الجزء الأول: الكونيات
النونية الكبرى
الهمزية الكبرى
مرآة الزمن
رحلة
الجزء الثاني: قصائد اجتماعية ووجدانية
حرب طرابلس
إلى الأمير
تشريف الأمير
تهنئة
في تهنئة محمود وهبي
وداع
في قطار
تقريظ
يا عظيما
فقيد الطيران
علي أبو الفتوح
رثاء
إلى زوجة راحلة
فيدورا
المنصورة
وردة
ناظك
إليها
هي أشعر
مطارحة
وصف الحبيبة
تطريز
متناثرات في الهجاء
رسالة
عاشق
للصباح
مصر
رثاء
غزل (1)
غزل (2)
صدودك
سلام ...
استنهاض
تحية
تكريم
مصر
الجزء الثالث: غزل الأغاني
ستريس
هو القدر!
العاشق
عيون وعيون
حيرة
لواعج
إليها
وهبتك قلبي
راقبوها
سحر الجمال
شكوى
يا عيونا
إليك وفائي
حرب!
القلب القاسي
أين العهود
جفون
دولة الحسن
معللتي
متى اللقاء
فدى لك روحي
جوابها
ملكت الفؤاد
عن غادة
سؤال
وفاء
هو الحب!
رجاء
يوم الوداع
لمن أشتكي؟
قسم!
استسلام
لقاء خيال
هبيني لحظة
سلي الليل
سأصون العهد
عهد
كم تحملت
الحقيقة
لولا الهوى
إليها
ليلة
لحظ العيون
ربة الحسن
حبيبة القلب
مناجاة
يا حياتي
قسما بثغر ...
إلى قلب
غيرت حالي
لقاء
نداءات عاشق
خبراها
قصة لقاء
عنها
متى يكون التداني؟
رفقا بحالي
أغنية حب
حقيقة الحب
الضاحك الباكي
تغريدة
دلال
بالله رفقا
كيف أصنع؟
فاتنتي ارحمي
إلى رقيب!
أنت بدر
يا ليل
دمعي يخفف كربي
تمنيت شهدك
لقاء على كأس
الجزء الرابع: أوبريت وأناشيد مدرسية
حنين الأرواح
الموسيقى والعليل
القطع الغنائية بقلم شجرة الدر
صحوة العلم ونشوة المال
مجد مصر
صوت الضمير
أناشيد مدرسية
نشيد مدرسة خليل أغا
نشيد مدرسة محمد على
نشيد مدرسة عابدين
نشيد مدرسة القربية
نشيد مدرسة الشيخ صالح
نشيد مدرسة مصر الجديدة
الجزء الخامس: ربيبة الكوخ
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الجزء الأول: الكونيات
النونية الكبرى
الهمزية الكبرى
مرآة الزمن
رحلة
الجزء الثاني: قصائد اجتماعية ووجدانية
حرب طرابلس
إلى الأمير
تشريف الأمير
تهنئة
في تهنئة محمود وهبي
وداع
في قطار
تقريظ
يا عظيما
فقيد الطيران
علي أبو الفتوح
رثاء
إلى زوجة راحلة
فيدورا
المنصورة
وردة
ناظك
إليها
هي أشعر
مطارحة
وصف الحبيبة
تطريز
متناثرات في الهجاء
رسالة
عاشق
للصباح
مصر
رثاء
غزل (1)
غزل (2)
صدودك
سلام ...
استنهاض
تحية
تكريم
مصر
الجزء الثالث: غزل الأغاني
ستريس
هو القدر!
العاشق
عيون وعيون
حيرة
لواعج
إليها
وهبتك قلبي
راقبوها
سحر الجمال
شكوى
يا عيونا
إليك وفائي
حرب!
القلب القاسي
أين العهود
جفون
دولة الحسن
معللتي
متى اللقاء
فدى لك روحي
جوابها
ملكت الفؤاد
عن غادة
سؤال
وفاء
هو الحب!
رجاء
يوم الوداع
لمن أشتكي؟
قسم!
استسلام
لقاء خيال
هبيني لحظة
سلي الليل
سأصون العهد
عهد
كم تحملت
الحقيقة
لولا الهوى
إليها
ليلة
لحظ العيون
ربة الحسن
حبيبة القلب
مناجاة
يا حياتي
قسما بثغر ...
إلى قلب
غيرت حالي
لقاء
نداءات عاشق
خبراها
قصة لقاء
عنها
متى يكون التداني؟
رفقا بحالي
أغنية حب
حقيقة الحب
الضاحك الباكي
تغريدة
دلال
بالله رفقا
كيف أصنع؟
فاتنتي ارحمي
إلى رقيب!
أنت بدر
يا ليل
دمعي يخفف كربي
تمنيت شهدك
لقاء على كأس
الجزء الرابع: أوبريت وأناشيد مدرسية
حنين الأرواح
الموسيقى والعليل
القطع الغنائية بقلم شجرة الدر
صحوة العلم ونشوة المال
مجد مصر
صوت الضمير
أناشيد مدرسية
نشيد مدرسة خليل أغا
نشيد مدرسة محمد على
نشيد مدرسة عابدين
نشيد مدرسة القربية
نشيد مدرسة الشيخ صالح
نشيد مدرسة مصر الجديدة
الجزء الخامس: ربيبة الكوخ
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
ديوان إسماعيل صبري
ديوان إسماعيل صبري
تأليف
إسماعيل صبري
الجزء
الكونيات
النونية الكبرى
فاتحة
رب هب لي هدى وأطلق لساني
وأنر خاطري وثبت جناني
ملهم النفس بالتقى خير مسرى
لمفازات نورك الرباني
كن معيني إن أعجزتني القوافي
ونصيري في ساميات المعاني
أنت قصدي وغايتي ورجائي
مالك الملك مبدع الأكوان
يا جلالا عم الوجود بلطف
وسلام ورحمة وحنان
واقتدارا أحاط بالكون علما
نظمت عقده يد الإتقان
وجمالا في كل شيء تجلى
سبح الحسن فيه للرحمن
أسماء الله الحسنى
جل شأن الإله رب البرايا
خالق الخلق دائم الإحسان
واحد قاهر سميع بصير
عالم الغيب صاحب السلطان
حكم عادل لطيف خبير
نافذ الأمر واسع الغفران
قابض باسط قوي عزيز
مرسل الغيث مقسط الميزان
واجد ماجد حليم كريم
ترقب الخلق عينه كل آن
يعلم السر في الصدور وأخفي
وإليه سيحشر الثقلان
ظاهر باطن قريب مجيب
نعم من فاز منه بالرضوان
واعد المتقين جنات عدن
ولمن خاف ربه جنتان
منعم وارث علي عظيم
باعث الخلق بين إنس وجان
كل من في الوجود لله عبد
وإلي الله مرجع الإنسان
إن يوما تطوي السموات فيه
كل حي إلا المهيمن فان
يوم تهوي الأفلاك من كل برج
آفلات ويجمع النيران
وتدك الأرض انهيارا ويقضي
كل أمر ويسجد الخافقان
البعث والحساب
صيحة تجعل الرواسي عهنا
تنسف الأرض بين قاص ودان
وتدوي أخرى فيحيا رفات
ضمه الترب من قديم الزمان
نخرته يد البلى وهشيما
بعثرته الرياح في الوديان
من على رجعه كأول خلق
قادر غير فاطر الإنسان؟
كان غصنا غضا فتيا رطيبا
لم يفكر في الرمس والأكفان
هيمنته على الثرى خيلاء
زينتها وساوس الشيطان
سوف يدعى إلى قيام رهيب
أنكرته حماقة الطغيان
يوم تجري الأجساد للحشر حيرى
بين لج وقسطل من دخان
يوم يدعو كل امريء: رب نفسي!
وينادي الحساب: آن أواني!
في ذهول المأخوذ لم تدر نفس
لنعيم تساق أم لهوان
موقف حاشد وحشر مهيب
قد أحاطته ألسن النيران
يقذف الرعب في القلوب ارتجافا
والمساوي تمر بالأذهان
يجمع الخلق منذ أول نفس
وافت الأرض من رياض الجنان
لم يغيب عن عرضه أي فرد
ضمه الروح من بني الإنسان
هذه الساعة الرهيبة فانظر
يا ابن حواء آية الرحمن
قد تجلت مصداق ذكر حكيم
جاء للناس بالهدى والبيان
أرسلته للعالمين سلاما
رحمة الله واسع الغفران
حكمة البعث
خلق الناس للبقاء وهذي
آية البعث أصدق البرهان
كل فرد في الحشر لا بد يلقى
جنة الخلد أو لظى النيران
إن يكن صدق الكتاب فأمن
وسلام ورحمة وتهاني
والذي أنكر القيامة كبرا
وعلوا هوى مع الشيطان
سوف يلقى العذاب من كل صوب
ويعاني عواقب الطغيان
أهوال القيامة
ظلمات تعثر الخلق فيها
كالفراش المبثوث في الكثبان
أو كسيل من الجراد خضم
قذفتها الأحداث كالطوفان
رجفة دكت الجبال فألقت
حملها الأرض واختفى النيران
صدق الوعد فانظروا كيف تمت
آية البعث أيها الثقلان
باغتتكم والنفس تمرح سكرى
بين غناء روضة وأغاني
ساقها الطيش لارتكاب المعاصي
فأطاعت غواية الشيطان
حبب الفسق والفجور إليها
ورماها في كاذبات الأماني
أفسح المال للفساد مجالا
بين كأس الطلا ودل الغواني
فتنتكم أموالكم فكفرتم
وارتكبتم ما ليس في الحسبان
خدعتكم بسحرها أم دفر
وسبتكم بحسنها الفتان
فشغلتم عن الحقيقة جهلا
وانصرفتم إلى المتاع الفاني
وعميتم عن الهدى وانطلقتم
في مهاوي الفجور والعصيان
وكفرتم بأنعم الله حتى
نبذتكم مراحم الغفران
فإلى الموقف الرهيب هلموا
قد بعثتم إلى المصير الثاني
ها هي الأرض أخرجتكم لتجزى
كل نفس ما قدم الأصغران
إن تكونوا مصدقين فأمن
وسلام ورحمة في حنان
أو تكونوا مكذبين فويل
من عذاب ونقمة وهوان
كل نفس يغني لها فيه شأن
عن سواها وأين يهرب جان؟
يوم لا تملك النفوس انتصارا
وله الأمر وحده كل آن
كل فرد له كتاب شهيد
سجلت فيه صادقات البيان
قولها الحق بالذي قدمته
طوع شيطانها يد الإنسان
لم يغادر صغيرة ما حواها
قدرة نزهت عن النسيان
الجنة
كل شيء غير البديع ظلام
وهو نور الآفاق والأكوان
حلقت هيبة فأشرق نور
واعتلى العدل كفة الميزان
وتلا الذكر خلفهم شهداء
باركتهم مراحم الغفران
تلكم الجنة التي قد وعدتم
أدخلوها في غبطة وأمان
قد صبرتم مصدقين ففزتم
بخلود في عاليات الجنان
فسلام أهل اليمين عليكم
كل من في النعيم يهدى التهاني
جنة الخلد زينت فأقيموا
ومع الحق لا تضيع الأماني
سيد الخلق بينكم فاض نورا
وجلالا من الرضى الرباني
أشرف المرسلين قدرا وجاها
عبقري النهى عظيم الجنان
خصه الله بالشفاعة عطفا
وحنانا على بني الإنسان
صلوات الإله تحبوك دوما
يا نبي الإسلام والإيمان
قدرة الله
بين رهب وذلة وخشوع
خفق القلب خفقة الحيران
وبدا الهول والنواظر حسرى
زائغات في رجفة الولهان
وجثا الناس كلهم في خضوع
إذ تجلت مهابة الرحمن
وقف العبد في رحاب إله
نافذ الأمر قاهر السلطان
لم يغب عنه في السموات شيء
وعليم بما جنى الثقلان
ملأ الأرض والسماء وجودا
خالق الكون لم يغب عن مكان
أبدي يدبر الأمر فردا
سرمدي الجلال والسلطان
بين حرفين كلما شاء يقضي
مطلق الحكم لم يشاركه ثان
قدرة أحصت الخلائق عدا
منذ أوفى على الثرى الوالدان
رحمة عم رزقها كل حي
جل وهابها عن النسيان
خبرة أبدعت محاسن خلق
في جلال من دقة الإتقان
فيض علم ما ذرة عنه غابت
في جميع الآفاق والأكوان
ملك يرقب الخلائق جمعا
ويدير الأفلاك في الدوران
يبسط الرزق للذي ساء جودا
وهو أدرى بالخير للإنسان
يرسل الماء فوق جرداء ميت
فيرد الحياة للوديان
فتموج الأرض اهتزازا وتربو
ثم تبدو في سندس فتان
تخرج الحب والثمار وتزهو
في عقيق ولؤلؤ وجمان
روحات النسيم تحمل عبقا
من أريج الزهور والريحان
كل شيء يسبح الله حمدا
كي يؤدى فرائض الشكران
نعم ساقها المهيمن للنا
س فحمدا للمنعم المنان
أعجز الخلق عدها فتعالى
باسط الرزق دائم الإحسان
فاطر الأرض والسموات فرد
صاحب الطول في علو الشان
عالم الغيب والشهادة نور
يملأ الكون فيضه الرباني
نافذ الأمر في جميع البرايا
مطلق الحكم لم يشاركه ثان
غافر الذنب قابل التوب ملك
جل تشبيهه عن الحدثان
كاشف الضر والبلاء مجيب
دعوة الوامق الحزين العاني
في دياجي الظلام يرحم دمعا
أمطرته قهرا صروف الزمان
ويجير الملهوف من هول كرب
دبرته مظالم الإنسان
ويمد المظلوم منه بنصر
ويسوق الظلوم للنيران
أحكم الحاكمين كنز العطايا
أرحم الراحمين رحب الحنان
واهب العزم للضعيف ليقوى
ولمن خاف منعم بالأمان
واسع الحلم لا يعجل بطشا
خير أهل للعفو والغفران
يمهل الظالمين حتى إذا ما
شاء ذاقوا عواقب الطغيان
لم يدع ذرة تمر هباء
في طريق الأعمال للإنسان
الجحيم
كل نفس سيقت إلى الخير تلقى
أعظم الأجر في علا الرضوان
والتي قادها إلى الشر طيش
سوف تجزى بما جنته اليدان
جامع الناس والموازين قسط
يوم لم تجد زفرة الندمان
أي ويل إذا الموازين خفت
وزفير الجحيم في ثوران
واستشاطت غضباء وهي تدوي
في زئير يروح بالآذان
فزع يملأ الفؤاد ارتجافا
حين تبدو ذات الشوى للعيان
من حميم تنساب فيها سيول
في جحيم وظلمة من دخان
وهوى المجرمون بين رعود
أطلقتها زوابع النيران
فهلموا يا من ظلمتم وجرتم
وكفرتم بالواحد الديان
إن هذا تصديق ما قد كذبتم
وأطعتم غواية الشيطان
المؤمنون في النعيم
كل حظ وكل فوز عظيم
للذي نال رجحة الميزان
باتباع الهدى وترك المعاصي
والتغاضي عن المتاع الفاني
خالف النفس بين عزم وصبر
ومضاء وعفة وأمان
وأطاع الإله طاعة عبد
قربته مثوبة الشكران
للذين اتقوا أعدت قصور
عاليات في خالدات الجنان
والفراديس زينت ببدور
كاللآلي ما بين حور حسان
وبدار النعيم صفت بيوت
من كريم الياقوت والمرجان
غرف تحت زهرها الماء يجري
من نضار ومن نعيم الجمان
تتجلى على الأرائك فيها
حور عين من كاعبات قيان
وعليهن طاف ولدان خلد
بشراب الأعناب والرمان
في أباريق من لجين شذاها
عرف مسك ونفحة الريحان
وعلى الجانبين صفت عروش
سرر حولها القطوف الدواني
رصعتها يد العطاء بدر
فوق وشي من نادر العقيان
إن فيها من النعيم متاعا
جعل المتقين في مهرجان
أرضها سندس يغطيه زهر
ينشر الطيب في رياض الجنان
ريحها عاطر يفيض عبيرا
حيث مال النسيم بالأغصان
فوق فيحائها وتحت الدوالي
في مروج الكافور والأقحوان
دفقت أنهر وفاضت عيون
باركت نبعها يد الرحمن
من سلاف ومن معين فرات
تتهادى الأنهار كالخيزران
ثم تجري أخرى بدر طهور
لم يلوث بفاسد الأدران
بين طيب الزهور تجري الهوينى
أنهر الشهد في فسيح الجنان
لم يشبه نعيمها بنعيم
كان أشهى أمنية الإنسان
نورها دائم فلا ليل فيها
يانعات المروج والأفنان
إن فيها ما تشتهي كل نفس
وجناها أيان تدعون دان
كل شيء في جنة الخلد غض
ورطيب ويانع كل آن
كيف تدنو يد البلى من جناها
والذي في الخلود ليس بفان
كل وصف مهما تسامى خيالا
في نعيم الفردوس غير العيان
رحمة الله قد أفاضت عليها
سابغات من أنعم الرضوان
وأعدت هذا النعيم جزاء
لسعيد قد فاز بالغفران
يا نعيم الجنات رحب وبارك
وتقدم بعاطرات التهاني
وابتسم يا جمال واهتف سلاما
وتألق في الحور والولدان
هاهم الأتقياء حلوا كراما
بين فيض من الرضى والأماني
يا عباد الرحمن ها قد بلغتم
فاشكروا من هدى إلى الإيمان
مالك الملك إن وعدك حق
من له الحمد غيره كل آن
كل شيء يسبح الله حمدا
أبد الدهر خيفة الرحمن
خالق الخلق من ضياء ونار
وتراب في رأفة وحنان
عرشه الأرض والسماء قريب
لم يغب فيض نوره عن مكان
الشمس
صانع مبدع عليم خبير
بالغ صنعه ذرى الإتقان
كل حي إلى علاه مدين
بالغوالي من أنعم الإحسان
خلق الشمس في السماء سراجا
وحياة للعالم الحيواني
تملأ الأرض كل يوم ضياء
ووهيجا كلفحة النيران
تحمل الغيث من أجاج خضم
ثم تعلو بذره كالدخان
فوق متن الهواء يعلو جليدا
طود ماس في صفحة من جمان
شاء للأرض أن تموت وتحيا
حكمة جددت قوى العمران
كلما أجدبت سقاها سحاب
بمعين من غيثه الهتان
هكذا ثم للحياة نظام
يجعل الجسم يانع الريعان
إن للشمس في العناصر سرا
فهي روح الحياة للأبدان
لو خبا نورها عن الأرض صارت
بلقعا قد خلا من السكان
قدرة حيرت عقول البرايا
غاب إدراكها عن الأذهان
أبدعتها يد المهيمن رفقا
وحنانا على بني الإنسان
ملهم النفس والتدابير تجري
محكمات في عالم الأكوان
فاز من بالتقى أطاع ووفى
والذي ضل باء بالخسران
أنزل النور رحمة وسلاما
وشفاء في محكم القرآن
جاء بالحق هاديا وبشيرا
ونذيرا للشارد الغفلان
فاض علما بالوحي صدر نبي
عبقري النهى فصيح اللسان
خير نفس حلت بأشرف جسم
خاتم المرسلين فخر الزمان
أحمد المجتبى شفيع البرايا
هادم الكفر شائد الإيمان
جاهد المشركين بالسيف حتى
دمر الحق دولة الأوثان
سبيل الإيمان
أيها الناس آمنوا وأطيعوا
واذكروا الله خيفة كل آن
سبحوه مستغفرين وتوبوا
واستعيذوا به من الشيطان
طهروا النفس باجتناب المعاصي
واستزيدوا هديا من القرآن
واتقوا الله رهبة واشكروه
أن هداكم لنعمة الإيمان
واستقيموا فهو الرقيب عليكم
ومحال أن يختفي عنه جاني
واسلكوا للهدى أعف سبيل
وتفانوا في طاعة الرحمن
واطلبوا الرزق طيبا وحلالا
واحفظوه بالبر والإحسان
واجعلوا العدل إن حكمتم شعارا
واذكروا بطش صاحب السلطان
وتواصوا بالحق واسعوا كراما
واستعينوا بالصبر والإيمان
ضعف ابن حواء
يا ابن حواء قد خلقت ضعيفا
وحليفا للسهو والنسيان
خدعتك الدنيا فأقبلت تلهو
طائر اللب غارقا في الأماني
قادك الجهل فارتكبت الخطايا
وتزودت بالمتاع الفاني
وتخبطت في دياجي حياة
كنت فيها فريسة الشيطان
يا ابن حواء كيف تنقاد أعمى
كيف تنسى عقبى المصير الثاني؟
كيف تصبو إلى الملاهي وترضى
يا ابن حواء وقفة الندمان
قد فقدت النهى طروبا تغني
بين كأس الطلا ودل الغواني!
لم تفكر في غير دنياك يوما
آمنا من تقلب الأزمان
ينقضي العمر والشباب يولي
بين حال الوسنان واليقظان
سنة كلها الحياة وصحو
في دياجي القبور والأكفان
يوقظ النفس بين حرب وكرب
في جحيم من زفرة الندمان
إيه يا نفس قد تغافلت حتى
سكن اللهو منك غدر الزمان
لا اعتذار ولا شفيع يرجى
هكذا فاجرعي كؤوس الهوان
فترة الأرض في الحياة اختبار
فيه يجزى المطيع بالإحسان
وبدار البقاء تخلد نفس
في نعيم أو في لظى النيران
تنقل النفس من حياة لأخرى
إذ ينادي الحمام آن أواني
إنه الموت لم يدع أي حي
فالبرايا جمعا به سيان
فإذا جاء أمره لم يؤخر
وإذا حم فالمقدر دان
ضجعة الموت رقدة يفقد الإنس
ان فيها، ويسكن الخافقان
فهو باب يجتازه كل حي
وهو كأس لا بد للظمآن
غرور ابن حواء
يا ابن حواء دع غرورك واعلم
أن من عف عاش في اطمئنان
خالف النفس واجتنب كل شر
وتباعد عن حمأة العدوان
وافعل الخير ما استطعت وأصلح
وتسابق في البر والإحسان
واتق الله إنه خير زاد
للذي رام خالد البنيان
وتواضع واصفح وسامح كريما
واجعل الحلم زائد الوجدان
وتوكل على المهيمن واصبر
واذكر الموت بين آن وآن
إن كيد الشيطان يفتك فتكا
بضعاف العقول والإيمان
فتنة تملأ العيون جمالا
وانطلاق في كاذبات الأماني
خادع ماكر عدو لدود
شر نفس شقت عصا العصيان
لا تطع كيده وخالفه حتى
لا تنزل عليكما لعنتان!
مصير ابن حواء
يا ابن حواء باطل كل شيء
زينته مظاهر الهذيان
جسمك الغض هيكل من تراب
سوف يبلى على يد الحدثان
يتوارى تحت الثرى بعد حين
حيث يغدو فريسة الديدان
وهشيما عظامه تتداعى
وإلى الترب مرجع الإنسان
كل جسم مشى على الأرض فيها
هي ترب وهو الوليد الفاني
أخرجته يشقى وخجلى طوته
فهي أم لكن بغير قران
إن هذي دنياك فاحذر أذاها
وتجنب مصارع الأزمان
هي أفعى في ثوب حسناء تسعى
بجمال مبرج فتان
تنشب الناب في الذي نال منها
واستمالته مغريات الحسان
والذي كان لهوه بالأفاعي
كيف ينجو من وثبة الثعبان؟
هكذا الدهر صفوه مستحيل
غرض للهموم والأحزان
ما صفا الدهر نصف يوم لنفس
متعتها الدنيا بأقصى الأماني
من هناء إلى شقاء وذل
ومن العز للأسى والهوان
إن هذا كيد الليالي فحسبي
يا ابن حواء من صروف الزمان
مطامع ابن حواء
يا ابن حواء باطل كل شيء
زينته مطامع الهذيان
فالجمال الذي سباك خيال
والأماني خدعة الشيطان
هذب النفس لا تطع ما تمنت
وتمسك بشرعة القرآن
وتفكر في صنع ربك يبدو
لك نور من فيضه الرباني
واذكر الله ما خلوت كثيرا
فهو أزكى ما يكتب الملكان
واخشه إن لهوت فهو رقيب
وقريب للقلب والشريان
لا تقل إن خلوت إني وحيد
فمع الله أنت في كل آن
إن عين الإله ما غاب عنها
أي حي في عالم الأكوان
ترقب الخلق في جلال وحلم
واقتدار ورحمة وحنان
أين منها المفر؟ يا نفس سيري
في طريق الهدى والاطمئنان
قدمي الخير ما استطعت وتوبي
وأطيعي أوامر الرحمن
ضلال ابن حواء
يا ابن حواء أنت لله عبد
وعلى العبد واجب الشكران
كيف تنسى فضل الإله وتمشي
مطمئنا في غبطة وأمان؟
لم تفكر في غير لهو يؤدى
يا ضعيف النهى إلى الخسران
قد دعاك الشيطان فانقدت تهوى
في ضلال الغرور والعصيان
تنكر الحق والهدى كبرياء
مستحقا لنقمة النكران
إن مثوى المستكبرين خلود
في زفير الجحيم والنيران
أيها الأحمق الجهول تدبر
أو تعاقب بالطرد والحرمان
السماء والأرض
هل لهذا الوجود غير إله
واحد في العلا وفي السلطان؟
أمره الأمر لم يشبه بشيء
مطلق الحكم مبدع الأكوان
دبر الأمر في السماء بصنع
غاية في الجلال والإتقان
رتب النجم والبروج وأوحى
للنظام العجيب بالدوران
سابحات تشق جوف فضاء
بين مهوى الثرى إلى كيوان
خاطفات الأبصار كالبرق تسري
في مدار الجوزاء والميزان
قدرة الله سيرتها وحفظا
زودتها بنورها الرباني
من بدور كواكب وشموس
سبحت في العلا عظيم الشان
تقطع الأفق في سلام وأمن
لاحظتها عناية الرحمن
سبح النجم في السماء يؤدي
واجب الحمد ما بدا الملوان
تم أمر السماء سبحان ربي
إذ بناها قوية البنيان
خلق الأرض جذوة من شهاب
لارتباط الأفلاك بالأكوان
ودحاها من بعد ذلك دحيا
وهب الأرض سرعة الدوران
القمر
ثم أوحى للبدر أن خذ مدارا
حول سيارها وسر في أمان
ومن الشمس خذ ضياءك فاعكس
ه عليها للسارب الوجلان
إن للبدر في خطاه بروجا
تتجلى في وجهه كل آن
هو يجري وكوكب الشمس يجري
وعلى الأرض يشرف الكوكبان
آية الشمس في النهار ضياء
وحياة لعالم الحيوان
وإذا الليل ألبس الأرض سترا
من دياجي الظلام كالطيلسان
ظهر البدر في السماء فألقى
صفحة النور من سيول الجمان
نوره يملأ القلوب انشراحا
ويمد النبات بالألوان
إن هذا النظام صنع إله
مالك الملك واحد منان
خلق الشمس رحمة وحنانا
لبقاء الحياة في عنفوان
وأفاضت يد العطاء على الأرض
غيوثا من خيرها الهتان
بعد تقدير قوتها أودعتها
ما ينمي جواهر الأبدان
نعمة الخالق الحكيم فأكرم
بحنان لم يؤته الوالدان
سخر الماء والهواء فراتا
وعليلا فوق الثرى يجريان
جعل الليل والنهار لباسا
ومعاشا كلاهما آيتان
جعل الشمس في النهار عروسا
تتجلى في إمرة السلطان
وأحل البدر المنير مليكا
مشرفا في الدجى على الأكوان
إن للنيرين أكبر فضل
ألبس الأرض حلة العمران
كل هذا آلاء رب قدير
سخرتها رحماه للإنسان
ذلك الهيكل المفضل عقلا
وذكاء عن سائر الحيوان
كرم الله خلقه واصطفاه
وحباه مواهب العرفان
سعة ملك الله
يا بني الأرض إن لله ملكا
واسع الأفق بين قاص ودان
تعلم الأرض والسماء مداه
في سمو الجلال والسلطان
قبضة الله تجمع الأرض في يمن
اه تطوي مسارح الدوران
هي ذات البروج سبع طباق
كل يوم بديعها في شان
رفعت سمكها بغير عماد
قوة القاهر العزيز الباني
عزة تجعل القلوب سجودا
في خشوع من هيبة الديان
حكمة دبر المهيمن فيها
ما خبا نوره عن الإنسان
تتراءى غير الذي أبرمته
وتنافي ما قد بدا للعيان
شاءها الخالق الحكيم فتمت
طبق ما في صحائف الأكوان
إنما اليسر ما أراد، وقدما
خط في اللوح ما انطوى في الجنان
خبرة أتقن المصور فيها
ما توارى عن عبقري البيان
أبدعت خلق كل شيء وأوحت
فيه سرا من غيثها الرباني
آية الصانع العليم أمدت
كل حي ما بين إنس وجان
لم تدع كائنا بغير حنان
من لدنها أكرم به من حنان
هيبة خرت الجبال لديها
ساجدات وكبر المشرقان
وتجلت على الوجود جمالا
كل شيء مسبح بلسان
حضرة تجمع العوالم طرا
تحت نبراس نورها الرباني
كل من في الوجود بين يديها
يطلب العفو والرضى كل آن
نظرة ملؤها الحنو وحلم
في اقتدار وهيبة في أمان
رأفة عمت البرايا ولطف
قدسته للحمد سبع مثان
سجد الكون للمهيمن شكرا
وجلالا وكبر الخافقان
يخرج الميت من سلالة حي
وكذا الحي من رميم فان
يبعث الخلق من دياجي قبور
هشمتها تقلبات الزمان
بعثرت ما بها العوادي وقدما
أورثتها البلى يد الحدثان
يأمر الشمس بالطواف مع البدر
جميعا في دورة يسبحان
يجعل الماء من أجاج معينا
رحمة بالنبات والحيوان
يرسل الغيث هاطلا في الروابي
فتعج الأنهار بالفيضان
عاصفات الرياح بالأمر تجري
فتميد الأغصان بالأغصان
تنثني ملقحات فجلت
قدرة الخالق العلي الشان
من بطون الثرى يبارك ماء
يحمل الطيبات للعبدان
زودته النعمى عناصر شتى
وأمدت به جنى النعمان
من عبير ومن أريج زكي
يعبق الزهر مشرق الألوان
سكر منعش وشهد شهي
وسلاف من طاهرات الدنان
نعم أبدع المصور فيها
ما تناءى عن فطنة الإنسان
عالم الحيوان
ثم أوحى رب الوجود إليها
ملهمات أعيت علوم البيان
نسج العنكبوت أوهن بيت
شاده في الوجود أبرع بان!
