مترعة
فاشرب وهات اسقنيها غير محتفل
أما نهيتك عن هذا؟ أما وأبي
لأوسعنك تأديبا عن الزلل!
نفسي فداؤك من جاف كلفت به
سقاني الشهد في أيامنا الأول •••
وليلة كظلام اليأس طاخية
بلا نجوم ولا بدر ولا شعل
مضيت فيها إليه غير متئد
يحدوني الشوق حدوا غير ذي مهل
وقلت إني ضيف لا يريد قرى
إلا الحديث وما أنتم ذوي بخل
وظلت أروي خرافات وأسمعه
حديث قلبي منحولا إلى الأول
وسرني أنني فيما رويت له
عنهم أقول له في غير ما وجل
إني أحبك حبا طاغيا فزعا
عفا وما لي بهذا الحب من قبل
وليس فدما ولا غرا فأخدعه
لكن نصيباه من فهم ومن خجل
فقال ويحك إما أنت مختبل
أو أنت تلهو بأصناف من الخطل
فقلت لم تخط بي خبل وبي عبث
مما دهاني من الأوجاع والعلل
وفي الفؤاد ضرام لا دخان له
وأخبث النار ما تخفى عن المقل
وفي العروق سموم لا طبيب لها
وفي المحاجر دمع غير منهمل
فلا يغرنك ضحكي حين تبصرني
فذاك سخر فؤاد ضيق الحيل
والمرء يضحك من يأس ومن جذل
وقد ترى الوشي في الأكفان والحلل
كم هم قلبي بإفصاح ولم يقل
وهم دمعي بتسكاب ولم يسل
صب الزمان بقلبي النار سائلة
وجف دمعي فيا لهفي على البلل
فإن تطق فأسل دمعا شقيت به
إن الشفاء مسيل المدمع الخضل
فلم يطق وبكى عني فوا حزني
ليت الذي سح من عينيه يقسم لي •••
إني لأذكر يوما صالحا معه
ما زلت من حسنه كالشارب الثمل
والشمس جانحة حتى لتحسبها
لاذت أمام جيوش الليل بالجفل
والنيل يجري كما نجري لغايتنا
وكل شيء من الدنيا إلى أجل
فقلت ألهو به، والجد متعبة
وأحسن القول ما ألهى عن الملل
لقد سبت قبلك الشمس التي غربت
رب البحار ذوات الغارب الزجل
ألست تعلم أن الشمس زوجته
تبغيه تحت ستار الليل والطفل؟
فقال لا تهذ يا هذا لتضحكنا
لقد عرتك وربي لوثة الدخل
أما تزال فتي العقل طائشه
كهل المجانة وثابا إلى الخبل
أما يجل حديث عن مهازلة
ولا يردك عنها قحمة العقل
فقلت والله ما إن أفتري كذبا
لكنما أنت في ليل من الجهل
سل عنهما صادة الأسماك هل سمعوا
في فحمة الليل مثلي رنة القبل
وربما هاجه صيفا تلكؤها
فأمطر السخط شؤبوبا من العذل
وظلت أضحك منه وهو ينهرني
حتى انقضى الليل لم يقصر ولم يطل
ليت المحبين مثل الشمس كلهم
قد زوجوا النار ماء القرب والغزل •••
ويوم قلت له والسن ضاحكة
والعين شاخصة والقلب في ثكل
أزمعت عنك رحيلا لا إياب له
فقال بل أنت ظل غير منتقل
فقلت بشرى، ولكني على سفر
من ذا أقام كنجم القطب لم يحل
فقال ألشام؟ قلت الشام فاتنة
جناتها وسماء الأعين النجل
لكنني لست طياشا ولا رهقا
ولست أحسن لعن الدين والملل
فقال بئس لعمري أنت من دعب
في كل أمر وبئس الخلق في الرجل
فقلت ويحي إني لا أريد ردى
لكن حياة وإني لست بالبطل
وفي الشآم لحاظ لا أمان لها
يحوطها كل مقدام على الأجل
لكن تأمل نجوم الليل قاطبة
وأين نجمي بين الأنجم الحلل
أظنه ضل بين الشهب غايته
مثلي على الأرض بين الوهد والقلل •••
يا معرضا أنت نجمي غبت عن نظري
وما ضللت ولكن شيمة الملل
وأنت في العين أنوار ملمعة
وأنت في القلب برد العارض الهطل
وأنت تاج خلود لي أتيه به
وقد غنيت عن النسرين والنفل
وأنت بالليل حلم غير منقطع
وأنت في الصبح عزم غير متصل
وأنت جبريل توحي لي وأنظم ما
توحيه من غرر الآيات والجمل
وأنت فينا نبي الحسن لا كذبا
وللهوى مرسل من أفصح الرسل
إن كنت فكرت في هجر وفي بعد
فأنت في القلب ثاو غير مرتحل
لا يخدعنك حسن أنت لابسه
فلابس الحلي في الدنيا إلى عطل
يا زهرة الحسن لا يخدعك رونقها
إن الربيع قصير العمر والأجل
إن الندى لحياة الزهر يضربه
والحب للحسن طل ليس بالوشل
فصن جمالك إما شئت في كلل
وادفنه إن شئت في قبر من الجهل
ليس اختيارا رضانا ما يكلفنا
صرف الغرام فلا تكثر من العذل
فلسفة المحب
يا حبيبي وأنت جم الهجود
لا تدعني فريسة التسهيد
إن دائي الهوى وإن دوائي
نظر منك ليس بالمردود
كل شيء إلى فناء حبيبي
فاغتنم ظل حبنا الموجود
إنما الحسن روضة جمة الور
د وعدل في الروض شم الورود
ما ترى لذة الجمال إذا ما
لم تجل فيه أعين المعمود
لذة الصب في الحبيب ونعمى ال
حب في نظرة المحب الودود
أيبست وقدة الحياة ضلوعي
فأغثني بوبل حسن برود
وأثر في الفؤاد نارا تلظى
فحياتي في غير هذا الخمود
أنا كالموج ليس يحييه إلا
ثورة الريح وانتفاء الركود
أنت للعين وردة بضة الحس
ن على فرع غصنها الأملود
كلما صافحت لحاظي دق ال
قلب عطفا على رقاق الخدود
وتشوقت أن أصلي لربي
ويدي فوق حسنها المعبود
داعيا أن تظل رفافة الثغ
ر على الدهر ذات حسن جديد
في أمان من المخاوف لو أ
ن خلودا في الأرض غير بعيد
ما أحيلى بنانك الرخص يا ح
ب وأحلى إيماءه في وعيد
أهوه اليوم نحو قلبي وقل يا
طائرا ما يقر كالمزءود
قر بين الضلوع واسكن، وإني
ضامن أن يموت جد سعيد
الصدق في الكذب
(قيلت ردا على قصيدة كتب بها إلينا صديقنا الشاعر الجليل عباس أفندي محمود العقاد بعد أن اطلع على القصيدة السالفة.)
لذة العيش في مدام رخد
يا صديقي فعد لماضي العهد
لست إبليس يا صديقي ولا بع
ض شياطينه فتنكر قصدي
لكن الحسن روضة وسبيلي
شم ورد بها وتقبيل ورد
وقديما كانت سبيلك هذي
فمتى حلت أو تغيرت بعدي
قد وجدت الخلو صحراء قفرا
ووجدت الغرام جنات خلد
هين جنب ما تفوز به النف
س من السعد سورة للوجد •••
لا تلمني أني أنقل قلبي
ناسيا عهد غير ذاكر عهدي
إن خيرا من التصنع في القر
ب بعاد على جفاء وصد
ضمنا الود فاتصلنا وعدنا
مثل ضدين يدنوان لرد
لم يدع بيننا الجفاء ولا البع
د سوى زورة على غير ود
ضعف القلب عن هواه وما القل
ب على كل ذي جمال بجلد
سنة الله لا تجيز وقوفا
يا أخي أو تمهلا عند حد
يكمل البدر ليلة وتراه
بعدها ناقصا لطلعة سعد •••
لا لعا للذي كبا بي في الح
ب وأهلا بحبي المستجد
قد تصابيت فاعذروا أو فلوموا
ليس شيء على الغرام بمجد
وتداويت من غرام ملول
بهوى مسعد على العيش نجد
مسكري إن شربت منه بلحظي
بشهي من خمر خديه صرد
إن أخس القديم حظي فهذا
مجزل قسمتي ومور زندي
وحديثي نفسي بأن سوف ينسي
ني شقائي بما يؤاتي ويسدي •••
لا تصدق مقالتي يا صديقي
واغتفر كذبة على غير عمد
أنا من مصر في فلاة وإن كا
نت رياضا أعالج العيش وحدي
لابسا ثوب وحشة لا أرى الأخ
لاق يبلى من خلقها المسود
دائم الصمت مفرد الرأي والفك
رة لا أتقي الهموم بحد
مقبلا مدبرا كما حار في الصح
راء من ضل عن طريق الرشد
عالما أن كل يوم سيأتي
ني بأمر خافي المعارف نكد
وسفاها أرى فراري مما
هو حتم ما إن له من مرد
تلك حالي على الحقيقة لا ما
أتسلى به من الزور جهدي
عبث كلها الحياة وزور
ومحال وباطل ليس يجدي
القطيعة
تناءت على قرب الديار السرائر
فليس لما بيني وبينك آخر
لقد كان ظني أن لي منك وامقا
على حين حفت بي الحقود النوائر
فلما بدت لي نفرة الغدر منكم
رضيت بما تقضي به وهو جائر
فلا تعذلوني في الجفاء فإنني
أنزه قلبي أن يرى وهو صاغر
هويتك بالقلب البريء من الحجا
وإني بالعقل السليم لهاجر
تقلص ظل الحب بعد امتداده
وجف هوانا بعد إذ هو ناضر
أحالته أخلاق العقوق وغدره
عهودا تبكيها القلوب الذواكر
كأن الجوى واليأس والسهد والضنى
ديون على من ضاءه منك ناظر
على أنه سيان كرب وفرحة
فكل تعفيه الليالي الدوائر
ستعلم أن الحسن ليس بدائم
وأن العيون الزهر يوما غوائر
ويصرف عنك الشيقون قلوبهم
وتغضى غدا عنك اللحاظ الغوادر
كأني بهذا الحسن قد جف ماؤه
وباخ ضياء في المحاجر باهر
يحاول أن يسبي القلوب كعهده
ويطلب أن تصبو وهن نوافر
ستبصرني جلدا على الدهر عارفا
فليتك مثلي إن تقاضاك صابر
وليتك إذ هنا على القلب لم يهن
علينا ولكني على ذاك شاكر
فإن تنحرف فالحسن جم وجوده
وأهون بما منه لدينا نظائر
طوى الدهر ما بيني وبينك من هوى
وليس لما يطوي زمانك ناشر
وما ندمي إلا على كلفي بكم
فهل لي من تلك الجناية عاذر
نبذتك نبذ النعل رث أديمها
وإني على أمثال ذاك لقادر
إذا ما أراد الله بالمرء رحمة
فسهم الأدى عن مرشق الحظ جائر
لقد حاطت الأقدار نفسي من الذي
تكيد وقد دارت عليك الدوائر
رويدك لا يهلك جهلك إنني
رضي ولكني على الشر قادر
وإني لصل لين مس وإن لي
لأنياب سوء ساندتها أظافر
وحسبك إما شئت ضرك شرد
يباديك منها حيثما كنت ناحر
ولكنني أغضيت عنك تكرما
وإن كثرت أوزاركم والجرائر
فرح غانما بالصفح ممن إذا رمى
فلا تجبر الأيام ما هو كاسر
ومن عجب تأبى النسيب ضلالة
وما ذاك للأحرار غيرك ضائر
فيا ليت شعري والعجائب جمة
أيرضيك أن يغرى بذمك شاعر؟
أغرك مني أنني أظهر الهوى؟
أبى الزهو أن يبقى بعشك طائر؟
فرحت تبث الناس أخبار صبوتي
وتزعم أني عاشق وتفاخر
رويدك لا تجعل هواي ذريعة
لشيء ترجيه كأنك تاجر
فجرت عيون الدمع فابك بأربع
على حين يفتر العدو المناكر
أدرت رحى حرب عليك - طحينها
عفافك - فانظر أي خطب تحاذر
وقل يرحم الله السكينة والمنى
وخفضا وريفا أعجلته المقادر
الربح والخسارة
أهواك والحب داء أيما داء
يا مسبلا حوله أذيال لألاء
خلقت للحسن عبادا أواجهه
كعابد الشمس في صبح وإمساء
يا ليت أني أعمى لا دليل له
أو ليت ما في الورى ما يفتن الرائي
عيني عينى لا بوركتما أبدا
أطفتما بالحشا أنياب رقشاء
ولو عميت إذا لاشتقت نوركما
بقلب راع وفي غير نساء •••
أهبت وهنا بذكراكم فما عبأت
شيئا بصب بجنح الليل دعاء
وسلمتني إلى الآمال قائلة
عني إلى أمل للروح غذاء
ما لي وللزمن الآني وأقربه
مني إذا استثبتت عيناني كاللاء
سلني إذا شئت عن ماضيك مبتدئا
أرو قلبك منه أي إرواء
عند الأماني ما تبغي فإن لها
عينا موكلة بالمقبل النائي
قد استوت فوق عرش الوهم حاكمة
مثل المقادير في منح وإكداء
وما لها دون راجي عرفها حجب
ولا مطال ولا إعراض أباء
من لا تكلفه شيئا عوارفه
فليس يبخل عن بذل وإيتاء
وخلفتني على الأجداث أحرسها
كالكلب يحرس ليلا عز أحياء
فليس يذكرني إلا أخو عدم
قد صار من ظنه في جدب صحراء
والمرء ما بيننا حيران مضطرب
من لهو وهم إلى أشباح جوفاء
هذي تضاحكه طورا وتخدعه
وتلك تبكيه في صبح وإمساء
قد أوسعتكم بني حواء عيشتكم
وطول غفلتكم من كل إزراء •••
أين الحقيقة؟ ألأمارس موطنها؟
فذاك قلبي رمس بين أحنائي
ماضي حياتي أحلام ومقبلها
غيب، وحاضرها في كف خرقاء
كم حدثتني نفسي وهي باكية
عن الشباب وبسامين أكفاء
وأذكرتني أياما مسلسلة
في ظل وارفة الأظلال لفاء
حيث الزمان ربيع والهوى أنف
والأرض صادحة بالعود والناء
تجنى الكروم إذا آنت مقاطفها
سمر العناقيد في لفاء خضراء
يجري النسيم بأنفاس الورود كما
يجري الرسول ببشرى القرب للنائي
يا حبذا عرفها والريح ساجية
والنجم يلحظنا لحظات هوجاء
والنيل أجراه مجريه للذتنا
من حولنا فلنا عرش على الماء
مطرز بنجوم الليل قاطبة
ومزبد في سماء الليل وضاء
أطنابه حفل الأثمار يانعة
جلت عن الوصف في حسن وإغراء
خمري الحسان ولا حسن كحسنهم
ونقلي اللحظ يشفي علة الداء
غبوقنا بين أغصان مهدلة
ومن صبوحي تقبيل الأحباء
إذا نشاء احتسيناها مصفقة
تسنى لشاربها من كل سراء
أو لم نشأ لم نبع بالسكر لذتنا
في الصحو ما بين بيضاء وحمراء
فأين أين ليالي التي سلفت
صارت حديثا كأخبار ابن ديحاء
لا تدرك النفس منها حين تطلبها
إلا التفجع أو لدغا بأحشاء
أضحت حياتي ربعا مقفرا خربا
من بعد ما عمرت للفرح أفناني
يا سوء منقلب عن حسن مختبر
كالصبح يعقبه إدجان ظلماء •••
بقيت يا كوكب الأيام مؤتلقا
يزيدك الدهر ضوءا فوق أضواء
ويا ربيع الهوى لا زلت في حلل
خضر تباكرها سحب بأنداء
تنضو وتلبس أفوافا محبرة
مستبدلا جددا من بعد أنضاء
فأنت لي ولآمالي وإن بعدت
قوس الغمائم في آفاق غمائي
اقرأ كلامي وابسم حين تقرؤه
وإن يكن لك تحبيري وإنشائي
ولا ترع لدموع بت أنظمها
وإن تكن عن ضرام بين أحنائي
ولست فاعلم أرجي منك مرحمة
يندى لها القلب في أعقاب رمضاء
أحبكم ولو اني أستطيع إذا
بدلتكم بالهوى والحب بغضائي
كما تبدلني من صحتي ألما
مرا وتوسعني من كل ضراء
قد كنت أطرب للدنيا ويعجبني
في رونق الحسن ماء ليس كالماء
وكان يفتنني تهديل ورقاء
تسمو إلى الغصن أو تهزيج حسناء
فالآن قد صوح الغصن الذي صدحت
عليه أطيار نفسي يوم نعمائي
وصرت لا شيء في الدنيا أسر به
ولا يفزعني دهري بأرزاء
وصرت أنكر أيامي وينكرني
صفو اللذاذات من قصف وإصباء
إذا سمعت لريح الليل زمزمة
حسبتها نادبا ألحان سرائي
كالبحر نفسي لا مأوى ولا سكن
ولا قرار لها من فرط ضوضاء
أقول في الصيف ويلي من سمائمه
وفي الشتاء ألا بعدا لمشتائي
تمضي الليالي ولكن لا أحس لها
ما كنت أعهد من نور وظلماء
فلا ندى فوق خد الزهر يلثمه
ولا يفوح له مسكي بوغاء
قد مات مثلي إلا صورة ثبتت
نفس قضت وهي في جثمان أحياء
خط اسمها الدهر في قيد الردى فغدت
لا تنفع الناس إلا يوم إحصاء
كأنما الشجر المخضر في نظري
إذا دلفت له عيدان قصباء
وللنجوم بريق لا أفرقه
عن لحظ ميتة حسناء عذراء
في أبحر من زجاج لا بهاء لها
ما بين سوداء أو خضراء زرقاء
حتى النهار وحتى الشمس أنكرها
كأن في نورها ديدان غبراء
طردت في الأرض من فردوس نعمائي
طرد التي غررت قدما بحواء
فما أطيق نعيما إن ظفرت به
بعد الذي بز عني يوم إثرائي
أخاف حسنك يوما أن يذكرني
عهدا مضى فيهيج الذكر سودائي
تغلغل السهم في قلبي فإن نزعت
كف قضيت فدع سهمي بأحشائي
هذي حياتي فقل لي كيف أندبها
قد جل ما بي عن سلوى وتأساء •••
لكل شيء سكون بعد فورته
وكل عين إلى غمض وإغفاء
ألا ترى اليم تطغى فيه موجته
تقطع القلب من هم وبأساء
حتى إذا بلغت مجهودها فنيت
من بعد جلجلة منها وضوضاء
كذاك للنفس في بحر الردى سكن
تلفى به راحة من بعد إعياء
ظمأ النفس إلى المعرفة
أحس كأن الدهر عمري وأنني
أخو مغرق الأرضين بالفيضان
أقلب طرفي في السماء كطرفه
وأرصد ما راعاه قبل زماني
كلانا على بعد المسافة بيننا
تلاقى على ألحاظه القمران
وأقرأ في صحف السماوات أسطرا
بهن دنا خفاقة اللمعان
تخذت فضاء الله مثوى لخاطري
ليشرد في الدنيا بغير عنان
يمر به مر البروق وينثني
وقد جهدته حدة الطيران
أعالج سرا لا يماط حجابه
ومأرب قلبي ذلكم وجناني
وسعت لغات الريح والبحر خبرة
وكل شهاب لامع الخفقان
ولكنه ما خير علمي وكلها
ضموم على السر المغيب حاني
سئمت شرود الفكر في غامض الفضا
وهيض جناحاه من النهضان
وعادت إلي النفس مهدودة القوى
تئن من الإسفاف والشولان
تحن إلى ظل من الرخو وارف
وطول جمام رافه وليان
ومن لي بأن لا ترفع العين لحظها
ولا تجتلي في الناس أي هوان
غرضت بملك واسع لا يحده
سوى أفق دان وليس بدان
أروني قيدا يعرق الجسم مسه
ويضوى كأضلاع علي حوان
على لسان الأقدار
بأيدينا قلوبكم
لنا منها ألاعيب
وفينا الخير موجود
ومنا الشر مجلوب
وما عن صرفنا معدى
ولا في الأرض محجوب
نصرف أمر دنياكم
بما فيه الأعاجيب
ولو شئنا لكان النص
ف لكن فيه تصعيب
الأقدار
دعوت بنات الليل في أخرياته
فلبتني الأقدار وهي غضاب
وإني لأدري أنكن ظوالم
وأنك ظفر للزمان وناب
وأن الورى عبدانكن جزاؤهم
على الصبر والشكر الجزيل عذاب
ألا رب ملك قد أقمتن ضلة
وللظلم فيه زخرة وعباب
وكم وادع وثبته وتركته
حشاشته للحادثات نهاب
ومنتصف أندمته بعد حفزه
وذي أربة قد ضاع منه صواب
وفدم غبي قد رفعت على الورى
فسالت عليهم بالبلاء شعاب
وألجمت أفواه الأباة لأنهم
لهم في فكاك المرهقين طلاب
فعني فإني قد وسعتك خبرة
وما دوننا لو تعلمين حجاب
ولكنه ما ينفع المرء علمه
وعلم الفتى بالحادثات عقاب
عفا الله عن جد شقينا بذنبه
ولم يغن منه عندكن متاب
يقولون في الأقدار عدل ورحمة
ومن أين علمي أن ذاك صواب
أمن أجل أن المرء أقدر قادر
يكون رحيما؟ طاش ثم حساب
بني آدم ذوقوا النكال لأنكم
بنو من أتى ما ليس فيه معاب
ولا تفتئوا تثنون بالمين والهوى
على رحمة الأقدار وهي كذاب
شفاعة الحب
ألا ليت شعري هل لما فات مرجع
ألا زورة تروي الغليل وتنقع
ألا سلوة تشفي الفؤاد من الجوى
وتبرئه إني من الوجد موجع
ألا لب لي إلا تجلده برهة
ألا حال لي إلا الأسى والتفجع
نشدتك بالحسن الذي راع سحره
فؤادي وبالعقل الذي ليس يرجع
يمين يطير اللب عند سماعها
ويثني إلى الطرف بالدم يدمع
وبالدم يغلي في عروقي وبالجوى
وباليأس والنفس التي ليس تطمع
وبالشجن المضني وبالسهد والأسى
وبالأمل الذاوي الذي ليس ينفع
وبالحب إلا ما كبت حواسدي
وأخرست عذالا لهم فيك مطمع
وعدت إلى العهد الحميد، لو انه
إذا ما دعاك الشيق الصب تسمع
ولا تك مبكى للفؤاد ومجزعا
وأنت له حال من الروض ممرع
أرى ورق الآمال يذوى فروه
بقربك إن القرب لليأس مصرع
ومرني إذا ما شئت أحيا وإن تشأ
فمرني أمت إني لما اخترت طيع
ألا واسقني خمرا بعينك إنها
وإن أسقمت أشفى لدائي وأنجع
وإلا فقبل كأس خمر وعاطني
لأشرب فيها قبلة حين أكرع
مراجعة الحب
لا اليأس مجد ولا الآمال نافعة
أخبث بعيش على الحالين مذموم
يا درة غصت في لج الحياة لها
أأنفض اليوم منها كف محروم؟
ما لي على الحب مسئوما ألا رحموا
دون الضلوع وجيبا غير مسئوم
ما لي كأني أعمى لا دليل له
إلا عصاه وسمع غير معصوم
نفسي تأبى لكم إلا طواعية
