إيه يا عزيز! إن للميت نفسا لا يبلغها الإحصاء ولا ينالها الحصر ولا يحدها المكان؛ فهي كثيرة على أنها واحدة، وهي تنزل في قلوب كثيرة في وقت واحد وعلى اختلاف الأوقات والأطوار والشئون. إني لأتحدث إليك وإن قوما غيري كثيرين ليتحدثون إليك ويسمعون منك في هذه الساعة، وإن شيخا وقورا كريما قد أقام في قرية من قرى الريف، ليتحدث إليك ويسمع منك في ساعات النهار كلها وفي ساعات الليل كلها، لا يمنعه من ذلك أن يمس طائف النوم جفنه أو يلم به الزائرون، أو أن يقيم عنده الضيف فيطيل المقام.
إنه ليأنس بك يا بني أنسا حلوا بشعا، يملؤه الحب وتملؤه الوحشة ويملأ نفسه هو أسى ولوعة وجزعا. إنك لتفهم عني هذا الحديث يا بني، فأنت شاعر تفهم كيف يكون الأنس موحشا وكيف تكون الوحشة مؤنسة. إن هذا الشيخ الوقور الكريم ليتحدث إليك ويسمع منك، ولكنه يريد أن يراك رأي العين وأن يسمعك سمع الأذن وأن يمسك مس اليد، فلا يجد إلى ذلك سبيلا! أنت قانع منه يا بني ومن أصدقائك بهذا الحديث الصامت الذي يدور بينك وبينهم، ولكنه هو وأصدقاءك غير قانعين؛ لأن الموت علمك القناعة، ولعله علمك أن حديث النفوس هو خير الحديث وأحسنه إمتاعا. فأما أبوك وأصدقاؤك فأحياء لم تعلمهم الحياة هذا اللون من ألوان القناعة.
إيه يا عزيز! إنك لتقنع من أبيك وصديقك بهذا الحديث الحلو المر الذي تتحدثه النفوس والقلوب؛ لأنك بعد الموت لا تنسى ولا يجد النسيان إلى نفسك سبيلا. فأما الأحياء فما أكثر ما يمتحنون بالنسيان! وهل العزاء إلا لون من ألوان النسيان؟!
لقد كنت أسأل الله أن يلهمنا عزاء وصبرا، ولكني أسأله أن يلهمنا هذا العزاء الذي تعرفه أنت، وهو العزاء الذي لا نسيان فيه.
لقد قرأت شعرك يا بني، بعد أن سمعت منك أكثره، فلم أكن أسمع القارئ، وإنما كنت أسمع صوتك حين كنت تنشدني. وربما قرأ القارئ علي أول القصيدة فكففته عن المضي في القراءة، وآثرت أن أسمع منك أنت سائرها، فصوتك أنت يا بني أعذب عذوبة وأحر نغما وأحسن وقعا. فقد عرفت شعرك يا بني حين كنت تحاول الشعر طامعا فيه غير واثق به، يثور في نفسك وينطلق به لسانك متلعثما، ويجري به قلمك متعثرا بين حين وحين. وكنت تريد أن تطمئن إلى أنه الشعر، وإلى أنك على عرق منه. وكنت أؤكد لك ذلك تأكيدا وأحثك على قول الشعر حثا، وألح عليك في أن تقرأ شعر القدماء ما وسعتك القراءة؛ ليستقيم لك مذهبهم ومنهاجهم. وكنت أرى من ذلك ما يروقني ويروعني. وكنت مطمئنا كل الاطمئنان إلى أن رحلتك إلى الغرب وعودتك إلى الشرق وخضوعك لألوان التجارب ما يقسو منها وما يلين، كل ذلك سيطوع لك من الشعر عصيه ويروض لك منه أبيه ويبلغك من حسن التصرف فيه ما تريد. وقد تم لك من ذلك ما أحببت، فقلت من الشعر ما أرضاك وما أرضى مواطنيك. كان الشعر حديث نفسك في خاصة أمرك، وكان حديث نفسك ونفوس المصريين فيما ينوب مصر من الأمر، حتى لقد كان يلم الخطب فينتظر المصريون أن يسمعوا شعرك أو يقرءوه.
معذرة يا بني! إن الشعراء حين يستأثر الموت بأجسامهم معرضون لكثير من المحن، شأنهم في ذلك شأن الكتاب والفلاسفة: حياتهم ليست ملكا لهم وإنما هي ملك للناس جميعا، فشعرهم مهما يكن موضوعه خليق أن ينشر ويذاع؛ لأن للناس جميعا حقا فيه.
وقد رأينا أن ننشر ما حفظنا من شعرك، فلم نكتف بشعرك في السياسة وما ألم بالوطن والإنسانية من خطب، وإنما نشرنا معه شعرك في الحب والموت، فكم كنت تجيد الشعر في الحب والموت؛ كنت مرهف الحس صافي الذوق مترف النفس، فكنت محبا دائما، وكنت سباقا إلى الشعور بما أضمرت لك الأيام، شأنك في ذلك شأن الشعراء الملهمين.
صاحبت الموت منذ أول الشباب، صاحبته دون أن ترى شخصه، فكنت تذكره دائما: تذكره في حديثك، وتذكره في شعرك، وتذكره حين تناجي نفسك في غير كلام، تحس محضره إلى جانبك وتريد أن ترى شخصه فيمتنع عليك، فتسأل عنه العراف وتسأل عنه قارئ الكف. وكأنه رفع الستار لك عن شخصه في مثل خطف البرق، فرأيته غير مستوثق، وتساءلت عن الموت أتراه ينتظرك بين الموج؟! وقد كان ينتظرك بين الموج الهادئ. كان الموج هادئا جدا، وكان الموت بينه هادئا جدا كذلك، وكانت السيارة عنيفة، حتى إذا بلغت المكان الذي قسم لها أن تبلغه أسلمتك إلى الموت الهادئ والموج الهادئ جميعا، وأثارت في قلوب أبيك وأهلك وصديقك حزنا صاخبا وجزعا عنيفا.
نضر الله وجهك يا بني، وأنزل السكينة على قلوبنا! وجعل ديوانك هذا الضئيل الكبير في قلب كل قارئ وسامع، رسالة حب وألفة ووفاء وإخلاص، ودعوة إلى نصر الحق مهما يكن الحق بعيدا ومهما يكن نصره عسيرا.
نضر الله وجهك يا بني! وعصمنا من هذا العزاء الجدب الذي تجمد له القلوب وتغلظ له الطباع، وجعل لنا في أحاديثك إلينا مصبحين وممسين عزاء عنك حتى نلقاك.
نامعلوم صفحہ