وإلى النحل أن أعدي بيوتا
في أعالي الربا وفي الأفنان
واطلبي القوت بين ماء وزهر
من ثمار بديعة الألوان
واقتفى بلسم الدواء ورد
به شفاء شهدا إلى الأبدان
وإلى النمل عالم الفطنة الجد
ورمز النشاط والإتقان
أمهر الباحثين في الأرض شعبا
وحليف النظام والعمران
يعمل النمل دائبا وصبورا
فوق إدراك فطنة الحيوان
ملهمات قد حير العقل فيها
أكسبت فهمه قوى العرفان
في بطون الثرى يعد بيوتا
محكمات الساحات والجدران
حول جدرانها بنى حجرات
شاهدات بخبرة الفنان
صالحات لحفظ ما ادخرته
جاهدات بحاثة الوديان
جامعات الأقوات من كل فج
ما ثناها عن عزمها ما تعاني
غرف أبدع المهندس فيها
أحكم الوضع كي تدوم المباني
قاهرات يد البلى ومحال
أن يكيل الأذى لها العابثان
إن للنمل في الحياة خلالا
ميزته عن عالم الحيوان
عامل ماهر مطيع صبور
صادق العزم مخلص الإيمان
أمم مثلت أدق نظام
لحياة الشعوب في العمران
يتقي البرد في الشتاء فيبقى
بين دفء ومطعم في أمان
وإذا ما الربيع أذن يسعى
طالب الرزق جاهدا غير وان
إن وحي الإلهام أفضى إلى النم
ل بسر من نفحة الكتمان
يعرف الجو والأعاصير فيه
ساريات ما بين آن وآن
من رياح ومن سيول ونار
لاتقاء الأذى قبيل الأوان
عالم النمل آية الجد في الأرض
فسبحان ملهم الحيوان
عالم البحر
أودع البحر رحمة منه رزقا
بارك الله مرتع الحيتان
سابحات الأسماك تكثر ذكر
الله فيه ما سبح الجاريان
أكل طيب طري شهي
فيه شتى الأنواع والألوان
وحلي تألقت لامعات
بين أصدافها كلمح الحسان
لؤلؤ نادر ودر يتيم
وعقود من فاتن المرجان
نعم ساقها الخضم إلى النا
س بأمر من مبدع الأكوان
عالم الطير
أمم الطير أكثر الخلق حمدا
ما سهت لحظة عن الشكران
ما تبدى نور وغشى ظلام
ومع الكون كبر المشرقان
إذ تهادى النسيم يحمل شدوا
رجعته الآفاق بالألحان
سبح الطير فيه ربا رحيما
قد تجلى باللطف والإحسان
واحد منعم حليم كريم
غامر الخلق بالندى والحنان
يرزق الطير أينما حلت الطير
بأقصى القفار والوديان
عالم الطير في الوجود عجاب
فهو رمز للشاكر اليقظان
ولكل في علم الأرض نفع
تلك آلاء قدرة الرحمن
من رسول قد جاء بلقيس يدعو
ربة التاج ربة الصولجان
أمن الجن أم من الإنس؟ لا بل
كان هذا من عالم الطيران
هدهد قد أحاط علما بما لم
يعلم العاهل العظيم الشان
ملك يأمر الرياح فتجري
ونبي دانت له الثقلان
خصه الله منطق الطير لما
نال ملكا غنى به النيران
إن يوما تفقد الطير فيه
فجر ملك قد ساسه تاجان
تاج بلقيس تاج قامعة الجن
وذات الجلال والسلطان
وسليمان رب أكبر ملك
جمع الخلق بين إنس وجان
وقف الطائر الضعيف ذليلا
في انكسار ورجفة وهوان
يرتجي العفو والمليك غضوب
ويد البطش سخطها منه دان
لم تبرئه غير أنباء قوم
قد تمادوا في الكفر والعصيان
عبدوا الشمس عاكفين عليها
واستجابوا لدعوة الشيطان
حكمتهم بلقيس في جبروت
قبل أن تهتدي إلى الإيمان
وأتاها نور الهداية لما
رأت الحق ساطع البرهان
واستقرت وعرشها بين أيدي
من تغنى بملكه الماضيان
ملك المشرقين برا وبحرا
أينما حل حلق الفرقدان
رحلة الهدهد الأمين إليها
أيقظت أهلها من الهذيان
أنقذتهم من الهلاك فكانت
آية النور في جبين الزمان
أمم الطير تذكر الله دوما
ضارعات بالحمد والشكران
بين أوكارها وبين الدوالي
وأعالي الربا وفي الأفنان
عاطرات التسبيح في الكون تسري
سريان الأرواح في الأبدان
تملأ الأرض والسموات حمدا
شاكرات للواحد الديان
عالم الهوام والحشرات
جل من أمطر الخلائق رزقا
وتعالى مدبر الأكوان
كل حي يمشي على الأرض هونا
لمدين بالشكر للديان
في بطون الثرى وغاب الفيافي
زاحفات ملأن كل مكان
أعجب الخلق صنعه وحياة
دقة أعجزت قوى الإمكان
عالم الذر والبعوض شهود
باقتدار المحيط بالأكوان
كل هذي الأحياء تسبح في الكو
ن فيبدو من سبحها عالمان
عالم زائل مداه قصير
ومقام مداه ليس بفان!
تلك الدنيا الفناء دار اختيار
خادع حسنها كذوب الأماني
ما تقضت حتى تلاها خلود
أبدي الحياة ليس بفان!
تلك دار البقاء سيقت إليها
كل نفس في عزة أو هوان
كل شيء فوق البسيطة ترب
منه صيغت هياكل الأبدان
ولكل عمر إذا تم يذوي
ثم يبلى على ممر الزمان
من هشيم ومن رفات عظام
بعثرت ذرها يد الحدثان
طبقات تكدست فوق بعض
في بطون الوهاد والوديان
ودفين على بقايا دفين
في ظلام عنه اختفى النيران
وقبور ضاقت بأشلاء خلق
من قديم الآباد والأزمان
كل جسم يد البلى حولته
من رفات تربا كذر الدخان
من على عد ذرها ذو اقتدار
غير رب الصراط والميزان
باعث الخلق في قيام رهيب
والسموات وردة كالدهان!
ستقوم الأجساد من عالم الذر
سراعا لم تختلط ذرتان!
قدرة أودع المهيمن فيها
ما تناءى علما عن الأذهان
علمه قد أحاط بالكون قدما
قبل خلق الأرواح والجسمان
خط في اللوح ما أراد ولما
يبد للنور هيكل الإنسان
من سعيد ومن شقي قضاء
قدرته إرادة الرحمن
كل شيء أحصاه علما وعدا
في إمام مفصل التبيان
عالم الوحش
في مروج الغابات تحت شعار
من كثيف الظلال والأغصان
وبجوف الأحراش بين سدول
من شباك الجذوع والسيقان
يسكن الوحش هادئا في كهوف
آمنات من وطأة الإنسان
لم تنلها يد الأذى وبرفق
لاحظتها عناية الرحمن
بين آجامها تروح وتغدو
ضاريات السباع في اطمئنان!
في عرين الأسود كل هزبر
في فيافيه صاحب السلطان
ضيغم باسل رهيب مهيب
ملك قاد دولة الحيوان
قوة زانها حنانا وعلما
خلق الفيصل الجريء الجنان
عالم الوحش من نمور وفهد
وذئاب وأرقم أفعوان
تلك أكالة اللحوم افتراسا
واقتناصا في فجعة النهمان
عالم الأنعام
يملأ البيد حولها راتعات
من بهيم الآرام والغزلان
آمنات شر انقضاض الضواري
ساريات في العشب والغدران
تأكل العشب وهو ينسج لحما
وينمي عظامها بالدهان
إن أجسامها مصانع للحم
تغذي الضعيف غذو السمان
مزقتها شراهة الوحش ظلما
فأبيدت على مرور الزمان
حفظتها وقاية الله لطفا
وسلاما من ثورة العدوان
لاحظتها عين العناية حتى
يحفظ الأمن دولة العمران
في بقاع يدوم فيها صراع
يصبغ الأرض بالنجيع القاني
لو تبارت فيها الضواري لأخلت
أرض قيعانها من السكان
هل يجير الضعيف غير قوي
أو يحس الجبروت غير الجبان
يملأ الوحش رهبة الغاب ذعرا
شر نفس تميل للعدوان
شرس يسفك الدماء ويردي
باغتيال مستضعف الحيوان
الأسد ملك الحيوان
خلق الله رحمة بالضحايا
حارسا باسلا جريء الجنان
فيصلا يقهر الوحوش جميعا
لا يبالي بمرهف أو يماني
قوة أكسبت مليك الضواري
أسد الغاب هيبة السلطان
ضيغما قاهرا وليثا هصورا
خير ملك في دولة الحيوان
خصه الله بالبسالة والنب
ل مهيبا جواره في أمان
لا يجاريه في المباراة خصم
ومحال يفر من ميدان
ثابت العزم في خطاه وقورا
يتهادى في خفة واتزان
نظرة ملؤها الرزانة والحلم
وقلب يحبوه فيض الحنان
وزئير كالرعد قد رجعته
جنبات الآجام والوديان
يقذف الرعب في قلوب الضواري
لتولي عن ساكن القيعان
جعل الله سطوة الليث أمنا
وسلاما في صالح العمران
حارس ساهر قوي أمين
ملك الوحش حامل الصولجان
غفلة ابن حواء
يا ابن حواء كيف تلهيك دنيا
ك عن الحق بعد هذا البيان
كيف تنسى أن الإله سميع
وبصير يراك في كل آن
كيف تنسى ذكر الرقيب وتمشي
في ظلام من غفلة النسيان
تنفق العمر في الضلالة تلهو
مستجيبا لدعوة الشيطان
زينت جنده إليك المعاصي
فتخبطت في دياجي الأماني
أنكرت نفسك الضعيفة فضلا
للرقيب المهيمن الرحمن
وضللت الهدى فأعماك طيش
وغرورا جاهرت بالعصيان
لم تر النور وهو في كل شيء
يتجلى ولست بالوسنان
أيها الغافل الأثيم تذكر
قدرة الخالق الجليل الشان
كيف سوت منك البنان ولما
تك شيئا في ذكريات الزمان
فأفاضت يد المصور حسنا
أبدعته براعة الإتقان
ألبستك النعمى بأحسن خلق
وحبتك الآلاء بالإحسان
نطفة كنت في الظلام جنينا
ثم طفلا مطهر الأردان
فغلاما غض الشباب فتيا
من ربيع الحياة في ريعان
يصعد العمر سلما في سراج
من نشاط وقوة ومران
ثم يخبو سراجه حين يمسي
في مشيب مهدم الأركان
دب شيخا على العصا في اكتئاب
سابح الذهن في دجى الأحزان
طاردته الهموم يبكي شبابا
كان حلما في خادعات الأماني
يتمنى لو كان يرجع يوما
حاسر القلب من فوات الأوان
أنهك الضعف هيكلا هشمته
روعة البين وانتقام الزمان
شبح أشمط تقوس ظهرا
في انحناء عيناه غائرتان
يسمع الأرض وهي تدعوه: هيا
أيها الهيكل الرميم الفاني
آن للترب أن يضمك فانظر
كيف تطوى صحيفة الإنسان
ها هو القبر مستقرك حتى
صحوة الناس للمصير الثاني
ضجعة الموت رقدة يتوارى
الجسم فيها عن أعين الحدثان
دعوة الإيمان
يا ابن حواء باطل كل شيء
لم تؤيده دعوة الإيمان
أنزل الحق دعوة الحق نورا
وشفاء في محكمات البيان
فصلته آيات ذكر حكيم
من كلام المهيمن الرحمن
خير داع إلى الهدى بينته
للبرايا شرائع القرآن
إنه من لدن حكيم عليم
جاء حقا بمعجزات البيان
حضنته عين العناية حتى
لم تبدل حرفا يد الإنسان
أبد الدهر سوف يبقى كريما
حجة المهتدين طول الزمان
موسى عليه السلام
بدل العابثون توراة موسى
وتمادوا في الظلم والعدوان
غضب الله والكليم عليهم
حيث باؤوا بالخزي والخسران
المسيح عليه السلام
وبسفر المسيح إنجيل عيسى
حرف المفترون آي البيان
غير الإفك حجة الحق مكرا
وتعدى جهلا على الأديان
ويح يوم الأحزاب عهد النصارى
إذ أحس المسيح بالعدوان
يوم قال المسيح: من أنصاري؟
وهو يدعو للرشد والإيمان
دبر الآثمون كيدا ولكن
أحبط الله فتنة الشيطان
كان صلب المسيح من قوم موسى
ليس إلا ضربا من الهذيان
ضل كيد اليهود إذ سوف تمحو
آية الحق ظلمة البهتان
صور الله للمسيح شبيها
حين قاموا بعرضه للعيان
هكذا يصهر النضار ليصفو
وبهذا تمت له آيتان
أرض كوني على المسيح حراما
فهو سر من العلا الرباني
سوف يرقى إلى السموات حيا
جسدا فيه سبح الأطهران
رفع الله رحمة منه عيسى
قبس النور في عيون الزمان
بعد رفع المسيح ضلت يهود
كل حزب بدا لهم في بيان
وتفشت فوضى أدارت رحاها
فتنة العابثين بالأديان
خيمت ظلمة تحجب فيها
من سنا الرشد والهدى كوكبان
ظل ديجورها المضلل حينا
في سعير مؤجج النيران
خبط عشواء يضرب الناس فيه
بين حال الوسنان واليقظان
إن كيد الشيطان كان ضعيفا
وهو يدعو للشر والعصيان
يوقع الناس خادعا وكذوبا
في شباك من مغريات الأماني
يدفع النفس للفجور فتشقى
والملذات طعمة النيران
محمد عليه السلام
ما انقضت فترة التخبط حتى
أعلن الصبح دعوة الإيمان
وتبدى نور اليقين بأفق
صدعته زلازل الهذيان
وتجلت شمس الهداية لما
أرسلتها مشيئة الرحمن
بينات من الهدى فصلتها
محكمات الآيات في الفرقان
ساقها الروح للأمين ليبني
ما تداعى من طاهر البنيان
فاض بالذكر صدر أحمد نورا
سيد الخلق صفوة الإنسان
خاتم الأنبياء خير بشير
حصنته الآلاء بالقرآن
كان يدعو إلى الهدى في خشوع
طاهر النفس صادق الإيمان
أنفق العمر في الجهاد لتعلو
دعوة الحق غفلة البطلان
فأحل الدين الحنيف مقاما
كان مجد الأجيال والأزمان
الإسلام
إن دين الإسلام ذخر سيبقى
أبد الدهر ثابت الأركان
أنزلته السماء للناس نورا
قد قضته إرادة الديان
يرشد النفس أين تبني ليبقى
ما أقامته خالد البنيان
القرآن
دعوة الحق في كتاب كريم
أعجز الخلق ما حوى من بيان
سيرت آية الجبال وأحيت
سمع من مات من بني الإنسان
لفظه محكم غني فصيح
عربي المبنى جزيل المعاني
فاض مجدا بلاغة وتسامى
في جلال له انحنى الثقلان
إنه من لدن حكيم عليم
معجز الرأي حجة في البيان
لم يبدل من آيه أي حرف
هكذا شاء فاطر الإنسان
راقبته عين العناية حفظا
وأنارت به فؤاد الزمان
هو باق كما تنزل حتى
يبعث الخلق للمصير الثاني
لم يغادر من الشرائع شيئا
وهو سر الرقي والعمران
جاء نورا للعالمين سلاما
منقذا من حماقة الطغيان
ناسخا قبله لتوراة موسى
ولسفر المسيح بعد زمان
معلنا للضياء دعوة صبح
أشرقت شمسه على الأكوان
كان نبراسه على الأفق طه
مرسلا نور دعوة الإيمان
خير داع إلى الهدى أرسلته
رحمة الواحد العظيم الحنان
الإسراء والمعراج
صفوة الأنبياء بدر قريش
أحمد المصطفى رفيع الشان
وعليه صلى الإله فأكرم
بحبيب العلا وحيد الزمان
هاشمي أسرى به الحق ليلا
وبمرآه كبر المسجدان
بين حقل من الملائك صلى
في جلال من نعمة الرضوان
سدرة المنتهى وقد كان منها
قاب قوسين سارعت لاحتضان
خطوة نالها شفيع البرايا
لم ينلها من النبيين ثان
أعرق الخلق رتبة ومقاما
خير نفس ما شاغلتها الأماني
جوهر خالص يتيم نقي
فاض لألاؤه على الأكوان
خلقت روحه الشريفة نورا
قبل خلق المريخ والميزان
من كطه صلت عليه البرايا
أيدته السماء بالقرآن
عن شديد القوى تلقن علما
أكبرته مدارك العرفان
خصه الله بالرضى واجتباه
وحباه فصاحة التبيان
جاء للناس منقذا من عذاب
كان هولا لو حل بالأبدان
جهاد الرسول عليه السلام
ظل يهدي إلى صراط سوي
ويعاني من الأذى ما يعاني
جاهد المشركين حتى هداهم
وأبيدت عبادة الأوثان
فوق أنقاض جهلهم كان يبني
في ثبات دعائم الإيمان
بين صحب مصدقين كرام
جاهدوا مخلصين للرحمن
حاربوا الكفر والضلالة حتى
طهروا الأرض من أذى الكهان
وتجلى الدين الحنيف وعمت
شمسه الأرض فازدهى المشرقان
سبح الكون ربه في خشوع
وخضوع وكبر النيران
وتسامت كنفحة المسك تسري
صلوات تزكو بكل لسان
حاملات إلى النبي سلاما
لم يكرم به رسول ثان
كبري يا بدور من كل برج
وابعثي النور مشرقا بالأماني
نعمة الله بابن حواء تمت
فتزود من حكمة القرآن
ظلم ابن حواء
يا ابن حواء أنت غر خصيم
وجمال الدنيا متاع فان
ساقك الطيش فانطلقت جهولا
لم تفكر في واجب الإنسان
فتهالكت في اقتناص الملاهي
مستفزا شراهة الحيوان
تستحل الحرام غير مبال
بعوادي تقلبات الزمان
وتبيح الفجور نشوان تهوى
في دياجي الفساد والعصيان
وكأن الشيطان غاويك ألقى
بين عينيك خلة النسيان
فاستبقت الخطى تجوب ظلاما
فيه قادتك لذة النشوان
طائر اللب سابحا في خيال
عن مخازيك مغمض الأجفان
أحمق أرعن شقي ظلوم
دنيوي الهوى كذوب الأماني
لم تفكر في غير لهوك يوما
بين خمر وبين غيد حسان
وليال سبتك فيها عيون
خادعات بسحرها الفتان
قد أعد الشيطان فيها شباكا
محكمات من كيده الخوان
سلبتك النهى فقادك أعمى
في طريق مهدم البنيان
زينته للغافلين الملاهي
وأحاطته خادعات الأماني
مغريات الأهواء تلعب دورا
كاد فيه الشيطان للإنسان
قصر الحياة والأمل
أيها الغافل الجهول تنبه
وتيقظ من غفلة الوسنان
سنة كلها حياتك مهما
طال عهد اتصالها بالزمان
أيها الأحمق الظلوم تدبر
واكبح النفس عن هوى العصيان
كل شيء تصبو إليه خيال
وسني الأفراح فيه ثوان
أيها الجاحد الكنود تذكر
كيف سواك خالق الأكوان
دع ملاهيك ساعة وتفكر
في جلال المهيمن الرحمن
أين منه المفر وهو محيط
بالبرايا جمعاء في كل آن
حاضر شاهد سميع بصير
ما نأى فيض نوره عن مكان
يقظة القلب
أينما كنت فالإله قريب
عالم سر ما انطوى في الجنان
كل جسم ينام إلا شهيدا
يذكر الله خافقا بلسان
إنه القلب يا ابن آدم فاعجب
لملاك قد حل في شيطان
صلة النور بين عبد ورب
نعمة ساقها عظيم الحنان
لم تغب لحظة عن الذكر نجوى
أصغريه، فؤاده واللسان
تسبيح الخلائق
كل شيء مشى على الأرض حيا
أو نما في مراتب الحيوان
أمم أودع المهيمن فيها
ملهمات من فيضه الرباني
شاكرات لأنعم الله دوما
ذاكرات آلاءه كل آن
ألسن سبحت بذكر إله
خالق رازق عظيم الحنان
تلك شتى عوالم الأرض إلا
عالم الظلم عالم الإنسان
نسي الله وهو نشوان يلهو
بين كأس الطلا ودل الغواني
فتنته الدنيا وألهاه غاو
أبعد الرشد عن مدى العرفان
زين الفسق والفجور وأملى
كل كيد يدعو إلى العصيان
هيأ النفس لارتكاب المعاصي
فاستباحت رذيلة العدوان
من أطاع الشيطان لا بد يلقى
في الحياتين زفرة الندمان
تتقضى دنياه يوما فيوما
بين حال الوسنان واليقظان
زخرف خادع وصفو كذوب
ومتاع مهما تفاخر فان
مشرقات أعارها الوهم ثوبا
من جمال طلاؤه من دخان
مر طيفا كلمحة البرق يسري
في قرون مرت كمر الثواني
إنه العمر يا ابن آدم مهما
طال يقضى في غفوة الوسنان
يختم العمر بالردى وهو كأس
لم تغيب عن وردها شفتان
فإذا حم لا مرد لأمر
قد قضاه المحيط بالأكوان
خط في اللوح ما قضى للبرايا
من قديم الآباد والأزمان
يثبت الله ما يشاء ويمحو
وبأم الكتاب أصل البيان
هكذا كنت يا ابن آدم نورا
قد تجلى في الجدي والسرطان
قدرة أعجز التفكر فيها
ألمع النابهين في العرفان
قدرة الواحد المنزه حقا
عن شبيه وعن حدود المكان
صاحب الأمر وحده في وجود
ما به ذرة بغير لسان
تملأ الأرض والسموات حمدا
شاكرات لأنعم الرحمن
إن ذكر الإله يرسل نورا
في قلوب تفيض بالإيمان
أكثرت ذكر ربها فاطمأنت
وسيحظى المطيع بالغفران
يا ابن حواء من رعاك جنينا
مطمئنا في عزلة وأمان
وتولاك بالعناية طفلا
حافظا وافيا عظيم الحنان
وأمد الشباب منك بعزم
قد تجلى في نضرة الريعان
وإذا ما ضعفت أولاك نعمى
تتوالى بالفضل والإحسان
تلك آلاؤه وقد صرت شيخا
أوهنت عظمه صروف الزمان
عم فياض رزقه كل حي
ضمه الروح بين قاص ودان
عالم الله
يا ابن حواء من أمات وأحيا
واقتدارا أحاط بالأكوان
يبعث الأرض كل عام فتحيا
بعد موت بهيجة الأغصان
تنبت الحب والثمار وتزهو
في بساط مرصع الألوان
يمزج الماء وهو يجري حثيثا
في جذوع النبات بالأدهان
كل شرب له مذاق وطعم
قدرة أعجزت قوى التبيان
فيض علم الحكيم رب البرايا
ما بدا نور سره في جنان
لم يدع ذرة على الأرض إلا
ضمها علمه بأجلى بيان
مالك الملك نافذ الأمر فرد
كل يوم سلطانه في شان
خلق الموت والحياة لتجزى
طيبات الأعمال بالإحسان
وينال القصاص كل أثيم
لم يصدق بدعوة الإيمان
كل شيء خلا من الماء ميت
فهو سر الحياة للأبدان
أطلق الريح زعزعا ورخاء
وجنوبا وشمألا تجريان
منعشات لوافحا تتهادى
حيث مال النسيم بالأغصان
وهب الشمس قوة فأضاءت
في فجاجات عالم الدوران
ترسل النور من بعيد مداها
بشعاع يفيض في الأكوان
يملأ الأرض بهجة وحياة
وينمي عناصر الأبدان
تلك أم القوى وما الأرض إلا
جمع ذر من جرمها النيران
هي أم والأرض للشمس بنت
وبسر التكوين تتصلان
جذبتها يد الأمومة حتى
لم تهدد بطاريء الحدثان
وهي تهوي كالبرق حتى استقرت
في نظام للجدي والسرطان
واستوت في مدارها وهي تجري
وعليها قد أشرق النيران
أطفأ الله سطحها ودحاها
وحباها الأوتاد من صفوان
دارت الأرض في اتزان وأمن
وجمال يحفها القمران
تم للشمس في السماء نظام
أبدعت سيره يد الإتقان
يجمع الأرض فيه والبدر يجري
يملأ الليل لألأ من جمان
عالم الشمس أبدع الخلق صنعا
سخرته الآلاء للإنسان
ولد الليل والنهار، وأجرى الماء
غيثا من هاطل هتان
وأمد النبت البهيج بروح
أكسبته الحياة في عنفوان
وأطار الرياح من كل فج
كي يعم الهواء كل مكان
وأباد الوهيج كل كريه
من خبيث الأدران والديدان
طهر الأرض والذي دب فيها
وأمد الحياة بالريعان
لو توارت أشعة الشمس يوما
كل شيء نما على الأرض فان
يا ابن حواء كوكب الشمس عبد
سيرته إرادة الرحمن
هو يربو عن كوكب الأرض جرما
فوق عد المليون في الحسبان
شق جوف السماء كالبرق يجري
في مدار يحده الأبعدان
في قبضة الله
يا ابن حواء أمك الأرض أدت
طاعة العبد للندا الرباني
جاءت الأرض والسموات طوعا
حين نادى مسير الأكوان
سابحات الأفلاك في كل برج
تذكر الله خيفة كل آن
سيرتها يد العناية لطفا
وحبتها بفيضها النوراني
باسم رب السماء كالبرق تجري
كل نجم يدور في حسبان
قدرة الخالق العليم تعالى
كل يوم تدبيره في شان
فلك دائر بأبهى نظام
رتبت عقدة يد الرحمن
شاكرات أجرامه فضل رب
قد حباها باللطف والإحسان
صانع مبدع عليم حكيم
معجز وصفه قوى العرفان
حاضر شاهد سميع بصير
ومحال إدراكه بالعيان
لم يكيف ولم يشبه بمثل
أبدي لما يغب عن مكان
كان فردا ولم يكن ثم شيء
تم خلقا في عالم الأكوان
بدأ الخلق والعوالم ذرا
والسموات شادها من دخان
رافعا سمكها بغير عماد
جل شأنا وعزة خير بان
زينتها كواكب لامعات
من شموس ومن بدور حسان
كالدراري تطوف في كل برج
في اتزان من شرعة الدوران
ساريات ثوابت مشرقات
سابحات في الحوت والسرطان
تلك سبع محلقات طباق
قد تقضى في صنعها يومان
وإلى الأرض وهي جرداء قحل
أرسل الماء فالتقى البحران
من أجاج أجرى فراتا معينا
من أعالي الربى إلى الوديان
أنزلته من السماء سيول
ماطرات من سلسل هتان
صير الترب وهو ينساب طينا
كي تسوى عناصر الحيوان
وبمر الهواء دبت حياة
حركت فيه دولة الديدان
أكسبتها أشعة الشمس دفئا
ونموا ونفحة من دهان
الله القادر
آية الشمس في الوجود حياة
وعلى الأرض آية العمران
دب فوق الثرى عوالم شتى
ونما النبت وارف الأغصان
وببطن الثرى أعدت كنوز
أودعت ما بها يد الحنان
من فحوم ومعدن وعيون
مفعمات بالزيت والأدهان
وعقاقير من جواهر أعيا
فهم إدراكها قوى الأذهان
حضرتها يد الحكيم لتحيا
سالمات عوالم الحيوان
خبرة الواحد المحيط جلالا
بجميع الأفلاك والأكوان
أودع الأرض رحمة منه رزقا
وحباها الأقوات بيض الأماني
كل جسم نما على الأرض يحيا
لو تولته نضرة الريعان
وأديم الأرض التي هو منها
فيه تسري عناصر الأبدان
لم يغب عنصر عن الأرض مهما
عز بعدا عن عالم الإمكان
تم للأرض أمرها حيث باتت
خير مهد لدولة الإنسان
بارك الله ما بها وعليها
باسط الرزق مقسط الميزان
من كرب العلا تفرد حكما
لم يغب نور ذاته عن مكان
بين حرفين كلما شاء يقضي
وله النجم والثرى يسجدان
كل حي قد ضمه الروح عبد
في نظام الملكوت للرحمن
صاحب الطول في جلال وملك
أزلي مهيمن صمداني
لم يشبه ولم يماثله شيء
مالك الملك لم يشاركه ثان
مطلق الحكم لا مرد لأمر
من لدنه جرى به حرفان
أمره الأمر بين كاف ونون
قدر نافذ بغير توان
إنه من لدن حكيم خبير
واحد الطول في قوى السلطان
واهب النور للذين اتقوه
ومحيط بالجهر والكتمان
قاهر قادر على كل شيء
واسع العفو لم يعجل بجان
كل هذا في اللوح باديء بدء
قبل ضم للأرواح للجسمان
سجلته يد القضاء نفاذا
لم يؤخر عن المدى والمكان
لم يغادر نفسا على الأرض إلا
ضم أطوارها دقيق البيان
سنة الخالق العظيم تجلت
كل يوم أقداره في شان
لو أجاج البحار صار مدادا
وأمد البحار سبع دوان
نفد الماء قبل أن تتقضى
كلمات المحيط رب البيان
فيض بر على الخلائق أسدى
سابغات من غيثه الهتان
نعمة الله لا تعد وحاشا
أن تنال الإحصاء في الحسبان
منعم يمنح البرايا جميعا
طيبات الحياة للعمران
رازق محسن رؤوف رحيم
كل شيء لديه طوع البنان
كل من في الوجود من كائنات
يتبارى في الحمد والشكران
يوم البعث والوعيد
صيحة القهر تجعل الولد شيبا
وتغيض الجنين قبل الأوان
وتهد القلوب ذعرا وهولا
وبريق الأبصار في لمعان
موقف يورث الذهول عسير
ملأ الرعب فيه كل مكان
زائغات فيه النواظر حيرى
وسيول الرحضاء كالطوفان
ليس للظالمين فيه نصير
أو مجير من ألسن النيران
لا فداء من كربه أو شفيع
يدرأ الويل وهو رأي العيان
خشع الصوت غصة فهو همس
ومشى الخوف بين إنس وجان
وانكسارا في ذلة العبد أضحى
كل فرد في حضرة السلطان
ملك قادر قوي عزيز
نافذ الأمر واهب الغفران
هيبة ترجف العوالم منها
وجلال أحاط بالأكوان
واقتدار أطاعه كل حي
ونفوذ يقضي بغير توان
حكمه الحكم لا يبدل لفظ
سجلته مهما نأى الشفتان
ذره يملأ الهواء وجودا
وصداه يجوب كل مكان
أبد الدهر لفظه سوف يحيا
ليزكي ما سطر الكاتبان
أين منه المفر وهو شهيد
سوف يدلي بما جنته اليدان
حلقت رهبة وساد خشوع
واستطارت بواعث النسيان
وتلقت أعمالها كل نفس
بين خوف ورجفة وهوان
إن هذا يوم الوعيد وهذي
ساعة الفصل أيها الثقلان
باغتتكم مصداق قول حكيم
جاء حقا في محكمات البيان
كل من أنكر القيامة كبرا
وجحودا هوى إلى النيران
بئس مثواه في الجحيم وعدلا
سوف يلقى عواقب الكفران
وسيصلى السعير في أصفاد
أثقلتها الأغلال للأذقان
دركات سبع طباق عذاب
من جحيم وهاجة الأركان
ساريات السموم تنساب فيها
وسيول الحميم في غليان
يوم يدعى: هل امتلأت؟ وتدعو : رب زدني من طعمة الإنسان!