وأنت تأبى سوى ظلم وتجذيم
أحبكم و«تحبوني» فما لكم
تجفون حتى يثير الظلم منظومي
إن كنت ذا عنف فالدهر ذو عنف
لا رفق فيه ولا يصغي لمظلوم
يأتي الزمان على حبي وحسنكم
وهل على الدهر ناج غير محطوم
كن كيف شئت وفيا أو أخا ملل
لا بد لي منك مثل الماء للهيم
فعد إلي يعد للعيش رونقه
وتشرق الشمس في أحناء حيزومي
أنت الطبيب لداء قد بليت به
فداوه باقتراب غير مفصوم
وذاك أحسن من ليل لبثت به
شرابي المهل في بستان زقوم
لا ملام ولا عتاب
ألومك لو أرى لوميك يجدي
ولكن لا ملام ولا عتابا
وإن مزايل الصحب اختصارا
لصنو للذي صبر احتسابا
دعوتك لا إلى الرعيا ولكن
إلى نأي يماطلنا الإيابا
وإني من يرد عليك ودي
إذا أركبته الشوس الصعابا
فقم صافق على التوديع كفي
كما صافقتني تبغي اقترابا
وإن هزتك عاطفة إلينا
وجاذبك الحنين لنا جذابا
فلا تأكل على ودي بنانا
ولا تقرع على ما فات نابا
وإن شعب الزمان لنا انصداعا
على كرهي وكرهك الانشعابا
وقدرت المقادير اجتماعا
على إيثار كل الاغترابا
فلا تظهر لهذا الناس أنا
قديما قد تلابسنا صحابا
ولا تدع العيون إذا تلاقت
تمزق عن تجاهلنا الحجابا
ومد إلي كفك في فتور
كأنك حامل فيها هضابا
ولا تعبس ولا تبسم للقيا
سألقاها وأحتقب الثوابا
لقد أودى الهوى أو كاد منا
ولا عطفا ولا رفقا أصابا
وجاد بنفسه أو كاد لولا
وفاء لا يحب له الترابا
فإن تدركه لا يهلك ويحيا
وإلا لا ملام ولا عتابا
العاشق المعشوق
أعيذك أن تمنى بتبريح لوعة
وأن تعرف الوسواس كيف يكون
ويحزنني أن تسند القلب راحة
كأنك بالقلب الشجي ضنين
ويؤلمني أن تقطع الليل ساهرا
تسهدك الأشجان وهي جنون
إذا هزك الشوق اضطربت ولم تفه
ونهنهت غرب الدمع وهو خئون
وليل سهرناه سميرين تشتكي
هواك وأصغي والحديث شجون
تمر بنا الساعات تعدو كما عدا
على الصخر سيل ما حواه وجين
فيا لك من ليل قصير وليته
تطاول لو أن الزمان يعين
ويا ليتني الشاكي وليتك سامعي
ولكن همي في الفؤاد دفين
أذعت لنا سرا شقينا بمثله
زمانا وفي غصن الشبيبة لين
فيا ليتني لما ذوى العود وانحنى
برئت ولكن الشقاء فنون
إذا شئت رويت المسامع بالذي
لقيت ولكن الفؤاد ضمين
وكنت، وقد بتنا سميرين في الدجى،
أرقهما لكن أخاف أبين
ولو شئت أطربت الصحاب عشية
ولكن قلبي يا سمير طعين
ومن لي بأن تشتاق ما أنا كاتم
ولكن سري في الضلوع حصين
وما كل أيام الشباب حميدة
ولا كل جرح إن نكأت يهون
إذا ما تحدى الشوق يوما لما مضى
فؤادي استهلت بالدموع شئون
أساكت هذا الناس والقول حاضر
ولي من غليلي زفرة وأنين
أنام على سري ووجدي ساهر
فما لشجوني الثائرات سكون
كلانا إذا يا خل ضامن لوعة
وكل على سر الفؤاد أمين
كلانا محب ليس يدري حبيبه
هواه وكل يا سمير غبين
كلانا له داء يداويه بالمنى
وهل تنفع الآمال وهي ظنون
كلانا احتسى كأس الغرام بكرهه
وكل عراه من هواه جنون
ولكنني شر الرفيقين قسمة
وأشقاهما لولا تقول يمين
شبابك ريان وروضك ضاحك
وأنت بتحقيق الرجاء قمين
ولكنني ماذا أرجي ولم يدع
لي الدهر إلا مهجة ستحين
ثقلت بأعباء الهموم وهضنني
مسالك عيش كلهن حزون
وما نظمي الأشعار إلا علالة
لو ان سلوا بالقريض يكون
وما هي إلا برهة ثم ينثني
يكر مضيض في الحشا وحنين
فصبرا طويلا إنما هي رقدة
وتذهلني عما لقيت منون
وصبرا جميلا يا سمير ففي غد
تسليك عن سحر الجفون جفون
تهيم بهذي ثم تسلو بغيرها
ويصبيك من بعد الجبين جبين
فوطن على السلوان نفسك إنني
خبير بأدواء القلوب طبين
ستعلم أن العيش حلم وأننا
نيام ولو مد الرقاد سنون
وأنا كأهل الكهف نصحو وما نعي
فتيلا ولو أن الرقاد قرون
كأن لم يمر السعد والنحس بالفتى
ولا كر بيض في الزمان وجون
ويركد صرف الدهر حتى كأنما
له أجل تعدو عليه منون
الإنسان والغرور
أقم وادعا واصبر على الضيم والأذى
فإنك إنسان وجدك آدم
وهبك على الدنيا سخطت وظلمها
أتملك دفع الظلم والظلم لازم؟
بني آدم ما للغرور رمى بكم
مراميه حتى غدا وهو حاكم
تظنون أن الأرض قد بسطت لكم
ومن أجلكم تجري الغمام الروائم
وأن النجوم الزهر علقن زينة
تقر بها الألحاظ وهي هوائم
فما لكم لا تنظمون نثيرها
فيصبح منها حليكم والتمائم؟
أشباح الماضي على جثة الأمس
1
أوشك الإصباح أن يمحو الدجى
ورفات الأمس لما تدفن
فاركبو الريح اركبوها ما عسى
صبرنا على النهار البين
إننا كالليل يفنينا الضحى
ثم نحيا في الظلام المدجن
2
أمطروا الدمع عليه لا الندى
وانثروا الشعر عليه لا الزهور
وأجنوه وإن كان صدى
فسحة الآباد لا ضيق القبور
3
ألوحي قد كان مولود الصباح
ينسخ الليل بآيات فصاح
فاحملوا النعش وشقوا بالرياح
كبد الليل إلى قبر الأبد
سحر الحب
أيا ساعة مليت فيها بحسنه
نشدتك إلا كر منك نظائر
وإني لأدري أن في البعد راحة
لما تتصباه العيون السواحر
ولكنني جربت قربك والنوى
فما قر لي بال ولا جف حاجر
ولا التذ طعم القرب قلبي ولا النوى
ولا رقدت في الحالتين الخواطر
وما أنا إلا كالمخادع نفسه
وقد يخدع النفس الفتى وهو شاعر
تمر بنا كالحلم قصر طوله
لذاذته حتى كأنك طائر
أأهواك أم أقلاك والله إنني
لأجهل ما تطوى عليه الضمائر
وإني لتعروني لمرآك رجفة
كما انتفض المذعور والخطب فاغر
وإني لتعروني لذكرك حنة
كما حن للأهل الغريب المسافر
فأنت جحيمي في الحياة وجنتي
وأنت عدوي والحبيب المؤازر
وأول شيء أنت يجري بخاطري
وآخر شيء أنت يجريه خاطر
ملأت شعاب النفس حتى كظظتها
وأخليتها فالنفس صحراء غامر
فواها على عهد السلو وطيبه
وواها له ما أن أو حن ذاكر
حقيبة شر ذلك الحب بئس ما
تحملنيه في الحياة المقادر
أراه على لذاته ونعيمه
يفاجئنا منه رميض وناعر
وهل تشترى اللذات إلا بضعفها
من الألم الدامي ومما نحاذر
وما مطلبي سحر العيون كأنها - إذا لامحت عيني - النجوم الزواهر
ولا نضرة الخد الأسيل كأنما
غذته على الدهر الورود النواضر
ولا الثغر إما يستدير كأنما
تهيأ للتقبيل والشوق ثائر
فقد يحرق اللحظ المضيء ويخنق ال
أريج وترديك الثغور الدوائر
ولكنما أبغي إذا ثار ثائري
فؤادا أناجيه وعقلا أسامر
وقلبا إليه أستريح بدخلتي
وأفضي إليه بالأسى وأشاور
كما خفقت يوما على الزهر نحلة
وظلت تشاكيه الهوى وتسارر
قضيت حياتي بين آثار من مضوا
ففي حيثما سرحت طرفي مقابر
أولئك إخواني الذين اصطفيتهم
وآثرتهم بالود والقلب حائر
فيا بؤس للحي الذي لا يروقه
من الناس إلا من تضم الحفائر
أخادع نفسي فيهم وأغشها
ويخدعني منهم نصيح وماكر
وما لي شغل فيهم غير أنه
تشابه حالي حالهم وتناظر
فيا زائرا أفديه بالنفس لو درى
أغثني وكن عوني إذا خان ناصر
وأدت حياتي في شبابي مكرها
وما امتلأت مما تحب النواظر
ولكنما بيني وبين مواردي
حجاز وقد سدت علي المصادر
فعد لي فإني لست أملك مذهبي
وكن لي فإني صادق العهد شاكر
وهبني إذا ما شئت ميتا تزوره
أليس لمن يقضي من الناس زائر؟
الشوكة الجديدة
يا وردة الحسن القدي
م وشوكة القبح الجديد
كنا وكنت فما عدل
ت ولا ظلمتك بالصدود
قد كنت أهوى أن أرا
ك وأن أشمك كالورود
فيذودني شوك شرع
ت شباته دون الخدود
ظلما كما قتل الحسي
ن على ظمى جند اليزيد
فالآن إذ ذهب الجما
ل وصوح الزمن الحميد
وسلا الفؤاد فلا حني
ن ولا بكاء ولا هجود
وارتد طرفي عن ذرا
ك وأقصر الأمل المديد
أدعى «العزيز المازن
ي» ولا ألام على القصيد
ذهب الغرام مع الجما
ل برغم قولي لا يبيد
ليس الخلود لذي الحيا
ة بل الفناء هو الخلود
ويل لذي الحسن النضي
ر من الزمان وما يكيد
إما استزاد من الجما
ل أصاب في القبح المزيد
كاد الزمان لكم كما
كدتم لذي القلب العميد
فاهنأ بشعر في الخدو
د كأنه السهم السديد
يا جاحدا فضل الإل
ه عليه ويحك من كنود
اشكر له أن صرت لي
ثا ساكنا غاب الخدود
مخلوق الخيال
توددت لا أني إليك فقير
ولا أن بعدا عن ذراك عسير
ولا تحسبن منحيك ودي لحاجة
ولا أن سحرا في العيون يمور
رويدك ليس الحسن وقفا عليكم
وأكثر ما تملي الظنون غرور
وما كل حسن يشعف القلب سحره
ولا كل ماء نافع وطهور
ولست بمعدوم النظير فتنثني
تدل بما منه النظير كثير
كذلك ليس البدر في الكون واحدا
فثم شموس غيره وبدور
ولكنني مثلت للحسن صورة
وأنت لها دون الأنام نظير
فلا تحسبن أني لبعدك موجع
ولا أن قربي منك فيه سرور
بحسبي حسن صورته خواطري
له دون أحناء الضلوع سفور
إذا استوحش القلب الكليم فإنه
أنيس إذا عز الأنيس سمير
فإن كنت قد فكرت في الهجر والقلى
فإني على غدر الصحاب صبور
ستبقى لكم مني يد الدهر حنة
وذلك إفك لو علمت وزور
فكل نضير في الحياة إلى ذوى
وكل عليه الدائرات تدور
ستنسيني الأيام ما أنا واجد
وتعفو كلوم للهوى وبثور
وأنساه حتى لست أذكر ما اسمه
ويقفر من نور الوداد ضمير
بلى ربما حن الفؤاد إليكم
وهاجت بصدري أنة وزفير
ولكنها ذكرى تمر وتنقضي
وتذهلني عما تثير دهور
كذلك تنسانا وتنسى غرامنا
إذا ما استرد العاريات معير
ولكن حسنا بز عنك نضير
وأبدلت منه القبح وهو سطور
ستذكر هذا ما حييت وفي الحشا
مضيض وفي القلب الكسير سعير
الشاعر المحتضر
فتى مزق الحب المبرح قلبه
كما مزق الظل الضياء أياديا
قضى نحبه كالمزن فضن مدامعا
وخلفن آثارا لهن بواديا
ولما دنا منه الحمام ورنقت
منيته نادى الصفي المصافيا
وكاشفه والعين ينهل ماؤها
بما كان يخفي من هوى ليس خافيا
وقال وضم الراحتين على يد
كساها شآبيب الدموع الجواريا
بقيت وبلغت الذي بت راجيا
وإن كنت ما أعطيت منك مراديا
سيسقي الردى قلبي عن الحسن سلوة
فلا بت حران الجوانح صاديا
ولا عجب أن يطفئ الموت غلتي
ويصبح داء العالمين دوائيا
كتمتك حبي خشية الصد والقلى
وحصنته حتى رمى بي المراميا
بعدت كماضي الأمس عني غاية
وأقرب شيء أنت مثوى وثاويا
أضر بي الكتمان حتى عددتني
خليلا من التبريح والوجد خاليا
كأني لم أحمل هواك ولم أبت
أخا شغل يغري بصدى القوافيا
كأن قريضي لم تكن أنت سره
وموحي معانيه العذاب البواقيا
مضى ما مضى لم أدر ما لذة الهوى
ولا ذقتها إلا بطرف خياليا
إذا لج بي شوقي قنيت حيائيا
وظلت تباريح النزاع كما هيا
نجيي الصخور الصم أركب ظهرها
وأفرغ في أذن الظلام شكاتيا
وما بي حب الصخر والريح والدجى
ولكن حالات لهن كحاليا
أرى في أديم الطود عاث برأسه ال
خراب وواراه الضباب مثاليا
وفي الظلمة الطخياء من ظلمة الأسى
مشابه تدريها القلوب صواليا
إذا الليل واراني اطرحت الأمانيا
وكاد جمود الموت يصبي فؤاديا
وما كنت آبى الموت سهلا مذاقه
لو اني إذا استأويته كان آويا
أرى الموت ظل العيش يبسط تحته
فيغشي أدانيه ويخطي الأعاليا
ألم تر للأشجار تمتد تحتها ال
ظلال وتكسو الشمس منها النواصيا
فإن تحتطب يوما تول ظلالها
وما إن يزيل الموت إلا الدياجيا
كذاك حياة الأفضلين فلا تلح
إلى الظل وانظر نورها المتراميا
فيا مرحبا بالموت يثلج برده
فؤادي وينسيني طويل عنائيا
تموت مع المرء الهموم ولن ترى
ككأس الردى من علة العيش شافيا
ولست على شيء بآس وإنني
لأهجر ظهر الأرض جذلان راضيا
وما طال عمري غير أن لواعجا
أطلن عنائي فاجتويت مقاميا
أهاب بنا داعي الردى فترحموا
وقولوا سقى الله القلوب الظواميا
وقم ودع الأرضين عني فإنني
بقيد الردى المحتوم إلا لسانيا
وقل لجبال عاريات مخوفة
تخال مواميهن للجن واديا
ألا أطلقي لي صوته والأغانيا
وغذي بذكراها الشجون النواميا
ألم تع عنه جنة عبقرية
فقد كان يغشى مثلهن الفيافيا
وكيف تؤدي ما وعاه سماعها
وما تحسن الجنان إلا التعاويا
وقل يا عيون الزهر غضي وأطرقي
قضى عاشق، أجلي، العيون الروانيا
لقد كان في روض الجمال خميلة
سقتها دموع الحب لا الطل ساريا
فأعطشتها حتى تصوح عودها
وألوى بها عصف الرياح سوافيا
لقد أفردته نفسه بين قومه
فعاش خيالا بينهم مترائيا
وما كان إلا قوة أحدقت بها
حوائل ضعف أمرها ليس باديا
فعاد وما يسطيع حملا لساعة
فكيف بأيام حملن لياليا
وما كان إلا كالسحابة أفردت
وقام بها الرعد المجلجل ناعيا
وما كان إلا موجة قد تحطمت
على ساحل للعيش كم بات راغيا
وما غاله موت ولا هاضه كرى
ولكن غدا من حلم ذا العيش صاحيا
وما مات إلا الموت يا فجر فائتلق
وحول سناء طلك المتلاليا
ولا غاب إلا في الطبيعة أمه
وقدما أعارته الضلوع الحوانيا
فقوموا اسمعوا في هزمة الرعد صوته
وفي سجعة الغريد ما بات شاديا
وفي حيثما تبدو لنا القدرة التي
دعته فلباها ولم يك عاصيا •••
أرى عينك اخضلت وعهدي بدمعها
عصيا على ريب النوازل آبيا
لقد جل هذا الجفن عن عادة البكى
وقد قل فيض الدمع إن كنت باكيا
تعز ولا ترخص لموتي أدمعا
أباة على سوم الغرام غواليا
سواء علينا إن طوتني حفرتي
أبكيتنا أم بات قلبك ساليا
بحسبي أني سوف ألقى حماميا
وأنت إلى جنبي تراعي فنائيا
ولا تحسبوا أني قنعت تكرما
ولكن لأمر ما عقرت الأمانيا
وردد أنفاسا ترددن برهة
وحشرجن حتى راح ما كان جائيا
فخان الحبيب الصبر فانقض فوقه
ينادي مرما لا يبالي المناديا
فلما رأى برق الأماني خلبا
غدا يستجير الدمع ما كان جاريا
رأى ما جناه حسنه ودلاله
فقال أيا ويحي لقد صرت جانيا
عدتني العوادي لم تكن بي غباوة
ولكنني كنت امرأ متغابيا
سواسية من يقتل النفس عامدا
ومن يدع التبريح يقتل ظاميا
لبست جمالا من قريضك خالدا
ورحت وقد ألبستك الموت ضافيا
وسوغتني من طيب ذكراك نفحة
وسوغتك الآلام والدمع قانيا
لخلفتني عاري الجمال من التي
تزين وكم أمسي وأصبح كاسيا
أعض على الماضي البنان تحسرا
وهل ينفعني اليوم عض بنانيا
لقد كنت أقسو هازلا ولربما
غدا الهزل بابا للشقاء وداعيا
فبئست على طول التفرق رقة
أحس بها تذكي على الدهر ناريا
ستبقى ويمضي من علقت وإن تمت
فقد يحجب الغيم النجوم الدراريا
وأنك نور تستضيء به الدنا
وغيرك ظل سوف يصبح فانيا
وأنك حسن ليس يبلى وغيره
وديعة دهر يسترد العواريا
فيا آخذا من دهره بنصيبه
هنيئا لك المجد الذي ليس ذاويا
وإني لأستسقيك كل دجنة
وإن كنت أحرى أن تبل فؤاديا
خواطر الظلام
أغرقت في بحر الأسى الأجذالا
ولففت في أكفانها الآمالا
ونزلت في وادي الهوى متفيئا
للموت ظلا ينسخ الآجالا
كسف الجوى شمس الحياة فأظلمت
وأعاد زاخر لجها أوشالا
عصفت بنا نوب الليالي عصفة
تركت حياتي بعدها أطلالا
وتجايشت لجج الزمان بصدره
وتصوبت سيلا إلي عضالا
فرعيت من دهري زمانا موبئا
يجني السموم وينبت الأهوالا •••
يا شمس من يحيي الليالي ساهرا
ما بال ضوئك باردا جفالا
يرخي الظلام سدوله فتعينه
وتري العيون سواده القتالا
ما أنت إلا كاللذاذات التي
جرت عليها الأعصر الأذيالا
ليضيئنا الماضي ولكن لا ترى
لشعاعه حرا ولا إشعالا •••
خلع الحمام على الظلام سكونه
فكأنما همد الوجود كلالا
وتكنف الدنيا سكون ناطق
ملء الصدور مهابة وجلالا
وكأنما هذي السماء تزينها
زهر النجوم الفاتنات جمالا
ستر على الأكوان أسدله الهوى
لما غفت وأفاضه سربالا
خلق الإله الكون أروع منظرا
وأجل تصويرا وأبدع حالا
وكسا وجوه الأرض روضا ضاحكا
حاك الرباب ثيابه وأطالا
وحبا الطيور الصادحات وكورها
بين الرياض الوارفات ظلالا
وأقر في قاع البحار قطينها
والدود في جوف الثرى الجوالا
واختص آدم بالشقاء ونسله
وحباهم الآلام والآمالا •••
يا أم ذي الدنيا ولست شبيهة
بالله رب المخطئين تعالى
ما تطلبين صلاتنا وصيامنا
أو تنكرين جحودنا الأفضالا
سيان عندك حافظ ومضيع
والمحسنون ومن أساء فعالا
كل يلوذ بظل عطفك دائبا
بوركت من أم تفيض كمالا
وكرمت حتى لست تدرين الهوى
والبغض والأطماع والأوجالا
سبحانها عما يحس بنو الردى
فلقد حماك جلالك الأشغالا •••
ستثور عاصفة الليالي ثورة
تجلو الشكوك وتدفع الإشكالا
وتدق فوق خرائب الأديان نا
قوس الردى وتحيلها أغفالا
وترد للمسلوب حقا بزه
إياه من منى النفوس ضلالا
يا أم ذي الدنيا فلا تأسي على
ما كان من جهل وإن يكن طالا
عزاء الشعراء
سيعرقني يأسي ويغلبني ضني
يغذ بنفسي للبوار ويوجف
فلا تنفسوا شعرا علي مفوفا
له لو علمتم جانب متخوف
كما نظمت هذي الرياح غمائما
لها من غروب الشمس وشي مطرف
يهددها مما يضم ممزق
ومما يوشيها مذيب ومتلف
لنا الله من قوم نذيب نفوسنا
ويجني سوانا ما نشور ونقطف
ويصدر عنا الناس ريا قلوبهم
ونحن عطاش بينهم نتلهف
نذوق شقاء العيش دون نعيمه
على أننا بالعيش أدرى وأعرف
ولكنه ما أخطأتنا لذاذة
إذا بلغ السؤل القريض المثقف
إذا هو سرى عن لهيف مفجع
وآنس قلبا موحشا يتشوف
فما نحفل الدنيا إذا جل ظلمها
ونحن من الأيام والعيش ننصف
زهرة الشر أو الحب
يا زهرة النحس والشقاء
ووردة الكرب والهموم
تنفح أنفاسك المنايا
وطي أندائك السموم
ترود من حولك الأفاعي
مطرورة الناب للنعيم
العيش رمس وأنت دود
يا فرحة الدود بالرميم •••
يصدأ منها النهار حتى
نخاله ليلنا البهيم
والليل من وقعها كفيف
فكيف ينجاب أو يريم
لا يخصب الظن حيث تنمو
فالنفس من شرها عقيم
تترك دون الحشا عراكا
كما التقت بالقنا الخصوم
فإن تكسرن في فؤاد
أودى الذي يضمر الحزيم
كأنما تثأر الليالي
من الصبا وهو لا يدوم
توقد دون الضلوع نارا
طعامها النفس والجسوم
يا بؤس للحب كيف يجنى
من جنة الحسن ذي الجحيم!