من كرب العلا يدير نظاما
يشمل الكون بين قاص ودان
ملك عرشه السموات والأرض
رقيب على الورى كل آن
حول أرجائه الملائك صفت
هم جنود المهيمن الرحمن
ركعا سجدا قياما قعودا
كل سرب مسبح بلسان
ذكره يملأ الوجود جلالا
أزلي مطمئن للجنان
سبح الله كل شيء لتبقى
في دوام فريضة الشكران
جل شأن القدير رب البرايا
خير هاد لنعمة الإيمان
وارث الأرض والسماء جميعا
يوم نادى القضاء آن أواني
قوله الحق إذ يقول اخشوني
ولمن خاف نقمتي جنتان
يا ابن حواء يا صريع الملاهي
يا مجيبا لدعوة الشيطان
يا جهولا حملت نفسك إثما
باتباع الهوى وخدع الأماني
وسبتك الدنيا وغرك منها
ما تبدى من زخرف فتان
قادك الحمق للضلالة أعمى
فتدهورت في مهاوي الهوان
وتفانيت في الملذات حتى
ساقك الطيش للطلا والغواني
فتهالكت في ارتكاب المعاصي
خالي البال من صروف الزمان
تسهر الليل في سرور وأنس
بين كأس وقينة وأغاني
مشبعا يا ظلوم مطمع نفس
أشعلت نارها وعود الأماني
زين الشر حولها كل شيء
فتمادت في اللهو والعصيان
لا ترى النور إذ تحجب عنها
وهي تهوي في ظلمة الطغيان
إنها النفس يا ابن آدم فانظر
كيف باتت فريسة الشيطان
ما دعاها إلى الغواية إلا
سر إعراضها عن الإيمان
يا ابن حواء إنما العيش نوم
كل شيء يبدو لعينيك فان
وتماديك في غرورك جهل
فتيقظ من غفلة الوسنان
واخش عين الرقيب فهو شهيد
ليس يخفى عليه سر لجاني
أينما كنت يا ابن آدم فاعلم
أن رب الوجود نور المكان
لو حوتك الجوزاء أو أعماق
من بطون الثرى أو القطبان
أو تسترت تحت لج خضم
في كهوف الأصداف والحيتان
يا سليل التراب أنت ضعيف
كن مع الله تحظ بالغفران
عظة
أيها الناس إن هذا بيان
فصلته شرائع الإيمان
أرسلته للعالمين سلاما
رحمة الواحد العظيم الحنان
في كتاب آياته محكمات
من كلام المهيمن الرحمن
جاء هديا مبشرا ونذيرا
صادق الوعد واضح التبيان
يجعل العرف للعباد شعارا
ويوصي بالعدل والإحسان
وعن البغي والفواحش ينهى
كي تقوى دعائم العمران
وبنار الجحيم جاء نذيرا
وبشيرا بخالدات الجنان
إنه الحق من عليم حكيم
قد أعز الإسلام بالقرآن
كنز علم آياته بينات
فاض نورا بساميات البيان
زاخر بالهدى كتاب منير
عربي المبنى جزيل المعاني
أنزلته السماء للناس بشرى
حين شاءت إرادة الرحمن
أن يبيد الدين الحنيف ضلالا
ولدته عبادة الأوثان
لقن الوحي آيه لنبي
عز قدرا عن سائر الإنسان
خير روح حلت بأشرف جسم
عبقري النهى عظيم الجنان
هلل الكون إذ تلألأ فيه
نور طه وكبر المشرقان
خاتم المرسلين خير حنيف
رفع الدين فوق هام الزمان
أحمد المصطفى عليه يصلي
كل حي في عالم الأكوان
جاءه الوحي بالرسالة لما
حرف المفسدون في الأديان
وعلى الناس نعمة الله تمت
حين وافى الأمين بالفرقان
إن دين الإسلام خير صراط
يرشد النفس للمصير الثاني
أيها الناس خالفوا غي نفس
شاغلتها وساوس الشيطان
طهروها من الرذيلة حتى
تنقذوها من ثورة العصيان
حاربوها بالطيبات عساها
تتوارى عن مفزعات الأماني
حذروها عين الرقيب لكي ما
تذكر الله خيفة كل آن
عودوها على الفضيلة حتى
تتحلى بالسابقات الحسان
ألبسوها من طاعة الله نورا
فيه تبقى سعيدة في أمان
زودوها التقوى فإن جناها
خير زاد للمنهل النفساني
ذكروها أن الحساب عسير
لو تمادت في اللهو والعصيان
وجمال الدنيا الذي يستبيها
يتلاشى مهما بدا كالدخان
سنوات الأعمار تجري سراعا
كمنام يمر مر الثواني
ساخرات أيامها من ظلوم
لم يفكر في يقظة الندمان
ضاحكات والمغريات تنادي
ما صفا الدهر نصف يوم لهاني
كل عمر مهما تراءى طويلا
كان حلما في جولة الوسنان
صحوة أيقظ الحقيقة منها
ملك الموت في حلول الأواني
دهم النفس حين حم قضاء
وهي تهوي في ظلمة الطغيان
خلف الجسم في سكون ورهب
وطواه في وحشة الأكفان
وإلى الرمس حيث واراه ترب
فيه أمسى فريسة الديدان
ناخرات يد البلى في عظام
حولتها ذرا يد الحدثان
حكمة الموت في الوجود انتقال
كل جسم يضمه عالمان
عالم الظلمة القصير مداه
وخلود في العالم النوراني
أيها الناس للبقاء خلقتم
ومقام الخلود ليس بفان
كل جسم بعد البلى سوف يحيا
يوم عرض الصراط والميزان
وتوفى ما قدمت كل نفس
بين خوف ورجفة وأمان
حصحص الحق والموازين قسط
والمخازي تمثلت للعيان
وعيون الجحيم من كل فج
مرسلات لوامع النيران
في زفير كقاصف الرعد يجري
في دوي يروع كل جنان
لهب يخطف النواظر رعبا
وأزير يجوب كل مكان
حول حشد تكدس الخلق فيه
كالفراش المبثوث في القيعان
وسيول الرحضاء تنساب مهلا
كحميم السعير في غليان
وقدة الحشر ضاعفت كل كرب
مر بالقلب والنهى واللسان
هذه الساعة التي قد وعدتم
صدق الوعد أيها الثقلان
موقف للحساب لا ريب فيه
لم يغيب عن حشده أصغران
كم أفاض التنزيل عنه بيانا
واعد المؤمنين خلد الجنان
أيها الناس من رعاكم حليما
وحباكم بالعفو والإحسان
وأفاضت أيديه أكبر نعمى
شملتكم في رحمة وحنان
غير نور الوجود رب البرايا
خالق الخلق فاطر الأكوان
باعث العالمين في ملكوت
وحده فيه صاحب السلطان
من رفات تكدست في قبور
أورثتها البلى يد الحدثان
ناشطات تقوم بعد رقود
كان يطوي الأحقاب في الأكفان
كجراد يفر من أجداث
يملأ البيد بين قاص ودان
ضاقت الأرض عن جموع سيول
سابحات في لجة الندمان
كشف الموقف الرهيب غطاء
كان يغشى محاجر الوسنان
أسدلته حماقة الجهل كبرا
وعتوا وشده الغاويان
إنه الحمق فانظروا كيف تهوي
عن ربا الظلم راية العصيان
أيها الناس قد بعثتم وعدلا
قد تلاشت سفاهة النكران
وعميتم عن الهداية حتى
نبذتكم مراحم الغفران
فقضيتم دنياكم في ضلال
مستجيبين دعوة الشيطان
قضي الأمر وانتهى كل شيء
وتجلى ما أغفل الناظران
فهلموا إلى الحساب وحاشا
أن يرى الظلم نفسه في مكان
إن تكونوا مصدقين فأمن
وسلام وجنة وتهاني
أو تكونوا مكذبين فأنتم
والشياطين طعمة النيران
أيها الناس ما خلقتم لتحيوا
كدواب تفنى بمر الزمان
بل حبتكم مواهب وعقول
فضلتكم عن سائر الحيوان
نعمة الله حين تمت عليكم
زودتكم بالعلم والعرفان
كرم الله خلقكم ورعاكم
وهداكم للبر والإحسان
كل نفس تخشى الإله ستمشي
يوم هول الخروج في اطمئنان
لقيتها الدنيا قريرة عين
وبخلد الأخرى لها جنتان
حلق الرعب والمليك ينادي:
ها وعيدي والويل من سلطاني
يا عصاة الرحمن حل بلائي
كيف ينجو من نقمتي من عصاني؟
ما جنود الشيطان إلا غواة
أبعدوكم عن طاعتي وحناني
لا فداء ولا شفيع يرجى
إنه الفصل أيها الثقلان
واقتداري وعزتي وجلالي
سوف يجزى المسيء بالحرمان
إن عفوي يناله كل عبد
كان يخشى بطشي ولا ينساني
أيها المحسنون هذا نعيمي
قد وعدتم به وذا غفراني
فهلموا إلى فراديس خلد
في قصور أعدها رضواني
وسلام لكم بما صدقتم
وصبرتم على كروب الزمان
إن هذا وعدي وقد تم وعدي
وجزاء الإحسان بالإحسان!
فهنيئا لكم نعمتم وفزتم
يا عبادي بالحمد والشكران
أيها الناس حاربوا النفس زهدا
يتجلى اليقين ملء العيان
وأشتروا الخلد بامتهان متاع
عرضي مهما ترفه فان
طهروا القلب من بذور الخطايا
وازرعوا فيه زهرة الإيمان!
واجعلوا الذكر زاده فهو نور
فيه يسعى إلى الرضا الرباني
واعملوا الطيبات ما جاء فجر
بجديد وما بدا النيران
واسلكوا للهدى صراطا سويا
تأمن النفس زفرة الندمان
زودوها التقى فيخبو سراج
أشعلته حماقة الهذيان
واملئوا القلب رحمة ويقينا
تبعدوه عن غلظة النهمان
إنما الطهر للنفوس جمال
فإذا ضاع ضيعتها الأماني
واضربوا الأرض بالخرافات وابنوا
للحياتين أثبت البنيان
واقصروا في الخطا وغنوا وتوبوا
تأمنوا في القيام عض البنان
وأزيحوا عن العيون ستارا
أسدلته أصابع الشيطان
أيها الناس لا تطيعوا عدوا
شن حربا على بني الإنسان
لم يطع في السجود أمر إله
مالك الملك أمره حرفان
كل من في السماء والأرض عبد
للبديع المهيمن الرحمن
أي مقت لمن تمرد كبرا
واستفزته حمأة العصيان
أغضب الله إذ أبى أن يلبي
أمر رب العلا عظيم الشان
يا عبادي اسجدوا لآدم إني
خالق منه عالم الإنسان
سجد الكل طائعا في خضوع
وتسامى التقديس للرحمن
وتأبى عن السجود شقي
ضللته حماقة الطغيان
ملأ الشر نفسه كبرياء
باء منها بالخزي والخسران
إيه ... إبليس لعنة الله حلت
يا رجيما خسئت من شيطان!
كيف تنجو من نقمتي وعقابي
أي عبد يفر من سلطاني؟
قال: ربي ذرني لميقات يوم
في ضحاه سيحشر الثقلان
سوف يغوي أبناء آدم مكري
واختيالا يطغيهم شيطاني..
وأبث الفساد فيهم وكيدي
يلبس الرشد طلسم النسيان
وأؤز النفوس أزا فتهوي
في حضيض من مهلكات التفاني
سابحات في ظلمة من خيال
غارقات في لجة الهذيان
سوف تبقى كما تمنيت حتى
يوم فصل ما بين إنس وجان
يوم عرضي لمن خلقت ولما
لم يبدل ما أخرجت شفتان
وادع إبليس ما استطعت وغرر
من أطاعتك نفسه بالأماني
ها سعيري وزمهريري يدعو
لعذاب الحريق من قد عصاني
يوم أدعو: هل امتلأت؟ وغيظا
تتبدى في ثورة الغضبان
وتنادي غضباء: هل من مزيد؟
كيف تنسى وقودها نيراني؟
أيها الظالم المكذب هيا
ها جحيمي خلو من السكان
ذا سعيري مؤجج وحميمي
لعصاة الرحمن ينتظران
فهلموا إلي يا من كفرتم
ما أشد العذاب في أحضاني
آن إبليس أن أذيقك هولي
في عذاب لما يهيأ لثان
يا سجيني آن القصاص وهذا
وعد ربي حقا لأول جاني
يا عدو الإنسان قد كنت حربا
أعلنتها حماقة الطغيان
كنت تدعو إلى الضلال وتسعى
في انتشار الفساد والعصيان
كم تربصت بابن آدم حتى
نبذته مراحم الغفران
ونصبت الشباك كيدا ومكرا
كي تضلله عن هدى الإيمان
قضي الأمر وانتهى كل شيء
دبرته مكائد الشيطان
ذق أشد العذاب يا شر غاو
أبعد النور عن بني الإنسان
يا رجيم الدارين بئس خلود
صدقت فيه آية الرحمن
يا ابن حواء ما خلقت لتحيا
كحياة الأنعام والحيوان
أنت بالعقل قد بلغت مكانا
عبقريا، أكرم به من مكان
صور الله فيك أحسن خلق
أبدعت صنعه يد الرحمن
وأمد الفؤاد فيك بنور
جعل الخارقات طوع البنان
كل شيء مسخر لك كيما
تتسامى دعائم العمران
يا ابن حواء أنت أكثر خلق
غمرته الآلاء بالإحسان
كرمتك النعمى وأولتك فضلا
أيدته مواهب العرفان
فاشكر المنعم الرحيم وسبح
في خشوع بحمده كل آن
واذكر الموت فهو أحسن ذكرى
تنفع الناس يوم عض البنان
واجعل الله وحده لك مولى
وتزود من حكمة القرآن
تقض دنياك ما حييت سعيدا
وبخلد الأخرى لك الجنتان
إن هذا الفوز العظيم فكبر
باسم رب هداك للإيمان
حكم العقل يا ابن آدم واحذر
من أضاليل فتنة الشيطان
لا تطعه وتتخذه وليا
فهو يدعو للشرك بالرحمن
يطبع الشر في النفوس ويملي
كل غي يقود للكفران
إن هذا الطاغوت شر لعين
من ألد الأعداء للإنسان
أيها الناس قد أتاكم كتاب
ناطق بالهدى فصيح البيان
بين الرشد والضلال بشيرا
ونذيرا يدعو إلى الإيمان
يبعث النور في القلوب فيهدي
من يشاء المحيط بالأكوان
والذي صم قلبه ظل أعمى
لا يرى النور وهو ملء المكان
بينات قد فصلت كل شيء
أمرتكم بالعدل والإحسان
ونهتكم عن الخبائث والمنك
ر تلكم دسائس الشيطان
أي فوز لمن أطاع ولبى
دعوة الحق، ثابت الأركان
طاهر النفس من جميع المعاصي
مؤمن القلب صادق الإيمان
يسمع الذكر وهو يتلى فيجثو
ساجدا باكيا من القرآن
بين وعد مبشر بنعيم
في فراديس خالدات الجنان
ووعيد مصور لعذاب
يفقد الرشد في لظى النيران
من تولى ولم يخف من وعيد
أي مقت يرى وهول يعاني
خدعته الدنيا فأعرض يلهو
في نعيم من المتاع الفاني
من أراد الدنيا تبوأ منها
كل ما يشتهي ونال الأماني
دار لهو طاشت بعقل جهول
منه مدت للموبقات يدان
ملئت نفسه الخبيثة شرا
فتمادى في الكفر والعصيان
أنكر البعث والقيامة حتى
دهمته لفائف الأكفان
أودعته الدنيا بطون ثراها
فتوارى عن أعين الحدثان
أيها الناس آمنوا وأطيعوا
واتقوا الله قبل فوت الأوان
ما الحياة الدنيا التي فتنتكم
وسبتكم بالمغريات الحسان
غير يوم أحلامه سابحات
بين موج السرور والأحزان
سنوات الأعمار كالبرق تجري
مسرعات كأنهن ثوان
فترة العيش في الحياة اختبار
للنعيم المقيم أو للهوان
فاعملوا الطيبات تأمن نفوس
يوم عرض الأعمال عض البنان
واطلبوا الرزق ما حييتم حلالا
واستعينوا بالصبر والإيمان
واسلكوا للصلاح خير سبيل
منه تبدو مفازة الرضوان
واضربوا الأرض بالخرافات وامشوا
صوب نور اليقين في اطمئنان
وازرعوا اليوم تحصدوا بعد حين
واستزيدوا من خالد البنيان
واهجروا الخمر فهي أكبر رجس
مفسد الروح متلف الأبدان
تسلب الرشد من نهى محتسيها
حين تسري في الحس كالأفعوان
لقبوها أم الخبائث حقا
فهي أقوى حبائل الشيطان
وأقيموا الصلاة لله شكرا
واذكروه في السر والإعلان
سبحوا الله بكرة وأصيلا
في سجود ما ضوأ المشرقان
وأعيروا خلق السموات فيضا
من صفاء الإدراك والإمعان
فكروا خاشعين في ملكوت
أبدعت صنعه يد الرحمن
فلك حير العقول نظاما
لم يشبه في دقة الإتقان
ساريات فراقد وشموس
خاطفات الأبصار قاص ودان
سابحات كل يشق مدارا
في فضاء الآفاق والأكوان
ملكوت فيه العوالم تجري
آمنات طواريء الحدثان
لاحظتها عين الرقيب لتبقى
ما أرادت مشيئة الرحمن
فإذا جاء وعده تتوارى
آفلات ويختفي النيران
إنه الفصل بين دنيا وأخرى
أعلنته على الورى صيحتان
إن عيش الدنيا وإن طال يوم
فيه تمت صحيفة الإنسان
طائر ناطق كتاب شهيد
سجلت فيه صادقات البيان
عززت صدقه شهادة أيد
وجلود وأعين ولسان
فاخشوا الله واتقوه تقوموا
من دياجي أجداثكم في أمان
يوم يهتز منكب الأرض رعبا
والسموات وردة كالدهان!
يوم لا تملك النفوس فداء
أو فرارا مما ترى وتعاني!
وله الأمر وحده في جموع
تسأل العفو بين إنس وجان
حكمه الفصل في مصير عبيد
ألدار الجحيم أم للجنان؟
فاز بالخلد في فسيحات عدن
من هداه الرحمن للإيمان
وأضل السبيل من تاه كبرا
وعتوا وخادعته الأماني
وإذا تم في المشيئة أمر
لم يبدل ما سجل الحرفان
آية النور بينت كل شيء
وكفى الآن أيها الثقلان
ما سعيد الدارين يا نفس إلا
من تفانى في طاعة الرحمن
والشقي الملعون دنيا وأخرى
كل غر هوى مع الشيطان
يا إله الوجود نعماك عمت
كل حي في سائر الأكوان
الهمزية الكبرى
فاتحة
أيها الناس أنتم الفقراء
فاذكروا من له الغنى والبقاء
لا تعيشوا في الأرض ظلما وبغيا
واتقوا الله إنكم ضعفاء
واستعينوا بالله في كل أمر
أكرم الخلق عنده الأتقياء
لا يغرنكم نعيم حياة
ورخاء وصحة وهناء
إنما العمر لمحة فممات
فسكون فحفرة ظلماء
ملك الموت يقتفي كل حي
في أوان قد آن فيه الفناء
يترك الجسم هامدا، ليت شعري
أنعيم يضمه أم شقاء
كل نجم مهدد بأفول
ولنور الإله دام الضياء
كل شيء غير البديع ظلام
واستضاءت بنوره الأشياء
يا بني الأرض إن لله ملكا
تعلم الأرض قدره والسماء
إن ربا يدير ملكا كهذا
قادر دائما على ما يشاء
حارت الخلق في تصور ذات
بين حرفين أمرها والقضاء •••
مالك الملك إن وعدك حق
من له الحمد غيره والثناء
ترجف الأرض والجبال ويقضى
كل أمر ويستكن الهواء
وتمور السماء مورا ويهوى
كل نجم وتفزع الأرجاء
حلقت رهبة وساد سكون
وانجلت قدرة وآن الوفاء
كل حي إلا المهيمن فان
صاح سبحان من له الكبرياء
الساعة
دنت الساعة الرهيبة لما
جاء أشراطها وحق الجزاء
وعلت صيحة تجمع منها
باليات الرفات والأشلاء
دكت الأرض والجبال وهدت
كل طود مريعة بطشاء
صيرت شامخ الرواسخ عهنا
وتنحت عن حملها الجرداء
ألقت الأرض ما بها وتخلت
وتداعت عن أفقها الصماء
هالها الروع فاستحالت هباء
غير الصدع حالها والفناء
وانشقاقا ذات البروج ترامت
فتوارت أقمارها الزهراء
ثم غابت نجومها واكفهرت
واختفى نورها وزال البهاء •••
إن هذا يوم الحساب فطاشت
يا بني الأرض مقلة عمياء
يوم لا تنفع ابن آدم إلا
حسنات تقدمت ووفاء
يوم يدعو كل امريء: رب نفسي!
وتفر الأباء والأبناء
يوم يلتف كل ساق بساق
ويساق الضعاف والأقوياء
يوم لا ينفع المسيء اعتذار
عن ذنوب ويدلهم البلاء
يوم حشر حوى البرايا جميعا
شاخصات أبصارها فزعاء
يوم فصل تبلى السرائر فيه
حائرات من هوله هلعاء
يوم لا تملك النفوس انتصارا
وله الأمر وحده والقضاء
كل نفس يغني لها فيه شأن
عن سواها ولا يفيد الفداء
كل نفس لها لسان وعين
وفؤاد وكلها رقباء
ثم أيد وأرجل وجلود
تنطق الحق أنهم شهداء
البعث
يهرع الناس منذ أول خلق
واجفات قلوبها حيراء
بعثرتها القبور تجري سراعا
أفزعتها من نومها الدهماء
ماجت الأرض تحت أقدام خلق
كجراد يضيق عنه الفضاء
مدت الأرض كي توفي جموعا
فوقهم تمطر العذاب السماء •••
يا بني الأرض تلك وقفة حشر
يا ابن حواء أنت طين وماء
كل فرد له كتاب قديم
سجلت فيه رحمة أو بلاء
لم يغادر صغيرة ما حواها
قدرة الله من له ما يشاء
كل من مد للكتاب يمينا
ضمه الأمن والرضا والهناء
وله قالت التهاني سلام
وبدا العفو باسما والعطاء
ويح من كان حظه بشمال
هاله الخزي خيفة والعناء
صاح فيه صوت العذاب وعيدا : قد تنحى عن مقلتيك الغطاء!
أنظر النار كيف تزجي سعيرا
وعقاب المكذبين الشواء •••
قبضة الله تجمع الأرض جمعا
وبيمنى البديع تطوى السماء
قدرة الله حيرت كل لب
فتفانت في كنهها الأنبياء
قوة الله أذهلت كل لب
فتفانت في وصفها العلماء
حكمة الله أحكمت كل أمر
فاستنارت بروحها الحكماء
خبرة الله أتقنت كل شيء
فتبارت في مدحها الشعراء
رحمة الله أدركت كل خلق
فتلاشى في عدها الإحصاء •••
إن علم الإله علم قديم
بخلود له يدوم البقاء
وصفات تنزهت عن شريك
فتسامت من حسنها الأسماء
نافذ الأمر في جميع البرايا
عالم الغيب عرشه العلياء
كل من في الوجود لله عبد
ودواما إليه يسري الدعاء •••
كل شيء يسبح الله حمدا
أبد الدهر كي يدوم الثناء
وبنور الإله أشرقت الأر
ض وجاء النبيون والشهداء
وقضى الحق بينهم حكم عدل
وبوعد الإله تم الرضاء
يا نبيون تلك جنات عدن
فادخلوها وكبري يا سماء
هذه الجنة التي قد وعدتم
شهد الله أنكم أمناء
دار خلد جزاء ما قد صبرتم
تلك عقبى الجهاد يا أنبياء
سيد الخلق بينكم يتهادى
بجبين يفيض منه الضياء
أشرف المرسلين قدرا وجاها
خير بدر قد أنجبت حواء
خصه الله بالشفاعة لما
أذن الحق واستجيب النداء
وبنور القرآن كان إماما
وحكيما على يديه الشفاء •••
أول الداخلين جنات عدن
لك نفس أبية شماء
صلوات الإله ترعاك دوما
يا ابن عدنان باركتك السماء
جنات النعيم
سيق أهل التقى لدار نعيم
يتهادون حيث حل الهناء
تتلقاهم الملائك بشرى
باسمات وجوهها سمحاء
زان أبوابها وميض الدراري
تتسامى أنوارها الزهراء
تلك دار الذين نالوا بحق
أجر إيمانهم فنعم الجزاء
آمنوا بالكتاب لما أتاهم
وأطاعوا الرسول نعم الوفاء
صدق الوعد فادخلوا بسلام
دار خلد يطيب فيها البقاء
إن فيها ما تشتهي كل نفس
قدر الله أن لها ما تشاء
حور عين كأنهن اللآلي
كاعبات قدودهن الضياء
يتسابقن حول زهر وماء
لاعبات يزينهن البهاء
راتعات على بساط بديع
تترامى أطرافه الخضراء
تتوارى خلف الدوالي دلالا
تتثنى أعطافها الحسناء
ثم يهرعن للقصور حساة
من رحيق مزاجه السراء!
حيث يلقين أهلها في نعيم
وسرور بهم أحاط الهناء
تتجلى على الأرائك بشرا
وابتهاجا عيونها حوراء
وعليهم تطوف ولدان خلد
بكؤوس سلافها الصهباء
وأباريق من لجين نقي
صفها الحور كي يدوم الصفاء
إن للجنة البهيجة وصفا
فوق ما قد تخيل الشعراء!
ظلها دائم فلا ليل فيها
عاطرات رياضها الفيحاء
فوق أغصانها العنادل تشدو
وعليها ترفرف الورقاء
وتفيض الأنهار شهدا مصفى
حيث تجري من تحتها رغداء
ثم تجري أخرى بدر شهي
لم تغير من طعمه الأجواء
وبخمر كالأرى تنساب أخرى
ريحها المسك روحها نشواء
إن دار الفردوس كانت مآبا
خير دار يحظى بها الأتقياء
أدخلوها قد بارك الله فيها
في خلود لا يعتريه فناء
فانعموا واهنأوا وطيبوا نفوسا
علم الله أنكم حنفاء
رحمة الله قد تجلت عليكم
فاشكروا من له الرضا والبقاء
دار الجحيم
ثم سيق الكفار نحو جحيم
يستغيثون حيث حل البلاء
ووقود السعير زاد اشتعالا
واستشاطت من غيظها الرمضاء
ثم هاجت دار الجحيم وماجت
تقذف الرعب والقلوب هواء
في زفير كالرعد تندك منه
هامة الشم والذرا الشمخاء
وشهيق ينقض من كل فج
رجعته من هوله الأرجاء
شررا كالجمالة الصفر ترمي
مثله القصر بئس ذاك التواء
تلك نار الشوى التي في لظاها
يسحب المجرمون والأشقياء
إن حراسها غلاظ شداد
يتفانون طاعة، أقوياء
ما الحديد الشديد أعظم بأسا
من قلوب لهم براها القضاء
حول أبوابها الصواعق دوت
مرعدات صيحاتها فزعاء
أدخلوها تطاير الهول فيها
فاغرات أفواهها غضباء
ساريات اللهيب تنساب منها
وبريح السموم يجري الهواء
من حميم تفيض فيها عيون
وبماء كالمهل يجري السقاء
إن هذا شراب كل أثيم
منه تشوى الوجوه والأمعاء
وطعام ذو غصة وعذاب
منه تكوى الجباه والأحشاء
إن دار الجحيم شر مكانا
لعصي طاشت به الأهواء
ما جنود الشيطان إلا غواة
قد أطعتم أهواءهم يا رعاء
شاغلتكم بغيها فعميتم
عن طريق الهدى وعز الدواء
إن هذا الشيطان كان عدوا
منذ وافت من خلدها حواء
قد سلكتم سبل الضلالة جهلا
وتركتم ما أنزلته السماء
أيها الظالمون ذوقوا نكالا
إن هذا جزاء قوم أساءوا
فتنتكم أموالكم وبنوكم
وظلمتم فحق هذا البلاء
وكفرتم بأنعم الله حتى
حلق الموت فوقكم والفناء
إن هذا تصديق ما قد كفرتم
إن صبرتم أو إن جزعتم سواء
فهلموا إلى الجحيم جميعا
لا اعتذار لكم ولا شفعاء
إن فيها العذاب من كل نوع
وعليها الملائك الرقباء
قد أطاعوا الرحمن في كل أمر
وبأمر العزيز يجري القضاء
دركات سبع طباق عذاب
لا ظليل بها يحيط القضاء
كل من في العذاب يستصرخ المو
ت وهيهات يستجاب النداء
وهباء يضيع كل تمن
حيث حل الخلود زال الفناء
لا ممات بها يهون كربا
أو عذاب مخفف أو رجاء
كلما أنضج الحريق جلودا
بدل الله غيرها ما يشاء
إن هذا جزاء ما قد صنعتم
وعلى العدل قام هذا الجزاء •••
يا ابن حواء قد قضى الله أمرا
وبحكم عدل تجلى القضاء
ها هي الأرض وفيت ما استحقت
وتوفى بمثل هذا السماء
قد تسامى عرش القدير جلالا
فاستضاءت بنوره الأرجاء
حوله حفت الملائك تتلو
أحسن الذكر كي يعم الرضاء
لا يملون لحظة من دعاء
هم عبيد لربهم أوفياء
مجدوا الله بالثناء دواما
حمل العرش منهم الأكفاء
هم جنود المهيمن المتعالي
مظهر البطش منهم الأقوياء
ركعا سجدا قياما قعودا
من توالي تسبيحهم سعداء •••
عم نور الإله سبعا طباقا
فتلاشت أمامه الأضواء
وسع كرسيه السموات والأر
ض جميعا، وفاضت الآلاء
حفه المولعون بالله حبا
وحباه الأئمة الأمناء
وتدلى الوحي الأمين ابتهالا
يا قديرا يا من له ما يشاء •••
أسفرت هيبة فأشرق عدل
وتجلى عفو وعم رضاء
يا عباد الرحمن بشراكم اليو
م خلود يدوم فيه الهناء
وسلام لكم بما قد أطعتم
شهد الله أنكم رحماء
فإلى الجنة الفسيحة سيروا
قد وعدتم بها وتم الوفاء
فتعالى الهتاف من كل صوب
جاوبته الآفاق والأرجاء
فأفاض العطاء حمدا وشكرا
للذي الملك ملكه والبقاء •••
أيها الناس إن هذا بيان
أنزلته الشريعة السمحاء
جاء بالحق للقلوب ضياء
فتلاشت من نوره الظلماء
لم يغادر من الشرائع شيئا
حار في فهم كنهها البلغاء
جاءكم بالهدى كتاب كريم
عربي البيان فيه الدواء
إنه من لدن حكيم عليم
محكمات آياته عصماء
عاطر الذكر للقلوب شفاء
أعجز الخلق لفظه الوضاء
إن هذا القرآن يكفيه فخرا
أنه رحمة قضتها السماء
فاض نورا بالوحي صدر نبي
من قريش عزت به الأنبياء
ورسول للرسل جاء ختاما
وبشير دانت له العلياء
جاء بردا للعالمين سلاما
كنز علم عليه طاب الثناء
كافح الكفر والضلالة حتى
شاد حصن الهدى وتم البناء
وأقام الدين الحنيف وباتت
خافقات أعلامه الخضراء
آية الحق قد تجلت عليكم
وبنور الإسلام تم الهناء •••
أيها الناس إن هذا بلاغ
فصلت فيه رحمة أو بلاء
إن دنا الخير فالمساء صباح
أو دنا الشر فالصباح المساء!
إن هذا الحديث أحسن ذكرى
كل نفس يحلو لها ما تشاء •••
أيها الظالمون قد شاغلتكم
وغرتكم بطيشها الأهواء
فأجبتم نداءها
شهوات يفر منها الحياء
وضربتم بشرعة الحق عرضا
فاشمأزت نفوسها العلياء
وملكتم سبل الضلالة جهلا
فخبا النور واستحال الضياء
وعميتم عن الهدى ومحال
أن ترى النور مقلة عمياء
واندفعتم إلى المعاصي سكارى
وارتكبتم ما فاض منه الإناء
واتبعتم أهواء غاو مضل
زين الشر مكره والدهاء
حبب اللهو والفساد إليكم
وحدتكم جنوده الأشقياء
فركبتم غمار بحر خضم
هائجات أمواجه الظلماء
ماخرات عبابه سفن الله
و رماها أنى أراد الهواء
حملتكم إلى ضلال بعيد
تتلاشى أحلامه الحمقاء
فملئتم من الحياة غرورا
زينته لديكم الخيلاء
تتوارون في النزاهة والصد
ق كما يستر الإناء الطلاء
وتقيمون للنفاق صروحا
شيدتها المطامع الجوفاء
وتبيحون للخمور مجالا
ما أبيحت من أجله الصهباء!
قد تناهى فيه الفجور وأضحى
والغواني عقولهن هواء
وسلبتم به عقول الغواني
منه يبكي ويستغيث الحياء
فقضيتم على العفاف ووجه
زال منه الحياء زال الماء
إنما الطهر للنفوس جمال
فإذا ضاع زال عنها البهاء
سهل المال كل غي لديكم
فلهوتم به فحم القضاء
إنما المال قوة فتنتكم
فضحكتم وراح يبكي الوفاء
إنه للنفوس خير اختبار
فهو للناس رحمة أو بلاء
حكمة المال أن يبر يتيم
وتوفى حقوقها الأقرباء
وتؤدى للوالدين فروض
واجبات بها يدوم الولاء
وتعم الخيرات كل فقير
دهمته بشرها النكباء
إن للمحسنين أحسن ذكرى
يشهد الدهر أنهم رحماء
خلق المال للفضيلة ذخرا
وسلاحا تسمو به العلياء
فأسأتم فيه التصرف حتى
نفد المال ثم مات الرجاء
ذهب المال حين كنتم سكارى
وصحوتم وقد عفا الإغواء
قد رفعتم عن الحياء قناعا
وغفوتم حتى اختفى ذا الغطاء
أيها الجاحدون فضل إله
شملتكم من حلمه النعماء
كيف يعصي الضعيف أمر قوي
قاهر عادل له ما يشاء؟
كم أباحت نفوسكم لكم الش
ر وكيف استطير هذا البلاء
أتخذتم عند المهيمن عهدا
أم نسيتم من عنده السراء؟
أم جهلتم بأنكم من تراب
قاصرات أحلامكم أغبياء
خدعتكم بسحرها أم دفر
جرعتكم سمومها الرقطاء
واستمالت عقولكم فجننتم
خاتلتكم من طبعها الإغواء
إن فيها من الفواتن طيفا
منذ جاءت لآدم الأسماء
فهي مجبولة على الغدر لا تحفظ
عهدا وليس فيها وفاء
كل دمع منها يسيل عليها
وتولى إذ تصعد الحوباء
دائما تسترد ما تهب الدن
يا كأن كان خدعة ذا العطاء
وعجيب أم بغير حليل
عشقتها أبناؤها التعساء
ولدتهم ومتعتهم قليلا
ثم أرغت كأنهم أعداء
فطوتهم في جوفها واطمأنت
خشية العار أن يقال بغاء •••
أيها الناس باطل كل شيء
زينته بكيدها الهيفاء!
فالجمال الذي سباكم خيال
زائل فوقه يحوم الفناء
كل بيت يبلى على الدهر ما عم
ر مهما تفنن البناء
ونعيم الدنيا الذي نال منكم
ما تقضى حتى تلاه العناء
تعب الناصحون طوعا وكرها
وملالا أعي الطبيب الدواء
لو نظرتم إلى الحقيقة يوما
ما سهوتم حت ادلهم البلاء
خلق الناس للبقاء وجهل
بعد هذي الحياة يفنى البقاء
سنة كلها الحياة وصحو
فارق العين بعده الإغفاء
أرجع السمع للأصم وصارت
تحسن النطق ألسن خرساء
وأعاد الضياء للعين حتى
أبصرت منه أعين عمياء
ثم رد المسلوب من كل جسم
عذبته الأمراض والأدواء
إنما عيشكم منام قصير
فيه تشقى وتسعد الأحياء
وكذا العمر والسنون خيال
تتهادى كما يمر الهواء
تتراءى لكم طوالا ولكن
لو عقلتم لزال هذا الخفاء
ينقضي العمر بين عسر ويسر
حلوه المر والهناء الشقاء!
كل من أطلق البصيرة بحثا
يتساوى سروره والبكاء
فاسألوا من قضى ثمانين عاما
كيف مرت وكيف زال الرواء؟
لست أدري كيف انقضى وكأني
في منام أحلامه فزعاء
كنت بالأمس لاهيا بالتصابي
لا أبالي مهما أحاط الشقاء
ففقدت الشباب حين دعاني
شيب رأسي واللحية البيضاء
إنما اللحظة التي أنا فيها
هي عيشي وليكفني ذا العزاء •••
ما الحياة الدنيا سوى دار لهو
تتقضى متى توارى الضياء
أو كسوق قد هددت بانفضاض
سوف ينفض بيعها والشراء
رابحات قوى الفطانة فيها
خاسرات من جهلها الأغبياء
ينقل الناس من حياة لأخرى
قدر أعمالهم يكون الجزاء
تلك دار تدوم فيها حياة
حيث في هذه البلى والتواء
خلق الموت بين دار ودار
ضجعة بعدها يكون الثواء
فهو باب يجتازه كل حي
وهو كأس فيه البرايا سواء
أيها الناس إن هذي لذكرى
وعظات جاءت بها الأنبياء
أتريدون بعد هذا بلاغا
فصلته الشرائع السمحاء
أين من عمروا وشادوا وسادوا
أين عمرانهم وأين البناء
أين من زينوا العروش جمالا
أين تيجانهم وأين البهاء
أين من عز ملكهم وتسامى
أين سلطانهم وأين العلاء
أين من كافحوا المصاعب حتى
ذللوها وأين ذاك الدهاء
أين من دمروا الحصون ببأس
من حديد وأين تلك الدماء
أين من سابقوا الرياح بخيل
صافنات تهابها الهيجاء
أين من جالدوا الزمان بصبر
أين من صاولتهم النكباء
أين من شيدوا الهياكل حبا
واحتراما لها فعز البناء
أين من هدموا المعابد ظلما
وعتوا وأين من قد أساءوا
أين من خربوا المدائن جبا
رين بل أين تلكم الأشلاء
أين من جاهدوا وماتوا كراما
أين إقدامهم وأين المضاء
أين من كان همهم جمع مال
أين أموالهم وأين الثراء
أين من أصلحوا فأحيوا نفوسا
أوشكت تستميلها الأهواء
أين من أوقفوا الحياة لنصح
أين إيمانهم وأين النداء
أين من حاربوا النفوس بزهد
أين تقواهم وأين الوفاء
أين من أرسلوا لجمع شعوب
مزقتها الأديان والخلطاء
لم يضرهم مر الأذى وبصبر
واصلوا الهدي، نعمت الأنبياء!
رفع الله ثم إدريس حيا
حيث أضحت مكانه العلياء
نوح
أين شيخ الطوفان من بعد يأس
صنع الفلك حين حل البلاء
أنقذته وأهله وهي تجري
بين موج جباله الدأماء
بركات الإله يا نوح حلت
قضي الأمر أقلعي يا سماء
هدأ الروع بعد أن قيل بعدا
ونجا الركب حين غيض الماء
أين هود وقد دعا قوم عاد
فعصوه فحل فيهم وباء
وثمود الذين قد أخذتهم
صيحة القهر وفق ما قد أساءوا
ناقة الله أنكروها وظلما
عقروها فحقت النكباء
إبراهيم
أين من حطم الهياكل حتى
فارقتها أصنامها الصماء
أوقدوا النار فاستحالت هباء
ومحال تذوقها الأنبياء
إنما النار للعصاة عذاب
وهي للمشركين بئس الجزاء
نار كوني على خليلي بردا
وسلاما وفي السلام الوقاء
وأرادوا كيدا فزادوا خسارا
حيث شاء القدير بالخزي باءوا •••
يا أبا الخلق والرسالة وحي
ويقين وملة وابتلاء
أنت خلقت ثم آلهة القو
م جذاذا وهم لديك سواء
بعد أن سيل كلهم هل يرجو
ن طعاما وهل يجيب الفضاء
ورميت الكبير منهم بجرم
هو فينا المحجة البيضاء
ثم أوقفتهم لديه حيارى
يتمارون، حين ضل المراء
يوم لم تخش غير ربك قها
را ولم ينتقصك طين وماء
بل تقدمت والنواظر حسرى
ورفعت التوحيد وهو اللواء
ثم لم تعتصم بأجنحة الروح
وللطير في الجحيم انطواء
فتأبيت عن سوى الله غوثا
يا رسولا يراد منه شواء
وبها كنت أمة قانتا لل
ه والله في يديه العطاء
واهب الشيخ بعد ضعف وبأس
فلذات نعمت الأبناء
ثم لما أريت منهم ذبيحا
قمت لله ثم سيق الفداء
يعقوب
أين من واصل البكاء حزينا
فتوارى عن مقلتيه الضياء
يوم جاءوه بالقميص عشاء
وعليه للإفك تجري دماء
وادعوا كاذبين أن أخاهم
خانه الذئب واعتراهم بكاء
قال بل سولت نفوسكم الكي
د فصبر ورحمة ورجاء
كظم الغيظ بالتصبر دهرا
وإلى الله حق منه التجاء
ودعا الله والها مستغيثا
خاشعا قانتا فحل الرضاء
يا أبا الغائب العزيز سلام
بعد طول الفراق آن اللقاء
حين ردوا قميص يوسف فارت
د بصيرا وزال عنه العناء
يوسف
وابن يعقوب إذ أرأى الشمس والبد
ر مناما وللرؤى فياء
وبمرآهما رأى أحد العش
ر ومجلاه كوكب لألاء
سجدا كلهم له وهو عبد
ذبحت عنه سخلة عجفاء
وتجلت كأنها فلق الصب
ح لسبط الذبيح فيها رجاء
ونهاه عن الإباحة بالسر
وفي الصبح للدجى إفشاء
هكذا يجتبيك ربك بالتأ
ويل والله فاعل ما يشاء
ورأوه أحب منهم إليه
فأسروا كيدا وضاع الإخاء
ورأوا قتله فقال أخوه
إنما القتل سبة شنعاء
قال ألقوه في غيابة هذا الج
ب حتى يقصيه عنه الدلاء
وإذا بيع مرتين نبي
ورسول كفى الأباة الإباء
كل ضراء ترجف النفس منها
هي بالصبر والتقى سراء!
يا صبيا رأى الكواكب في النو
م سجودا يشع منها الضياء
حكمة الله في القضاء فأكرم
بصبور تحوطه الأرزاء
إن زوج العزيز أوسع عذرا
فيك والنفس صرصر هوجاء
إذ رأت مشهد النبوة نورا
زانه منك مظهر وضا
وعزيز على القلوب التجني
هل عن الحسن تذهل الحسناء
غير أن الحياء أدنى إلى الإف
ك وهذا لتستر الفحشاء
حين هامت وحين همت رأينا
ك وفيا ودونك الأوفياء
نفسها سولت وأسباطنا أن
فسهم سولت وهذا بلاء
وكفى نسوة المدينة عذرا
في خضاب تسيل منه الدماء •••
حسموا فتنة الجمال بسجن
ضم من كل أهله أنبياء
بيع بيع الرقيق من بعد رؤيا
وإلى السجن سيق وهو براء
وبرؤيا النديم صادف عهدا
بدأ الوعظ فيه والإلقاء
قال ما تعبدون إلا خيالا
قلدته وشاحها الأسماء
وبرؤيا العزيز حطم أصفا
د البلايا فزالت اللأواء
ودعوه وللبريء احتكام
واحتجاج وهكذا البرآء
قال ما بالهن قطعن أيديه
ن من قبل أيها الوزراء؟
قالت الآن حصحص الحق إني
أنا راودته وقد الرداء!
ليس لي أن أخون بالغيب عهدا
ثورة النفس في ابن آدم داء
هي نفسي وما أبريء نفسي
إنما النفس لومها إغراء!
فتلقوه طاهر اليد والذي
ل ولاحت بأفقه الجوزاء
وأحلته عند ذي العرش حقا
مقعد الصدق نفسه العصماء
واجتباه لنفسه وخليق
بابن يعقوب عندها الإجتباء
هكذا يصهر النضار ليصفو
والبلايا يتم فيها الصفاء
أيوب
أين من قاوم البلاء بصبر
وثبات ولم يفده الدواء
مسه الضر وانبرى الداء يفري
جسم طود فانهار هذا البناء
صيرته يد النحول خيالا
وتعدى على الصبور البلاء
إيه أيوب قد برتك سقام
كاد يدعوك لو جزعت الثواء
كلما ازداد كربه زاد صبرا
هزم الداء حمده والثناء
كشف الله ضره حين عادت
لرميم العظام تجري الدماء
شعيب
أين من قال أهل مدين أوفوا
واتقوا الله من له ما يشاء
فتولوا عنه وقالوا ضعيف
أنت فينا وهم هم الضعفاء
وأصروا على العناد عتوا
ونفورا ولم يفدهم دواء
وأهانوا شعيب بئست نفوس
قادها الكفر والعمى والرياء
فاستحقوا العذاب لما تعالوا
كبرياء وحل فيهم شقاء
موسى
أين موسى من جاء فرعون طفلا
ترقب النجم عينه النجلاء؟
أودع اليم خوف بطش عدو
وتولى مهد الكليم الماء
أكرموه إذ قيل قرة عين
تم حقا ما قدرته السماء
إن فرعون قد طغى وتعالى
بئس عهد أبيح فيه الدماء
آل فرعون عذبوا قوم موسى
فاستجارت رجالهم والنساء
ودعوا ربهم فأرسل سيفا
كان حصنا عزت به الأبرياء
عز قدرا في قصر فرعون حتى
إذ بدا الرشد دبت البغضاء
ثم لما آتاه حكما وعلما
واستوى حين فاضت الآلاء
بات في مصر للمليك ظهيرا
وتوارت أمامه الأقوياء
وأتى القوم يرقب الأمن فيهم
فالتقته الجناية النكراء
فدعا ربه فأولاه عفوا
نعمة منه واستجيب الدعاء
جاءه مؤمن المدينة يسعى
حذر الموت هكذا النصحاء
فر يعدو تلقاء مدين خوفا
خشية الغدر يوم تم العداء
وعلى مائه تزاحم قوم
وعن الورد أبعد الضعفاء
ما لبنتي شعيب عنه تذودا
ن انكسارا إذ هز موسى الوفاء
في مضاء كعزمة الليث وفى
وسقى واتقى وحق الثناء
ودعاه شعيب يجزيه أجرا
وهو من موقف الأجير براء
فالتقى عندها نبيان شيخ
وفتي فنعم هذا اللقاء
هذه (صفوة) العزيزة فاهنأ
زانها الطهر والوفا والحياء
بعد عشر سعى فآنس نارا
ما رآها حتى تعالى النداء
إخلع النعل واستمع ما يوحى
وتجلد لا تضطرب يا هواء
جانب الطور كلم الله موسى
واجتباه وفاضت النعماء
قال ألق العصا فأدبر خوفا
قيل خذها تجد بها ما تشاء
وتبدت بيضاء من غير سوء
يد موسى وأيدته السماء
آل فرعون قد أتاكم رسول
فأطيعوه أو يحيق البلاء
قال فرعون إن هذا لسحر
ثم طارت بالساحر الأنباء
حين ألقى عصاه خروا جميعا
سجدا واعتلت ضحاها ذكاء
شهد الكل أن موسى رسول
وتولت فرعونهم كبرياء
فتمادى وجنده في ضلال
وغوتهم بطيشها الخيلاء
أدرك البحر قبل أن يدركوه
وهوى بالعصا فشق الماء
واقتفاه فرعون والجند سعيا
كان قبرا لهم وتم الجزاء
قارون
إن قارون كان من قوم موسى
غره الجاه والمنى والثراء!