يا بؤس للناس هل تغنوا
بالبغض لو يحمد الذميم!
وليس في البغض ما يعني
وخطبه ليس بالجسيم!
محاسبة النفس
أضعت شبابي بين حلم وغفلة
وأنفقت عمري في الأماني الكواذب
ولم يبق لي شيء وقد فاتني الصبا
وأدبر مثل السهم عن قوس ضارب
تعود الغصون الصفر خضرا وريفة
مرنحة بعد الذوى والمعاطب
وليس لما يمضي من العمر مرجع
ولا فرصة فاتت لها كر آيب
بلى زاد في علمي وفهمي وفطنتي
وحلمي أن جربت بعض التجارب
ولكن في عزمي فلولا كثيرة
تغادرني في العيش طوع الجواذب
وما خير علم في الحياة وفطنة
إذا حال ضعف العزم دون المطالب
كأن لنا عمرين، عمرا نريقه
وآخر مذخورا لنا في المغايب
ألا ليت عمر المرء يرفى كثوبه
ويرقع منه جانب بعد جانب
تقديم الصبوات
أينعي يا زهراتي
لقديم الصبوات
لم تزل ذكرى ليالي
العذاب السالفات
حية بالذهن قد تب
عث مسك النفحات
حين أهديت مثيلا
تلك في حسن شيات
لوضيء الصفحات
لؤلئي البسمات
يوسفي القسمات
نرجسي اللحظات
صمد الدهر إليه
وهو وعر السطوات
ما عسى طاقة ذي الحس
ن بماضي العزمات
فذوى الحسن ولما
يذو حب الذاويات
يا زهور الشعر لا خن
ت زهور الوجنات
إن يكن أخلق حسن
كان وحي الحسنات
فقديما كان غضا
سحري النسمات
وقديما جادك الحس
ن بطل الضحكات
أينعي فوق ذواه
واحفظي عهدي السقاة
عظة المحبوب
ألا عد إلى العهد الذي كنت أحمد
ولا تتركني في العذاب أخلد
هجرتك لا أني سلوت هواكم
ولكنما أخشى الذي بت أعبد
أحبك لكني أخافك والهوى
مخوف وبعض الشر في الخير يوجد
على أنه سيان قربك والنوى
إذا لم يكن لي منكم متودد
يضاحكك الإخوان أنسا وغبطة
فتلهو ويبكيني الأسى والتوجد
فكيف ملامي لاهيا لا يحسنا
وأني على ما يوجع القلب مسعد
وهل نافعي أني كتوم وأنني
عيوف وأني صابر متجلد
ألا في سبيل الله ليل سهرته
ودمعي على الخدين سلك منضد
سميري وسواسي وصحبي خواطر
حوالك مثل الليل أو هي أسود
أخاف عليك الناس أن يلهجوا بنا
وأكتم حتى عنك سري وأبعد
وهون عندي ما أعاني من الجوى
يقيني أن البعد أحجى وأرشد
وكيف أرجي منك بلا لغلتي
وصدري على السر المبرح موصد
تفجر بحر بيننا متزاخر
تظل المنايا فيه ترغي وترعد
أخاف علي الهول إما ركبته
وتجذبني نفسي إليه وتورد
فأقبل والآمال فيك كثيرة
وأعرض والأهوال للنفس رصد
وأخشى الكرى إذ كل حلم مروع
وأخشى الردى إذ كل شيء مهدد
خلت بك عني الملهيات وإن تكن
عطوفا تصافي كل من يتودد
تصادح أطيار القلوب سوى الذي
له صدحة تعيي الورى وتغرد
ومثل نسيم الصبح أنت سماحة
يقبل ما يبدو له ويبرد
ألم تر للأزهار كيف رواؤها
وكيف غدا يجني عليها التورد
يروقك منها حسنها غير أنها
تصوح إن أمست تقلبها اليد
كذلك تذوي بعد حين فلا تكن
لكل طلوب غاية ليس تبعد
ولا تمنح الود امرأ ليس أهله
فما كل ماء لامع الوجه مورد
عبث الحياة وباطلها
إلى شكري
تبغي حياة لا تحس صروفها
وتذم طول تصوب وتصعد
لهفي عليك وقد تخالجك الأسى
وعلي من خلق الهموم الأوغد
إنا كلينا واجد متجلد
يخطو إلى الغايات خطو مقيد
وكأنما كتب الزمان حياتنا
بدم كحاشية الظلام الأربد
وكأن أسطرها لشدة هول ما
يحوين مرهوب الصلال الشرد
قد كنت أومن بالحياة وطيبها
في ظل أيام الشباب الأبرد
فاليوم أكفر بالنعيم كأنني
أعمى يضل بما به قد يهتدي
وأمد للدنيا يدا مبتورة
وأزل حيث ثبت عثر مصفد
وأروح أجني الشوك غير مقلم
ولكم قطفت جنى الغصون الميد
عادت ليالينا خريفا كلها
لهفي على ورق المنى المتبدد
ما خير عيش صوحت أفنانه
وتساقطت أوراقهن على اليد
لكأن من شمل الوجود بعدله
ما إن يبالينا كأن لم نوجد
ماذا يفيد تسخطي وتبرمي
بالعيش أم ماذا يفيد تجلدي
فاردد على مكروهها النفس التي
ماتت وأنفاس لها لم تخمد
واقر الهموم إذا حضرن قوافيا
تنسيك ثقل ظلالهن الركد
كالطفل يصرخ في الظلام لعله
ينسى مخاوفه إذا لم تطرد
حلم الشباب
لنجي الهم يجتاب الكرى
ملك ما طف حتى نزحا •••
حلم كان ولا كالحلم
يصل اللذات لي بالألم
كأغاريد الهوى المنصرم
ما رأت غرته شمس ضحى
ليته أمهل حتى يصبحا •••
حدثتني النفس لما أن بدا
كنجوم الليل وضاح السنى
بربيع غرد حلو الجنى
حاكه الحظ على قد المنى
فكأني كنت شمت البرحا •••
صوحت ريحانتي الريح السموم
لم يقبل ثغرها خد النسيم
لا ولم تدر ابتسامات النعيم
ورعاها الموت طوبى للردى
ربح الصفقة مني - ربحا •••
إيه يا ريحانة القلب الشجي
نوري في روضة النور الوضي
وانفحينا بشذاك السرمدي
إنني أسلمت نفسي للأسى
أجلك العمر وعفت الفرحا
الشاعر
يرى من ستور الغيب حتى كأنما
يطالع في سفر جليل المراقم
له خاطر يقظان لي بنائم
يجيش بأصداف اللآلي الكرائم
صقيل كخد الصبح سمح كنوره
نقي كصوب العارض المتراكم
وروح كأن الكون من فرط رحبها
بها قطرة في زاخر متلاطم
ولحظ كأن البرق ريش سهامه
يضيء حواشي كل أغبر قاتم
ولفظ كضوء الشمس في مثل سيرها
يسح بفيض العقل سح الغمائم
كأن رياضا في مثاني حروفه
أرجن بأنفاس الثغور البواسم
يحمل خفاق النسيم حديثه
ويركبه ظهر الرياح الهواجم
فتجريه في أفواف كل خميلة
وتنشده بين الربى والمخارم
وتلقيه أنداء على الزهر سحرة
وتوحيه سجعا في صدور الحمائم
وترسله في الجو صرخة آيس
يجاوبها قصف الرعود الغواشم
وتطلعه فجرا على الناس واضحا
يريهم سبيل الحق بادي المعالم
وما الشعر إلا صرخة طال حبسها
يرن صداها في القلوب الكواتم
يرقرق أنداء العزاء على الأسى
ويضرم طورا خامدات العزائم •••
فيا روضة الحب التي طلها ندى
الجمال ووشاها بنور المباسم
دعيني أنشق في ظلالك عرفه
فإن حياتي ملؤه للخياشم
وإن شفائي عبرة لو هرقتها
ولكن جفني كالبطون العقائم
فإن لم «يغثن» الله فيك بسجعة
شقيت بجمات العيون الظوالم
وفي الشعر للمفئود سلوى وإنه
ليغنيه عن صوب الدموع السواجم
إلى العقاد
عباس أقصتك عن خلصانك الدار
وأذهلتك عن الأحياء آثار
أذكر فديتك عهدا دوحه خضل
مليته زمنا إذ أنت لي جار
كنا سماء وكان الود أنجمها
فما دجى أفق أو ثار إعصار
وكان يسري هلال الحب في أفق
هالاته فيه إعظام وإكبار
فزر أخاك على بعد بقافية
كالطل تحيا به في الروض أزهار
إني وإن بتت الأيام وصلتنا
بجمحة الشوق والتحنان زوار
إلى صديق
يحييك الفؤاد على التنائي
كما يومي إلى القوم الغريق
أرقع بعدكم أثواب عيشي
وكنت ونسجها بكم صفيق
وكنت أظنني طبا فلما
وليت الداء أعيتني الخروق
وكنت إذا تمطى بي ظلام
أقول لكل غاربة شروق
فصرت أهاب ضوء الشمس حتى
كأن عروقه الليل الغسوق
فهل لي عندكم شوق كشوقي
كأن القلب منه به حريق
ودادي ناشئي فاحنن عليه
كما يحنو على الطفل الشفيق
بأخلاق كعهديها رقاق
يضيق بها الزمان ولا تضيق
ولا تسلمه للأيام إني
أرى الأيام ديدنها العقوق
وصنه في حجاب القلب مثلي
يظل له بقلبينا علوق
أنشودة الشتاء
قد ذهب الحول بالربيع وبال
صحو وجاء الشتاء مرهوبا
فأي أصواتك القدائم يا
قلب أناجي بها الشآبيبا
وما انتفاعي باللحن أبعثه
وليس من يسمع التطاريبا
أين، وهل ينفع اللهيف أسى
يزيد وجه الحياة تطبيبا
غلائل قد نثرتها بيدي
عن نور عيشي وعدت مسلوبا
أنا الذي كنت لو تصدقني
أكون شيئا في الدهر محسوبا
فصيرتني الخطوب زافرة
كما أثار الزمار أنبوبا
أعجب للحظ هل مقسمه
أراده ويلنا أعاجيبا
أجزل من سهمة الرجاء لنا
فكل شيء نراه مطلوبا
لكنه قد أخس قدرتنا
يا ليت ما شاء كان مقلوبا
غنى أمان وفقر مقدرة
فلن ينال الفؤاد مرغوبا
الأسافل والأعالي
سأهدل كالحمائم في رياض
من الأحلام وارفة الظلال
وأصدح لا أبالي ها أصاخت
لي الأرواح أم صم الرمال
ولست بخافض صوتي لأني
أرى الأسماع سكت عن مقالي
كفى الغريد لذة ما تغنى
من الحسن المصور والجلال
ولم آسى على قوم أسفت
بهم أحلامهم دون النعال
سيورق يا خليلي كل غصن
سقاه الظامئون إلى الكمال
غصون بدائع من نبع صدق
كريم الأصل محمود الأوالي
ستؤتي أكلها يوما وتشدو
على أفنانها طير الليالي
وهل شجراتنا إلا فروع
نماها خير أصل في الخوالي
فطر في ظلها كالنحل واجمع
بها ما اسطعت من شهد حلال
وأيقن أن سيذكرنا زمان
سننسيه الأسافل بالأعالي
مناجاة الحسن
حثا شرابهما في ظل حسان
رياه ريحاننا في مجلس ألحان
ريا الحبيب ولا شيء كنفحته
وهنا يهيج أطرابي وأشجاني
حثا شرابهما حتى رأيتهما
لا يسمعان وإن كانا يقولان
هما أثيران علاني على ظمأ
وبالشراب على سري يغوصان
ويضحكان إذا ما الخمر رنحني
دوارها واستوى سري وإعلاني
ويعجبان لنسجي الزور أجعله
ذريعة لطرير الحسن غيساني
ويحسباني مجانا كأنهما
لم يعرفا سخر أشجان وأحزان ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
يكاد يأكله باللحظ مبصره
لو يستطيع رنوا لحظ ولهان
ولفظه السحر إلا أنه كلم
ولحظه الخلد إلا أنه جاني
وجه مضيء من الفردوس مخرجه
ملء النواظر من حسن وإحسان
وقال صف ليلتي هذي مجملها
نفسي فداؤك من راج ومنان
أهبت بالشعر فاستفتحت مغلقه
كنجمة الصبح تحدو نوره الواني
ولو وكلت إلى نفسي عييت بها
لكن دعوت فما أعيا بتبيان
سقيا ورعيا لها من ليلة سلفت
عادت رطابا بها أعواد أغصاني
إذ ملعبي الناس ألهو غير محتشم
بأرجل منهم طرا وأذقان
سقيتني الحب إذ نحسو على مهل
ألذ ما يتحساه حبيبان
وظلت ترشقني باللحظ عن عرض
فأتقيك بإغضاءات غفلان
وأصرف الفكر عنكم بالمزاح عسى
أفيء يوما إلى رشدي ورجحاني
وأدعي أن ضنئي سالبي رشدي
كيما ألهي الحشا عن حسن مفتان
وياسمين شممناه مناقلة
نشقته ونشقت الحسن في آن
كنا وكنت كسحب بينها قمر
فمزقت شملنا أرواح غيران
أو كالضياء رمى نجم وشائعه
من بين أوراق أغصان وأفنان
راخت ليالي النوى أوتار عيداني
يا لهف نفسي على جنكي وعيداني
يا ليلة لي منه لست ذاكرها
ألا استهلت بصوب الدمع أجفاني
بعد السلو تعود القلب صبوته
يا ليت ما عاد منها كان أخطاني
كم ليلة بعدها كابدتها سهرا
وكل هم بها لي منه زوجان
كالبحر حين تهب الريح عاصفة
صدري، ويخبط بطنانا بظهران
يا موقد النار في قلبي وتاركها
تكوي حشاي وتوهي صرح بنياني
حتى غدوت وألفاظي لها وقد
كأنما هي من أحشاء بركان
برد بقربك نيراني فإن لها
شبا كأن له تخبيط شيطان
عجلت بالهجر يا موفي على أملي
ويا سقامي ووسواسي وشغلاني
وليلتان هما لي منك واحدة
عفوا وأخرى على وعد ونشدان
أليلتان جزائي منك أجلهما
بعد على حسرات إثر إحسان
مسافة البيت لا شهر ولا سنة
لكن دقائق تعدو ذات أمعان
أإن دعوتك للرعيا فلا عجل
وإن دعوت إلى مطل فلا واني
تحدث الناس عما فيك من حسن
هيهات ذاك لقلب الواله العاني
يا جنة العين ما للأرض ملبسة
سوابغا من سدى هم وأحزان
يا روضة من رياض الحسن فاتنة
تموج باليانع النائي وبالداني
فيك الشقائق للجاني تميل على
طرائف من أقاح وسط ريحان
ونرجس فوقها يسطو بلحظته
على فؤاد طويل البث قرحان
قد كان ظني أني قد ملأت يدي
هيهات ذاك حرمنا أي حرمان
أتم طيبا وحسنا منك ما نظرت
عيني ولا سمعت في الدهر آذاني
ولا أتم أسى مني ولا كمدا
يا صاعقي بجمال ما له ثان
يا حسن كم من أخي حسن كلفت به
قد سار سيرك في صد وهجران
لما برمت به فارقته جذلا
وكف دمعي عن سح وتهتان
لكن أبت ذاك آيات لحسنك لم
تترك سوى سبل إقرار وإذعان
أهون عليك بمفتون وشقوته
إذا لهوت بأكباد وأذهان
الأزاهير الميتة
أجل في حياتي الطرف تبصر رسومها
دوائر عفتها الليالي الدوائر
تولت ليالي السعد وهي حميدة
جاءت ليال بالنحوس مواقر
وأصبحت والآمال حولي ذوابل
تساقط أوراق لها وأزاهر
يشاهقها البرق المضيء عشية
وتهفو بها الأرواح وهي ثوائر
وعريت الأفنان من ورق الصبا
وعافت ذواها الصادحات الطوائر
فما ينتحيها غير غربان شقوة
لهن نعيق فوقها متطاير
فأين زهور الحب يا طول حسرتي؟
وأين أزاهير الشباب النواضر؟
وأين أزاهير السرور كأنها
تحيي الفتى والعمر قينان ناضر؟
وأين أزاهير القناعة والرضى؟
دهتها صروف بالسموم قواطر
وأين زهور الصبر والأمن والمنى؟
زوتها عن العين الهموم الزواخر
طواها زمان ليس ينشر ما طوى
فلن تجتليها يا لهيف النواظر
وغابت فغاب الأمن والخير كله
ودارت على روق الحياة الدوائر
ثوت حيث لا شمس ترد حياتها
إليها ولا صوب الغمائم ناصر
أفي كل يوم زهرة لي غضة
تموت فأبكيها ودهري ساخر
تساقط أزهار الحياة على يدي
وقلبي مقروح وصدري واغر
كأن وباء عاث فيها فلم تكد
تنور حتى أعجلتها المقادر
ولا خير في عيش إذا كان مجدبا
بواطنه مصفرة والظواهر
إذا مر بي يوم حميد، وربما
تبسم في الليل النجوم الزواهر
تلفت حولي باحثا عن شبيبتي
وأزهارها والدمع في الجفن حائر
تقطع أحشائي إذا ما افتقدتها
ويضرم أنفاسي الحنين المخامر
وبيضاء من زهر العفاف فقدتها
وبالرغم مني أن قلبي ذاكر
فغيبها قبر الفؤاد وجادها
بصيبه جفن على الدهر ماطر
بكينا عليها حقبة ثم ردنا
إلى الصبر دهر بالملمات زاجر
وما عجب أن المنايا علقنها
وكر عليها الدهر والدهر جائر
وكيف أرجي أن تدوم وقد مضت
بأندادها عندي المنايا البواكر
وإن محالا أن تدوم وحيدة
وإن سفاها ما تريق المحاجر
وإن ضلالا ندب ما ليس راجعا
وإن عناء ما تحن الضمائر
سيمضي وإن طال الزمان بي الردى
وتذهلني عما افتقدت المقابر
زهرة الصخر
آنستني بالأمل المغري
يا موحشي بالنظر الشزر
أعوذ من ذكريك بالصبر
وأين مني راحة الصبر
يا نجم أرضي يا سماء الهوى
تومض فيها أنجم السحر
خواطري السوداء مغروسة
في الذهن، كالسرحة، والصدر
تسود منها الشمس رأد الضحى
فالعيش ليل سابغ الستر
ما لي أرى كفي مملوءة
من كل ما أكره من دهري
لكنها خالية مما عسى
يحلي مذاق الألم المر
يا مجري النهر إلى البحر
ومسقط الطل على الزهر
وجامعا بين الثرى والحيا
عند التياح الأرض للقطر
وناظما في خيط هذا الدجى
عقود هذي الأنجم الزهر
وواهب الموجة صدر أختها
والأغصن الميس للطير
أطفئ بماء القرب جمر الهوى
وزوج الحسن من الشعر
لا غرق الساعات في قبلة
من خده الواضح والثغر
ماذا ترى يمنعني قربه
لو أن في العالم من يدري
أبيننا بحر يرد الخطى
أم تقذف النيران بالجمر
أم سدت الأرض فلا وجهة
أم حال ظل الموت أن نسري؟
أينقضي العمر وما صافحت
عيناي عينيه بلا ذعر؟
ولا جرى في مسمعي صوته
جري نمير الماء في الغدر
ولا تخطيت ولو ظله
فما انتفاعي اليوم بالعمر؟
حتى الكرى يبديه لي مبهما
كالزهر في أكمامه الخضر
أو حاجب الشمس إذ ما بدا
بين غمام؛ دنف الذر
كأنما الأحلام أستاره
تصرف عنه نظر الفكر
أدعوه في الأحلام حلو الجنى
على سبيل الهزء والسخر
وقد أناديه، وما أفتري،
يا زهرة صيغت من الصخر
وربما سميته باسمه
كأنما لا شك في الأمر
إن كنت حقا حلما ساحرا
فهل ترى أحلم بالهجر
وبالأسى والحرقات التي
ما أطفأتها عبرة تجري
راح على عطفي ثوب الأسى
محلولك المجول والصدر
وآدني ثقل الهوى إنه
حقيبة ملأى من الشر
وعمق الأحزان أني أرى
نفسي في مثل دجى القبر
يا ليت للزفرة روحا إذا
أصعدتها تكشف عن سري
لا غاية لي أتعزى بها
حينا ولا أقنع بالذكر
هو المنى لو أن لي حيلة
آه على ملتمسي الوعر
يا ملء عيني وفؤادي أما
تنفس البلجة في الفجر
ذكرك نسك لي تحت الدجى
فأين محرابي وا حري!
وأين لا أين بخور الهوى
أنفاسك القطرية النشر
يا رب إني حافل أمره
ولا أراه حافلا أمري
لم تقض لي منه سوى حبه
وذا قضاء بين الجور
فازدحم القلب بأحبابه
مثل ازدحام الرأس بالشعر
فليتني كان لحبي صدى
يبيته مني على ذكر
يا شقوة العاشق أمسي وما
يحسه المعشوق أو يدري
وهل يفيد الصب أن يشتكي
في شعره طورا وفي النثر
كأنني إذ أتشكى الهوى
محدث نفسي في الجهر
إن هي إلا أسطر قلما
يعبرها وا ضيعة الشعر
دفنت فيها كل ما مر بي
وهل لما يدفن من نشر
ما أضأل الآمال زادا وما
أخونها في موقف النصر
من زاحف الأيام في جيشها
فبالطلى كر على البتر
ومن أبى غير المنى حيلة
أسلمه الحظ إلى العثر
إكليل الشوك
أجوب فيافي العيش سدمان حائرا
وما لي من لفح الزمان مقيل
لقد طال بي التسيار حتى أملني
ولو أن ألوان السماء شكول
يسود شجوي كل ما أنا مبصر
فكل سناء قد عراه ذبول
يقيدني ثقل الهموم إلى الثرى
فليس إلى السعي الحليل سبيل
كنسر يريد النهض لا يستطيعه
وهيهات منه والجناح ثقيل
وليل كأن الموت أرخى ظلاله
عليه فتامور الظلام قتيل
إذا عن فيه البرق كالخيط أبصرت
غياهبه الألحاظ كيف تصول
وإن هبت الأرواح من رقداتها
حسبت الدنا جذت لهن أصول
تجسم لي وهمي به فحسبتني
أرى حلما تنهار منه عقول
كأن الربيع الطلق جاد بنفسه
وغال قوى هذي الطبيعة غول
فلا الصبح مرجو ولا الليل منته
ولا للنفوس الحائرات دليل
وأبصرت روضا هائج النبت كظه
وجلله شوك عليه طويل
تناولت منه شوكة ولففتها
لرأسي إكليلا وذاك يهول
فظل يضج الناس إذ يبصرونني
ويضحك مني عالم وجهول
ويلتف حولي صبية يعبثون بي
ويغضي حياء صاحب وخليل
مضيت فلم أنهر صبيا مرهقا
ولم أحفل الشياب كيف تقول
وفي أذني صوت ندي يحثني
يميد بعطفي حسنه ويميل
أشق به هذا الأنام كأنهم
وما أطنبوا فيه الغداة فضول
الموت ثمرة الحياة
في رثاء صديقنا المرحوم محمد أفندي عبد الرحيم
أناديك لو رد النداء رميم
وأبكيك لو أجدى عليك سجيم
وهل يحفل الميت الذي غاله الردى
سلاه خليل أم بكاه حميم
ويا ليت لي دمعا عليك أريقه
ولكن جفني يا أخي عقيم
سأبكي عليك الناس حتى تخالهم
يتامى دهاهم يوم بنت عظيم
وماذا يفيد الميت في القبر قد ثوى
دموع على الأيام ليس تدوم
وهبها على الأيام سحت غمائما
أيرجع ميتا صوبها فيقوم
وكيف أجازي طيب عهدك بالبكى
ولو أن عيني بالدماء سجوم
فبعدا لهذا العيش بعد فراقكم
فليس لعيش بنت عنه نعيم
ولا مرحبا بالدار لست قطينها
ولو أن آجر البناء نجوم
عرفتك والأيام بيض حميدة
فصرت وأيامي لبعدك شيم
كأنا الألى متنا، وهل يألم الردى
سوى الحي لا الفاني فذاك سليم
وليس غبين القوم من غاله الردى
ولكن من يخطيه فهو مقيم
ولو خير الأموات ما اختار واحد
حياة، ولا قال الحمام ذميم
يروع الفتى ذكر الحمام ووقعه
ويرتاع من ذكر الحياة رميم
خلقنا وما ندري لأية غاية،
على الموت منا هجمة وقدوم
وكل امرئ في العيش طالب غاية
ومن خلفه هذا الحمام غريم
فيا شقوة الإنسان يجنيه سعيه
ثمار الردى المنشوء وهو نعيم
ولم أر مثل العيش أزهاره الردى
ولا عاصفا كالموت وهو نسيم
كذبتك لم أجزع عليك وقد رمى
فؤادك من نبل القضاء ظلوم
نجوت من الدنيا نجاء نفسته
عليك ولو أن الفراق أليم
تمر الليالي لا تحس صروفها
فيا ليتني في الهالكين قديم
كأنك ما مادت بعطفيك فرحة
ولا جشأت دون الضلوع هموم
ولم تك في الدنيا لقلبي مطربا
ولا صرت خطبا ضاق عنه خريم
كأنك ما دبت بك الرجل مرة
لمأرب عيش تبتغي وتروم
كأنك ما آذاك برد ولا لظى
ولا كر من بعد النهار بهيم
ولا أطرف الخلان في سامر لهم
فصيح ولا عاطى السلاف نديم
كأنك لم تخلق سوى أن أكبدا
ذواكر تفريها عليك غموم
سقيت الردى في ميعة العمر والصبا
وأوكى على ما في العياب أثيم
فيا ويح للإنسان يحيا وينقضي
كأن لم تورثه الحياة رءوم
وما نحن إلا الهاجمون على الردى
فنفس الفتى عون له وخصيم
وكل امرئ يحدوه للموت حينه
وللموت جذب لو فطنت وخيم
وما أحد باق وسوف يضمنا
وإياك بطن الأرض وهي جسوم
لقد كان ظني أن يقدمني الردى
عليك ولكن الزمان لئيم
وحشة الحياة
تلاقيت والدنيا لقاء لفرقة
وبالرغم من أنفي اللقا والتفرق
وعريت من أهلي صبيا فلم أذق
حنان أب يرعي علي ويشفق
فما مصعد في شاهقات من الذرى
بأكثر مني وحشة وهو معنق
فصادقت نفسي في الحياة كما خلا
بمزماره راع أملته أينق
أوازن بين الخير والشر تارة
وهيهات! أعياني بظني التعلق
وما بي من ذل ولا عجرفية
ولا أنا أخشى كيف كنت وأفرق
وإني لأدري أن للعمر نهجه
وأن حياة المرء ثوب سيخلق
ولو أنني خيرت ما اخترت لبسه
ولا شاقني تحبيره والتنوق
ولو أن نفسي خيرت في طلابها
لكان لها فوق الحياة محلق
وما أزدري أبناء آدم إن بي
حقارتهم والند بالند ألحق
الطفولة
رعى الله أيام الطفولة إنها
على جهلها أحلى وأهنأ ما ليا
ليالي أظن الكون إرثي وأنني
أعير النجوم الزهر نور بهائيا
وأحسب بطن الأرض واليم والدجى
مثاوي للجن المخوف خوافيا
أفيض على ما تأخذ العين جرمه
وأفضي إليه بالشعور حياتيا
إذا أذيت نفسي صرخت ولم أبل
وداويت نفسي في الأسى ببكائيا
وما كنت أدري الهم كيف مذاقه
ولا كان شيء عازبا عن رجائيا
ولا كنت أكسو النفس ثوب مخاوفي
وأزعجها من حيث تنشي الأمانيا
يضاحك ثغري كل ثغر توددا
ويبدي حنانا من يراني شاكيا
ويلفي بي الناس السرور كأنما
برا الله من كل القلوب فؤاديا
ولي سهمة من كل لهو كأنما
تباري الورى أن يبلغوني مراديا
فيا رب أوزعني على ما سلبتني
وأبدلتني، صبرا يوازي مصابيا
فقد بزت الأيام عني مطاريا
وقد هدمت أيدي الخطوب بنائيا
وأغرقني في لجة بعد لجة
من اليأس دهر لا يبالي بلائيا
ويوشك أن يخبو شهاب شببته
إذا ما خبا لم يلف في الدهر واريا
وأثقلني همي وأقعدني فما
أصعد طرفي مرة في سمائيا
بليت كما تبلى الطلول وهل ترى
على عنت الأيام يا قلب ناجيا
عالم الكرى وعالم اليقظة
قد وجدت السهد أهدى للأسى
ووجدت النوم أشجى للحشى
شد ما يظلمنا الدهر أفي
يقظة دنيا وأخرى في الكرى
ويل هذا القلب من صرفهما
لا الكرى أمن ولا السهد حمى
الردى - إن كان لا منجى - الردى
إنه للنفس غوث ونجا
إن للأحلام أما طرقت
نفسا مرا ودمعا ولظى
كم غدا الخاطر في يقظته
حاملا منها كأجبال الصفا
كم غدونا نشتكي من بعدها
نغرة الجرح الذي كان أوى
شاطرتنا عيشنا فيما مضى
فهي بعض ما طوى منا البلى!
أتقيها والكرى يقذف بي
وأغض الطرف والقلب يرى
وعلى ما عذبت أو ملحت
حرقة الصدر نصيبي والظما
كلما قلنا نسينا قدحت
من دماء القلب نيران الأسى
خلق المقدار منها عالما
يقهر النفس بسلطان الجوى
يا بنات النوم ما لي أرتعي
في حماك الهم ممرور الجنى
أبنات النوم تسطو في الكرى
وبنات الدهر تسطو بالأذى
أين يا سائقنا أين بنا
شد ما أنهكنا طول السرى
إلى رجل يشتمنا
رفقا بنفسك إنني رجل
لا بغض في قلبي لمن جهلوا
حسن الكراهة في تبادلها
لا أن ينوء بثقلها رجل
فاقل الذين إذا ثلبتهم
أضنى نفوسهم بك الشغل
إني لآنف أن أسف إلى
أمر سيعقبني له خجل
إلى مدل بجماله
يا قمرا لا يعرف الأفولا
كل سنى لا بد أن يحولا
ووردة لم تعهد أن يحولا
ملاك ربي عمرك القليلا
أهون بخطب يهب البديلا
ما أكثر الورد كما قد قيلا
اللحظ المصروف
يا صارفا لحظه عني على عجل
أما تراني أهلا أن تراعيني
قسمت لحظك بين اثنين مختبل
وهائم بسواكم غير مغبون
أولاهما من أذاب الحب منطقه
وهو القدير على شرح وتبيين
اردد إلي لحاظا قوتها أبدا
حب بعيني باد غير مدفون
تبصر جمالك في عيني مرتسما
وقد ترى الدمع يخفيه إلى حين
وأجر في مسمعي صوتا نعمت به
يكاد يذهل عن عقل وعن دين
إخاله إذ يسك السمع لينه
ألحان قلبي وقد باتت تناغيني
إلى صدقي
إيه عبد الرحمن أذكيت جمرا
حيث قدرت أن ستفرغ صبرا
أجد الدمع بعد نصحك أجرى
فكأن التعذال للدمع أغرى
لست أبكي لفقدها علم الله
وإن كانت المصيبة بكرا
وهي بعضي فإن بكيت فعذر
لأب ضاق بالرزية صدرا
غير أن الهموم يفصح عنها ال
دمع كالزند كلما لز أورى
ليس بدعا على ترقي الرزايا
أن تبيت الشئون أعظم غزرا
حذقتني الأيام ألحان حزن
فنظمت الدموع للناس شعرا
وبرغمي سحت سحائب دمعي
وبكرهي عصيت للصبر أمرا
أرمضتني الخطوب في فدفد العي
ش ولم ألف غير دمعي قطرا
ما على من راخت قواه البلايا
من ملام إن لم تجده ممرا
خلق الجفن للدموع مجازا
لا سجونا لفيضهن وقبرا
فدع اللوم يا خليلي فإني
بي كبر أن أمنع الدمع كبرا
ليس هينا علي أن فئت فردا
أشتكي وحشة وآلم بترا
وعظيم علي قولك إني
واجد بعدها بديلا أغرا
لهفتي للفتاة في وحشة القب
ر تعاني فيه السكون المرا
أبدا لا تزال تغشى ضميري
حسرات تصول طردا وكرا
ودموع عليك مسفوحة الوب
ل تزيد الفؤاد وقدا وحرا
فاذهبي كالربيع ولى وأبقى
أثرا بيننا وإن كان ذكرا
الشعر والريح
صلاتي لربي الصمت في معبد الدجى
لمن عرشه نور الجلال الموطف
ولكنني بالشعر يهضب مقولي
ويعرض مني جانبا ليس يكشف
وأسكب في أذن الزمان مواجدي
وإن كانت الأضلاع منها تقصف
فلا تلح شعري إنه الريح مرة
تقر وأخرى لا تني تتعجرف
وتلفحنا منها السموم وتارة
يباديك منها جربياء وحرجف
وتزفر أحيانا وترقد مثلها
كذاك لشعري سورة وتألف
في الرثاء
قصيدة قلتها في نفسي على لسان آخر، وسألت صاحبا لي أن يرثيني بمثلها.
قضى غير مأسوف عليه من الورى
فتى غره في العيش نظم القصائد
لقد كان كذابا وكان منافقا
وكان لئيم الطبع نزر المحامد
وكان خبيث النفس كالناس كلهم
جبانا قليل الخير جم الحقائد
وقد كان مجنونا تضاحكه المنى
وفي ريقها سم الصلال الشوارد
فعاش وما واساه في العيش واحد
ومات ولم يحفل به غير واحد
وجاء إلى الدنيا على رغم أنفه
وراح على كره الأماني الشوارد
أراد خلود الذكر في الأرض ضلة
فأورده النسيان مر الموارد
ولم يبكه إذ مات إلا أجيرة
لها زفرة لولا اللهى لم تصاعد
فلا دمع يروي يوم ولي ترابه
وكيف يروي تربه غير واجد
فلا تندبوه إنه ليس بالأسى
حقيقا ولا أهل الهموم العوائد
وخلوه للديدان تأكل لحمه
وذاك لعمري خطب كل البوائد
ولا تزعجوا الديدان بالندب إنها
هدي لمن تطويه سود الملاحد
وقوموا ارقصوا قد فاز بالموت موجع
بلى ربما كان الردى خير ضامد
في العتاب
أين تلك العهود وافقن آما
لي وأخلفن بعد ذاك الظنونا
أين لا أين موثق ويمين
رحم الله موثقا ويمينا
ضقت ذرعا فإن تطق فأعني
أو فعني فما أريد معينا
فلعل الزمان ينجز وعدا
منه إن الزمان كان قمينا
أمل إن قضاه لي الله يوما
لا يجدنا لشكره جاحدينا
ولعل القنوط أحجى بمن لم
ير منكم على الوفاء ضمينا
يا خليلي وآثر العذر واعلم
أن للوجد سورة وجنونا
وعزيز علي لوميك لكن
كبر الحب أن يظل غبينا
الغزال الأعمى
(جوابا على أبيات لصديقي الشاعر الجليل عبد الرحمن أفندي شكري يشكو فيها إلي هما.)
معيني على الأيام لاعت جوانحي
شكاتك حتى ما أكاد أبين
وما أنا خير منك حالا وإنما
أعالج ما ألقى عساه يهون
تتبع آثار الزمان نوازل
يموت ويحيي إثرهن يقين
تغير آراء الفتى نكباته
كأن الفتى في كفهن عجين
فيا قرب ما يعدو على الرأي غيره
وسرعان ما تبلي الظنون شجون
وأوجع ما ألقاه في العيش حيرة
كغزال سوء أعوزته عيون
وإني لأدري أن للخيط مذهبا
وإن كنت لا أدريه كيف يكون
وإني لأدري أن للعيش مطلبا
ولكن غايات الحياة فنون
ولا علم لي ما اسم الذي أنا غازل
ولا نفعه لو أن ذاك يبين
أتاني من لم أطلع قبل طلعه
وقال وألقى الخيط وهو ركين
عليك به فاغزله إنك أكمه
وما لك إلا شمأل ويمين
ولكنني قد يخطئ الخيط أصبعي
وتطلبه كفاي وهو شطون
فأعلم أن الريح ثارت وأنني
إذا لم يعني الله سوف أحين
ولكنه أين المفر من الذي
أخاف وما لي في الحياة عيون
ليلة
يا أخلاي مرحبا وسلاما
نعم ليل يضمنا في نظام
بين كأس وإخوة ونعما
ليلة بين إخوة ومدام
جاء هذا الربيع طلقا وجئتم
مثله بعد طول عهد الغمام
فسقى الأرض ريها وسقيتم
مهجتي ريها على الأيام
فرياض من الربيع حوال
ورياض من ودنا البسام
ولعمري لولاكم ما عبأنا
برياض مفترة الأكمام
ورياض الربيع خضر ولكن
أنتم وردها الزكي الشمام
قد يشم الصديق من نفحة الإخ
وان ما لا يشم قطر الرهام
أنتم إخوتي ربيعي لا ذا
ك فما للزمان طول مقام
لن يفوت الربيع عيشي ما أص
فيتم الود أو رعيتم ذمامي
جمعتنا مودة فلبسنا
ثوبها ضافيا على الأجسام
ليلتي هذه جدير سناها
أن يشوق الفؤاد للإظلام
والليالي إذا أتتك بإحسا
ن وطيب أطمعن في الإنعام
فلتكن كرة إلى مثل هذا
بعد أيام فترة وجمام
عندي الليل والنهار سواء
حين تبدون في سواد الظلام
ولئن عدت إنني لشكور
أنشر الشكر في القوافي الكرام
فاغتنم ذلك اللسان فإن ال
ملك للألسن الفصاح الكلام
العقل والموت
ترى ينسخ الإصباح من ظلمة القبر
ويكسر برد الموت محي من الحر
أما هاتف يرثي لنفس يقيمها
ويقعدها قولي لها الدهر لا أدري
إذا التام بطن الأرض يوما على الفتى
أيخطو الحمام العقل أم هو يصرع
وكيف تواري نوره مستطيلة
على حين ما ضاقت به الأرض أجمع
الليل والهم
قمر يحلم في لج السما
باهت اللألاء من طول السهد
ساكن يسخر منه كلما
قام بالقلب حنين وقعد
ما أضل القلب بالليل وما
أضرب الوجد عليه بالسدد
ينفد الليل وإن طال وما
لعباب الهم ذي اللج نفد
الضمير
قد أفعل الشيء لا أبغي به أملا
ولا أبالي الورى ماذا يقولونا
همي ضميري فإن أرضيته فعلى
رأي العباد سلام المستخفينا
الملاح المسحور
أصبحت كالملاح صافح عينه
ملء النواظر من رواء باهر
سحرته من حور البحار خريدة
حرب النهى فغدا بغير مناصر
فمضى وقد ألهته عما يتقي
من صخرة تردي ويم زاخر
بيناه يرمقها تعالت حوله
لجج على لجج كطود سائر
مخاوف النفس
أقلى الدنا وأخاف فرقتها
لشقيت بين المقت والزؤد
وأهاب نفسي أن تكشف لي
وأبيت من أمسي على ضمد
ويروعني يأسي ويفزعني
أملي وأفرق من لقاء غد
ولرب جوهرة ظفرت بها
فنفضت منها كف مرتعد
ورجعت أنظر هل بها أثر
منها يظل يهيض من جلدي
حصاد عيش
يا حسن وا حسرتا على غرر
جودتها فيك بل على سور
أبليت فيك الصبا وجدته
والعمر عهد الشباب والصغر
يا ناطق الحسن من لعاشقه
بمنطق كالجمال مختصر
يا ضاحك الثغر من لعابسه
بمثل سح الغمائم الهمر
يا ناعم البال إن كاسفه
موصول خيط الرجاء بالذكر
يا ساكن النفس إن ثائرها
مضناك قد صار ميت الخبر
أقعده الهم عن مراغبه
كالنسر هاضته رعشة الكبر
أنفاسه زفرة مقطعة
كأنما قد أصيب بالبهر
يظل في فحمة الدجى أبدا
يرسل حيران رائد الفكر
كيف سعت بي إليكم قدمي
لو نال ردا مسائل القدر
ترى تريه الأحلام عاشقه
مزدهف اللب بين الصور
يا ليتني في الكرى أخوض له ال
غيب وأطوي مسافة الهجر
يطلع طيفي كالفجر منفلتا
من الدجى في غلائل السحر
أقول قد جاءك المعذب في ال
يقظة والنوم مدة العمر!