أين ما حاز من كنوز ومال
خبأتها في جوفها الجرداء؟
كل من يفتري ينال جزاء
ويح قارون هده الافتراء
دبرت نفسه الخبيثة كيدا
وعلى الحق لا يفوز المراء
واعتدى ظالما غويا كذوبا
واستفزت عتوه كبرياء
فرماه القضاء منه بخسف
عبرة للذين عاثوا وراءوا
طالوت وجالوت
أين جالوت من تعاظم بأسا
أرضعته لبانها الهيجاء
أوقد النار ثم شاد حصونا
لجيوش ضاقت بها البيداء
ما تمادى جالوت في الظلم حتى
أمر الله قوم موسى فجاءوا
كان طالوت قد تملك فيهم
وهو بدن وكلهم ضعفاء
قادهم مرغمين نحو الضواري
جيش جالوت صخرة صماء
أظلم الجو حين ماجت جيوش
وبدا الرعب وادلهم البلاء
صال جالوت حين آنس ضعفا
وتمشت في جيشه الكبرياء
أذهل الخوف جيش أبناء إسرا
ئيل أو كاد فيه يخفى الهواء
صاح طالوت بينهم لا تخافوا
كم ضعيف دانت له الأقوياء
وانبرى كالحسام يطلب خصما
لا يباريه في الوفى قرناء
رحمة الله أرسلت خلف طالو
ت غلاما قد عززته السماء
كان هذا داود سابع رهط
أينما حل زالت النكباء
رفع النصر حين صال لواء
وكساه ثوب الجلال الضياء
لم يروعه بأس خصم عنيد
وجياد ماجت بها الصحراء
فتمشى كالليث يطلب قوتا
ثم نادى جالوت آن الفناء
ورماه فخر يهوي صريعا
وترامى على العدو القضاء
سبح الله وهو يرمي حصاه
جاوبته القفار والأرجاء
نزل الهول واقتفتهم جنود
لم يروها وسالت الرحضاء
تم نصر الضعيف حين تجلت
قوة الله واستقام البناء
داود
أين داود من أناب بقلب
خشية الله حل فيه الحياء
وأقام الصلاة خمسين عاما
لم يشب حسن صدقها إعياء!
حوله أوبت جميع الرواسي
ثم حنت لصوته الشمخاء
وكذا الطير جاوبته بشدو
رجعت حسن شدوها الأرجاء
وألنا له الحديد أن أعمل
سابغات هي الدروع رداء
سليمان
أين من سخرت له الجن والإن
س وغنت بملكه الجوزاء
يأمر الريح حيثما شاء تجري
ملك صدر تاجه الزهراء
زاده الله منطق الطير علما
وتباهت بملكه الشعراء
ورث الملك عن أبيه وملك
شاده الحمد طاب فيه الثناء
يا ابن داود قد ظفرت بحكم
كم تمنت مناله الأكفاء
كنت في الأرض خير من حاز ملكا
يا سليمان تم فيه العطاء
يونس
أين ذو النون إذ تولاه كرب
فامتطى الفلك حين طاب الهواء
وقف الفلك بغتة حين قالوا
أيها القوم ساهموا أو تساؤوا
قدر الله أن يونس يجزى
لاختبار وآن هذا الجزاء
فرموه في اليم والحوت يجري
ساقه الوحي رحمة والنداء
ظل في بطنه يسبح حتى
أمر الله أن يزول العناء
فرج الله كرب يونس عدلا
وبهذا تم الرضا والصفاء
زكريا
أين من قال لا تذرني فردا
وهن العظم واضمحل البناء
يا سميع الدعاء هب لي وليا
يرث النور كي يدوم الضياء
هديء الروع وابتهج زكريا
يا كفيل العذراء آن الوفاء
رحمة الله أكرمتك بيحيى
نال حكما ما ناله أبناء
عيسى
ظل حيا من كلم الناس في المه
د وطفلا وعظمته السماء
خير روح حلت بأطهر أم
شهد الله أنها عذراء
جاءها الوحي فاستعاذت برب ال
ناس منه ودب فيها الحياء
قال إني رسول ربك حقا
فاحملي النور نعم هذا العطاء
فتوارت به مكانا قصيا
وأضاءت محرابها الزهراء
وأتاها المخاض إذ تتناجى
ليتني مت أو دعاني الثواء
وضعته والجذع يحنو عليها
واستنارت بوضعها الأرجاء
إيه أمي لا تحزني واحمليني
سوف يبدو للقوم هذا الضياء
فأتت قومها به وهي خجلى
فرموها بأن هذا بغاء
أخت هارون كيف ترضين هذا
آل عمران كلهم أتقياء
إن هذا بيت العفاف قديما
كنت نذرا فكيف ضاع الوفاء
فأشارت إليه فاهتز عيسى
وتجلى على المسيح الإباء!
بوغت القوم إذ تكلم في المه
د صبيا وخيم الإصغاء
قال إني عبد لرب البرايا
أرسلتني بالبينات السماء
حملتني أمي كما شاء ربي
فهي أم ما شابهتها نساء
أحسن الله نبتها واجتباها
وحباها الرضا فنعم العطاء
واصطفاها على النساء جميعا
آية الطهر درة عصماء
آمن الكل بابن مريم حقا
أمطرتهم في عهده الآلاء
كان يدعو إلى الصلاة وجيها
فتفانت في حبه الأوفياء
منه جاءت بالخارقات عظات
حدثتنا عن صدقها الأنباء
طالما أبرأ المسيح وأحيا
حكمة الله نالها من يشاء
سألوه أنزل علينا طعاما
علم الله ما أصروا وشاءوا
قال عيسى: اللهم أنزل علينا
ما أرادوا حتى يتم الوفاء
فرح القوم حين قال بشير
إيه يا قوم قد أجيب الدعاء
وتوالى نزولها في أوان
كان عيدا لهم وزال المراء
ظل يدعو عيسى بن مريم فيهم
للهدى ناصحا فساد الولاء
بئس قوم كالوا لعيسى عداء
علم الله أنهم سفهاء
دبروا للمسيح كيدا ودوما
يحبط الله كيد من قد أساءوا
رفع الله رحمة منه عيسى
أكرمي الضيف رحبي يا سماء
محمد صلى الله عليه وسلم
من كنوز اليقين بدر قريش (أحمد) المصطفى عليه الثناء
خاتم المرسلين من بشرتنا
قبل ميلاده به الأنبياء
أرسلته للعالمين سلاما
رحمة الله واصطفاه العلاء
ورقيا أسرى به الحق ليلا
فأعزت من شأنه الإسراء
وبفضل الإله أحرز مجدا
لم تحز بعض قدره الأكفاء
وتدانت له الصعاب وأضحى
يتسامى إلى السماء البناء
وأنار القلوب بالهدي حتى
عم نور الهدى وساد الضياء
وأقام الدين الحنيف بسيف
كتب النصر فوقه والمضاء
وأعز الإسلام رغم أنوف
خيم الكفر حولها والعداء
رد كيد العدو شرقا وغربا
بجيوش رجالها أوفياء
عززتهم من السماء جنود
لا يبالون بالوغى أقوياء
طاردوا المشركين من كل صوب
فتفشى في الكافرين الفناء
وعد المؤمنين جنات عدن
فتمنوا لو أنهم شهداء
جاهدوا طائعين أمر نبي
كم تفانت في حبه أتقياء
شرف الله قدره واجتباه
فأضاءت بنوره العلياء
جعل الله نوره بدء خلق
وعلى نوره سعى الحنفاء
رفع الله ذكره واصطفاه
وحباه من الكريم العطاء
جاءه الوحي بالرسالة لما
تم ميقاتها وحان الوفاء
كان للناس هاديا وبشيرا
ونذيرا لمن عصوه فباءوا
كان في الأرض والسموات عيدا
يوم ميلاده وعم النداء
كبري يا بدور من كل برج
واملئي الأرض رحمة يا سماء
ها هو النور يا شموس تجلى
فانظروا كيف تسطع الأضواء
سيد العالمين خير بشير
قد أقرت ببعثه الأنبياء
كوكب الفاتحين أشرف بدر
صافحت سيف نصره الجوزاء
أول الخلق رتبة ومقاما
خاتم الرسل نورها الوضاء
شرف عز أن ينال ومجد
واقتدار وهيبة ومضاء
همة جاوزت أقاصي الأماني
ووفاء وحكمة وإباء
معجزات تحير العقل فيها
لم تنل بعد شأوها أصفياء
خير روح حلت بأشرف جسم
لم يعادله في الوجود نقاء
جوهر خالص تلألأ نورا
لم يماثله في السناء صفاء
رحمة ساقها المهيمن للنا
س دواء فكان منه الشفاء
أحمد المجتبى شفيع البرايا
يوم يشتد كربها والعناء
جامع الأنبياء تحت لواء
رفعته يمينه السمحاء
قائد المتقين نحو خلود
لم يشبه نعيمه والهناء
صاحب الحوض في فسيحات عدن
يوم يحلو وروده والسقاء
أمر الله أن تصلي عليه
سائر الكائنات والآلاء
ثم باتت فرضا على كل نفس
تتناجى بذكرها الأوفياء
ياضياء الأبصار يا بدر كون
أبدى نجومه الأنبياء
يا شفاء القلوب من كل داء
يا طبيبا ما غاب عنه الدواء
يا منير العقول ظلمة الجه
ل سلام ورحمة وولاء
يا رجاء العيون في كل آن
يا عظيم النهى عليك الثناء
يا مجير النفوس من كرب يوم
يفقد الرشد هوله والبلاء
يا سراج الهدى عليك صلاة
وسلام يعم منه الرضاء •••
كل نفس لا بد ذائقة المو
ت يقينا متى دعاها الفناء
سنة الله في جميع البرايا
ونفاذ لما أراد القضاء
إنما الحى يا ابن آدم فرد
لم ينازعه ما قضى شركاء
واحد لم يلد قوى عزيز
نافذ الأمر صانع ما يشاء
عالم الغيب لم يماثله شيء
وله وحده العلا والبقاء •••
أيها الناس خالفوا طيش نفس
صرفتها عن الهدى الأهواء
واتركوا اللهو ما استطعتم فعار
أن تولى في غيها الحوباء
واعملوا الطيبات ما لاح فجر
إن للطيبات نعم الجزاء
واصنعوا الخير للحياتين حتى
تأمن النفس إن تدانى القضاء
واستعينوا بالصبر في كل خطب
فهو للنفس والفؤاد الدواء
أنفقوا المال في المبرات حتى
لم يهدده بالنفاد الفناء
واطلبوا الرزق طيبا وحلالا
فإذا طاب عز منه البناء
وأقيموا الصلاة لله فرضا
فهي للقلب واليقين الضياء
وهي تهدي إلى العفاف وتنهى
كل نفس طاشت بها الفحشاء
وأقيموا الميزان بالقسط حتى
لا يقول الكرام ضاع الوفاء
واجعلوا البر والزكاة شفيعا
يوم تجرى بالموقف الرحضاء
وأتموا شهر الصيام قياما
إن قرآن فجره لألاء
وأقيموا مناسك الحج سعيا
حول بيت عماده العلياء
حرم طاهر وركن شريف
وحطيم وكعبة ولواء
واتقوا الله في الضعيفين عطفا
وحنانا نعمت الرحماء
وأغيثوا الملهوف جودا وحلما
واطمئنوا فلا يضيع الجزاء
واكظموا الغيظ واصفحوا عن مسيء
واذكروا عدل من له الكبرياء
وأطيعوا أوامر الله حبا
واتقوا يوم لا يفيد الفداء
واحذروا الشرك فالمهيمن فرد
لا شبيه له ولا شركاء
قادر قاهر سميع بصير
خالق الخلق فاعل ما يشاء
واقصروا في الخطا وسيروا الهوينا
فمع العدو تعثر الشهباء
واغضضوا الطرف فالعيون شهود
واكبحوا النفس فالكمال الحياء
واجعلوا حلية التواضع تاجا
واحذروا أن تغركم كبرياء
وازرعوا اليوم تحصدوا بعد حين
وابتنوا حيث لا يزول البناء!
وصلوا العهد بالوفاء دواما
فمن الظلم أن يموت الوفاء
واجعلوا العدل إن حكمتم شعارا
وانصروا الحق يستحق الثناء
واذكروا الموت بين آن وآن
فهو ورد تجتازه الأحياء
أين كنتم يدرككم الموت حتى
لو حوتكم في برجها الجوزاء
سارعوا للهدى وعفوا وتوبوا
واهدموا إفك ما ادعى الأدعياء
واتقوا الناردار كل أثيم
فهي مثوى من أنكرت حواء
يوم يدعى: هل امتلأت؟ وتدعو
بزفير: إلي يا أشقياء!
وادرأوا النفس عن سموم الأفاعي
فهوى النفس حية رقطاء
بادروا بالسجود لله شكرا
وأطيعوه فالنعيم الجزاء •••
أيها الناس لا تعيروا استماعا
لهراء مما ادعى الأغبياء
واضربوا الأرض بالخرافات وامشوا
مطمئنين حيث شاء القضاء
واستعيذوا بالله من شر غاو
ومضل قد أنذرته السماء
قد عصى الله في السجود فصبت
لعنة الله فوقه والبلاء
قال رب أنظرني حتى توافى
من دياجي أجداثها الأشلاء
يوم تجري الأجساد للحشر حيرى
وينادي القضاء آن الوفاء
إبق حتى ميقات يوم عبوس
قمطرير أهواله صعقاء
حاربوه بالصالحات وأدوا
كل فرض يدعو إليه العلاء
واتركوا الخمر فهي أكبر رجس
زينته جنوده الأغوياء
سهلت للنفوس كل المعاصي
تحت إغرائها جنى الأشقياء
لقبوها أم الخبائث قدما
حيث مالت بالنفس زال الحياء
وادفعوا بالعفاف كل حرام
بيننه الشريعة الغراء
وانشروا العلم والفضيلة حتى
تتوارى الرذيلة الحمقاء
واقطعوا دابر الفجور وإلا
تتمشى مع الدم الفحشاء
وابذلوا النفس في صيانة عرض
كي يوارى عن العيون البغاء
واجعلوا الصدق والأمانة نورا
فيه تمشون حين يخبو الضياء
وامنعوا بالتقى مطامع نفس
تستبيها بمكرها الأهواء
طهروها من الذنوب عساها
تمنح العفو يوم تطوى السماء
وتفانوا في صنع كل جميل
إنما المكرمات نعم العطاء
وتواصوا بالحق واسعوا كراما
واطلبوا العفو يكتنفكم رضاء
واملؤا القلب رحمة وحنانا
ويقينا إيمانه لا يراء
واشتروا الخلد باجتناب الخطايا
صحوة العيش لمحة فالتواء •••
يا ابن حواء قد خلقت ضعيفا
فإلام الجهالة الحمقاء؟
جسمك الغض هيكل من تراب
هيمنته على الثرى الخيلاء
سوف يبلى مهما حبته الأماني
خاضعات وماج منه الهواء
واثقته الأسود برا وبحرا
والتقته الموانع الشماء
وبكته العيون شرقا وغربا
ورثته الأئمة الشعراء
وتدانت له المطالب سعيا
واستنارت حياته الرغداء
وأتاحت له المعالي كنوزا
لم تهبها لغيره العلياء
وأعدت له المواهب حكما
ما استطاعت بلوغه الحكماء
وتمشت له المصاعب طوعا
حين طارت بملكه الأنباء •••
ينعم الجسم بالحياة قليلا
ثم يدعوه بعد ذاك الفناء
فيلبي نداءه وتولي
عنه تلك النضارة الحسناء
ويوارى عن العيون ويبلى
وهشيما تضمه الغبراء
إنما النفس للخلود فحسبي
يا ابن حواء يوم يدنو القضاء
موقف حاشد وحشر رهيب
وقيام أهواله فزعاء
يجمع الخلق كل قاص ودان
منذ عاشت على الثرى حواء
فادرع ما يقيك هول عذاب
وادخر ما يفر منه البلاء
إن تقوى الإله أكبر ذخر
وهي كنز لا يعتريه الفناء •••
أيها الناس هذه بينات
وعظات قامت لها الخطباء
أوقف النفس والنفيس عليها
علماء أئمة أنبياء
فخذوها ملء اليقين ووفوا
ما أمرتم به يحل الرضاء
ها هو العقل رائد فذروه
يتخير لحظكم ما يشاء
إن تكونوا مصدقين فأمن
ونعيم ورحمة وهناء
أو تكونوا مكذبين فويل
وعذاب ونقمة وشقاء
فاسلكوا ما حلا لكم من طريق
خيره النور، شره الظلماء
لا يرى الظالمون فيه سبيلا
وبنور الهدى يرى الأتقياء
فاستقيموا وآمنوا وأطيعوا
يهدكم ربكم ويحلو الثناء
واعبدوا الله مخلصين تنالوا
أجر إيمانكم وترضى السماء
واذكروه وسبحوه كثيرا
ما تغشى دجى ولاح ضياء
مرآة الزمن
هون عليك فكل حي فان
واذكر بقاء مدبر الأكوان
واصبر على ما قد أصابك واحتمل
مر الأذى ومظالم الإنسان
واجعل لنفسك من ثباتك قوة
تكفيك شر وساوس الشيطان
وانظر (لمرآة الزمان) بناظر
رسمت عليه عجائب الحدثان
صور على إنسان عينك مسرحا
لعبت بساحته ذوو التيجان
من كل عات كم تخيل أنه
بلغ السماء بقوة السلطان
فطغى وتاه بملكه متألها
ودعته عزته إلى العصيان
كم من قصور بالمظالم شادها
باتت لسكنى البوم والغربان
سفك الدماء وجار جبارا وقد
نسى الحساب وهيبة الرحمن
ومشى ومقت الكبرياء يقوده
والعجب يملأ ساحة الإيوان •••
يروي لك الماضي عجائب ما رأى
ويمر بالذكرى على الأذهان
فإذا وهبت له التأمل لحظة
تبدو إليك شراسة الحيوان
طورا تباغتك العظات وتارة
تدمي فؤادك قسوة الإنسان
كم في العصور السالفات تمثلت
عبر جرت بالمدمع الهتان
نقشت على صحف الزمان فسجلت
غضب السماء على الأثيم الجاني
بينا الجرائم يستفزك بطشها
والظلم يفتك بالبريء العاني
ينجاب ديجور المظالم مسرعا
ويلوح فجر العدل والإحسان
ويروق للعين التمتع حينما
تبدو الفضيلة في أجل معاني
يصف الكرام العاملين وما لهم
في المجد من عز ومن سلطان
ويعيد ذكر مآثر قد سطرت
لذوي الإنابة آية الشكران •••
همم تجاوزت السماك مكانة
وعلت على الجوزاء والميزان
لم يبلها مر العصور ولم تزل
ما عمرت مرصوصة البنيان
تبقى بقاء العالمين مصونة
تزهو بثوب نضارة الريعان
تلك الكنوز الخالدات براءة
للعاملين بدعوة الإيمان
الباذلين النفس في طلب العلا
والطالبين مراحم الغفران
والعاكفين على الفضيلة والتقى
والذاكرين الله كل أوان
بيض الصنائع خير من قد أنجبت
حواء من أسمى بني الإنسان
نور تلألأ من سناء مواهب
سطعت بجوهر أطهر الأبدان
شهدت بما للمحسنين أولي النهى
في البر من سر ومن إعلان
وبما أقام المصلحون من الهدى
في عالم الذكرى بكل مكان
وبصدق عزم المتقين وما لهم
بالزهد من قدر عظيم الشان •••
تتمثل الحسنى وما قد خلدت
بصحائف التاريخ من رضوان
تبدو وآيات الرضاء تضمها
للخلد ضم الروح للأبدان
سير تمر على البصائر والنهى
مر الكريم المزن بالوديان
فيفيض ماء الغيث بين سهولها
ويسوق سيل الخصب للعيدان
حتى إذا ازدهت المروج وأينعت
لعب النسيم بمورق الأغصان
وجرت ينابيع الحياة ونورت
شتى الزهور بأبدع الألوان
هذي قلوب المهتدين وما حوت
بالهدي من صدق ومن إيمان
فدع التمرد يا ابن آدم واتعظ
واعلم بأنك في نعيم فان
مهما بلغت من المكانة والغنى
والحظ والإقبال والسلطان
وتقربت منك المحاسن كلها
وسعت إليك مواهب العرفان
ومشت تحييك الجنود وفوقها
رفع اللواء بواسل الفرسان
والملك أقبل نحو بابك حاملا
بيد المهابة أنفس التيجان
وانقادت الآمال حتى أصبحت
كل المطالب منك طوع بنان
وحسبت أنك قد تملكت السهى
وأمنت شر تقلب الأزمان
ونعيمك الزاهي خيال زائل
كالوهم حول فطانة الأذهان •••
بسمت لك الدنيا وغرك حسنها
فغدوت عبد جمالها الفتان
وانقدت مدفوعا بطيشك للهوى
وسباك منها ساحر الأجفان
سلبت نهاك بغيها ودهائها
ورماك سهم خداعها الخوان
مر الشباب وأنت مسلوب النهى
تلهو وتلعب في صفا وأمان
ودنا المشيب مباغتا لك ناعيا
عهد الشباب لسالف الأزمان
فصحوت مرتجف الفؤاد مقلبا
كفيك تصلى زفرة الندمان
تبكي صباك وكيف ضاع بهاؤه
والنفس طامحة إلى العصيان
فيريق دمعك ذكر أيام الصبا
والذكريات مثيرة الأشجان
تمسي وتصبح نادما متحيرا
وتبيت فوق مراجل النيران
ياليت عمرك ما تقضى غضه
في اللهو بين الكأس والندمان
والكاعبات الساحرات رشاقة
واللاعبات فواتن الغزلان
والشاردات الغيد ربات البها
الناعسات مريضة الأجفان
وبواعث الأنس القصير زمانه
مهما طربت لرقة الألحان
والمغريات الصافيات وما لها
في النفس من شوق ومن تحنان •••
إن الحياة سرورها وبكاءها
ونعيمها وشقاءها سيان
وصفاء عيشك يستحيل دوامه
والنفس لا تخلو من الأحزان
والدهر لا يبقي على صفو المنى
يلقاك بين مخاوف وأمان
بينا يسوق لك السعادة باسما
ويزيد فيك مهابة السلطان
ينساب كالأفعى فينشب نابه
في أمنك المتغافل الوسنان
فتهب ملتاع الفؤاد معذبا
وتذوق سوء عواقب الخسران
تبكي على ما فات من زمن الهنا
وتنوح نوح الحائر الولهان •••
إذ ذاك ينقشع الظلام وينجلي
نور اليقين بيقظة الوجدان
فتذيقك الأيام مر كؤوسها
لتعيش بين مذلة وهوان
عدلا يبكيك القضاء جزاء ما
أسرفت في حب المتاع الفاني
فاقنع من الدنيا بزادك راضيا
واهجر نعيما عاد بالخسران
واترك هداك الله غيك واستقم
واختر لنفسك خالد البنيان
واذكر هوانك تحت أطباق الثرى
في المفزعين الرمس والأكفان •••
أين الذين عنا لسطوة ملكهم
قاصي المدائن رهبة والداني
ومشت ملوك الأرض تحت لوائهم
طوعا تحيط بهم عتاة الجان
وبأمرهم جرت الرياح وسيرت
لهم الجبال وسخر الثقلان
أين الأكاسرة الذين تفاخروا
بعروشهم وجلالة الإيوان
وفخامة الملك الرفيع عماده
في عهد أعدلهم أنو شروان
أين الغزاة الفاتحون وبأسهم
أين الأسود قياصر الرومان
أين الرؤوس العبقريات التي
نزلت عليها حكمة اليونان
تلك الكنوز الغاليات شهادة
لبلوغهم أقصى مدى العرفان •••
أين العمالقة العتاة وأين ما
تركوه من ترف ومن عمران
من قوم عاد والعراق وتبع
وثمود من شقوا عصا العصيان •••
أين العصور المدهشات وما حوت
من فطنة أعيت قوى الإنسان
عهد له شهد الزمان عجائبا
ضن الوجود بها لعهد ثان
نالت به مصر الفريدة هيبة
لجلالها قد كبر القمران
علم يحار الفكر في تكييفه
بعدت مداركه عن الأذهان
سر أصول العلم فيه طلاسم
أوحى بها الكهنوت للكهان
درسته بين هياكل ومعابد
متعاقدين بأغلظ الأيمان
حفظا لأسرار الحياة وما لهم
في الأرض من حكم ومن سلطان
فأطاعهم شم الجبال وصلدها
والماء لباهم بكل لسان
وانصاع مختلف الرياح لأمرهم
ومشت سباع الطير والحيوان
رصدوا الكواكب وهي بين بروجها
تجري بقدرة مبدع الأكوان
ومواقع النجم البعيد مداره
في الشاسعين الحوت والميزان
والثاقبات الشهب سابحة الفضا
كالبرق بين الجدي والسرطان
حسبوا طوالع كل نجم واهتدوا
لعجائب الأفلاك في الدوران
وتبينوا تلك البروج وفعلها
في مصر أم المجد والعمران
فبنوا هياكلهم على أسرارها
لتدوم رغم طواريء الحدثان
علموا بأن الشمس سيدة القوى
رمز الحياة لهيكل الإنسان
ولكل حس حل تحت شعاعها
وهي النمو لسائر الأبدان
فالنبت والحيوان مفتقر لها
والطير بين خمائل الأغصان
والماء لولاها لأصبح راكدا
عفنا من الأقذار والديدان
فهي التي جعلته عذبا جاريا
فوق السهول وفي ربا الوديان
بعثت لسطح الأرض أعجب آية
حفظت نظام العالم الحيواني
نورا ونارا من وهيج سنائها
ملأ الفضاء وعم كل مكان
حملت بخار الماء عذبا طاهرا
خلوا من الأملاح والأدران
صعدت به متن الهواء كأنه
أطواد ماس في سهول جمان
حتى إذا اصطدمت لسرعة سيرها
تلك الجبال هوت من الذوبان
طورا تمزقها الرياح وتارة
تجتاحها قمم من الصوان
فالغيث يكسو الأرض ثوبا يانعا
والسيل يهدي الخصب للقيعان
ولها على سير الرياح قيادة
وعلى العناصر إمرة السلطان
والأرض لولاها لكانت بلقعا
جرداء خالية من السكان
شادوا لهيكلها العظيم معابدا
مزدانة بنفائس القربان
نسبوا لها مجد الألوهة رهبة
فاندك صرح عبادة الأوثان
عكفوا عليها عابدين وهدموا
ما شيدوا للعجل والجعران
واستخدموا تلك القوى لبلوغهم
ما لم يكن من قبل في الحسبان
نحتوا بباطن «منف» أقدس معبد
جعلوه بيت سرائر الأكوان
صنعوا له مفتاح سر غامض
نقشت عليه طلاسم الكتمان
صانوه في أعماق قلب ساهر
للرابض المتحفز اليقظان
رمز المهابة والرزانة والحمى
للصمت فيه وللسكون معان
يرمي الفضاء بنظرة قد أوقفت
كيد العوادي وقفة الحيران
جسد حوى أسمى القوى رمزا له
جسم الهزبر وهامة الإنسان
هذا أبو الهول الرهيب ثباته
مفني العصور وقاهر الأزمان
عهدوا إليه حراسة الوادي الذي
ضم الكنوز غوالي الأثمان
واستخدموا أرصاده لبلوغهم
مجدا تعذر عن ذوي التيجان
حتى أتى (مينا) وأسس ملكه
وطوى الزمان صحيفة الكهان •••
أين الفراعنة الملوك وأين من
ربطوا السفين بمقلة الربان
أين الأسود الفاتحون وأين ما
بلغته مصر بهم من العمران
آثارهم في مصر تشهد أنهم
كانوا الأئمة في قوى الإمكان
عهد العجائب عصر (منفيس) الذي
قامت لذكرى مجده الهرمان
وطلاسم السر الذي أهدى إلى
وادي الملوك سيادة الوديان
واد كنوز الأرض تحت أديمه
مخبوءة عن أعين الحدثان
لو أن قيمتها وما فوق الثرى
في الوزن نالت رجحة الميزان
أخفى مخابئها العديدة طلسم
أسراره غابت عن الأذهان
حراسه ترمي الفضاء بناظر
يقظ تتبع خطوة العدوان
سهرت على تحف الملوك أمينة
من بطن منف إلى ربا أسوان
وعلى القباب البيض قام أشدها
عزما يؤدي واجب التيجان
كهف حوى كنز الكنوز ولم يكن
أبدا لتدركه يد الإنسان
قد هيأ الكهنوت أرصادا له
ألقت عليه طلاسم النسيان
تيجان بيت الملك من (مينا) إلى
ملك الوغى (سيزوستريس) الثاني!
وصوالج الأسد الفراعنة التي
سحرت عيون قياصر الرومان
وحلي ربات الخدور قلائد
منضودة من جوهر فتان •••
أين الجبابرة الملوك وبأسهم
يوم اشتداد الكرب في الميدان
وجماجم الأعداء جني سيوفهم
تنهال تحت سنابك الفرسان
والجو أقتم والدروع تطايرت
من هول ما قد حل بالأبدان
وجيادهم تنساب تحت عجاجة
ظلماء بين أسنة ودخان
كالأسد تنقض انقضاض صواعق
تجتاح ما تلقاه من بنيان
تتكدس الأشلاء تحت ركابها
في موج بحر من نجيع قان
لم يثنها حشد الجموع عن المنى
كلا ولم تحفل بهول طعان
مهما تلاحمت الصفوف لردها
فشل العدو وباء بالخسران
واندك صرح حصونه وتشتتت
أبطاله في ظلمة الوديان
ومشى القضاء إلى العدو ومزقت
يمناه قهرا راية العصيان
وتقدم النصر المبين مصافحا
أبطال مصر ضياغم الميدان •••
في كل واد كان ميدانا لهم
نقشوا مواقعهم على الصوان
أثرا يمثل بطشهم بعدوهم
فتك الجياع الأسد بالغزلان!
صورا تدل على سلامة ذوقهم
وهيامهم بالغزو والعمران!
دخلوا المدائن فاتحين وعمروا
ما هدم الجبروت من بنيان
وبنوا لمصر المجد رغم مطامع
للفرس والآشور والرومان
دول تمنت ما لمصر من العلا
ولكم تضيع مع الغرور أماني
قامت لتبني المجد لكن خانها
بطش الأسود بها وجهل الباني
أين الفراعنة الذين تألهوا
في مصر من (خوفو) إلى الريان
زعموا بأن الله حل بروحهم
نورا وهيمنهم على الإنسان
فطغوا وعاثوا مفسدين وأسرفوا
في الظلم والجبروت والطغيان
كفروا فما الإنسان إلا هيكل
جسد سيصبح طعمة الديدان
والكبرياء إذا تمكن غيها
من نفسه دفعته للعصيان
فهي الجنون لكل غر جاهل
قد هاجه مس من الشيطان
أو فهي مقت الله صب على الذي
نسي الإله وباء بالخسران
ظلموا وجاروا واستبدوا قسوة
واستسلموا لأوامر الكهان
ظنوا بأن نعيمهم وهناءهم
في ملك وادي النيل ليس بفان
واستخدموا الإنسان في أهوائهم
واستعبدوه برهبة وهوان •••
نحتوا الجبال وشيدوا من صلدها
فوق الهضاب غرائب الأوثان
رمزا (لآمون) الذي عكفوا على
تقديسه ردحا من الأزمان
ولمجد (إيزيس) التي ظنوا بها
سر الحياة وصحة الأبدان
ولعجل منف وماله قد هيكلوا
جسدا يمثله بكل مكان (آبيس) حيا أكرموه وميتا
قد جهزوه بأنفس الأكفان
ومشت تشيعه الملوك يحفهم
كهنوت منف لمدفن الثيران
عبدوه في ظل الحياة وبعدها
سجدوا لهيكله الرميم الفاني
كفروا بمن خلق الوجود وأشركوا
بالواحد المتكبر الديان
وبنوا من الصخر الأصم معابدا
تحت الربا وبباطن الوديان
دورا ببطن الأرض لم تجسر على
تدميرها يوما يد الحدثان
قد أودعوها ما استحال وجوده
مهما تولى الأرض من عمران
صورا من الذهب المصفى مثلت
أشباح ما عبدوا من الهذيان
وعلى الهياكل حولها تحف لها
قد رصعت بالدر والمرجان
وبأبدع الصور الجميلة سجلوا
أسرار ما اعتقدوا على الجدران
نقشا على الصخر الذي عجز البلى
عن مسه لدقيق صنع الباني
مرت به الأجيال وهو كأنه
لم يمض بعد لصنعه يومان!
ترمي معانيه العجيبة عن مدى
بعد المفكر في المصير الثاني!
علموا بأن الروح لا تفنى وإن
عبث البلى بالهيكل الجسماني
والجسم يقضي في الحياة نصيبه
حتى يحين من الحمام تداني
فيفارق الدنيا إلى الدار التي
بسعادة تلقاه أو بهوان
كل النفوس إلى الخلود مصيرها
والحظ موكول إلى الغفران
قد برهن الإيضاح في تصويرهم
بأدق فهم في أتم بيان
عن صحوة الأجساد بعد رقودها
وقيامها للحشر والميزان
حيرى تبعثرها القبور كأنها
سيل الجراد يهيم في الوديان
هذا هو البعث الذي جحدت به
أمم غوتها فتنة الشيطان!
حقا له فطنوا ولما تأتهم
رسل لتهديهم إلى الإيمان
ولقد رأى الحكماء أن يد البلى
لا بد أن تسطو على الأبدان
فتظل تنشز في عظام رطبة
حتى تجردها من الديدان
فإذا تجرد أصلها وتطهرت
من كل ما حملت من الأردان
أخذ البلى يسري فينخر هيكلا
ينهار تحت عوامل الذوبان
عهنا فتربا كي يرد لأصله
والترب أصل سلالة الإنسان
لا بد يوما كل من فوق الثرى
ذرا يكون على مدى الأزمان
لما بدا ليقينهم ما راعهم
وتبينوا أن كل شيء فان
خافوا على أجسادهم من هول ما
ينتابها في وحشة الأكفان
فتمكنوا بالعلم من تحليلها
ودم الحياة يدب في الأبدان
فحصوا كرات دم الوريد وكيف قد
رد الحياة لها دم الشريان!
وتبينوا القلب العجيب بطينه
وأذينه في الصدر ينقبضان!
ليحولا مصل الوريد إلى دم
حي إذا ما دار ينبسطان
بحثوا العظام وما حوت أدوارها
في الشيب والإطفال والشبان
بحثا يحار الطب في تعليله
عرفوا به ماهية الحيوان
وبقاءها عمرا طويلا غضة
في قوة وسلامة ومران
فنخاعها واللحم سر حياتها
وهما لحفظ كيانها حصنان
ما غاب عنهم عنصر لم يفقهوا
تأثيره في الهيكل الجثماني
لهم انطوى العلم العجيب وصرحت
بالرغم منه غوامض الكتمان
فتوصلوا لنوال ما قد أملوا
ومع الهزيمة لا تضيع أماني •••
كانت نتيجة بحثهم أن وفقوا
علما بسر صيانة الأبدان
بعد الممات من اتصال يد البلى
يوما لتبقى آية الأزمان
أمنا تمر بها القرون وبعدها
تتعاقب الأحقاب في اطمئنان
وقوامها صلب فتي ذابل
قد غادرته نضارة الريعان
ألقى السبات عليه سلطان الكرى
وقد اختفى عن أعين الحدثان
لم تنتقصه سوى الحياة ولم يكن
بالميت أحرى منه بالوسنان
ترمي مناعته الزمان بنظرة
سخرت بفتك كوارث العدوان
والدهر يعجب أن سلطان البلى
مكتوفة بالرغم منه يدان
مرت به تلك العصور وتنقضي
أمثالها وقواه في نقصان
سد رهيب كلما قد هم أن
يجتازه لا يستطيع تداني
هذا هو السر الذي هزمت به
حكماء مصر عوادي الملوان
أقصى عن الإغريق كل حضارة
وقضى على مدنية الرومان
ما أبعد الإنسان في تفكيره
لو كان منصرفا إلى العرفان
تأتي المواهب لو تكامل نورها
بالمعجزات بعيدة الإمكان
هل بعد تلك الخارقات فطانة
أو بعد ذياك النجاح أماني؟
أجسادهم شهدت بقوة عزمهم
وثباتهم وبحدة الأذهان
ظهرت لنور الشمس وهي كأنها
لم تقض بعد الموت غير ثوان!
وكأن آلاف السني تبدلت
يوما مضى في راحة وأمان
هي بيننا وتظل دهرا بعدنا
وهي التي شهدت ضحى الطوفان!
قد أظهر التحنيط أعجب آية
وصلت إليها حكمة الإنسان
عجزت شعوب الأرض عن إدراكه
وخبا سراج الطب في اليونان
وخلت بحار العلممن أصدافه
مذ كف كوكبه عن الدوران
علم توارى أصله وتحجبت
أسراره ونأى عن البرهان
صعدت مواهبه السماء فأصبحت
ممزوجة بالعالم الروحاني
قد كان إحدى المعجزات ولم يزل
أعجوبة الدنيا مدى الأزمان
وكفى به فخرا لمصر وأهلها
أم القرى سلطانة الوديان
هي جنة الدنيا التي قد أحرزت
ما عز من ملك ومن عمران
رحلة
يا من نفى عني لذيذ منامي
مني إليك تحيتي وسلامي
يا من لأول نظرة قد خلته
ملكا تربع فوق عرش غرامي
فوهبته قلبي وكل سعادتي
وحسبت أني قد بلغت مرامي
عامان قد مضيا لعهد غرامنا
أمسى بها جسمي أليف سقام
إني سأشرح قصتي لكنما
أخشى دخول الوجد طي كلامي •••
قدم الربيع ففاض بالإنعام
ودرجت أرسم للربى أحلامي
أعدو على النيل الحبيب هنيهة
وهنيهة أرتاد أرض سلام
حتى نزلت بروضة فواحة
هي مسرح الغزلان والآرام
حوت العجائب من فصيلات الفلا
وبدت جمالا في أتم نظام
فولجتها والقلب يرقص غبطة
وسمعت فيها صيحة الضرغام!
ماست غصون البان طوع نسيمها
فانجاب من فرط الهناء ظلامي
يا نعمها من روضة في مصر قد
جمعت جميل الطير والأنعام
تتسرب الحور الحسان لدورها
من فاتكات اللحظ والهندام!
ألفيت في وسط الحديقة جوقة
صدحت توقع أطيب الأنغام
فرغبت أن أبقى لأطرب مسمعي
وكأن سرى بالزائرين مرامي
فتسابقت نحو المكان الكاعبا
ت الغيد يجذبهن صدح حمام
وتزاحمت حول الكواعب فتية
كل له شغف بكأس مدامي
بينا السهام من العيون تبادلت
نحو القلوب على أتم وئام
كنت الوحيد بمعزل عن جمعهم
وتكاد تسعد وحدتي أحلامي
سرعان ما انقطع الخيال لأنني
حالا شغلت بما استحق هيامي
ظبي تنازل من سماء نعيمه
لا بل ملاك فاق بدر تمام
حلو الشمائل أهيف متربب
جذب القلوب بثغره البسام
يزري بغصن البان في حركاته
ويفوقه حسنا بلين قوام
ويماثل الطاووس في خطواته
متفاخرا بجماله النمام
بهج الرداء إذا تبسم ضاحكا
صرع القلوب وصادها بسهام
رشأ تسربل بالجمال فوجهه
قد صيغ من نور الغرام السامي
فإذا رنا للشمس أوقف سيرها
رمت القناع وأردفت بسلام
والبدر يخجل من ضياء جبينه
ويخاف أن يبدو بغير لثام
أهدته مبدعة الدلال لحاظها
فكأنها طير وكان الرامي
باهي المحيا زان حمرة خده
ورد الصبى وتوقد الأحلام •••
مر النسيم بها فحيا باسما
وجرى يوجج بالأريج ضرامي
ومضت ثوان خلت فيها أنني
زرت الجنان وحققت أحلامي •••
بينا أنا في بحر وجدي سابح
أشتاق أن لا تنقضي أوهامي
إذ قد تحول نحو وجهي وجهه
فتسعرت في مهجتي آلامي
وتحركت قدماي لا أدري إلى
أي الجهات تحركت أقدامي!
ومشيت من خمر الهوى متمايلا
ثملا ولكني بغير مدام
دخل الهوى قلبا خليا لم يكن
يدري الهوى حتى اكتوى بغرام
وطفقت لا أدري أحلما ما أرى
أم يقظة أم فترة الأوهام
وتحركت قدماه نحوي فاغتدى
قلبي يدق وخانني إقدامي!
يا نعمها من ساعة فيها جرى
ماء الحديث فجاء طبق مرامي
وتحركت شفتاه نحوي وانحنى
بعوائد التركي عند سلام
ورنا وقال: الوقت أرجو سيدي
إيضاحه إذ حان أخذ ترامي!
فأجبته ويدي تلاعب ساعتي
والقلب يرقص من لذيذ منامي:
قد مر بعد الست عشر دقائق
وأرى الغزالة أعلنت بسلام
فتلفت الظبي الجميل كأنه
يخشى هجوم الباطش الضرغام!
وتلفظت شفتاه: هيا ساعتي
إني أرى قد حان وقت طعامي
وتحركت يمناه نحوي وانثنى
ينوي الرحيل مضاعفا آلامي
فرأيت نجم سعادتي قد أظلمت
أنواره وغرقت في أوهامي
وجمعت كل قواي بل وبسالتي
وأفقت حالا من لذيذ منامي
وتحركت شفتاي رغم إرادتي
كيما أقاوم علة الإبكام
وسألته: ما الإسم؟ قال ولحظه
كالسيف يلعب في يد الصمصام
إن شئت أسقط ستة من مائة
هذا الحساب بجمل الأرقام
فصبرت حينا لم أذق طعم الهدى
وكأنني قد صدعت أقلامي
ومضت ثوان والسكون مخيم
من حولنا والفكر في آلام
حتى عثرت بمطلبي فغدوت من
طرب المسرة راقص الأقدام
ناديته فاهتز تيها جيده
وكأن تهلل وجهه بكلامي
وأجاب والإعجاب صير خده
ما بين لون الورد والأعنام:
كيف اهتديت إلى أصول حروفه
كيف اتصلت بفائه واللام؟
من أين تدري أنه من أربع
قد صيغ والتكرار بالإلزام
فأجبته: هذا الحساب صناعتي
إني أعلم صيغة الأرقام
فرنا وقال: سألتموا فأجبتكم
وعلي حق سؤال الإستفهام!
لك ما تشاء فمايتان وعشرة
وأضف إليها اثنين يا ابن كرام
وحروفه سبع أقول بوصفها
إسما به قد عيل صبر غرامي
وبه وقد إن أخرجت فاستبدلت
بالياء بعد الراء تم مرامي
فتنبه الظبي الجميل وتمتمت
شفتاه: صن يا ابن الخليل زمامي
فكأنني يعقوب أبصر بعدما
قضى زمانا في بكا وظلام
وكأن در حديثه قد جاءني
كقميص يوسف فانجلت أيامي
والروض هب به النسيم مباركا
والطير أشدت منعش الأنعام
وبلابل البستان طارت حولنا
وكأنها تدعو لنا بدوام
والنرجس الغض الجميل تمايلت
أعطافه بالورد والأكمام
وتراقصت أغصانه وتبسمت
أزهاره وعلا هديل حمام
فوقفت من طرب المسرة حائرا
أشتاق حكم النقض والإبرام
هدأ النسيم وكل حي حولنا
قد صار يشبه صورة الأصنام
هب النسيم فشاغلت حركاته
عيني وقلبي ثم نار غرامي
وتدفقت عني حنوا نحوه
وكأن وجدي قد أذاب عظامي
وتحركت يمناي تلمس زنده
فاهتز جسمي وارتخت أقدامي
واشتد في خفقانه قلبي وقد
أمسى بجسمي كل عضو دامي
وحسبت أني عندما صاحبته
قد صرت حارس راية الإسلام!
وكأن موسيقى الحديقة خلفنا
عزفت لصحبتنا بحسن ختام
والشمس عند مغيبها قد قبلت
وجناته فتلهبت بضرام
والطير عند فراقه قد أبدلت
أنغامها بالوجد والآلام
وحنا عليه البان يمنع مشيه
حتى الغصون تعلقت بالهام
عشقته كل الكائنات فحسنه
قد جاء يجمع غاية الإحكام
خطت يد التكوين فوق جبينه (هذا ملاك الطول والإنعام)
وعشقته لا للجمال وإنما
لجميل أخلاق وحسن نظام
ما زال يطربني بعذب حديثه
حتى تركنا منزل الضرغام •••
خرج الأمين عليه يستدعي لنا
سيارة من شارع الأهرام!
وخرجت واليسرى تطوق خصره
فكأنه بدر بدا
شخصت له كل العيون وليتني
ثوب عليه لكي أريح غرامي
ساعدته حتى جلست جواره
إيوان كسرى كان دون مقامي!
وعدت هنالك صافنات جيادنا
مدت مفاتنها كفرخ نعام
والجو رق نسيمه من حولنا
والبدر أجلى مزعج الأحلام
وتجلت الهيفاء تلعب بالنهى
لعبا تضيق لوصفه أفهامي
وكواكب العلياء زاد وميضها
واصطفت الحور الحسان أمامي
ما زال سائقنا يسوق جياده
حتى وصلنا ملعب الأقدام
فسألته إن كان يسمح وقته
كيما أقوم بواجب الإكرام
فرنا بلحظ جفونه وأجابني
شكرا ولكن حان وقت منامي •••
فرأيت أن وجب الوصول لداره
حتى أفوز بصحبة وتداني
قصر بمصر على الولاء مشيد
بيت الكرام لقاصها والداني
تلتف حول فنائه فيحاء قد
عبقت بسر الورد والريحان
غناء تبسم والزهور تزينها
كقلائد الياقوت والمرجان
والطير كان صغيره يدعو إلى
تحريك أعطاف لغصن البان
وخرير أفواه الجداول شاركت
أنغام طير الروض في الألحان •••
ولج العزيز عرينه من بعد أن
أهدى سلاما ضاع فيه بياني
والبدر أسفر والزهور تبسمت
واستقبلته شقائق النعمان
نطق اللسان مترجما عن مهجتي : سر في سلام دائم وأمان!
يا أيها البدر الذي عني نأى
ترعاك عين عناية الرحمن
إن كنت قد أظلمت جو مسرتي
فكذاك شأن البدر في الدوران
صبرا فؤادي كل بعد ينقضي
والدهر ضد رغائب الولهان •••
غادرت ذاك القصر أحسده على
سحر به يزري بسحر بياني
وقفلت مكتئبا أحن إلى الذي
ملك الفؤاد بلحظه الفتان
سبحان من زرع الورود بخده
وجلت سناها زهرة الرمان
من لي بدمعي كي أرويها به
حتى تضاعف حسنها نيراني
سيان في حلم أرى أم يقظة
داع إلى خد الحبيب دعاني
وقضيت داجي ليلتي متقلبا
حيران لا يهوى الكرى أجفاني
يهفو النعاس بمقلتي فيرده
طيف يجدد ذكره أشجاني
حتى إذا ذهب الظلام وأشرقت
شمس الضحى تزهو على الأفنان
بادرت حالا بارتداء ملابسي
وخرجت أقصد مسرح الغزلان
والشمس قد نشرت ذوائب شعرها
تكسو الربى حللا من الألوان
فعرجت نحو القصر أذكر ما مضى
وأعلل الآمال بالوجدان
وأراقب الظبي الغرير لعله
ينساب بين معاقل الوديان
ومضى طويل الوقت حتى خلتني
في مرجل والجو أحمر قان
بينا أنا والجو حولي معتم
عصفت رياح صبا الحبيب الجاني
فتحولت عني الكآبة واعتلت
وجهي المسرة وانجلت أحزاني
ورأيت أحسن منظر يدعو إلى
نظم القريض يحار فيه الباني
غصنين بينهما مهاة قد بدت
فتنت قلوب الحور والولدان
كسفت جمال الشمس وجنتها وما
للبدر ضوء جبينها الفتان
فاقت غزال الأمس عشر مراحل
وعلت تشاهد دارة الميزان
والثوب لم يحجب خفايا جسمها
غصنا تربع فوقه نهدان
باح القميص بسر مكنون الهوى
فجلا سنا فجر أضاء عياني
يا ليتني كنت القميص وليته
كان المعذب في الغرام مكاني!
حورية ضم الوشاح قوامها
فكأنها ووشاحها قمران
سلت صوارم لحظها من غمدها
فسطت على الآساد والغزلان
وتبسمت عن لؤلؤ متمنع (مرج النهى بحرين يلتقيان)
تركته للعشاق ينسب خدها
واصبوتي منه بأحمر قان
خد يريك نعيمه في ناره
يا من يرى الفردوس في النيران!
ترنو لواحظها إلى عشاقها
فتصول في أحشائهم كيماني
صاغ الجمال جبينها متعبدا (فأتى كبسم الله في العنوان)
شخصت إلى الزرقاء منها مقلة
وترفعت عن رؤية الثقلان
وعلت إلى الجنات تطلب أن ترى
هل في السماء لها شبيه ثان •••
فحسبت أني عدت أحقابا إلى
عهد الخرافة أعصر اليونان
وعجبت حين رأيتها قد شابهت
تمثال (أورانيا) عظيم الشان
وجرى بها نبتون يسبح في الفضا
وغدت لها الأفلاك طوع بنان
وكأن (كاليبو) تغار لأنها
ملك الجمال إلهة الأغصان
لكنما (جوبتير) تخشى بطشه
فهو المنظم خطة الأكوان
صدرت أوامره إلى الألى بأن
تبقى تراقب دقة الدوران
وأشار للأخرى إلى الأرض اهبطي
كي تظهرين محاسن الإنسان
وعلا وكل الكائنات مطيعة
رغم الأنوف إطاعة العبدان •••
هب النسيم فأقشعت حركاته
سنة الخيال وعدت للوجدان
فوجدتني ما زلت أقتحم اللظى
والشمس هز لهيبها أركاني
والرئم يظهر أنها قد لاحظت
أني أصبت بسهمها الخوان
فكسا الحياء ورود خديها دما
ومشت وذيل قميصها يرعاني
وتمايلت كالغصن حركه الصبا
وتسترت عن ناظري وعياني
ناحت لها الورقاء عند فراقها
وأحاط جيش الليل بالبستان
وبقيت كالتمثال ليس بجوفه
قلب يدق بفرقة وتداني!
لم أستطع تحريك أعضائي ولم
يجسر على نطق الكلام لساني
لو أنها عرضت لأقيال لما
هام الملوك ببهجة التيجان
ولو أنها عرضت لأشمط عابد
ألف السجود محبة الغفران
لرنا لطلعتها وألهاه الهوى
عن ذكر آي الواحد الديان
أنا لم أكن من هؤلاء وليس لي
أمل بأن أغدو وحيد زماني
لكنما ما حيلتي والسهم قد
راش الفؤاد وبات طي جناني
هذا جزاء فتى تلاعب بالهوى
فاعتاض حلو العيش بالأحزان •••
وظللت أنتظر الغزال وإنما
نار الغزالة أحرقت أبداني
وسألت نفسي هل تكون شقيقة
للبدر أم هذا ملاك ثان
ظهر الغزال وثغره متبسم
سرعان ما بيمينه حياني (هجم السرور علي حتى أنه
من فرط ما قد سرني أبكاني)
لله ما أبهى جميل ردائه
ثوب يغازل حلة السلطان
لو أن كسرى كان في أيامه
لاختاره لخلافة الإيوان
مد اليمين مصافحا ومصبحا
خلت الثريا علقت ببناني
صافحته وضغطت باليسرى على
قلبي أخفف وطأة الخفقان!
وسألته ماء لأطفيء ما بدا
في القلب من ظمإ ومن نيران
فأشار نحو القصر ثم تلهبت
وجناته كعشيق بنت الحان
وافرحتي لو تسمحن بزيارتي
فأقابل الإحسان بالشكران
نقضي قصير الوقت حتى ينقضي
وقت الهجير براحة وأمان
فتحركت قدماي تتبع سيره
والفرح عاق عن الثناء لساني
وولجت دارا بالجمال تسربلت
ما حازها قدما أنو شروان
ما أمها ليل ولم تدر الدجى
وتكاد تجحد دورة الملوان
وجلست أرشف كأس حب طاهر
ضن الزمان بها على التيجان
وخلوت بالظبي الجميل وبيننا
غزل كعذب الماء للظمآن
طورا نكلم بالشفاه وتارة
يكفي العيون الهمس بالأجفان
ما كان أشهى خلوتي بمسامري
لو كان يسمح أن يدوم زماني! •••
غاب العواذل والوشاة ولم يكن
بالسر يعلم غير غصن البان
ولو اعتقدت بأنه واش بما
قلنا لصنت السر بالكتمان
ولئن وشى للزهر ما من زهرة
إلا بعين صبابتي ترعاني
خفت النسيم يذيع أسرار الهوى
ويبوح بالمكنون من أشجاني
فسألته كتمان ما قد لاحظت
خطراته والسمع والعينان
فأجابني خفض عليك وليتني
كهف أعوقك طاريء الحدثان
وجرى يقبل وجنتيه وينثني
يهدي إلي قلائد العقيان
فتبودلت بيني وبين مغازلي
قبل يقطعها غرام هاني
يهفو الفؤاد لوقعها فيرده
باللطف صوت الطهر والإيمان
ما أسعد الولهان حين يضمه
بيت المحب بخلوة وأمان
يا ليتها كانت تدوم وليتني
قبل انقضاها كنت في الأكفان
سرعان ما تجري أويقات الهنا
ومن المحال يدوم وقت تداني
نوديت والظبي الجميل: تفضلا
يدعوكما الطاهي إلى الألوان!