يا زهرة الحسن ما لنفحتها
تخطئنا دون شائك الإبر
أليس للوجد والأسى أمد
فكل شيء أراه ذا عمر
يا ثاني العطف بعض زهوك إ
ن العيش ورد مرنق الصدر
أهون بشيء يلفه كفن
وينطوي في التراب والمدر
أدمية أنت لا حياة بها
لضل باغي الحياة في الصور
لا عجب أن تكون ذا عنف
يا لين الحسن يا أخا الحور
النفس مثل الحياة معترك
تسطو بها أنعم على أخر •••
يا سنة غالها الزمان وما
غالت سوانا حوائل العصر
ليت زمانا مضى تودعنا
همومه العائدات بالذكر
أو ليت ينسى الفتى حوادثه
جمعاء حادي الروحات والبكر
يستدبر الحول غير ذاكره
مستقبلا غيره بلا حذر
حتى كأن لم يكن ولا طرق ال
دهر ذراه بالصفو والكدر
خلى غبار الأسى لنا ومضى
عام بغير الأهوال لم يدر
مهنئي بالجديد من زمني
خلفني العام غير ذي وطر
خلفني متعبا أئن من ال
برح ولا أستقر من ضجري
مغرورق العين غير فائضها
ما أوجع الدمع غير منهمر
منتفضا لا أزال ألتمس ال
شمس وهيهات لا سوى القرر
حصاد عيشي الهشيم وا أسفي
على الرطيب الرفيف من شجري
ذاك فهل لي في مقبل عوض
من مدبر بالأذاة منحسر
ينشر لي لذتي كما ينشر ال
صيف بعيد الشتاء والمطر
فتمرح النفس في رياض هوى
حوافل بالثمار والزهر
وتسعد القلب زهرة أنف
أغنى الصبا حسنها عن الدرر •••
هات اسقني يا نديم واظمئي
حتى تراني نسيت مدكري
إن أغاني الأسى وإن حسنت
أرضية يا نديم فاقتصر
أرجعننا صبية مواجدنا
منطقنا صرخة من الخور
نلتمس النور كل ملتمس
هيهات والحظ جد معتكر
هل كان ما مر من لذائذنا
كما زعمناه طيب مختبر
ينبوع صفو النهار مزدحم
رقراقه بالظلام كالجزر
لكنما الوهم صيقل صنع
يحيل لمع الزجاج كالدرر
والمرء أعلى بما مضى نظرا،
لبعده أو لحاضر الغير
لكن صدر الفتى يجيش فما
يسعد كالشعر غير معتسر
كما احتبى بالهشيم ذو عدم
لم يلف إلاه في الدجى الخصر •••
ذهني محراب حسنكم وبه
صورتكم دون سائر البشر
وخاطري لا يني يرتل كال
راهب آيات حسنك العطر
لأبنين مذبحا وأجعل قر
باني فؤادي وما انقضى وطري
إذا خبت ناره وقصت لها
عود المنى فهو غير ذي ثمر
فاقبل فؤادي لحسن وجهك قر
بانا فقد كان خير مدخري
محمد وعزوز أو الموسيان
عباس إن ابني لي مفزع
من وحشة العيش ومن نكره
يؤنسني في وحشتي هذره
فلا عدمت الأنس من هذره
ووثبه بين ألاعيبه
وكلها أكبر من قدره
وضربه هذا وتقبيل ذا
وكلهم ساع إلى بره
وصده طورا وإقباله
وليس ما يدعو إلى غدره
يركب ظهري غير مستغفر
حب به طفلا على كبره!
مستهتر لا يتقي قالة
ولا يبالي الناس من فجره
لكنه فاعلم فتى طيع
يبرني حقي من شكره
يلثم كفي كل يوم ولا
يضن بالقبلة من ثغره
أبلغ إلى عزوز أطرابه
وشكره المدفون في صدره
وقل له إن فتى مازن
يدعوك عزوز إلى مصره
أيهما بالله يا صاحبي
أجمل إذ يخطو إلى عثره
ومن ترى يا صاحبي منهما
بالسامري أشبه في أمره
رباه جبريل على دينه
وشب مطويا على غيره
ولم يفده طول تسبيحه
في سره طورا وفي جهره
ولم يغير ذاك من نجره
ولا أحال الفرع عن جذره
لما غدا موسى إلى ربه
أضل إسرائيل من فوره
وجاءهم بالعجل مستحقرا
أحلامهم يضحك في سره
ومن ترى موسى الكليم الذي
رباه فرعون على كفره
رباه فرعون فما راعه
إلا نبي في فتى بره
يدعو إلى الله ورضوانه
ويرعد الجبار في قصره؟ •••
لا مال أخشى منه إتلافه
عباس في المقبل من عمره
ولا أباليه إذا ما غدا
يزهد في العيش وفي وفره
يعدو على الناس بسوآته
ولا يصيب الناس من خيره
ولست أخشى أن أراه فتى
قد وسع العالم من شره
لكنما أشفق يا صاحبي
من أن يجيش الشعر في صدره
من يشتري شعري على حبه
براحة الغافل عن دهره
من يشتري تغريدتي موهنا
بغطة الذاهل عن فجره
من يشتري دمعا يحس الفتى
جولته لا الفيض من قطره
من يشتري نفسا وآلامها
بثقلة المأفوك في فكره
من يشتري هذا سوى مائق
يسعى برجليه إلى ضره؟
يا أم
يا أم لا تجزعي مما يداهمنا
من الخطوب ولا تأسي لما فاتا
تمضي المقادير فينا الحكم عادلة
ويقسم الله أرزاقا وأقواتا
وكل ضائقة تعرو إلى فرج
وإن لليسر مثل العسر ميقاتا
ضل الذي يرتجى تأخير قسمته
قد مات كالكبش إسماعيل قد ماتا
الميت الحي
أرسلت إلى صديقنا المرحوم محمد أفندي عبد الرحيم، وقد دعاني إلى الدخول في جمعية «أنصار التمثيل».
ما تصنعون بفان مات أكثره
وجف من عوده المنآد أنضره
إذا نظرت إلى كادي شبيبته
أعطاك كنز عظات فيه منظره
كأنه جثة لم تلف دافنها
أو أنه جدث يمشي وتنكره
فاعذر أخاك ولا تنكر تخلفه
لا يعرف الجرح إلا حين تسبره
نعام عين شقيق النفس لو نصرت
أخاك حال ولكن ليس تنصره
الجزء الثالث
معاهدة غرامية
أيها القارئ:
نحن طلاب جديد، مبتدعون حتى في سياسة الحب، فلست بواجد هنا ما يتغنى به الناس من الوفاء والبقاء على العهد؛ لأنهما مما تأباه الطبيعة، والمرء إذا أحب يبدأ بمخادعة نفسه، ومغالطة قلبه، ثم ينتهي بمخادعة غيره.
والوفاء في حياة القلب كالثبات على رأي واحد في حياة العقل؛ كلاهما ليس إلا اعترافا بالإخفاق، وإن في الوفاء لو تدبرت لشيئا في شهوة الملك، وما أكثر ما نود أن نرميه لولا خوفنا أن يلتقطه سوانا، وكثيرا ما يكون الوفاء راجعا إلى نقص الخيال، أو كسل العادة.
ولقد غبر زمن كنا نحسب أنفسنا فيه أوفياء، ونتوهم مثل ذلك فيمن اتصلت أسبابنا بأسبابهم، أما الآن فقد أرحنا واسترحنا، وإليك المعاهدة وديباجتها:
غنني يا ريح حتى تغمضي
أعين الفكر عساه أن ينام
وامسحي وجهي وتغضين الأسى
واطردي عني شياطين المنام •••
إن في أذني أعاصير الشتاء
وبقلبي وحشة البيد القواء
تصف العين إذا قلبتها
كل شيء لي في أسر الشقاء •••
فكأني سامع شكوى الكلال
في خرير الماء جياش الضمير
وكأني ناظر قيد الليالي
حول أعضاد الرواسي كالسيور •••
أسمع الزهر وإن كان قتيلا
يندب الحسن بأشجى منطق
وسعته الريح تنكيلا وبيلا
فقضى والحسن لما يخلق •••
ولقد أسمع في الليل البهيم
ضجة الموتى وأبناء الجحيم
وكهمس الموت في أذن الكليم
خطرة الريح على النبت الوشيم •••
يا خليلي اخبراني واصدقا
هل لليل اليأس صبح ينتظر
مر بي الدهر عبوسا أزرقا
كاشفا عن ناب نضناض ذكر •••
هذه كفي على خون العهود!
لا على الرعي؛ فهذا لا يكون
إنها دنيا كذاب وجحود
ولصدق النفس أولى لو يهون •••
هذه كفي على وشك الملال
كل نار سوف يعلوها رماد
آه لو أسطيع تصديق الخيال
أو يكون الجهل شيئا يستفاد! •••
هذه كفي علي أن أصطلي
بك نارا دونها نار سقر
وإذا لوحتني تترع لي
كأس مهل في عتيقات القدر •••
نقلي السهد عليها والضنى
ورياحيني - لو تدري - الهموم
شجها الدهر بمحذور النوى
فنوازيها خبال ووجوم •••
وألاقيك وتلقاني كما
ناطح الموج جلاميد الصخور
مزبدا حولك مهزوما وما
إن تبالي كيف هاضتني الوعور •••
يا عقيدي طامن الله حشاك!
لن تراني شاكيا وهي حبالك
أين من طينتنا أين الفكاك؟
أنت إنسان على فرط جمالك
اللص
لمن مال تبعثره أكف
تعودن السؤال على الدهور؟
لحاك الله من لص رقيع
يفاخر بالعضيهة والفجور
وسبحان الذي آتاك مالا
وعلمك التزمل في الحرير
وأسكنك البيوت وكنت قدما
مبيتك خلف أبواب القصور
ورثت خصاصة وأصبت مالا
فكيف ظفرت بالمال الوفير؟
أتذكر حين كان أبوك يمشي
وما في كفه شروى نقير؟
يدلل يومه في السوق طورا
وطورا في الأزقة والكفور
ويوقر ظهره مولاه حتى
كأن أباك كان من الحمير!
فذا البيت الذي تبني عليه
وأهون دائه ضعة العشير
وليس بقابل رفعا فدعه
وكن منه على يأس كبير
فما كل الأسافل ساعدتهم
سجايا اللؤم والأصل الحقير
وإن سيادة السوقي - فاعلم -
كمركب ثعلب ظهر النسور
وإنك كالنعامة ليس ترجى
لمنفعة وإن تك كالعبير
وأشبهت الطيور ولست منها
لعمرك في قليل أو كثير
وتحسب أنها إما تعاشت
فكل الناس ذو نظر حسير
لقد زعموك إنسانا وإني
أرى الذلان يغضب في أمور
وقد تجد الهلوك لها حياء
تدانى فيه ربات الخدور
وقالوا لا يزايله ابتسام
وليس المرء تمثال الصخور
فهلا علقوه على جدار
وحفوه بأنذال العصور؟
فكان على صنوف الخزي رمزا
وعنوانا كأصبعك المشير
أترجو أن تعد فتى شريفا؟
فهذا حين تطوى في القبور
لأوحشت السجون وإن فيها
لدورا جمة من فوق دور
أتأنفها منازل كان فيها
أخ لك ليس أضرى بالشرور؟
نظار فإن حكم العدل يوما
مصيرك للخبيث من المصير
إذا تلقى جزاءك بعد مطل
ويسملك القضاء إلى الغفور
فكل رزق العباد وكن صبورا
على سوء المقالة والنكير
وكل ما شئت من لحم غريض
هنيئا غير داء في الصدور
ألا فابعث إلى أبويك طرا
بألوان المعاذر والقتير
خواطر في الموت
لا يكاد يصدق المرء أنه سيموت، أو على الأصح أنه سيفقد إحساسه بنفسه وبما حوله، وهو معنى الموت، وقد كنت في صدر أيامي أكاد أجن كلما طاف بي خاطر الموت، أو سك سمعي لفظه، ولكن الأيام كفيلة بتبليد النفس بما تجشمها من معاناة تصاريفها، وبما تشعرها من دبيب الفناء شيئا فشيئا، والآن صرت أفكر في الموت كما أفكر في أكلة شهية: لا فزع ولا جنون، وكل ما أنقمه من الحياة والموت جميعا أني سأموت قبل كثيرين غيري، وقبل أجيال عديدة ستأتي بعدي! وكل ما يحيرني هو استمرار هذه الحياة، التي أعياني طلاب معنى لها، أو فائدة أو غرض، وهي ستنتهي على أي حال، فما ضر لو قضت «الحياة» نحبها الآن في عهدي؟
في هذه الحالة النفسية ترجمت بيتين، ونظمت قصيدتين، فليقرأها القارئ في ضوء هذه الحالة أو في ظلامها! (1) ليتها ...!
بيتان مترجمان عن الألمانية:
أيها الزائر قبري
اتل ماخط أمامك!
ها هنا - فاعلم - عظامي
ليتها كانت عظامك! (2) الذكر
يمل الفتى طول الحياة ولا يرى
على الموت إلا ساخطا جد واجد
ويطلب إما مات أن ينصبوا له
معالم تستجدي دموع الخرائد
وتبدي جراحات الردى وكلومه
وتستمنح الأحياء ذكر البوائد
وينسج برد الشعر مسهر جفنه
ليسبي حريم الذكر حر القصائد
بلى ذاك دأب الناس كل بنفسه
يعرفنا من صادر بعد وارد
وديدنهم حتى تجف حياتنا
وتخلع ديباج الربيع المعاود
ويسكن نبض الأرض مثل قطينها
وتعلق أسباب الردى بالفراقد (3) النساجون الثلاثة
ثلاثة نساجين ثم أراهمو
كما راءهم من قبل عهدي آدم
نعاقب أيديهم على النول دهرهم
ولست أراه غير أني عالم
وما بي إلى أن تبصر العين حاجة
أليس سوى ما أنت بالعين شائم
هنالك لو تدري تسدي أكفهم
وتلحم بردا عهده متقادم
هناك؟ وما قولي هناك؟ كأنما
لحيث أقاموا حده والمعالم؟
وفي مسمعي منهم وإن كنت لا أرى
وجوههم؛ أصواتهم والزمازم
يحوكون ثوبا ناصعا فيه تنطوي - متى عريت - هذي الدنا والعوالم
من البرد الخزي بعض خيوطه
ومن بلورات القر فيه نمانم
ومن نفس الريح المديد خطوطه
ومن قطع السحب الثقال مراقم
ألا ليتني في الأرض آخر أهلها
فأشهد هذا النحب يقضيه عالم
إلى صديق
تهنئة بانقضاء عام
أهنيك بالعيد لا أنني
أرى العيد أروح من غيره
كفى فرحا أن عاما مضى
بما لقي المرء في كره
فليت القلوب إذا ما انقضى
تطيب وتعرض عن ذكره
أرى الدهر ما فات لا ينثني
فليت الخوالج في إثره
يموت الزمان ولكنما
تعيش الهموم على قبره
وأقعدني عنك أني مريض
أعاتب دهري على سخره
فهل أنت قابل عذر امرئ
يود التبرؤ من عذره؟
في رثاء بنت لي
هذه قصيدة قديمة ترجع إلى أخريات 1913م، وقد ضاعت نسختها، ولا أذكر منها غير هذين البيتين:
فقدتك لم تعلق بذهنك صورة
ورب صغير رزؤه كالأشايب
تقنصك المقدار مني غرة
وأقلع عنك الموت دامي المخالب
غدا
غدا تطلع الشمس التي أترقب
وينجاب ليل لم يقد فيه كوكب
وتصبح مني قيد لحظي بعد ما
تقاذف ما بيني وبينك سبسب
فيافي زمان ظلت أشبر طولها
وما لي سوى رمضائها متقلب
مقيلي آمالي وهن لوافح
ونجمي ذكرى نورها ليس يلهب
إذا افترت الدنيا رأيت خواطري
تسود ما يبدو بها وتغيب
وما أنا بالتسويد مغرى وإنما
أطير غبار العيش عني وأسكب
ورائي أيام خلعت بياضها
وظلت ديباجها معي حيث أذهب
لقد أخمدت جري الحوادث وانثنت
تذري رمادي كل ريح توثب
وما تضحك الدنيا انبساطا وإنما
لنحسن تقدير الأسى إذ تقطب •••
ألفت النوى حتى أراني إذا دنا
أصدق قلبي تارة وأكذب
وتخدعني الآلام حتى إخالني
سلوت، وتلهو بي الشجون وتلعب
ويغضبني حبي وأرضى احتماله
ويا لشقائي حين أرضى وأغضب!
وأجري لساني مفصحا ثم أنثني
فأعجم ما أعني وقد كدت أعرب
غرائب حالات تظل صروفها
بنفسي تطفو تارة ثم ترسب •••
غدا تلتقي الألحاظ بعد شرودها
وأنشد ما جودت فيك وتطرب
وترنو بعين يلثم الكون لحظها
يقربها القلب المعنى المعذب
وأنشق أنفاسا بفي حاجة لها
فمنه لها أهل وسهل ومرحب
وتمنح كفي راحتيك مؤاتيا
وترخي عنان الشوق طورا وتجذب •••
سأشدو! ومن يدري إذا كف صادح
أيدوي بآذان الحبيب التطرب
إذا ما عيينا بالقريض وصوغه
أتعطفك الذكرى علينا وتحدب؟
ويا ليت من يدري أتضحك لاهيا
إذا أطبق الدهر الشفاه وتغرب؟
ويلمع في عينيك نور عهدته
إذا ضم جفني الردى المتوثب؟ •••
غدا تشرق الشمس التي كنت أرقب
فيا ليت شعري في غد كيف تغرب
خواطر الأرق
ملل النفس
سطت على الجفن بنات السهاد
فاستلبته غمضه والرقاد
فليتها إذ سلبتني الكرى
أغفت ولم تسهر لهذا الفؤاد!
يا عجبا من سارق زاهد
لا يحفل الكنز الذي قد أفاد!
ليلان: ليل صبحه يرتجى
وليل نفس ما له من نفاد
ألفت وجه الليل من طول ما
أخلو بنفسي فيه دون العباد
ولم يعد للصبح من رونق
في العين إذ يخلع عني السواد
في النفس جرح عزني برؤه
تخفي الدياجي دمه كالضماد •••
قد كنت حي الحس يقظانه
فالآن ما أبلد هذا الجماد!
تمر بي الأيام لا آسفا
لكرها أو راغبا في ازدياد
لو كنت ما كنت قديما إذا
هشم رأسي نطحه للصلاد!
عيني ملت كل ذي نضرة
يأتيه من قبل الحصاد الحصاد
وملت الأذن افتراء المنى
وضربها الآفاق دون المراد
وملت النفس أغاني الأسى
ولوبها حول الأحاظي البعاد
وا حسرتا أنى تعيد الرماد
ذا معمعات قدحات الزناد!
وا حسرتا أنى يحيل الربى - إن أمحلت - خضراء نفث العهاد!
ترى وجوه الأرض لا ترتضي
من أجلنا أن نكتسي بالقتاد؟
حتى متى أسمع لفظ الوفاء
وهل ترى يجمل أن يستعاد؟
وهل ترى أعني به؟ أم له
عني معدى واسع ذو امتداد
وهل ترى تطفو سفين المنى
ونرتقي بين أواذي الدآد؟
ويغتدي عود الهوى مورقا
يجنى فؤادي ثمرات الوداد؟ •••
وددت لو تحملني أجنح
إليك لما طار عني الرقاد!
آوي إلى ظلك في ليلة
أغرت بأجفاني بنات السهاد
وصية شاعر
على مثال وصية «هيني» الشاعر الألماني
أسأل القارئ وأعفيه من مئونة الإجابة: ألا يحب المرء لعدوه كل سوء؟
أليس كرهك مصادر شقوتك طبيعيا؟
ليس هذا من كرم الخلق في شيء ولا ريب، ولكن خداع الألفاظ عظيم، وما أكثر ما نموه بها حتى على أنفسنا، وإن كان الأصل أن يغالط المرء غيره لا نفسه، ولكنه يألف الرياء والغش والمغالطة حتى تجوز عليه كسواه، وكرم الخلق صفة لا وجود لها في هذه الدنيا الدنية، ولم يمش على ظهر الأرض رجل واحد - عدا الأنبياء والمجانين - يستطيع أن يقول بينه وبين نفسه «أنا كريم الخلق بالمعنى الصحيح».
وخير للناس أن يتقبلوا وصيتي هذه بقبول حسن؛ فإنها قطعة من القضاء، وما أخلقهم أن يشكروا لي أني تحريت العدل في القسمة، ولم أحرم أحدا من نصيبه الذي يستحقه على عكس المألوف في الوصايا، مذ كتبت في هذا العالم، ولئن شكروا لأزيدنهم!
سترخى على هذي الحياة الستائر
وتطفأ أنوار ويقفر سامر
فهل راق هذا الناس قصة عيشتي
وماذا يبالي من طوته المقابر؟
تركت لهم من قبل موتي وصية
نظير التي أوصت بها لي المقادر
وهبت لأعدائي - إذا كان لي عدى -
همومي وما منه أنا الدهر ثائر
وأوصيت للمحبوب بالسهد والضنى
وبالدمع لا يرقا ولا هو هامر
وبالجدري في وجهه ليزينه!
وبالعرج المرذول والله قادر
وبالضعف والإملاق واليأس والجوى
وبالسقم حتى تتقيه النواظر
وللشيب بالأوجاع في كل مفصل
وبالثكل في الأبناء والجد عاثر
وكل سقام قد تركت لذي الصبا
وما كنت منه في الحياة أحاذر
وللناس ألوان الشقاء وإنني
إذا مت لا آسى على من يخامر
هاجس
يا نفس من لي أن أحقق رغبة
جمحت بنفس الشاعر المتأمل
ليست تكلفني المحال وإنها
لثمار ذهن مخصب لا ممحل
توري صدور الكاشحين وتنثني
فتقر عين المخلص المتهلل
أكل التبطل ما مضى وأخاف أن
يقتات من أيام عيشي المقبل
ولهلم الثاني
قصيدة ضاعت نسختها، ولا أذكر منها غير هذه القطعة:
ملك الملوك تولت الأحلام
وطغت عليك بسيلها الأيام
نفست عليك جلال حلمك قدرة
في راحتيها النقض والإبرام
للناس غايات وللمقدار غا
يات تضل بتيهها الأفهام
لو كان جرم المرء قدر جلاله
ضاقت بجرمك هذه الأجرام
أو كنت أضأل من ملكت قيادة
لنجوت مرميا إليك زمام
رجل الضئيل على الصفاة وإنما
يهوي الذي تسمو به الأحلام
قامرت بالدنيا وكلفت الورى
ما لا يطيق فملك الخدام
ولو اجتزأت لما ورثت لما جرت
إلا بشكر هوانك الأقلام
هذا الورى نمل فلا تطلب به
أملا تنوء ببعضه الأعلام
والناس ليس لهم بغير بطونهم
شغل فخير منهم الأنعام •••
ملك تملكه الزوال فعرشه
بالصدع من كف القضاء حطام
ومعصب فاز الورى من سعيه
بثماره، ومضى له الآلام
كان لي
كان لي في العيش ملهى كلما
أظلم الهم جلا عني الظلاما
فطوت عني الليالي حسنه
ونشرناه على الدهر نياما
كلما شيخ دهري عهده
رجعته حدة الشوق غلاما
لفني من بعده الهم فما
أجتلي فيما أرى إلا رماما
وقفة في الحياة
وقفت على الجسر الذي يعبر الورى
إلى الموت والأشباح حولي تخطر
تحدثني نفسي بأني هالك
وتوهمني الآمال أني خالد
ويهمس في أذني العزاء أن اتئد
فإن بعيد الموت حظك أوفر
فأقدمت هيابا وأحجمت حائرا
يدافعني عن نفسه ما يراود
إنشاء الشاعر شعره
ورب فتاة يملك الطرف حسنها
تغني بشعر مسترث فتطرب
كسته من الصوت الأنيق حلاوة
فعاد نضير النور يصبى ويعجب
وثابت إليه روحه وتضوعت
نسائم في بوغائها نتقلب
فكل فؤادي في نعيم ولذة
وقد يمكر الصوت الندى ويكذب
ولكنه مكر شهي إلى النهى
خفيف كما شاء الجمال محبب
وأعذب منه الشعر يتلوه ربه
ويفرغ فيه روحه وهو ينشد
يحس إذا أجرى اللسان كأنما
لماضي شجاه كرة وتردد
كما فرت الأرواح بعد نزائها
وما زالت الأمواج ترغي وترعد
إلى العقاد
ردا على أبيات تعزية
قد تزملت في الهموم فما أخ
لع بردا إلا للبس برود
لو رماني الزمان في نضرة العم
ر لكنت الجليد جد الجليد
ولكان المصاب كالهزم في الصخ
ر ولكن قد حطم الدهر عودي
ما عليه لو أنه كان أبقا
ها عزاء لوالد مفئود؟
النسر المهيض
يا نسر ما للجناح لا يثب
وما لعينيك في الثرى أرب
أخلدت للأرض غير مكترث
للشمس تذكو والرمل يلتهب
وملت عن دولة السماء فما
يفوت منك الرماة ما طلبوا
فالعين مفتوحة كمغمضة
والريش فوق التراب مختضب
أما يهم الجناح؟ وا أسفي
عليه في الجو وهو يضطرب!
أم هاضه خفته وأوحشه
ملك سماء تظله السحب؟
لا عجب إن تحس وحشته
فالقر في الشاهقات مرتقب
ويح النفوس التي تطير بها
هماتها حين يسخر التعب!
الحمار المستأسد
النجاء النجاء يا ابن ...
من سيوف الهجاء ذات المضاء
لا لعمري وأين تهرب مني
مناياي طي هذا الهواء
أنا كالموت مدرك كل حي
أتحداه بالأذى والهجاء
أنا كالشمس مدرك ليلك الأس
ود بالنور واللظى الكواء
أتوخاك حيث كنت من الأر
ض ولو غبت في حبال الهباء
لو تخذت الرياح خيلا لما أف
لت فارضخ لرغبتي وقضائي
أنا أفري أديم عرضك بالقو
ل وغيري بالفعل يفري فرائي
قرب الشعر مصرعا لك تقصي
ه وللشعر مصرع الأشقياء
ليس ينجيك من لساني من ته
دي من الأمهات والأبناء ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
ولئن طرت في السماء فإني
بالغ منك مأربي في السماء
ويمينا لأجعلنك أحدو
ثة كل الركبان والأملاء
ناشرا كل سوءة لك تطوي
ها دءوبا وفعلة شنعاء
ومعيدا من حفرة القبر أشلا
ءك أنتن بهن من أشلاء
بل معيدا آباء سوء أراك اع
تضت منهم أحاسن الآباء
فإذا كنت ما زعمت من الإن
سان أطرقت شدة استحياء
سيقول اللعين قزم يلاقي
ك بساق عرجاء ذات التواء
إن أكن قزمة فإن قواف
ي طوال جدا بغير انتهاء
كل ذي عاهة ولا شك جبا
ر فحاذر من رجلي العرجاء
كان تيمور أعرج الساق فافطن
لمعاني العاهات والأدواء
وتأمل مثال ما نحن فيه
قصة سقتها عن القدماء
زعموا أن معشرا ركبوا الما
ء وحثوا سفينهم بالغناء
ورآهم قزم فنادى مهيبا
أن دعوني أكن من الشركاء
أنا قزم كما ترون فلا تخ
شوا زحامي مجالس العظماء
فرضوا وانبرى إليه سفيه
حسب الفضل كله في الرياء
ذو لسانين، بل بوجهين: ملا
ق، ووجه يعيب بالإيماء
يتلقاك خاشعا باسم الثغ
ر ويلقي حبائل الحقراء
وإذا ما سمعته قلت سبحا
نك ربي ذا أوحد الفضلاء
وإذا ما بلوته لم تصدق
أنه ينتمي إلى حواء
ورآه القصير يضحك منه
حاسبا أنه من الأغبياء
وإذا بالسفين جاش بها الت
يار والقزم آخذ في النماء
وأحس الرفاق بالضيق حتى
عالجوا غمرة الردى والفناء
وأخونا القصير يكبر أضعا
فا ولكن عن صحة وامتلاء
وانثنى سائل يقول من العم
لاق إنا من كربه في بلاء
قال كنت القصير قدما فأما ال
آن فالضخم هائل الأنحاء •••
ذا مثالي لو كنت تفهم يا غ
ر ولكن حرمت فضل الذكاء
ذا مثال العظيم يظهر في النا
س ويمضي بأوفر الأنصباء
يحرم الناس ما ينالون لولا
ه فهم من وجوده في عناء •••
أنت فينا ظلمت نفسك فاذهب
حيثما شئت من وسيع الفضاء
أنت عار من الفضيلة لك
نك كاس من الخنا والغباء
أنت خال من كل فضل سوى إح
سان أهل الإحسان والكرماء
تأخذ القرش في إباء كأن الله
أعطاك ذرة من إباء
كل شيء تكلف منك حتى
مشية حزتها عن الأعلياء
كذب كلها حياتك يا مل
عون حتى دعواك في الأحياء
لا ترد الأكف عنك ولا تح
جم يوما عن ريبة أو خفاء
أنت يا شيخ لست بالشيخ حقا
غير لفظ أريد لاستهزاء
مثلما قيل «يا عزيزة» للبغ
لة بغيا تهكم بالنساء!
لم رضوا أن تكون فيهم على رأ
سك هذا الطربوش كالعلماء؟
أنت شيء، بل أنت لا شيء يا ه
ذا وإن كنت باديا للرائي
قسما بالإله لو كنت في العي
ن قذاة ما كنت ذا إيذاء
خلق الله كل شيء لمعنى
غير هذا المخنث المشاء
لم ربي خلقت هذا وما أر
ضاه عبدا لأحقر الأدنياء
لم ربي خلقته وهو لا يح
سب إلا في ساعة الإحصاء
لك وجه يذكر المرء بالعه
ر وبالمخزيات والفحشاء
وقفا تصفع الصوافع منه
ذا رنين مجلجل في الفضاء ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
خبروني يا قوم من أبواه
ما نصيباهما من الأسماء ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
أنت للنبل والحقيقة والع
فة والفضل أحقر الأعداء
حالك الحال ليس يرضى بها الكل
ب فأني غدوت ذا خيلاء؟
لا بل الكلب ذو وفاء وأنت ال
ذئب غدرا وإن تكن كالشاء
عجبا للزمان ألبسك الج
بة والفرو بعد طول الحفاء
كنت مستفردا شريدا فرقي
ت وأصبحت ضحكة الظرفاء
وكذاك الزمان ينعم بالخي
ر على غير مستحق الحباء
فقم آكل هنيئا وكف
عودت أن تمد للإعطاء ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
لابسا من شفوف أهل السخاء
راتعا في رياض أهل الثراء ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
وادعيت الذي لو اجتمع اليو
م لحي لعد في الأنبياء
أدبا بارعا وعلما وفهما
وأبا! ويك يا قليل الحياء
حدث الناس أن برذون سوء
طمحت عينه إلى العلياء
فاكتسى جلدة الليوث فهابت
ه وحوش الدهناء قبل الشاء
فتوقفن مدة ثم أقبل
ن يروئن في طريق النجاء
واستقرت آراؤهن على أن
يتقدمن نحوه بالفداء
ثم رتبن أمرهن: ففي الصب
ح إوز وظبية للغداء
وتباشرن ثم أشرفن ينظر
ن خلال الشجراء والقصباء
وإذا هن راعهن نهيق
لم يدع في هوانه من مراء
أنت هذا الحمار لو كنت تدري
قد أزحنا عنه ظلال الخفاء
فالتمس غيرنا ودلس على من
شئت إلا معاشر الشعراء
كأس النسيان
(أدهق الكأس! بل تمهل! إن الماضي هو الذي يظل الابتسامات المفقودة التي ستضيء طريقنا مرة أخرى، فأرق الكأس فلا بد لي أن أتذكر!)
هات اسقني سلوة عن الذكر
أنسى بها ما مضى من العمر!
أنسى بها حاضري ومؤتنفي
كأنما يدرجان في الحفر
بها أنيم الشجون قاطبة
وأتقي الدهر كرة الفكر
هات اسقنيها وخل نشوتها
تمحو الذي في الفؤاد من صور
وخد كنوز العقول وارم بها
من حالق للرياح والمدر
كم غصت في لجة الحياة فما
فزت بغير الصخور والحجر
وكم نفضت اليدين من حجر
حسبته درة من الدرر
فخل كأس العفاء تسلبني
كنزي وتسحو سلاسل الخبر
ما ضرني لو جهلت ما علمت
نفسي وما قد أفادني نظري؟
أو لو نسيت الذي شعرت به
في كبري الآن أو لدن صغري؟
أو لو سلوت الذي كلفت به
على الذي كان فيه من شكر؟
أو لو فقدت الذي فرحت به
وما وجدنا في حدة الظفر؟
أثم صوت تعيد نبرته
إلي ذكرى الربيع والزهر؟
أثم عين تثير نظرتها
أحلام نفسي في ريق البكر؟
وتنشر اللذة المضيئة لي
حلما من العيش جد مبتكر؟
نعم لعمري في الأرض زينتها
من زهر مونق ومن ثمر
كأنها لافترار بهجتها
تحير نطقا لمدمن البصر
واها لقمريها إذا اتسقت
أسجاعه واستراح للسحر!
واها لسحر في لحظ نرجسها
يسطو بوقع السجو والفتر!
واها لأيكاتها إذا همس ال
نسيم في أذنها مع القمر!
لكن أغصانهن يا أسفا
بعيدة من منال مهتصر
أصبت في العزم لا الشعور فإن
أدرت لحظي في الشيء لم يدر
وإن مددت اليدين خانهما
عزم الشباب الجريء ذي الأشر
يذعرني الشيء كان يجذبني
لشد ما أستجير بالحذر!
أحمل عبئا من السنين فما
عسى وراء الغايات منكدري
ولي من الذكريات حاشية
في حيث أمضي محشودة الزمر
فهاتها أذعر الشجون بها
حتى أراها تطير كالشرر!
لم لا أبت الذي يقيدني
بما مضى وانقضى من العصر؟
إني أراني قد حلت وانتسخت
مع الصبي سورة من السور
وصرت غيري فليس يعرفني
إذا رآني صباي ذو الطرر
ولو بدا لي لبت أنكره
كأنني لم أكنه في عمري
كأننا اثنان ليس يجمعنا
في العيش إلا تشبث الذكر
مات الفتى المازني ثم أتى
من مازن آخر على الأثر
فامح ادكاريه إن ذكرته
تعين صرف الزمان والغير
وأخلني اليوم من شجاي به
أستأنف العيش غير منبهر
الغريرة
مرت عشاء بي فتانة
يا حسنها لو أن حسنا يدوم
والجو ساج شاحب بدره
كأنما أضناه طول الوجوم
فقلت يا غادة أذكرتني
أحلام عيش نسختها الهموم
أمثل هذا الحسن لما يزل
في عالم الشر القديم العميم؟
ألم يزل «كوبيد» ذا صولة
يرمي فيدمي كل قلب سليم؟
قالت: ومن كوبيد هذا الذي
تذكره مقترنا بالكلوم؟
فقلت هذا ولد مولع
بصيد أكباد الورى كالغريم
فتمتمت عائذة باسمه
من كل شيطان خبيث رجيم! •••
يا بدر هل أبصرتها موهنا
بين ذراعي تعد النجوم؟
أم كنت في ليلة ذاك النعيم
في شغل عنا بكحل الغيوم؟
يا بدر ما أفشاك رغم الوجوم!
شهداء الغربة
بستان آمالنا لقد ذبلت
فيك زهور من آنف الزهر
جنى الردى نورها مخالسة
كالنحل شار الرياض في البكر
في غربة لم تكن مقدرة
أن تغتدي من فواقر الفقر
ورحلة قد حدت إلى سفر
ما بعده من نوى ولا سفر
أودى بها قبل أن تجرب في ال
عيش امتزاج الصفاء والكدر
بل قبل أن تبلو العواطف في ال
صدر وهزم الصروف والغير
بل قبل رود الصلال جنتها
ونفثهن السمام في الغدر
ما قارفوا سبة ولا خطموا
أنوفهم بالشنار والعرر
ما لوثوا روحهم ولا برزوا
إلا بوجه يفي بمستتر
أبناءنا كنتمو لنا أملا
يعمر قفر المشيب والكبر
كنتم كقوس الغمام في أفق
داج مسف الركام والعكر
نبكيكم بالقلوب دامية
من كرم النفس لا من الخور
أبى لنا الضعف أن واجبنا
ما زال حمل الفوادح الكبر
وأن نروض النفوس مكرهة
على الذي تتقي من الضرر
وننفض الكف غير زاهدة
من الكثير الجليل ذي الخطر
كما نفضنا اليدين وا أسفا
من مدر ضمكم من عفر
كلا لعمري لأنتمو أبدا
في القلب والذهن مائلو الصور
أفواهنا لا تزال منشدة
ما كان يصبيكمو إلى الصور
وملء كل الصدور أمتكم
لا ملء كل القبور والحفر
أغليتموها - لا عاش مرخصها -
فلم توكلكمو بمنحدر
يا ليت كل البنين مثلكمو
حسن بلاء وطهر مختبر
تشب في صدرهم إذا ذكروا
بلادهم نار حبها الغمر
كأنه نغمة مؤلفة
لكل حر الجنان والوطر
نفوسهم معبد لصورتها
سامي الذرى قائم على العصر
قد زلزلت كل أمة وهوى
كل رفيع موطد الحجر
وراج يبني الطامح هيكله
من نقض هذي الخرائب الكثر
لكن نار الحياة صائحة
تريد تمحيص كل ذي وضر
ستذكرون الغداة في زمر
قد شيعوها بالنفس لا العشر
قد مالت الشمس صوب مغربها
في برد حسن في الأفق مستطر
همت بتوديعنا وقد لبست
أفواف زين لها ومفتخر
تنأى الهوينا كأن عالمنا
معهد لذاتها لدى الصغر
وأي جمع لنا متى انحدرت
يخطو على دق طبلة القدر!
أين أمك
محاورة مع ابني محمد
لم أكلمه ولكن نظرتي
ساءلته أين أمك؟
أين أمك؟
وهو يهذي لي على عادته - مذ تولت - كل يوم!
كل يوم!
فانثنى يبسط من وجهي الغضون!
ولعمري كيف ذاك؟!
كيف ذاك؟!
قلت لما مسحت وجهي يداه «أترى تملك حيلة؟
أي حيلة؟»
قال: «ما تعني بذا يا أبتاه؟»
قلت: «لا شيء أردته!»
ولثمته!
إلى العقاد
يا موقظي من غفلات الشباب
ومرشدي في حيرتي للصواب
وباعثي إن فترت همتي
ومنهضي أما كبابي الطلاب
ويا عقاب الشعر يا نسره
وأقدس الصحب وأزكى اللباب
أعزز على نفسي أن تشتكي
شيئا وأن لا أستطيع الطباب
أعزز، ألا يا ويح أم اللغى
ضاقت بإحساسي في كل باب!
لا خير في مثلي فيا ليتني
دونك أشكو ظفر وعك وناب •••
أعداؤنا كثر وهم نبح
فانهض لهم واعصف معي بالكلاب
أو، لا فدعهم فهمو زمرة
لا ضير من نبح لهم واصطخاب
يهيجهم علمهمو أننا
أضخم من أن نتأذى السباب
وأنهم ذئبهمو أرنب
وليثهم يطلب عون الذباب •••
عوفيت يا قرة عين الحجى
والشعر يا أزخر موج العباب
لا يوهنن عودك ما يبتلى
به فقدما شددتك الصعاب!