بئس النداء فقد حرمنا خلوة
كانت دواء للفؤاد العاني
ما كان أقصر مدة أنست بها
منه العيون فكان وصل غواني
كرت ولكن لم تطل فكأنها
طيف الخيال يلذ للوسنان •••
لو أن أيامي تفي ثمنا لها
لبدلت أيامي لها بثواني
أو أن عمر المرء طوع بنانه
لجعلتها عمري وقلت كفاني
الجزء
قصائد اجتماعية ووجدانية
حرب طرابلس
التاج أثبت من رضوى يحيط به
جيش على الحق مكتوب له الظفر
الله يحرسه والدين ينصره
كأنه كوكب يسمو له النظر
يا آل عثمان لا زلتم بمنعتكم
تعنو الملوك لكم والدين يفتخر
والغرب يعرف يوم الحرب بطشكم
بقوة الله لا يبقي ولا يذر
لكن تجاهلت الطليان قدركم
فأصبح الذئب قرب الليث يحتضر
يا ذئب مالك والآجام تدخلها
إن غابت الأسد فالأشبال تنتصر! (يا جيش روما) عليك اليوم قد نقمت
أهل السماء وجن الأرض والبشر (يا جيش روما) فلا ذقت الهوى أبدا
أغراك بالجهل سيف كاد ينكسر
وكيف جردته والأسد رابضة
تحمي العرين وجمر اللحظ يستعر
أهل نسيت أسود الترك من وطئت
أقدامهم هامة اليونان فاندحروا
فسل (أثينا) و(فرسالوس) كم فعلت
جيوش (أدهم) لما ساقها القدر
إن كان أدهم لبى أمر خالقه
فكلهم (أدهم) في السلم مستتر
ويوم يعلن أمر الحرب بينهم
ترى فعالهمو ما ليس ينتظر
سل بيض عثمان في الهيجاء كم حصدت
من الرؤوس ودمع البيض ينهمر
للترك كم طأطأت هام الملوك وكم
عنت وجوه علاها الجبن والضجر
قرصان روما أفيقوا من سباتكم
جبر الزجاج عسير حين ينكسر
أهل نسيتم أمام الترك موقفكم
وكيف يثبت ذئب جاءه نمر
خليفة الله رب العرش حافظه
والمسلمون لمثل اليوم تدخر (محمد الخامس) المولى العظيم ومن
ألقت إليه مقاليد النهى البشر
أنعم به من مليك ساس دولته
وما بغير علاء الدين يفتكر
يا دولة السيف أين الضيغم الأسد؟
قرصان روما عليك اليوم تأتمر
ما من شروط الوفا أن تتركي بلدا
يحتلها الذئب والأعداء تفتخر
فبادري واظهري كالبدر في أفق
لتجعلي دولة الطليان تعتبر
بني الهلال العدو اليوم يطمع أن
يحتل دارا عليها القلب ينفطر
لا كان يوم نرى القرصان ظافرة
على طرابلس يا بئس ذا الخبر!
قوم أساطيلهم في البحر واقفة
تكاد من لطمة الأمواج تنفجر
قوم جيوشهم في البر شاردة
خوفا من السيف والأرواح تحتضر
ومن عجيب نرى أسطولهم طمعا
خاض الظلام ولكن غره القمر
هم يحسبون بأن الدهر يبسم وال
واشين ينفعهم أن أحدق الخطر
ويجهلون بأن الدين يأمرنا
يوم الجهاد بأن للموت نبتدر
سيعلمون قريبا أي منقلب
ومن سينزل في ساحاته الكدر
وتشرق الشمس والآفاق باسمة
ويظهر الحق والأعداء تنبهر
ويخفق العلم المنصور فوق ربى
فرت جيوش العدا إذ هالها الخطر
لكن على المسلمين اليوم مد يد
فالحرب يلزمه الإنفاق والسهر
والمال مال إذا جاد الكريم به
ما المال ما في كنوز الأرض يدخر •••
يا مسلمي الهند شدوا أزر دولتكم
عن مجدكم حدث التاريخ والسير
يا مسلمي الصين واليابان همتكم
فالمال أحسن ما يجنى به الثمر
يا مسلمي الفرس كسرى كان أكرم من
ببذل أموالهم قد تشهد العصر
سكان أطلس إن الدين يأمركم
ببذل أرواحكم يا حبذا السفر
أبناء مصر أعيدو اليوم مجدكم
النيل يشهد والأهرام والأثر
قد كان مجدكمو فاق السهى وسما
إلى العلا منزلا يسمو له البصر
فبادروا بأداء الفرض واستبقوا
للإكتتاب بمال تحسن الذكر
فالجيش يحتاج منكم بعض ما ملكت
أيديكمو فأعينوا الجيش ينتصر
يا عالم الغيب عجل نصر دولتنا
واحفظ لنا تاجها يا من له القدر
إلى الأمير
بشرى فحجك للبلاد سلام
وبه تصافت مصرنا والشام
وبه سما الحرم الحرام وقد غدت
تعلو قواعده بكم وتقام
فالدهر عبدك والسنين أسيرة
والأمر أمرك والزمان غلام •••
جاء العزيز فمرحبا بقدومه
بالبشر عاد وثغره بسام
وافى فحل بأرض مصر مجدها
إذ أمها الإسعاد والإكرام
باليمن آب عزيز مصر مبجلا
يا طالما خفقت له أعلام
يا مصر تيهي واطربي واستقبلي
راعي بنيك فشهمنا مقدام
بالحج أتممت الفروض جميعها
يا خير من بسمت له الأيام
قد زرت مكة والنبي محمدا
منا عليه تحية وسلام
أرضا حللت يمج ريا عودها
للخصب أو نعمى يديك غمام
بك زينت أرض الحجاز لأنها
رأت الهلال وأمها الإنعام
فاهنأ بزورتك المدينة إذ بها
قبر النبي وصحبه الأعلام
أرض حباها الله منه رعاية
ممشى الملائك حفها الإعظام
فيها جنود الترك خير بواسل
من كل ليث دأبه الإقدام
هم خير من سلوا سيوفا في الوغى
وبهم يفوز الدين والإسلام
قوم حماة الدين يشهد بأسهم
أن الوغى للترك فيه غرام
أنعم بهم وبمجدهم وبملكهم
إذ بالتآزر أدركوا ما راموا •••
نلت المراد ونجم سعدك ساطع
بسماء مصر تجله الأقوام
والبشر لاح مهنئا بقدومكم
كالبدر نصف الشهر وهو تمام!
بشراك يا مصر فقد وافى الذي
دوما تروم بقاءه الأعوام
كم شاد (عباس) لنا بالعز في
أيامه يا حبذا الأيام
أيامه ضن الزمان بها على
من شأوهم في الملك ليس يرام •••
يا عهد (طيبة) إن مجدك فاقه
مجد لنا بأميرنا ووئام (رمسيس) هيا من سباتك كي ترى
في مصر ما لا تبلغ الأوهام (أحميس) أجليت الرعاة فكنت في
ذاك الزمان تظلك الأعلام (سيزوستريس) اليوم عهد غير ذا
ك العهد إذ ضاءت به الأفهام (ممياء) خوفو أيها الجسم الذي
عبثت به الأعوام والأيام
خلفت آثارا بمصر عجيبة (هرما) يشيب الدهر وهو غلام
قم من منامك (أبسماتيك) ترى
قد أرخت أعمالكم أقلام (يا نيخاؤس) اليوم أصبح قطرنا
من نوره السامي يزول ظلام
يا أيها الأملاك قوموا كي تروا
من للأريكة عززته كرام
إن كان مجدكمو (بمنف) قد سما
في (عابدين) اليوم جل همام
فاق السها فضلا ومجدا فعله
في النيل كم خضعت له أقوام •••
يا بدر حياك السرور فمرحبا
لعلاك في مصر يدوم سلام
عاد الأمير فحبذا يوم أتى
فيه لمصر المجد والإعظام
فاليوم تجدر بالقلوب مسرة
حيث الندى للبائسين يرام (مصر) بمقدمك السعيدش تشرفت
ولقد غدت غمدا وأنت حسام
والنيل فاض من السرور وأهله
بهمو إلى مرأى العزيز هيام
لا زال نجم علاك يزهو ساطعا
في مصر دوما ما سمت أهرام
وافيت والبدر التمام فأرخت
بشراي عود البدر وهو تمام
تشريف الأمير
إني أرى نور وادي النيل ينتشر
فهل صحيح بدا في برجه القمر؟
إني أرى الجو قد رقت نسائمه
حتي السما لمعت في أفقها الدرر
إنى أرى كل وجه بش مبتهجا
كأنما الغيث وقت الجدب ينهمر
إني أرى قلب وادي النيل في طرب
من السرور وعرف المسك ينتشر
إني أرى القطر قد غنت بلابله
والكيروان لرب الدار ينتظر
إنى أرى نسمات الصبح شافية
من السقام لمن قد شفه السهر
إني أرى النيل تغري النفس لذته
وماؤه ليس يعرو صفوه كدر
إني أرى مصر في أبهى مناظرها
كأنها جنة قد حفها ثمر
وكيف لا وأمير الشرق شرفها
فبعد أن أجدبت قد جادها المطر
يا مصر تيهي دلالا فالعزيز أتى
من كان للمجد والعلياء يدخر
وافى الأمير فلاح البشر مبتسما
وأسفر القطر عن عين بها حور
يممت نحو أمير المؤمنين لقد
نلت المنى برضاه حبذا السفر
أنعم به من مليك ساس دولته
وعز بالنصر مكتوبا له الظفر (محمد الخامس) المولى الرهيب ومن
ألقت إليه مقاليد النهى البشر
يا آل عثمان يا من عز نصرهم
تعنو الملوك لكم والدين يفتخر •••
الله أكبر عباس العزيز له
عند الخليفة ما يحلو به الأثر
أهلا به مقبلا من بعد رحلته
كأنه كوكب يسمو له النظر
طوبى لترب عليه اليوم قد وضعت
أقدامه فهو مسك أذفر عطر
يا منهلا قد تمتعنا بكوثره
إليك نشكو اشتياقا هاجه السفر
ولوعة أحرقت منا الفؤاد بما
وقاكموه قضاء الله والقدر!
جددت بالعود يا عباس بهجتنا
وأسعدت قطرنا آلاؤك الغرر
العود أحمد والعليا تؤرخه
يا مجد مصر أتى عباسك القمر!
تهنئة
البدر عن وجه البشاشة أسفرا
والجو رق نسيمه وتعطرا
والنيل من طرب المسرةش ماؤه
روى بلذته القلوب وأسكرا
وكواكب العلياء زاد وميضها
وعقودها أمست تفوق الجوهرا
وتجلت الهيفاء تلعب بالنهى
لعبا تباع به القلوب وتشترى
عصماء كل الكائنات غدت لها
أمة ترى من سعدها أن تؤمرا
شخصت إلى الزرقاء منها مقلة
أهدت إلى هاتور لحظا ساحرا
وعلت على عرش الجمال بعزها
فكست أديم الأرض ثوبا أخضرا
مر النسيم بها فحيا باسما
وجرى فحف بزهرها وتبعثرا
والتفت الأقمار تسطع حولها
كالخاتم الماسي زان الخنصرا
واصطفت الحور الحسان كأنها
نظم الصفوف يمجد الإسكندرا
وكأنني والسعد كان مرافقي
زرت الجنان وقد وردت الكوثرا
فسألت نفسي هل منام ما أرى
أم يقظة أم ذا خيال صورا؟ •••
هب النسيم فشاغلت حركاته
سنة الخيال وأبعدت طيف الكرى
فذكرت شهما قد دعيت لعرسه
في ذا المساء وحق لي أن أحضرا
بدرت إليه يد الزمان كأنها
وجدته مشغول اليراع مفكرا
نثرت عليه قلائدا من جوهر
جعلته نافس في الجلال القيصرا
وكسته من حلل المهابة بردة
لجمالها قام الزمان مكبرا
وسمت به عرش البلاغة فاعتلى
بفصاحة التعبير هامات الذرى
خاض القريض بفلكه حتى إذا
عبر السريع أتى يؤم الوافرا (الطاهر العشي) من نفحاته
في الشعر مسك قد يخالط عنبرا
الكاتب اللبق البليغ بيانه
الشاعر المطبوع مشدود العرا
شمس التقى وشعاع أقمار الهدى
وسليل مجد بالعلاء تفاخرا
روض بزهر علومه فاقت (قنا)
أترابها وغدت مكانا عامرا
حسناته نفد المداد لحصرها
وغدا اليراع لعدها متقاصرا
شغلت محاسن فضله وخصاله
أسبى مهاة للقلوب وجؤذرا
جمعت مكارمه مكارم حاتم
وأعاد هاطلها زمانا غابرا
يا من لجود يديه في أمواله
نعم تفيض على اليتامى أنهرا
في شأنه وجنانه ولسانه
وبنانه حكم تثير الشاعرا
لو أن موج البحر مس يمينه
لرأيت ماء البحر خالط سكرا
يا ابن الذي ما ضم برد كابنه
لا زال نجم علاك يبدو زاهرا
قد شدت سوقا للثناء ولم تكن
بأقل من سوق القريض مآثرا!
منك الشموس أخذن ضوء جبينها
وأتت تقود إلى الصباح العسكرا
صاغ النحاة اللفظ وقت نباته
وظللت تصلح فيه حتى نورا!
يا طاهر الأجداد أبلغ خاطب
قلم لك اتخذ الصحائف منبرا
لو أمكن الأقلام أن تسعى على
قدم لعرسك عز أن تتأخرا
من كل منبت شعرة لو كان لي
قلم يجيد الوصف كنت مقصرا
صبري إذا ما تم بدر قرانكم
وحلا له التاريخ قال مسطرا
بظريف عرسك طاهر وقدومه
أم السرور قنا وزار الأقصرا
في تهنئة محمود وهبي
رب ساعد على البيان لساني
في جمال قد ضاع فيه بياني
مبدع النثر والقريض أغثني
أنت عودتني رقيق المعاني
كيف أسلو هوى غزال رشيق
ماس عجبا بكأسه وسقاني
أضرم الوجد في الفؤاد سعيرا
وبسهم الجفون منه رماني
أهيف أغيد تملك لبي
في مجال قد راق فيه زماني
يستحي البدر أن يراه ويأبى
بدلال من البدور التداني
فاق شمس الضحى بضوء جبين
وقوام يزري بغصن البان
يا نسيم الصبا ترفق بقلب
بات يشكو من الأسى ويعاني •••
ساقي الراح هات بنت الدنان
من رحيق مزفوفة لابن حان
هات تبرا علاه در حباب
كنضار منضد بجمان
عاطنيها وغن يا بدر أنسي
واطرب السمع رحمة بجناني
وتفضل على الندامى بسؤر
من رحيق تعتقت في القناني!
رشفة الراح ما لها من مثيل
لعبت بالعقول لعب القيان!
هاتها يا نديم في الكأس تجلي
بين غناء روضة وأغاني
وغزال يرنو إلى كل كأس
بعيون واللحظ منه براني
نال منه الرحيق نشوة صب
منه مدت إلى الكوءوس يدان •••
يا حماة القريض هل من بليغ
ينظم الدر واصفا ما أعاني؟
ينظر البدر بين برج وبرج
هكذا البدر دائب الدوران
أشعل الجمر في فؤادي لما
غاب عني بحسنه الفتان
وتجلت لي الطبيعة تكسو
سندس الأرض حلة الأرجوان
مطلع الشمس أول المهرجان
يا سماء اكتسي خدود الغواني
شفق يفتن الشقائق في الرو
ض ويصبي قلوب حور الجنان
لونه يملأ العيون جمالا
ويثير السعير بالولهان
بينما كنت غارقا في خيالي
ولذيذ المنام قد عاداني
كان زهر الربى وطير الأراكي
ونسيم الصباح من ندماني
هبت الريح أحيت القلب مني
أنعشتني فضاعفت أشجاني
زف نحوي النسيم أحسن بشرى
وجرى للسويس يهدشي التهاني!
فتناشدت ذكر من رق طبعا
وغدا حائزا جميل المعاني
وترنمت عاش (محمود وهبي)
راقي المجد ما بدا الفرقدان
جاء وادي قنا وكان وكيلا
فامتطى الجد رغبة العمران
بات فيه حليم طبع كريما
معلي الحق مقسط الميزان
ناصرا للضعيف خير شفيق
باسم الثغر صادق الإيمان
جاذبا نحوه النفوس بفضل
وحنان يدعو إلى الإذعان
كوكب المجد نوره قد تجلى
في قنا فازدهت على البلدان
جاء بردا على قنا وسلاما
عاطر الذكر يستحق التهاني
شاد للأمن حصن مجد منيعا
زادها رفعة فصيح اللسان
وتجلى على المعارف فيها
فاستنارت بالعلم والعرفان
كم ديار للعلم عنها تخلى
هاطل الغيث فارتوت بالأماني
جادها الغيث فارتوى العود حتى
عم ماء الحياة بالعيدان •••
أصبح العلم شاكرا سعي شهم
رقى المجد فوق هام الزمان
مد وادي قنا إليه يمينا
ثم أبدى له مزيد امتنان
وتمشت قنا إليه وقالت:
دم بنيل المنى عزيز الشان
لست أنسى علاك ما اهتز غصن
بنسيم وما بدا النيران
كل من في قنا ومن في الضواحي
بين نائي الهضاب والوديان
إن يكن عز أمر بعدك عنهم
إذ ملكت القلوب بالإحسان
فصعود العلا لمثلك يدعو
كل قلب لأن يزف التهاني
أيها المولعون بالشعر جودوا
كيف لم يدعكم قريض دعاني؟
أيها الساكنون في الحوض بشرى
أن بدر العلا قريب التداني
أيها السيد العظيم لساني
لم يزل قاصرا عن التبيان •••
يا رعي الله يوم سافرت وهبي
من قنا والقلوب في خفقان!
حين هل القطار كنت محاطا
بلفيف الوجوه والأعيان
يرأس الكل خير شهم مدير
بات والسعد طوع أمر البنان
دم خليل العلا «محمد نايل»
يا عظيما يهابه الثقلان
يا كريما أتى يودع وهبي
عش ووهبي فأنتما آيتان
حين هم القطار مدت أياد
لوداع أجرى الدموع القواني
وتمشت بين الضلوع قلوب
هزها الوجد فاشتكت ما تعاني
آسفات لبعده راقصات
باسمات لفضله المزدان
غرد الطير فوق رأس جنود
أطربتنا بناعم الألحان
حين طار القطار يحمل وهبي
صاح جمع الأحباب: سر بأمان!
هام (صبري) به فأنشد يشدو
رب ساعد على البيان لساني
عام وهبي رقي قنا أرخته
أنت فرد حجت إليه الأماني
وداع
ألا من لي بنظم كاللآلي
أقلد منه أجياد الليالي
ومن لي أن أحليه بشكر
تضئ به فرائده الغوالي
وأهدي من محاسنه عقودا
لأهل الفضل أرباب النوال
رجال الخير أشراف السجايا
كرام العصر خطاب المعالي
فمنكم كل سمح أريحي
تحلى بالفضائل والكمال
ومنكم كل محترم شريف
كريم في العطايا والخصال
تجمعتم فألفتم قلوبا
وبرهنتم على حسن اتصال
وهذي ليلة أحييتموها
لذكرى من تبدى كالهلال
شريف العنصرين عريق مجد
كريم الراحتين عزيز خال
تزاحمت القلوب عليه حتى
تشاغلت العيون عن الغزال! •••
علقت به فتيمني هواه
وهمت به فأنعشني خيالي
دخلت بحبه بستان وجدي
فألفيت الطيور على الدوالي
تغرد والنسيم جرى بليلا
يحرك خصر ربات الجمال
تلاعب بالنفوس ذوات حسن
كحور الخلد ترمي بالنبال
كنسوة يوسف لما تجلى
يقطعن الأنامل بالنصال!
وقد بدت الكواكب مسفرات
تضئ من اليمين إلى الشمال
تباعد عن رياض القوم جفني
وهام بمهمه السحر الحلال
فخلت الروض للتمثيل دارا
تمثل فيه ربات الدلال
وفاق سناه نور البدر لما
تجلى حسنه فأهاج بالي
ترنم تحت غصن البان ريم
رشيق القد فتان الجمال
وأومأ باليمين إلي يرجو
حديثا قلت: أسرع بالسؤال
تمايل عطفه واهتز تيها
وأجرى ماء لفظ كالزلال •••
تجمعنا هنا لوداع شهم
يرى يوم الوغى يوم الوصال!
قضى في الجيش أعواما كسته
لباس النصر بالبيض الصقال
رقى بالجيش حتى نال مجدا
يذكره بساحات القتال
كأني قد سمعت شفاه قالت
وقد وثب الرعال على الرعال
ببيض الهند والسمر العوالي
غرامي لا بربات الجمال
وأفدي يوم أقتحم المنايا
بأهلي كلهم وأبي ومالي •••
أتى بعد الجيوش يدير سجنا
فأحيا أمنه طول الليالي
تنقل بينها شرقا وغربا
وسار من اليمين إلى الشمال
أسجن (قنا) لقد نلت الأماني
وبت بفضله في خير حال!
أتاك الشهم أصلح منك شأنا
فبت مفاخرا قمم الجبال
وبت بفضله مأوى حصينا
وكنت بعزمه أقوى الثمال
فإن تك قد سمعت بما تأتى
فإنك نادب حسن الخوالي •••
سيرحل قاصدا أسيوط حتي
يفاخر سجنها الشهب العوالي!
فودع فيه إنسانا عظيما
تهلل بالهناء وبالجلال •••
فدتك النفس يا من غاب عني
فغاب لبعده عقلي وبالي
ولكني سررت لأن هذا
سبيل في ارتقائك للمعالي!
وخذ معك الفؤاد فإن هذا
لخير هدية عند الرجال!
لأنا قد وجدنا فيك شهما
هماما لا يخاف ولا يبالي
وسافر (صفوت) الإحسان أنتم
كمال في كمال في كمال •••
أمقتبل أنا أم ذا وداع
وهل فرح أنا أم غاب بالي
إذا كان المدير أتى حديثا
فمالي قد سكت عن المقال؟
ألا أهلا به من كل قلبي
فنعم الشهم في أبهى مجال
ونعم الفرد رب العدل من قد
أضاء قنا فحيته الأهالي
نعم قد جاءها عطفا عليها
ليوصلها إلى أوج الكمال
في قطار
تقول لصبري أتنسى الهوى
وهل أنت تذكر ذاك الهناء؟
وقد أغمض الدهر عين التجافي
وغاب العواذل والرقباء
فقبلت شعرا كسود الليالي
ووجها منيرا كبدر السماء
ولما التقت مقلتانا بكينا
سرورا فيا نعم هذا البكاء
ولما التقت شفتانا ارتعشنا
لأن المحبة كالكهرباء!
أقبل خديك طورا وطورا
عيون المهى وجفون الظباء
وجيدا طريا وكفا نديا
ووجها تهيم به الأتقياء •••
ولست لأذكر كل الحديث
وخيبة قلبي وموت الرجاء
وأخذك مني المواثيق أني
أميت الهوى وأقيم الإخاء
أترضى بموت الهوى لفؤادي
وموت فؤادي بذاك الرضاء؟
وأنت الذي عذب القلب عاما
فأدمع عيني بنور الذكاء
عليك التحية يا نور عيني
تحية صب شديد الوفاء
تحية من أثقلته الزرايا
وحمله البعد كل الشقاء
أتنسى الوداع ودقات قلبي
أتنسى هوى ليلة الأربعاء؟!
وقد جئت تبكي بدمع غزير
وكنت تناجي إله السماء
ودمعك يروي ورود الخدود
وضاعف حسنك ورد الحياء
فخلت ملاكا تدفق لطفا
وأبصرت بدرا جميل الرداء
ولم تخش جمعا يموج كبحر
وأيقنت أن سيزول الهناء
تشجعت لما رأيتك تبكي
وفتت قلبي أليم النداء
ولما القطار بدا لم تعد
تشاهد عيني بهيج الضياء
وقطع قلبي دنو الفراق
وأظلم عيني نزول القضاء
رأيتك تسرع نحو القطار
كأنك ترجو دوام البقاء
ولما رأيت البقاء محالا
وأيقنت أن لا يفيد الدواء
وضعت يمينك فرق جبين
تبارك من خصه بالبهاء
وقلت: حبيبي أتترك قلبي
أسير الفراق شهيد الوفاء؟
أتذرف من نرجس العين دمعا؟
خليق بجفنك سفك الدماء!