أقسمت أني واثق موقن
أنك ناج ظافر في الغلاب
وما لإيماني من علة
سوى شعور مالئ للشعاب
وقد يحس الغيب قلب الفتى
كأنما يقرؤه في كتاب
رثاء الشهيد محمد بك فريد
زعيم الحزب الوطني
شطن المنون ملكت أي قياد
من مصعب ما كان بالمنقاد
فأناخ لا يرجى لديه على البلى
سبق إلى الغايات والآماد
وثوى بمدرجة تساوى عندها
ذل الحقير وعزة الأمجاد
نجمان قد غربا: فذا لمنية
عجلى، وذاك لغربة وعوادي
وا لهفتاه له، يذوب كيانه
وجنانه كالكوكب الوقاد
ويشيع فيه الموت وهو مغالب
برد الردى بحرارة القرصاد
يأبى على وقع الردى ودبيبه
أن لا يمد يدا غداة تناد
ويغالط القلب القريح كأنما
سهم المقادر ليس في الأكباد
وإذا تمثل حينه لضميره
وخروجه من حلبة الأجناد
نزت الحياة به تنزي ألسن
للنار مشفية على الأرماد
ويهون أن يلقى الخصاصة والأذى
والبعد عن أهل وعن أوداد
كل يهون عليه إما أنجح ال
مسعى وفك موثق الأصفاد
لو شاء كان على الورى مستعليا
بالمال والألقاب والأعضاد
لكن ترفع عن جدى لا يقتنى
إلا بوسم الخف في الأجياد •••
ثبت البواسل قبل عهدك في الوغى
كالطود راسخ قنة ووهاد
غضبوا لحوزتهم تباح فزحزحوا
أمضى قواضبهم عن الأغماد
وتزاحفوا والنفس ملء شعابها
أمل يعد لهم من الأمداد
ومضوا خفافا للقاء كأنما
أيامه الجلى من الأعياد
حتى أماطوا الضيم عن أوطانهم
بالجود بالأرواح والأجساد
لكن من يمضي إلى مستنقع
للموت لا حلو ولا ببراد
وقد استحال الصبح ليلا حالكا
وخبت مصابيح الرجاء الهادي
وانفض كل مناصر ومظاهر
عنه فلا ذو نخوة أوفاد
وإذا أدار العين لم تأخذ سوى
طول الطريق إلى مدى الأبعاد
في حيثما جالت فثم حيالها
مرض النفوس يفت في الأعضاد
ويقول للنفس اثبتي ولو انني
وحدي أصاول جحفل الأضداد
هذا الشهيد، وما عدتك صفاته
يا أوحد الأبطال والأنجاد •••
إلا يكن شرع القنا يهفو بها
عذب البنود لغارة عصواد
فهو الغمامة لم تزل تهمي إلي
أن أقلعت عن أرضنا لنفاد
أحيت موات الأرض بل قطانها
من بعد ما كانوا من الأصلاد
في كل نفس نفثة من روحه
حرى تحفزها من الأيقاد
وصدى لنغمة نفسه متوثب
وثب الكواسر عن ذرى الأطواد
لهفي عليك جملت وحدك صابرا
ضغط النجاوي المرة الأنكاد
وعلى جبينك صورة الأمل الذي
أودى ذواه بنضرة الأعواد
ولقد تبسم والكيان مزلزل
والقلب يقدح فيه كل زناد
وا هول ذلك من صراع في الحشا
صعب على الطين الضعيف الكادي •••
ما كانت ممن لا يزال يقيمه
طورا ويقعده على الأقتاد
إيجاسه خوف الألى يخشونه
من بطشه المتواصل الأزباد
كلا ولا ممن يكظ فجاجه
نفر من الأعداء والأوغاد
لا الصبح يقربه الأمان ولا الدجى
نوم القرير وغطة الكداد
صاح الضمير به فليس لقلبه
أو عينه منجى سوى التسهاد
بل هذه الأرواح عرشك فوقها
والحب تاجك طي كل فؤاد
لكن قلب الشعب - ويح رجاله -
طوع الجواذب لين التقواد! •••
وضع الزمان على جلالك ختمه
وأثابك التخليد في الأخلاد
لا يستطيع عداك طي صحائف
نشرتها أو طمسها بسواد
ما في حياتك لوثة موكولة
لتسامح الحساب والنقاد
لا للكبول خلقت أو لمهانة
فتضيم ذكرك ألسن الأحقاد
وبذلت أنفس ما يضن به الورى
طرا من الأعلاق والأعتاد
حتى الحياة أذلتها متوخيا
بالبذل صون كرامة الأجداد
لا الضنك خفت وأنت ضنء أماجد
كلا ولا التشريد عن أولاد
مثل الضحية أنت فينا بارزا
بوركت من بر بأكرم واد
أيطاول الشجر السماء وإن تكن
أعراقه في الأرض كالأكباد
ويصارع الجبل الرياح وعصفها
والسحب من متروح أوغاد
وينام هذا الناس ملء جفونهم
وعليهم الآفاق بالأسداد؟ •••
قد تسقط الأزهار عن أغصانها
ويقر قلب النسر وهو يرادي
وترى النجوم الزهر من أفلاكها
تهوي، من الآباد في الآباد
كل يلم به العفاء وهل ترى
شيئا يدوم على الزمان العادي؟
لكنما ماضيك أبهر روعة
من أن يضيع كصرخة في واد
لو لم يكن منا سواك مجاهد
لكفى به شرفا وفخر بلاد!
ليلة وصباح
خيم الهم على صدر المشوق
يا صديقي!
وبدت في لجة الليل النجوم
ومضى يركض مقرور النسيم
وثنى الزهر على النور الغطاء!
عم مساء •••
هات لي ... ماذا؟ ألا هات الدواة «الدواة»!
أولم يغف مع الليل الصدى؟
فليكن لي سمرا تحت الدجى
نتداعى في حواشيه سواء
عم مساء •••
يا صدى إن بصدري لكلوما
وهموما
مدرجات فيه لكن لا تموت
كلما قلت قضت رهن السكوت
صحن بي من كل فج يتراءى
عم مساء •••
سكن الليل فأترع لي الدواة
وا أساه!
أين لا أين تولى قلمي؟ «أكلته النار نار الألم» «كله» كلا! لقد أبقت ... هباء!
عم مساء •••
هات لي ... آه على قيثارتي! «شارتي»!
أولم يبق بها من وتر؟
خافق بذكريات الصغر؟
ما لها تجحدني في اليوم الأداء؟
عم مساء •••
طلت يا ليل فهل ضل الصباح
في البطاح؟
أيها المنفي عن حلم السماء
لم يته صبح ولا طال مساء
فاغتمض! لا تملأ الدنيا عواء
عم مساء ••• «الساعة الأولى من النهار تتكلم»
ما له يرعد حتى في المنام
لا سلام
قم فإن الحلم ذو عصف شديد
بالذي تطويه من صحف الوجود
من رأى حلمك هذا ما استراحا
عم صباحا
الدهر والحياة
أتعرف الحب؟ وتدري المنى؟
والشجو؟ هاتيك بناة الحياه!
كذلك الدهر له صبية
الأمس واليوم وطفل الغداه •••
حدثني المقدار يوما، وما
أبصره لكن أرى ما قضاه
قال: وكان الدهر خدنا لها
ولم تكن تعرف خدنا سواه
وشب أبناؤهما بينكم
على وفاء قد بلوتم جناه
ثم أراد الدهر تزويجهم
وكان هذا ما تريد الحياه
فناديا أن شاوروا قلبكم
وليختر الواحد منكم هواه
قال «غد» للأمس في جرأة
أكبرنا أنت فماذا تراه؟
فقال كلا! إن عهدي مضى
و«اليوم» ما زال وريقا صباه
فليتقدم ولأكن آخرا
فأنتما أولى بما اخترتماه
فعانق «اليوم» شباب «الهوى»
وامتد ثغر «الغد» يبغي «مناه»
وزوج «الأمس» «الأسى» مكرها
ولم يزل يرسل واها وآه •••
تنهد الدهر وناجى الحياة «يا أخت هل وافق قطب رحاه؟»
قالت: «وهل للغد غير المنى؟
أم هل يؤاتي الأمس إلا شجاه؟»
تحية البطل
(عودة سعد زغلول بعد غياب عامين لم يشهد فيهما الحركة المصرية.)
قد نفضوا عنهم غبار القرون!
فانظر! أما تعرفهم يا ظعين؟
كيف وقد ضحيت من أجلهم - أو كدت - بالنفس التي لا تهون؟
همو بنو مصر التي لم تزل
تخلف من كل الخصوم الظنون
سائل بهم قلبك ماذا الذي
قواه في يوم الخطار المبين ؟
قمت فكانوا رجلا واحدا
خلفك حتى ذهل المنكرون
آتوك نصرا لم يزل سيله
يقتلع الأسداد أنى يبين
لا الحرب يبغون بآثامها
ومجدها المغري الورى بالجنون
لكنما يبغون أن يصدعوا
قيودهم عنهم برفق ولين
ويخلعوا النير بأيد لها
من قوة الله معين مكين
ويبتغوا في أرضهم معبدا
للحق والرحمة للعالمين •••
السلم لا الحرب هنا أرضها
والحق والحب الوريف الغصون
وللذي صورنا وحده
نطامن الرأس ونرخي الجفون
ما بيننا من لم تنر قلبه
حرارة الحب ونور اليقين
ما بيننا من لم يرد سمعه
وعد السماوات التي لا تمين
فينا كسير القلب وا حسرتا
الكاسف البال وفينا الغبين
ومن عدت حرقة أحشائه
أنداء عطف النفر الناعمين
ومن أغامت ذهنه شقوة
فهابه نجم يضيء الدجون
لكنما ما بيننا يائس
من قومه واليأس صنو المنون •••
يا سعد ما زلت برغم السنين
أصلب عودا من فتي متين
لا بل برغم العنت المنتحي
كل عظيم مالئ للعيون
عقدت أخراك بأولاتها
ولم يكن وعد الصبا بالمخون
وفي الورى بعران سوء ترى
هديرهم يطويه حشو البطون
لكنك النجد الذي لم يزل
يغني لدى الجلى غناء المئين
ثبت فما يطفئ من بأسه
طغوة عات أوجدى مفضلين
ذو نخوة ما إن يني همه
حرية الشعب المهيض المهين
ما أبهر النفس التي لا تلين
لطول غمز الدهر أو تستكين!
وكلما زج بها في الأتون
عادت كأن لم تك شيبت بطين
تمضي إلى غايتها في سكون
كأنها بعض القضاء المحين
كأنما الأمر لها في الشئون
والدهر في طاعتها مستلين
فالحادث الأكبر إما جرى
فما سوى تدبيرها يستبين
والدهر في قصته حاذق
يملي ولا يبدو مع اللاعبين •••
ما زال موج العيش يرغي على
سواحل الآباد ذات الحزون
والظل كالعهد به يرتمي
على زوالية رمل القرون
والركب ماض لا يواني الخطى
إلا ليستلحق مستوطنين
كل كما كان، سوى أننا
حلنا فما يعرفنا الأقربون
وحق تغيير لذي غلة
يحاول الحوض الذي يمنعون
يا سعد فانظر كيف لمع العيون
ولو بها حولك أنى تكون!
هن مرايا أنفس أصبحت
معقودة بالعيش صافي المعين
هل صيحة تسمعها خلتها
تند عنا معشر المهملين؟
هل كنت قدري أننا هكذا
تالله ما أخطأ فينا يقين؟
والمرء قد يزهى بآماله
من قبل أن يبلغها أو تحين
من ذا له جد كأجدادنا
ذكرهمو في الأرض طود ركين؟
من الذي يؤمن إيماننا
بالحق في عالم هذا الفتون؟
ومن سوى قومك قد أقسموا
أن ينصر العدل ولو بعد حين؟
وأن يروا أرضهمو حرة
كالريح لا يحرم منها قطين؟
وساحة للسلم لا للوغى
يكر فيها كل عقل رصين؟
فإن ننلها فلنا فخرها
أو - لا - فلا نحسب في الجامدين
فما لنا لا تزدهينا المنى
بقدر ما نحيا لها عاملين؟ •••
أما لنا بوق نحيي به
من أخلص المسعاة للقاعدين؟
أما سوى الشكر لدينا له
وهل يفي الشكر بدين المدين؟
حتى ولا أسلاب شعب أمين
عاد وما يسطيع غير الأنين؟
ألم يعد في الأرض شعب له
ما يغصب الضاري الألد المرون؟
وهذه الدنيا مراح لمن
تراه فيها بالورى يستهين
عذرا إذن فالأرض قد أقفرت
من كل ما قد تستبيح اليمين
وحسبه اليوم على كرهنا
أنا لمسعاه من الشاكرين
وإننا نلقاه في عوده
بروح مجد السلف الأقدمين
شارفتمو الفصل فما ترتئون؟
وما ترى آثرتمو للبنين؟
ناشدتكم ما أنذر المشفقون
وما احتملتم في طوال السنين
وبالمنى أضواؤها يرتمين
على دياجير الزمان الدفين
لنختر العز بلا كدرة
فيه فبعض العز هون دهين
أو لا فإن الفوز للصابرين
ووقفة الدهر رجاء شطون!
العراك
زادك الله رونقا ورواء
ورعى الله حسنك الوضاء
أيها الساحري وأبقاك للعي
نين والقلب صحة وضياء
وثنى عنك كل عين، إذا جا
ل بسوء حملاقها، عمياء
وتخطاك كل سوء وجازت
ك العوادي وصادت الأعداء •••
قالت النفس إذ رأتني أدعو
الله جهدي ولا أسيء الدعاء «كم تمنيت أن تريد لي الخي
ر وتسقي قبل الرواء الظماء!
أغراما بالناس وهم كما تع
لم سوءا وخسة وغباء؟
عبث ذاك كله ومحال
فاعرف الحق واجنب الأهواء» •••
قلت: «ما لي لا تطلب الحسن عيني
مثل ما تطلب الصدور الهواء؟
إن للحسن سحره مثل ما لل
مال والجاه والذكاء سواء» •••
قالت اذكر لواعجا كنت تصلي
ني لظاها عشية وضحاء
أذكر الجنة التي فقد الشي
خ أبونا بحبه حواء
أذكر اللعنة القديمة من آ
دم فينا ولا تزدنا شقاء
وكفى بالحياة والسعي والآ
مال والهم والشكوك عناء
قلت: «ماذا أصير إن حرم الح
ب فؤادي وبات منه خلاء؟
انظري! هل ترين إلا جمالا
وجلالا لا يعرفان انتهاء؟
جعل الله كل هذا لمعنى
أم عناء وباطلا وهباء؟
لا تقيسي الحياة بالذاهب الغا
بر منها فتشبهي الجهلاء
إن للشاعر الكبير لعينا
ذات لحظ لا يشبع استقصاء
يتوخى بعد السماء سماء
ويريغ الآباد والآناء
أوتيت روحه اليقين فلجت
إن ذا الشك مقصر لا مراء
كلما شيخ الزمان عهودا
رجعت روحه لهن الصباء
أبدا يجتلي شباب زمان
وسواه الكهولة الشوهاء
يجتليها مطلولة الفجر ريا
تزدهي اللب نعمة ورواء
ويراها عذراء ما فض عنها
ختم سر مصونة عصماء
لم تزل عنده وإن قدم الده
ر عليها؛ جديدة عذراء
ويرى بالضمير خيرا عميما
خلل الشر واضحا لا خفاء
وإذا أحرقته منها هموم
قدحت منه همة ومضاء
أفمن كان شأنه ذاك يخشى
شربة في حياته كدراء؟
أين كالحسن باعث لك يحت
ث ووحي يحيلنا أنبياء؟
خبريني عن نعمة كانت النع
مة صرفا ولم تفدك عناء؟» •••
قالت: انظر أعماق نفسك هل تب
صر فيها بقية أو ذماء؟
من أبى أن يقيس غور قواه
حملته حياته الأرزاء
قد أشابتني الليالي وشيب ال
نفس أدهى من شعرة بيضاء
وكأني الزمان عمرا وإن كن
ت بسني صغيرة عجفاء
ما عسى صبر ذي الكلال على الإع
نات والبرح ضحوة وعشاء؟
نضب العزم - والمنى ثرة العي
ن - لعمري ما أسوأ القرناء
شيبة العزم مع شباب الأماني؛
أضعيف يظاهر الأقوياء؟
دون ما تبتغي حوائل ضعف
فاجعل العزم والمنى أكفاء
أيها الطين ما ترى بك أبغي
لست فيما أرى لشيء كفاء
إن طلبت السماء قلت لي الأر
ض أو الأرض كنت لي عصاء
حرت حتى الذي أفكر فيه
لست أسطيع صوغه والأداء
كل حب إلى ملال - وللحس
ن عفاء - وما أمض العفاء!
خل عنك الأحلام واسع لداعي ال
عقل يا من لا يستجيب دعاء
إن للقلب جمحة فاجعل العق
ل لجاما يغالب الغلواء
ما لنا ننفق الحياة يمينا
وشمالا مستعجلين الفناء؟
أضمنا عمرا سوى ذا جديدا؟
أم وجدنا لعمرنا رفاء؟
عشت ما عشت لاهيا تطلب الح
ب وتعتده لديك غذاء
فتأمل كم ساعة عاشها عق
لك هذا وأطرق استحياء!
حولك الأرض والسماوات تغري
كل عقل مفكر إغراء
إنما كان حق عقلك أن يص
قل لا أن تسومه إصداء
تطلب الحسن دائبا لتغني
ه كما غنت الحمام الضياء
مسندا صدرك القريح إلى شو
كة ورد لا تخطئ الأحشاء
إن يكن ما زعمت حقا فأولى
أن تحاكي النسور لا المكاء
ترفع الطرف مثلها في سماء ال
فكر حتى تصافح الجوزاء
أيهذا المسكين مهلا رويدا
واسمع الدهر يضحك استهزاء!
أنت عبد الحياة تبكي وتشدو
بغناء لا يعجب الطلقاء
أبدا لا تزال تبكي إسارا
أو تلهي في سجنك الحوباء
ترسل الصوت باكيا فيؤدي
ه صداه مقطعا أجزاء
مثلما صاح في الظلام صبي
كلما جد خوفه الظلماء
ومع الرق والإسار فقد تح
لم - كالحر - بالخلود اجتراء
وتقول الجمال وحي، وما الح
ب سوى سلم ينيل السماء!
ليت شعري أللأزاهير وحي
ليس يألو أنفاسها إذكاء؟
كيف تغدو الأشجار رفافة الغص
ن عليها ثمارها فيحاء؟
أين وحي الينبوع فاضت به الأص
لاد فانساب ماضيا حيث شاء
إنما أنت كالرياح إذا ه
بت سواء لا تملك الإعفاء
تتغنى ولست تدري لماذا؟
هكذا شاءت الحياة الغناء
وتصوغ القريض عفوا وإن كن
ت تظن القريض كان احتفاء
غرنا أننا نحس فخلنا
أن لنا في حياتنا أن نشاء
إن نكن صادقين فيما وهمنا
فلنبدل بأساءنا نعماء
كم يريد الفتى ويحرم ما يط
لب بل يحرم المنى والرجاء
نحن ألعوبة بأيدي الليالي
لا نلاقي من صرفها إبقاء
يتقاذفننا ويسخرن منا
ويكلفننا الرضى والبكاء
ما تبالي الأيام ثارت بنا هو
جاء أم غضة النسيم رخاء
فتراها آنا تقص جناحي
نا وآنا تنميهما إنماء
وأراها لما رأتنا قرودا
أوسعتنا في عيشنا إزراء
عابثات بنا يخاطبن منا
أغبياء قد أشبهوا الببغاء
حفظوا باللسان ثم تحاكوا
كلمات من المعاني قواء
لا يحسون صدقها، بل يحسو
ن رنينا رأوا به الإكتفاء:
الهوى والخلود والوحي والعز
م جميعا والهمة الشماء!
إيه ما أرخص العقول علينا
إن حشونا عقولنا أسماء!
لا بعقل ولا بحكمة طبع
لج منا من لج أو من فاء
مغريات بنا الأماني والإع
جاب والخوف والهوى والرياء
واقفات بنا مواقف سخر
توسع الكبر والغرور اكتواء
بين ذكرى تقتادنا للأماني
وأمان تفيدنا الكبرياء
نحن أهل لكل هذا من الده
ر وإن كان صرفه كواء
إن للحق في الحياة على النف
س لحقا لا يقبل الإغضاء
قد تناولننا الليالي بإحسا
ن وبر يستوجبان الثناء
وهبتنا العقول وهي عتاد
فجعلنا إهمالهن الجزاء •••
قلت: يا ليتها إذا حرمتنا
نعمة لم نعد بها أغنياء!
ما عليها لو أنها تركتنا
أبد الدهر نرتعي الأكلاء؟
فرعينا ملء البطون نباتا
ونشقنا ملء الصدور هواء
ووقتنا «عد» السنين فما جا
ءت سنون ولا «مضى» ما جاء
ثم أهدت لنا البلادة كيما
نتقي باكتسائها الأسواء
فحيينا بموتنا جهلاء
ثم متنا ولم نكن أحياء
ولبسنا الحياة في كل حال
جاهلين انتهاءها والبداء
وتهاوت بنا البلادة أن نر
فع إلا لواحظا عمياء
كل وجه تلقاه تقرأ فيه:
البسوا الجهل تحشروا سعداء
لكن الله قد أفاض علينا «نعمة» الحس فاستلبنا الهناء
إيه هيهات ينفع العقل أو يب
دلنا من سمومنا أصباء
وعلى أن سابحا ناوأ الت
يار أو شارعا عليه، نجاء
صنو من أسلس القياد وخلى ال
ماء يرمى بشلوه الأرجاء
لو ترى الماء ناطقا قال: «سيا
ن مطيعي وتاخذي أمطاء
بل سواء علي نازعني الرك
ب فؤادي أم جشموني الجفاء
لا أحس السنين تحدى ولا الأس
ماك؛ شتى تغازل الأحشاء
لا ولا الريح إذ تثور ولا البر
ق ولا الرعد لا ولا الأنواء»
قد رزقنا الإحساس دون سوانا
فعدمنا في عيشنا النظراء
وجدير بمن تميز عن ك
ل نظير أن يحمل الأعباء
نحن أحيا الأحياء طرا فلا ك
نا إذا ضاعت الحياة هباء
فلتقيموا السدود دون مجاري ال
قلب ولتوقفوا بهن الدماء
ذاك خير من أن نعود صخورا
لا تبالي ما حولها، صماء
لو نحس الحياة بالعصب العر
يان ما كان ذاك منا كفاء
كل شيء يسبي إذا نظر الفك
ر إليه ويكتسي لألاء
فإذا ما أجلت عين التجاري
ب استحالت وجوهه سوداء
لا تطيلي تخويفي الحب يا نف
س فما أستطيع عنه التواء
وهبيني كما زعمت أسيرا
يتقاضاني الزمان الولاء
وهبيني مطامعي جامحات
أوسعتني عن غايتي إقصاء
وهبيني سيدرك الصبح عندي
ظل ليل يطاول البرحاء
فاذكري أنها المقادير تجري
كيفما شئن هن فينا القضاء
قلقي حجتي فما لي قرار
وليالي ما تمل الحداء
في أيد وقوة فإذا لم
ألف لي منفذا رعيت البلاء
هل تطيق النسور أرضا وما زا
ل جناح لهن يطوي الفضاء
ظلم الله من تراه لما يم
نحه الله خازنا خباء
وتعالى الإله عن أن نراه
مسرفا ليس يحسن الإيلاء
أتريدين نيمة ليس فيها
حلم في غضونها يتراءى
فكأنا دمى حياة تراءت
فوق أجداثهن أو تلقاء
عمرك الله هل رأيت بني آ
دم إلا يستروحون عناء؟
قد طردنا من الفراديس قدما
وكتبنا في أرضنا أشقياء
فلنا العيش ظله راكد الثق
ل صباحا وغدوة ومساء
في بساتين شقوة يتهدل
ن بأثمار حسرة سوداء
تتداعى على ذؤاباتها الغر
بان والبوم - لا القماري - ولاء
فرشت أرضها هموما وأشجا
نا كأرض الجحيم لا حصباء
وامترى النحس من أديم صفاها ال
مهل لا ماءها ولا الصهباء
فإذا هبت الرياح عليها
أنشقتنا الأوصاب والأدواء
هذه حالنا على كل حال
أبدا نرتعي الأذى لا المراء
شؤم ذنب جناه آدم بل ح
واء بل من أغراهما إغراء
قد ثكلنا سعادة العيش لما
رزق الشيخ آدم الأبناء
نحن يا نفس والمقادير صنوا
ن جرى الخلف بيننا ما شاء
حبذا هذه السعادة لو كا
نت لحي، ولم تكن جوفاء!
حبذا الزهد في الحياة لو ان ال
زهد فيها يبرح الغماء!
وأرى خاطب السعادة والرا
غب عنها في عيشه عدلاء
و«أبيقور» لو علمت ك «زينو»
قد أصابا - كلاهما - الإخطاء
ذا كهذا يأسا من الخير طرا
وفرارا من نفسه ونجاء
ماتح الصخر مخفق أي إخفا
ق كمن طلقت رشاه الدلاء
وسواء من قال ليس سوى الأر
ض ومن قال لن تنالوا السماء
قال «زينو» ازهدوا فأنى تهالك
ت فما إن أفدت إلا الظماء
وطلبت اللذات طرا فما أل
فيت فيها لذي حصاة غناء
فعسى تحسم الزهادة داء
لم أجد في الرياد منه شفاء
ويرى صنوه «أبيقور» أن ال
زهد في العيش لا يسيغ الشجاء
ويرى أوجب الأمور على المر
ء تناسي الهموم والتأساء
ولمن يرفض الحياة خليق
رفضه أن يزيده إحماء
والذي يحسب الزهادة منجى
يخسر النفس؛ طيبها والرضاء
كيف تجنى سعادة العيش لم تم
دد لأثمارها الأكف اجتناء؟
أم تعالت بها استحالتها أن
نبتغيها؟ لطاش ذاك ارتياء
ما علينا لو أفلتت وقنصنا - دونها - كل متعة غراء
فاهربوا من نفوسكم أيها النا
س وسوسوا ذكاءها إطفاء
بلدوها فإن شر خطوب ال
دهر أن ترزق النفوس الصفاء
ينعم الأبله الغبي ويشقى
كل من أوتي الحجا والذكاء
واللبيب اللبيب من يمحض النف
س مراحا - لا راحة وعفاء
والسعيد السعيد من يقهر النف
س وينضي مطيها إنضاء •••
قالت النفس: إن للنفس فاعلم
لخريفا كدهرها وشتاء
حين تنضو الأيام أوراقها الخض
ر وتذوي أغصانها إذواء
حصدت خيري الليالي وسامت
أيكي الوارف الجنى إعراء
تتوالى الفصول من غير ميعا
د علينا وقد عدمنا الوقاء
ويئوب الربيع يعقبه الصي
ف ولكن ما إن نصيب دفاء
كل يوم يزداد صيفي نقصا
ويقل الربيع عندي ثواء
وتولي صوادحي عن جنابي
مسرعات وكن قدما بطاء
مات عندي الصبا فدعني أنسج
لشبابي الأكفان والأسجاء
فرط حرصي على أزاهير عيشي
زاد نوارها بكفي ذواء
وغدا الصدر للزوافر غارا
لا تؤدي أقباؤه الأصداء
أترى أن أعود للروض أدرا
جي وأجني أزهاره الزهراء؟
خل عني بالله هذا لغيري
أولسنا براحة خلقاء؟
وتمهل وانظر أكفى بميت ال
زهر - مما قطفت قدما - ملاء!
أغناء تريد مني وما أح
سن إلا أن أزفر الصعداء!
أيها الآمري بأن أتغنى
كل زهراء تستبيك استباء
ما بها حاجة إلى صدحاتي
فتعاني «لسحرها» الأصغاء
لم يرعهن دهرهن ولا أش
بع أنفاسهن إلا استواء
ليس تدري عيونها ألم الدم
ع إذا لز بالجفون إباء
لا لعمري كفى بهذي القماري
ساجعات، وحسب نفسي التظاء
أجميل إثقال شعرك بالدم
ع لعينين لم تذوقا البكاء؟
أجميل تحميله عبء عمر
لغرير يشكو لنا الأنداء؟
أجميل إزعاج ألحان ذي الحس
ن بشعر ملأته ضوضاء؟
أنتقاما أردت من حسن ذي الحس
ن بشعر مروع واشتفاء؟
أمن العدل أن تحيط بأنقا
ض حياتي جماله الوضاء؟
كيف أشدو له وبركان صدري
ضربت ناره علي خباء؟
كيف أشدو له وزلزال يأسي
مؤذن أن يصيرني أشلاء؟
أم ترى الشعر يستطيع إذا ما
جاش أن يحكي الطيور أداء؟
صدحات الأطيار فضية الر
نة ينفي صفاؤها الأقذاء
لكن الشعر لا يزال يشوب «ال
فكر» فيه حنينه والنزاء
ملت العين أن ترى كل يوم
غصنا يانعا يعود أباء
ملت الأذن كل لفظ حبيب
تفتريه المنى عليها افتراء
ومللت الرجاء في حالتيه
حين يطغى أو ينثني بي انثناء
لست أبكي على عهودي؛ فسيا
ن دنا ذكرها بها أم تناءى
أبدا أفتح النوافذ من رو
حي للشمس وهي تفري الغماء
لا رجائي مساوم عزماتي
لا ولا الخوف محدث لي انكفاء
أتلقى الذي يجيء به الده
ر وأقنى تجملا واجتزاء
وأحاشي زرع الفيافي وقدما
خاب من بات يرتجي الصحراء
غير أني وإن سكنت إلى اليأ
س لأخشى من يأسي استشراء
ربما قر زاخر اليم حينا
ثم آضت أمواجه هوجاء
مثلما سادت السكينة في الحو
مة والقوم ينتوون اللقاء
لا تدق الرياح لليم طبلا
لا ولا تنذر الثرى والسماء
بل يروئن في الكهوف مليا
وتناجي سمومها الجرباء
وكذاك الحياة أهول ما تس
مي إذا ساق صبحها البشراء
إنما نرقب الذبول إذا ما ام
تلأ الزهر بهجة وبهاء
قلت: ما خير أن أظل حياتي
أتقصى وجوهها استقراء
أنا هذا الذي أحس، وهذا
كل ما قد وسعته استقصاء
أين كنا قبل الحياة وأنى
نغتدي بعد إذ نلاقي الفناء؟
أنا كون أحس أو صرخة بي
ن سكونين أسكنا طخياء
أنا ظل ألقته سحب ينازع
ن - على ربوة الحياة - الضياء
أنا سهم مضى من الغابر الما
ضي إلى المقبل البهيم مضاء
أنا ضوء الشهاب تومض ناري
وهي تجتار هذه الأجواء
لست أدري هذا الفضاء لماذا
كان للناس والوجود غطاء
وأرى النجم طالعا ثم يخفى
وأرى الصبح يعقب الظلماء
وأرى اليم لا يزال له م
د وجزر قد أرهقا الأشطاء
وأرى للفصول في كل حول
دورة لا تحاول استثناء
كل شيء أراه ينبئ أن ال
كون لا شك ملهم أنباء
آية الوحي ليس تخفى ولكن
سرها السر أعجز الحكماء
ما نصيبي من كل ما تأخذ العي
ن؟ وهل من يقسم الأنصباء؟
أترى حسنا سواء وحس ال
كون؟ أم ليس ما حيينا سواء؟
أترى القدرة التي تقدح الصب
ح مضيئا وتنسخ الأمساء
وتثير النسيم فينا عليلا
وتسيل الدجنة الوطفاء
وتذيع العبير في زهر الرو
ض وتشجي حمامه إشجاء
وتجيل الشباب في صفحة الوج
ه وتضفي رداءه إضفاء
وتضيء الشموس في بهمة الكو
ن وتجلو لألاءهن جلاء
ومن الصخر تفجر الماء أنها
را وما العهد أن فيه سخاء
وتربى جرثومة الخير في الأك
وان طرا وتنضج الآراء
غير تلك التي المنايا أيادي
ها فما إن تزل إلا التواء
تسعر النار في الجوانح والحر
ب وتوري العداء والبغضاء؟
ضلة لامرئ يحاول أن يج
لو سرا يأبى علينا الجلاء
كلما أرسل الفتى سهم فكر
زاد خبرا بعجزه وابتلاء
مثلما طخطخ الظلام فأبدى
هوله ومض بارق قد أضاء
يا نسور المنى تعالي كما شيء
ت فهيهات لن تصيدي ذكاء
لا يلم ناها الجناح إذا أ
م ذراها فأشبعته اصطلاء!
لا تلم نورها العيون إذا را
مقته فانثنت تشكر العماء!
فدعيني أغشى الغمار وأضحي
قبل أن يسدف المغيب العشاء
ودعيني أرعي الهواتف سمعي
قبل أن يملك الردى الأرعاء
عصب الريق فاسقني قبل أن أس
قى بكأس تذكي الحشا إذكاء
وانظمي لي من الورود أكالي
ل وأحيي بنفحها الأهواء
قبل أن يقضي الربيع ويلوي
بي وبالزهر دهرنا إلواء •••
قالت النفس: هل ترى الأرض قد عا
دت فراديس لذة غناء؟
عيش حلالها غرير فمستذ
ر بأمن ووادع أحشاء؟
تسع النفس مثلما تسع الجس
م فما تستضيق فيها فناء؟
وترامت آفاقها فالأماني
ليس تبغي وراءها أرجاء؟
لا تجوز المنى مداها وما لل
نفس حاج تريغهن وراء؟
زخرت أبحرا وقرت صخورا
وسجت أعصرا ورقت هواء؟
وأبى اللحظ أن يمد وأن يأ
خذ إلا ريحانها والإضاء؟
وأبى القلب أن يزايل طودا
مشمخرا لا يتقي إيهاء؟
أيهذا المفتون ماذا ترى غا
لك؟ أم قد حسبتنا بلهاء؟
إن هذي الحياة صحراء سوء
نقطع الشرخ قبلها والفتاء
ويغر السراب فيها ويغري
فنغذ الإدلاج والإسراء
سربخ بعد سربخ وسهوب
دون أخرى وما بلغنا الماء
وجحيم من فوقنا ووطيس
تحتنا يوسعاننا إحماء
ليتنا كالحديد نصلى لنمهى
غير أنا نصلى ولا إمهاء
ولعمري الواحات كثر ولكن
من ترى مبدلي ضلالي اهتداء؟
أنا في فدفد مضل وأخلق
بي أن أخطئ الطريق السواء
والهدى والضلال أقرب شيئي
ن ابتداء منا وأنأى انتهاء
أي شيء أعددت للدهر أما
أوسعت عودك الصروف انحناء؟
وغدا هيكل الحياة قد انها
ر وأقوى أنيقه أقواء
ورمت ظلها عليك سحابا
ت شتاء تداجن الإمساء
لك منها صواعق ورعود
وعداك الحيا إذا فضن ماء
وعلى أن فيضها ليس يجدي
ك وهل ينفع السحاب الإباء؟
وإذا أيبستك وقدة عيش
لم يلنك استيكافك الوطفاء
داؤنا كامن بنا ليس أنا
لا نلاقي على البلى أعداء
ليت شعري إذا أدار عليك ال
دهر في مستداره الأرحاء
هل يعزيك بين طاحنتيه
ذكر لذات ما مضى وتناءى؟
صور يلتمعن في ظلمة اله
م كما ضم سبسب غيناء
وهي أما علا رماد الليالي
نار صدر ألفيتها محضاء
وعلى أن حادثات الليالي
قد يرى بطؤها استكال وحاء
ليس بالموج أن أسر اختيانا
حاجة أن يعاصف النكباء
زورق العمر من هشيم فحاذر
لين الماء حذرك الشرساء
وأقم من تيقظ القلب والرأ
ي على كل غيهم رقباء
وإذا ما صفت سماؤك فاذكر
أنه رب صيحة خرساء
إن في الزهرة الذكية سما
كامنا لا يبين أو يتراءى
إن طي الكليل أشواك سوء
راصدات تحاول الإرداء
فتنبه من غفلة الوهم واعلم
أن للشر أعينا نجلاء
أقمارا بكل مالك في الدن
يا على ما لا يقتنى أنصباء؟
تبتغي سدرة الحياة ببيدا
ء تذري سمومها الرمضاء
إن هذي الحياة وادي هموم
نشرت فوقها المنايا طخاء
إن بي لو علمت عن كل حسن
زائل ليس يخلد؛ استغناء
وبحسبي شيوخ صدق مواض
ملئوا الأرض حكمة ورواء
مزجوا النار والدموع فكل
واجد ما اشتهى: لظى أو ماء
إن نشأ نقبس الحرارة منهم
أو نشأ نطفئ الأسى إطفاء
همهم همنا وصنو أماني
هم منانا فهل نعق الإخاء؟
إيه لا تطلب التعاطف في الأر
ض فتجني الأوجاع والعرواء
لو تجيب القلوب كل مهيب
عادت الأرض جنة قرحاء
لو غدت لمسة تفيض ينابي
ع جمال النفوس، لا الأسواء
لرأيت الحياة أجمل مما
يتأتى إذا اعتبرنا الفناء
قل أن يستطيع صفوك بالو
د إلى الناس أن يفيض الوفاء
قد ترى الشيء ليس يبصره الخد
ن ولو فاض روحه استجلاء
ويثير الربيع عندك حلما
معجزا فهم كنهه العشراء
أين في الناس وردتان تميلا
ن معا للنسيم من حيث جاء؟
فاطرح هذه الأماني وارفع
لحظ عينيك وابغ ثم السماء •••
قلت: هل تهزئين بالعقل يا نف
س فتلغي بمن مضوا لي اكتفاء؟
ما شيوخ الصدق الذين تقولي
ن أفاضوا على الحياة البهاء؟
أوليسوا كصبية يتضاغو
ن بأولى هذي الحياة سواء؟
قد تهجوا من الكتاب حروفا
ما تعدوا بعلمها الجهلاء
وسعوا سعيهم وإن علينا
بعدهم أن نواصل الإسراء
أدمى تعبدين فيهم؛ فما أض
يع تقوى من يعبد الأسماء!
اعبدي الحق لا الشفاه اللواتي
تمتمت ثم أطبقت إعياء
لو قنعنا بسعي من سبقونا
ورأينا بما أفادوا اجتزاء
لغدا خلق كل هذي البرايا
سرفا بل سفاهة وهراء
ليت لي قوة فأبطش بالعق
ل وأمحو آثاره الغراء
في المناجاة
داعبتني يوما فهل تذكرين؟
لو يذكر السيف كلوم الطعين!
نعم هو السيف به تلعبين
ولست تدرين الذي تصنعين
أواه يا غيداء لو تعلمين!
وكيف والسر بصدري دفين؟
أهواك والحب بلاء مبين
وجنة يشقى بها المتقون
أمر بالدار عسى تبصرين
نضوك يحدوه إليك الحنين
كأنما يرمي عباب الهوى
بشلوه صوبك لو تشعرين
والبحر قذاف بخواضه
والبحر لا يعيي أواذيه طين
وا حسرتا إن حطمت صخرة
جثماني الواهي وطيني المهين
لو كنت نارا لخبت جذوتي
في لجك الطاغي الذي تزخرين
يا درة غصت لها في الأسى
كلت ذراعاي وما من معين
فضي غلاف الصدف المنطوي
عليك وابدي في سناك المبين
حجبت عني يا ضياء العيون
يا راحة القلب وروح اليقين
ريحانتي هل خفت لفح الجوى
وعصفه قبلك بالياسمين؟
صدقت! إني لافح عاصف
تالله ما أنت وحر الشجون! •••
أكل ذنبي أن بي حبها؟
وددت لو مثلي إذن تذنبين!
ألا أرى حتى ولا ظلها؟
وا شقوة القلب الذي تسكنين!
نعمى حرمناها على حبنا
يا ليتني كنت الخلي الضنين!
عجبت للحظ وتقسميه
وللذي قد شاء فيه المجون
هبك منعت العين أن تجتلي
جمالك الغض فما تمنعين؟
هل تمنعين القلب أن يصطلي
جحيم حبيك الذي تسعرين
يا فتنة القلب ألا رقية
من أخذة السحر الذي تنفثين؟
أسمعتني صوتك في ضحكة
فضية؛ واها لذاك الرنين!
ويلي لقد أصبحت ندابة
أبكي بكاء الطفل إذ تضحكين
قد كان لي ثوب رجولية
زين إذا غيري اكتسى ما يشين
أين إبائي أن أسام الأذى
أين وفائي للخلاق الرزين؟
تجملي أين وأكرومتي
آوى إلى فيئهما ذي السكون؟
نضوت عني كل دثر وما
خلفت لي إلا شعار الجنون
خلفتني عاري الهوى ليس لي
ما يستر القلب عن الناظرين!
كأنما الدنيا قواء فما
أحس هذا الناس لو يعلمون
فلا حياء لي أو عزة
وكيف والأرض خراب أمين؟
أفوق ظهر الأرض من أستحي
منه؟ أفي أرجائها من قطين؟
هل من يرى ضعفي وينعى به
إذا أنا استحذى فؤادي الضمين؟
ما حيلتي لو أن لي حيلة؟
تقطع القلب وما تشعرين
هيهات أن تدري بما هجته!
أتشعر الشمس برمد الجفون؟
أخشى عليك الناس أن يلهجوا
بنا ولو كانوا من الأقربين
يا عزتي «تيهي» ولا تعلمي
ما تعلم الدنيا التي تسحرين
وإن سما من نبأي سره
إليك يوما وعلمت اليقين
ولم يكن عطف فلا تهزئي
وحسبي الله إذا تهزئين!
انظر إلى وجهي
انظر إلى وجهي الشتيم اللعين
واحمد على وجهك رب الفنون
أحسب أن الله ما صاغني
كذاك إلا رغبة في المجون
لو كنت للناس إلها، إذا
كنت بنفسي أول الكافرين
بل كنت أعنو للذي صغته
كما عنا «زوس» الإله الفطين
ما ذنب إخواني أرميهمو
بصورة شنعاء تقذي العيون؟
لم ألف من بينهمو واحدا
يعيرني رونقه والفتون
يا ليلتهم بالحسن يعدونني
لما غدوا يذكون وقد الحنين
مزيتي لا الحسن أزهى به
كلا ولا شعري السخيف الهجين
ولا ثراء المال أوصيته ال
خاوي ولا الفضل الصريح المبين
لكنها الإخلاص لو أنه
يكون لي يوما شفيعي المكين
إلى صديق
أخوك إبراهيم يا مصطفى
كالبحر لا يهدأ أو يستريح
كالبحر حي الموج وثابه
لكنه من نفسه في ضريح
من حوله الشطآن لا تنثني
تحبسه دون انسياح الفتوح
خلت من المعنى لحاظ له
وكانت البرق المضيء المليح
لكنه رغم الدجى راصد
يحارب الدنيا بجند الطموح
أنر إن اسطعت له عيشه
فالعيش يجلوه الإخاء الصحيح
أنر وأني لك يا مصطفى
هذا الذي يعجز عيسى المسيح؟
حواء يا أماه أنت التي
أورثتني هذا البلاء الصريح
كم آدم أخرجت يا أمنا
من خلده بعد أبينا الطليح؟ •••
مازلت رغم الدهر كفئا له
مشمرا أطلب كنز الشحيح
فإن أنل من زمني مأربي
نعمت في الدنيا بحسني الجموح
أو - لا - فحسبي سلوة أنني
ما كنت يوما بالجبان المشيح!
نامعلوم صفحہ