تقريظ
إن الكتاب إذا حلا وازدانا
نعم السمير إذا أردت بيانا
يهدي إليك فكاهة ورواية
ويصون سرك إن أردت أمانا
تخلو به فترى صديقا مخلصا
كالبحر يحوي الدر المرجانا
وترى به روضا تمج غصونه
ريا وتشدو طيره الألحانا
ولئن بلوت مدارك الإخوان ما
غير الكتاب يقدم البرهانا
تتراوح الأسفار بين محدث
عما جرى للأقدمين وكانا
ومخبر عن رحلة ومنسق
عقد الدراري ينعش الأبدانا
ومنظم روض العلوم وباحث
عن كنه لفظ حير الأذهانا
بينا أطالع في العلوم وبحثها
ثملا بخمر حديثها ولهانا
إذ راق في نظري كتاب قد حوى
للمنشئين بلاغة وبيانا
قاما بجمع أصوله شهمان قد
نبغا فجاء يقوم العرفانا
ذا (أحمد) وأخوه نودي باسمه
اسما وعلما حكمة وجنانا
لله درهما قد اتفقا معا
صنوان حولهما الصفا قد رانا
يا باقة من زهر روضهما بدت
قد حزت إعجابا يدوم زمانا
قد لقباك لحسن سبكك مرشدا
للمنشئين فها زمانك آنا
كم فيك من حكم أتتنا آية
ستهذب الفتيات والفتيانا
إن كنت بكر بنات أفكار فلا
عجب إذا ربح الجواد رهانا
أنعم بمن وضع الكتاب ومن به
دار العلوم تحدث الركبانا
أهلا بمرشد أحمد السفر الذي
بوجوده روض العلوم ازدانا
صبري إذا ما تم قال مؤرخا
نعماه سفر عطر البستانا
يا عظيما
يا عظيما قد نال عزا ومجدا
لست أنسى نداك قربا وبعدا
كلما قلت أعتق الشكر رقي
صيرتني لك المكارم عبدا
فابق عمر الزمان كيما أؤدي
شكر إحسانك الذي لا يؤدى
أبعد الدهر بيننا لست أدرى
هل مرور الأيام يقطع ودا
أم نسيتم من لا يرى في سواكم
خير شهم لم يأل للخير جهدا
آن أن أحتسي ببابك كأسا
يا طبيبا قد حول المر شهدا
لا تضنوا على العليل بكأس
رب كأس تعيد للعيش عهدا
علمتني طلاقة الوجه منكم
أن أجيد القريض وصفا ووجدا
كيف لا والذي أرجى نداه
صاحب الفضل وهو أصدق وعدا
إن كف المعونة اليوم قصدي
فهي كف من هاطل الغيث أندى
عيل صبري وضاق رحب نعيمي
وسواكم لا يجعل العمر رغدا
لا عدمنا وجودكم في نعيم
ورقي ما اهتز طير وأشدا
فقيد الطيران
ما للمنون سطت على أسد الشرى
ما للضياء غدا ظلاما أعكرا
خطب دهى الأبطال في رحلاتها
بكت العيون له نجيعا أحمرا
رزء تفطرت القلوب لهوله
لبست عليه حدادها أم القرى
يا شرق ما لك كلما رمت العلا
حكم الزمان عليك أن تتقهقرا
يا شرق مالك كلما آن الشفا
خلع السقام عليك ثوبا أصفرا
يا شرق كنت إلى المعالي كعبة
وإلى المعارف كنت بدرا أزهرا
يا شرق مالك والكرى أعشقته؟
هلا علمت بحال من عشق الكرى؟
يا شرق أهداك الزمان حسامه
لما رآك بلغت هامات الذرى
خلفته في غمده حتى انبرى
من فرط ما لعب البلى وتكسرا
ماذا دهاك وهل منام ما أرى
أم ذاك في عيني حلم صورا
يا دولة الأسد البواسل ليتنا
كنا الفداء لمن غدوا تحت الثرى
يا شائدين الملك بالهمم التي
وقف السهى يرنو لها متحيرا
يا من ترون دم العدو مدامة
وشراب جيشهم الحديد الأخضرا
صعب علينا كل يوم نكبة
صعق الفؤاد لهولها وتسعرا
خطب تلا خطبا فضاعف حزنه
أبكى ضريح المصطفي والمنبرا
فلو استطعت قذفت حبة مقلتي
نحو الشآم لكي تشاهد ما جرى
خاض الفضاء سميدع في ملكه
شهدت به الريح العصيب غضنفرا
قطع البحار وما ثناه عجاجها
شهم يماثل في الجلال القيصرا
وعلا ربا (لبنان) فوق هضابها
فصبا شذا تلك الربوع وأسكرا
والتفت الأقمار تسطع حوله
كالخاتم الماسي زان الخنصرا
هبطت سفينته الشآم فشاهدت
بالبشر والترحاب عيدا أكبرا
أرض حباها الله منه رعاية
ساحاتها حوت المكان الأعطرا
تمشي الملائك حوله وأديمه
مسك يخالط في العبيق العنبرا
هتفت لرؤيته القلوب تقول يا (فتحي) لقد جددت مجدا غابرا
حملتك أكناف الرياح مطيعة
كرها كما حملت أخاك الطائرا
وقضى قصير الوقت بين ربوعها
حتى انقضى ما كان قبل مقدرا
سل الحمام على الحمام حسامه
فهوى صريعا مرغما فتحسرا
بكت النسور الجارحات على الذي
عرضت منيته له فتعثرا
عم الأسى والحزن جو صفائنا
والدمع فاض من المحاجر أنهرا
ما كاد ينضب دمع أول حادث
حتى فجعنا في همام آخرا
إنا لنعجب منك (نورى) كيف قد
لاحظت أن أخاك رام الكوثرا
فلحقته وصديقه متبسما
فرحا لأنك قد طلبت الجوهرا
وضممت جسمهما إليك وحولكم
جيش السماء مهللا ومكبرا
وسكنتمو بيتا تقادم عهده
نجدا حوى ملكا عظيما أشهرا
هذا صلاح الدين من غزواته
أهدت إلى العرب الكرام مفاخرا
يا أيها الشهداء هنئتم بما
نلتم من الفردوس فوزا أكبرا
إنا سنذكر عهد رحلتكم فقد
ضمت إلى التاريخ ذكرا عاطرا
يا مبدع الأكوان عزز جيشنا
واحفظ لنا تاج القيادة (أنورا)
علي أبو الفتوح
خل عنك الهوى وخل الأماني
كل حي إلا المهيمن فان
وانثر الدمع حول رمس فقيد
خلف الشرق باكي الأجفان
خلف العلم والمعاهد تنعي
بين حال الوسنان واليقظان
في سبيل العلا غمام تولى
رصعته كواكب الميزان
كيف ولى بحر العلوم وأبقى
ماء دمع العيون أحمر قاني
أين بدر العلا الذي قد ورثنا
عنه ما في الحشا من النيران
أين رب الأقلام يوم نداء
كعوالي الرماح يوم الطعان
أين من نال في قصير زمان
ما تناهى عن قدرة الإنسان
أين من أصلح الإدارة في مص
ر فباتت تموج بالعمران
أين من قام بالمعارف فينا
فنهضنا بالعلم والعرفان
كم ديار للعلم عنها تخلى
هاطل الغيث فارتوت بالأماني
جادها الغيث فارتوى الغصن حتى
عم ماء الحياة بالعيدان
أين ولى ذاك الهتون وخلى
مصر تخشى طوارئ الحدثان
فاتها والشباب لما تقضى
بل ذوى غصنه قبيل الأوان
مد روض العلوم منه يمينا
ثم أبدى له مزيد امتنان
وتدانت إليه مصر وقالت
أنت قلدتني عقود الجمان
لست أنسى نداك ما اهتز غصن
بنسيم وما بدا النيران
إن تربي حيال جسمي أدنى
أن يواري جلاله النوراني
فاسكن الخلد حيث تبقى عزيزا
بين حور الجنان والولدان
واترك الأرض لاهيا من عليها
وترفع عن رؤية الثقلان
إيه يا مصر قد فقدت عظيما
كاد يعليك فوق هام الزمان
إيه يا شعب قد نبا بك دهر
منه مدت إلى حشاك يدان
فأمالت من عرش روضك غصنا
كان من أصدقائه الفرقدان
بات جمع الزهور ينعيه حزنا
وادلهم الديجور بالأغصان
أيها الطالبون للعلم جودوا
كيف لم يرعكم قريض رعاني
من ثواني يراعه فوق طرس
فدموع الحزين تأبى الثواني
كيف لا يندب النجيب أباه
كيف يرضى لنفسه بالهوان
حول دور التهذيب سالت دموع
من جفون الفتيات والفتيان
يندب الكل حظ مصر ويشكو
جور دهر يسيء للإحسان •••
كلما شب من بنيها همام
مخلص القلب صادق الوجدان
أسرع الدهر نحوه فرماه
بسهام المخاتل الخوان
يا رجاء العيون في أرض مصر
ليس بدعا إذا بكا الهرمان
ليت كنا يوم الرحيل فداء
يا فقيدا قد فاز بالرضوان
كم ليمناك من أياد علينا
كنضار بدا لنا من جمان
غابت الروح عنك للعرش تسعى
تتهادى فرائد الإيمان
جاد مثواك يا علي غمام
دائب الصوب مفعم بالحنان
أيها الراحل المشيع منا
نم هنيئا في طيبات الجنان
أنت في جنة النعيم مقيم
وفؤادي عليك في النيران!
كل قلب لفقدك اليوم يبكي
آسفا نادبا صروف الزمان
واشكر الله قد تركت رجالا
منك نالوا محبة الأوطان
وتعطف على ذويه بصبر
يا قديم الوجود والغفران
رثاء
دهانا مصاب فادح الخطب مؤلم
له في السما والأرض قد بات مأتم
مصاب عظيم في عزيز شبابه
توارى يخضب ورد وجنته الدم
فيأيها المحمول فوق مواكب ال
ملائك والأطيار تبكي ترحم
ويا ثاويا لما نعوه لواضح ال
نهار توارى ضوؤه فهو مظلم
ويا من إذا ما الخطب أرسل جيشه
نراه شجاعا يلتقيه ويبسم
لسان تعود أن يقول صراحة
وقلب وديع بالتآلف مغرم
عزيز إذا ما حل بالبدر رزؤه
أو البحر ما كنا لذا الحد نندم
فواحزني لو أن حزني يرده
ووا ألمي لو كان يجدي التألم
أتاه الردى والقوس فارق سهمه
وقد كاد عنه في دجى النقع يحجم
أتاه الردى والسيف كان صديقه
فخر صريعا والجياد تحمحم
ذوى غصنه قبل الأوان فمزقت
قلوب لهول مصابه تتضرم •••
خليلي طوفا بالمدائن وابكيا
فإني أراها أوشكت تتهدم
وتلك الجبال المستقرات حولها
ستنسف في كف الردى وتحطم
وإن تسألاني عن زماني فإنما
لساني بما في صدره منه أعلم
فما اليوم إلا والعجاج تثيره
حوافر خيل النائبات فيظلم
وما شمسه إلا سيوف يسلها
فهل أغمدت إلا وأطرافها دم
تغير علينا كل يوم صروفه
فتنهب منا من تشاء وتغنم •••
ويا قبر يا من لا يرى الدمع إن جرى
عليه، ولا شكوى المحبين يفهم!
لقد بت أعلا منزل جاده العلى
ورواك غيث دائب الصوب مفعم
أعبد المجيد العيش بعدك علقم
أجل وبقائي في شقائي توهم
فلو كان سفك دمي يقيك من الردى
لجدت بروحي إذ حياتي تحرم
فنم آمنا أنت الشجاع وأنت من
ذهبت شهيدا في الجنان تنعم
تناجيك حور العين أنعم بضيفنا
عفيف شريف عاطر الذكر يكرم
فيا رب ألهم آله الصبر وارعه
وأسكنه دار الخلد فيها فيرحم
إلى زوجة راحلة
حول رمس تظله الأوفياء
وعليه ترفرف الورقاء
وغصون الاراك منحنيات
كالبواكي والأدمع الأنداء
ونجوم السماء تحجبها السح
ب وتبدو كأنها رقباء
وقفت غادة سماوية الوج
ه عليها من الضياء رداء
يستبي الناظرين منها جمال
لم تصف بعض حسنه الشعراء
إن بدا الوجه فالمساء صباح
أو بدا الشعر فالصباح مساء!
يحسب القلب حين ترنو بعين
أن ما في عيونها كهرباء
ولها من شجونها زفرات
محرقات من دونها الرمضاء
تلطم الجيد تارة وتدق ال
صدر طورا كأنها الخنساء
وتريق الدموع جمرا على الأرض
فتروى أعشابها الخضراء
وشكت حالها الطبيعة حتى
ركد الماء واستكن الهواء
وعلا ذلك المكان وقار
أنزلته على الضريح السماء
لهف قلبي على شريكة عمري
ذهب العز بعدها والوفاء
ليس لي بعد نأيها من حبيب
أرتجيه وليس إلا العزاء
كنت لي في الورى أعز مقام
دونه الفرقدان والجوزاء
كنت للغيد خير من عف طهرا
ولها جلة الورى أصفياء
يا زمان الشقاء لو عاتب الله
زمانا لكنت أنت الشقاء
لا يرى في بنيك واف بعهد
أو صديق إن حقت الأصدقاء
ذاك يسعى في قلبه أرقم الحق
د وهذا تهزه الكبرياء
حسد زائد وخبث شديد
وخداع وعيبة ورياء
يتوارون في النزاهة والصد
ق كما يستر الإناء الطلاء
ويشيرون بالدواء على من
حاز فضلا، كأنما الفضل داء
بك ضاع الجميل واشتهر النك
ث كثيرا وعمت البلواء
والمراءون فيك حطهم الو
د من الناس أحسنوا أم أساءوا
وإذا كان منك بعض كرام (كان أهل الحبيبة الأوفياء)
يا حياتي قد عيل بعدك صبري
ودهتني المصائب الدهماء
أبتغي الموت وهو غاية ما ير
جى دواء وليس فيه الدواء
أنت يا قبر قد حويت جمالا
وملاكا قد احتوته السماء
فتح الرمس فيه «زينب» غابت
كيف يا رمس منك يبدو الضياء؟
ودوى منه في المسامع صوت
رجعته الجبال والأدواء
إن هذي هي الأمانة ضمت
في ضريح به أخوها الوفاء
إن صبري حيال هذا ينادي
يا إله السماء أين العزاء؟
فيدورا
هيفاء زين خدها ورد الصبى
فتمايلت كالغصن حركه الصبا
حسناء طاهرة كزهرة روضة
ما مسها غير النسائم والندى
بيضاء يحدق شعرها بجبينها
فتريك وجه الصبح في غسق الدجى
نشأت وحيدة أهلها في قرية
كالزهر ينشأ زاهيا بين الربا
لم تدر غير الحقل والنبت الذي
يزهو عليه وورده الغض الجنى
والشمس غاربة تودعها متى
غابت وتلقاها متى لاح الضحى
والبدر تنظره فتحسب رسمها
فيه ويحسب رسمه فيها بدا
وقفت على باب الخباء عشية
كالشمس قد وقفت على أفق الضيا
وجرى النسيم بها يلاعب شعرها
حينا فيخفق مثلما خفق اللوا
وإذا بوقع حوافر في قربها
وفتى على سرج الجواد قد استوى
ذو قامة هيفاء تزري بالقنا
ولواحظ نجلاء تزري بالظبى
وقد انتضى سيف القتال ولحظه
أمضى وأفتك مقتلا مما انتضى
وعلى ملابسه الحلي لوامع
كالبدر في زهر النجوم قد انجلى
وافى فحيا باسما متلطفا
ودنا لها مستسقيا يشكو الظما
فمضت فجاءته بكأس وانثنت
ترنو لطلعته كما ترنو المهى
يحسو الشراب وتحتسي من حسنه
خمرا بها قلب الفتاة قد انكوى
حتى اكتفى وأعاد كأس شرابه
مملوءة بعد المياه من الثنا
ومضى فودعها وأودع قلبها
بدلا لبرد شرابها حر الجوى
دخل الهوى قلبا خليا لم يكن
يدرى الهوى حتى تملكه الهوى
فقضت دياجي ليلها في ظلمة
لليأس يوشك لا يضئ بها الرجا
يهفو النعاس بجفنها فيرده
ممن تملكها خيال قد سرى
حتى إذا ذهب الظلام وأشرقت
شمس الضحى تزهو على تلك الربا
وافى رسول من حبيب فؤادها
بهدية تهدى لربات البها
ودنا وقال: هدية من سيدي
تهدى لسيدتي! وسلم وانثنى
كانت جزاء للشراب وليت لم
يكن الشراب ولم يكن هذا الجزا
فلقد سبا قلب الفتاة صبابة
وهوى لذياك الجميل وما درى
كالقوس أطلق سهمه فجنى ولا
لوم عليه فليس يدري ما جنى
ما زال يذكيها الهوى ويذيبها
حتى غدت شبحا أرق من الهوا
وهوت على مهد السقام عليلة
تشكو الذي يبدو وتكتم ما اختفى
حار الجميع بها فلم يدروا لها
داء تكابده ولم يدروا الدوا
وأقام يندب والداها حسرة
وأسى وما يجدي التحسر والأسى
والظبي مخفية حقيقة دائها
وتقول لا أدري فذا حكم القضا
حتى إذا ذهب الظلام وأشرقت
شمس الضحى تزهو على تلك الربا
وافى رسول من حبيب فؤادها
بهدية تهدى لربات البها
سمعت بقرب الباب وقع حوافر
ورأت حبيب فؤادها منه أتى
وافي ولكن بعد ما انقطع الرجا
ووفى ولكن حين لا يجدي الوفا
وحنى عليها وهو يسأل جازعا
ويقول كيف أصابها سهم الردى
فرنت إليه بمقلة فتانة
وكسى اصفرار جبينها ورد الحيا
وتنهدت أسفا وقالت إن بي
سهما أصاب القلب من عيني فتى
هذا هو الداء الذي أقضي به
حبا وكم من عاشق قبلي قضى
فأجاب من هذا الفتى؟ فتناولت
مهداته بيد يصافحها الفتى
وربت وقالت عندما يبدو الضحى
وتكون روحي فارقت هذا الملا
إن شئت تعرف من قضيت بحبه
انظر إلى المرآة تلقى من جنى!
المنصورة
قل للغريبة عن أهل وعن بلد
وعن عزيز وعن صبر وعن جلد
هل تذكرين ليالينا التى سلفت
وليلة لست أنساها إلى الأبد
سرقت فيها من الواشين خلوتنا
ونلتها منك عن وعد يدا بيد
وبت لا ريبة أخشى بوادرها
كلا ولا عذل أخشاه من أحد
والنور في معزل عنا له لهب
يبدو ويخفى كفعل القلب ذي الحسد
وأنت في ثوبك الناقي البياض على
جسم نقي بنور الحب متقد
أرى عليه ضياء البدر منعكسا
يكاد يفضحنا في دارة البلد
أهوى إلى رشف ثغر فيه منتظم
يهدي لي النار من صفين من برد
وبيننا غزل رقت موارده
كأنه نغمات الطائر الغرد
شكوى تقطعها ما بيننا قبل
ولو أردنا سوى هذين لم نجد!
يهفو الفؤاد على آثارها طربا
حتى يناديه صوت: قف ولا تزد
صوت هو الطهر في لفظ العفاف بدا
والطهر خير صفات النفس والجسد
حتى رجعت بجسم عنك مبتعد
يشتاق عندك قلبا غير مبتعد
يا منهلا قد تمتعنا بكوثره
حينا روينا به لو دام ري صدي
ما كنت أرضى وصالا منك عن كثب
فصرت أرضى خيالا منك عن بعد!
وردة
لشخصك من زهر الربى لقب الورد
وهيهات ما للورد حسنك في الود
تفوقينه لونا وريحا ومنظرا
وبقيا على عهد الصبابة والوجد
فللورد شهر واحد ثم ينقضي
ووردك باق لا يزول عن الخد!
وللورد ريح واحد لا يجوزه
ونشرك ريح الورد والمسك والند
ويقطف كل زهرة الورد في الربى
ووردك لم يقطفه إلا أنا وحدي
وتعرى قدود الورد في العام مدة
وقدك دوما بيننا ضافي البرد
وتنشا غصون الورد مبلولة الثرى
ومنشاك في قلبى الذى جف من وجدي!
فسبحان من أنشاك شخصا وقد حوى
جنان رياض الخلد باسم من الورد
ناظك
من لغصن النقا بلين قوامك
أو لزهر الربى بحسن ابتسامك
من لقلبي بأن يعيش سعيدا
أو يذوق الردى شهي غرامك
من لدر البحار يخرج منها
يترامى نثرا على أقدامك
من لهذي الأفلاك تغدو سريرا
ودراريها وساد منامك
من لزهر النجوم يصبح منها
لك قرط أو حلية فوق هامك
من لبدر الدجى بحسن محيا
ك إذا ما أزحت عفوا لثامك
إليها
كم تكتمي عني هواك وأكتم
وتكلمت ما بيننا النظرات
فكفى كفى هذا السكوت لأنه
في الحب قد رفعت لنا رايات
علم الهوى أمسى يرفرف حولنا
كتبت لنا من فوقه آيات
لا تقطعي عهد المحبة بيننا
يا غادة سكبت لها العبرات
هي أشعر
أحبيب قلب تنظر
فدموع عينك تمطر؟
أم أبرق العلمين أم
هجر الحبيبة تذكر؟
أم راش قلبك جؤذر
أحوى اللواحظ أحور
أم هب من مصر صبا
أم طار برق أشقر؟
أم قد ذكرت سهولها
وهي البساط الأخضر؟
والنيل في أحشائها
عقد يلوح مجوهر
والجو صحو مشرق
وكأنما هو ممطر
هي وشي نسج نيلها
فيه الطراز الأحمر
هي جنة يجنى العلا
فيها ويجري الكوثر
أنا شاعر في وصفها
لكنما هي أشعر!
مطارحة
أتاني في قميص النوم يسعى
ملاك لي يلقب بالحبيب
وقد لعب الشراب بوجنتيه
فصير خده كسنا اللهيب
فقلت له لم استحسنت هذا
لقد أقبلت في زي عجيب
أحمرة وجنتيك كستك هذا
أم أنت صبغته بدم القلوب
فقال الراح أهدتني قميصا
كلون الشمس في وقت المغيب
فثوبي والمدام ولون خدي
قريب من قريب من قريب!
مدح
فتى كملت أخلاقه غير أنه
سحاب إذا استمطرته كان ناديا
فتى كل ما فيه يسر صديقه
وإن كان هذا ما يسوء الأعاديا
ثناء
علم الغيث الندى حتى إذا
ما حكاه علم البأس الأسد
فله الغيث مقر بالندى
وله الليث مقر بالجلد
مديح
تصلى عزائمه في قلب حاسده
نارا تجر عليه زائد الأود
إليك أرفع إجلالي وتهنئتي
لا زلت ترقى المعالي آخر الأبد
وصف الحبيبة
والذي زاد مقلتيك اقتدارا
أن (صبري) قد آنس اليوم نارا
يا غزالا رنا وغصنا تثنى
وهلالا بدا وبدرا أنارا
كان دمعي على هواك لجينا
فأحالته نار قلبي نضارا
لك جيد ومقلة تركا النا
س سكارى وما همو بسكارى
وثنايا أخذت من ريقها الخم
ر ومن لونها أخذت الخمارا
حلية لا أعيرها لمحب
لا يظن الوشاة إلا غيارى (القاهرة 18 يونيه 1911)
غزل
بدت في رداء الحسن باسمة الثغر
مرنحة الأعطاف محلولة الشعر
فقبلتها (تركية) حلوة اللمى
وعوذتها بالشمس والليل والفجر
أرى الشمس منها في العشاء منيرة
وإن خطرت ظهرا أرى النجم في الظهر!
سقتني سلاف الراح من لحظاتها
فصرت أجاري خدها نشوة السكر
تداويت من ألحاظها برضابها
كما يتداوى شارب الخمر بالخمر (15 إبريل 1912)
عزيزة الروح
عزيزة الروح جودي بالوفاء على
قليل صبر كسته الذل عيناك
أو فاتركيني أمت والله يرحمني
فرحمة الله تأتي فوق رحماك! (5 يونيه 1912)
صبري
يا رب قد قل صبري
وضاق بالحب صدري
واشتد شوقي ووجدي
وسيدي ليس يدري
مضاعف في عذابي
وليس يرحم صبري
إن كان تاه دلالا
ولست أملك صبري
أنا الذي لغزال
رنا فأشغل فكري (قنا 1921)
إلى صديق
لو كنت أهوى سواكا
ما كنت يوما أراكا
يا منيتي وعمادي
ما لي حبيب سواكا •••
عبد اللطيف تأكد
صبري غدا في اشتياق!
معذب في هواكم
يروم يوم التلاق •••
يا خير شهم همام
صبري غدا في هيام
فاعطف عليه ليشفى
من صائبات السهام
تطريز
زكي جمالا أنت فيه غنية
وتصدقي منه على المسكين
يا ظبية ألوت ديوني في الهوى
كيف السبيل إلى اقتضاء ديوني
ناديت كتم الحب بين جوانحي
حتى تكلم في دموع شئوني!
بالله لا تخفي علامات الهوى
كاد المحب بأن يقول خذوني!
الشيخ فهمي الصيرفي
الله يعلم ما بالقلب من شغف
يا صيرفي فمنك الحب يكفيني
فجد بعلم ولا تبخل علي به
يا كعبتي أنت بدر بات يهديني
تهنئة
لقد سرني فوز العزيز (محمد)
فلا زال دوما للمسرات غانما
فتى لبست منه الليالي قلائدا
أضاء بها الأفق الذي كان مظلما
أهنئكم من كل قلبي وإنني
أراني وإن أبدعت في الوصف ملجما
متناثرات في الهجاء
(1)
جهولا براه الله وابن جهولة
أرى الجهل طبعا في أبيك وفيكا
أبوك إمام الناس في الجهل كلهم
وأنت ولي العهد بعد أبيكا! (2)
يطول بقربك اليوم القصير
ويرحل إن مررت بنا السرور
صباحك للمبكر فأل سوء
ووجهك أربعاء لا تدور (3)
أتيت أسأل شيئا لا مدر له
والتيس من ظن أن التيس محلوب
رسالة
أين الحبيب الذي قد بات يشغلني
فراقه عن صفائي بين خلاني
أين الحبيب الذي نفسي له هبة
وحبه قد غدا (صبري) به هاني
أين الحبيب الذي (صبري) به دنف
قريح جفن أسير مغرم عاني
أين الحبيب الذي عندي له شغف
وكيف عني نأى أو زاد أحزاني
أين الحبيب (حسين) أين طلعته
يا ديب مهلا فمر الصبر أضناني!
أين الحبيب (حسين) أين بهجته
إني أخاف غدا إذ رب ينساني!
عني نأيت وخليت الديار ألا
ترثى لحالي فهذا النوم جافاني؟
فارقتكم وبودي لا أفارقكم
يا خير من أرتجيه يوم سلواني
فارقتمو مصر تصبو يوم أوبتكم
والدمع يجري غزيرا ملء أجفاني
قمتم على عجل والقلب في وجل
والدمع مسترسل يا خير إخواني
صبرا على ألف قد بات ينشدكم
يا ديب في روض أنس بين أغصان
سافرت في ساعة قد كنت أرقبها
وكنت أرجو وداعا دمعه داني
لكن أراد زمان الظلم يمنعني
قهرا فكدر عيشي ثم أعياني
يا ديب سافرتمو والقلب في ألم
من الفراق وأنتم خير ندماني
عاشق
ونزهت فكري في بدائع حسنها
فأزكى جمال جبينها النار في صدري
أما ونحيل الخصر إنك بالبكا
وبالسهد يا إنسان عيني لفي خسر
معنى بوسنان اللواحظ سارق
كرى مقلتي من حيث أدري ولا أدري
يجر بنون الصدغ قلبي للأسى
وما خلت أن النون من أحرف الجر
يقابل دمعي باسما فكأنما
ينظم ما أملت جفوني من النثر
وما لي لا أبكي على در مبسم
كما بكت الخنساء قبلي على صخر
وأجري عيون الدمع فائضة على
عيون المهى بين الجزيرة والجسر
للصباح
لا وأجفانك المراض الصحاح
لست أدري ماذا تقول اللواحي
ما درى من يلوم هطل دموعي
أن قلبي عليك دامي الجراح
يا مليحا عيناه قبلة حسن
سجدت دونها وجوه الملاح
لك شعر وقامة إن يكونا
راية فهي راية الأفراح!
وجبين إذا ذكرت سناه
بت أبكي صبابة للصباح!
مصر
سلبت عقلي بأحداق وأقداح
يا ساجي الطرف أو يا ساقي الراح
سكران من رشفة الساقي ومقلته
فاترك ملامك في السكرين يا صاحي
واطرح بحسنك أشباك الغرام فما
حملت وزري ولا كلفت إصلاحي
دعني إذا صح نجمي في هوى قمري
بحبة القلب أنشئ بيت أفراحي
بجوهر الكأس يجلو لي بها عرضا
ظبي يفدى بأموال وأرواح
يا مثري الخد بالمحمر من ذهب
دارك ضرورة محتاج ومجتاح
يا فاضحي في السهوى خال بوجنته
لقد لويت على عشقي بفضاح
ما أنس لا أنس لقيانا وقد غفلت
عين الهوى عن قريح العين طماح
قابلت شعرك بعد الوجه مبتسما
فأنعم الله إمسائي وإصباحي!
حيث الرضى في جبين الصب مكتئب
أيام لم يمح أسطار الصبا ماح
وحامل الكأس تحت الدجن يعملها
كأنه مدلج يمشي بمصباح
والرئم وان لكأس الراح يمزجها
يكاد يمسكه من قام بالراح
والآن كأس دموعي والتذكر أن
أعيي التذكر يشدو شدو إفصاح
يا عنبر الخال في ريحان سالفه
هل باب حبي مغلوق بمفتاح؟
أغر طامي بحور الشعر ناسبها
بفائض في بحور الشعر سباح
يا ليت شعري أهل في قصتي كلف
عنكم وها أنا أرويها لجراحي؟
رثاء
أقيموا فروض الحزن فالوقت وقتها
لشمس ضحى عند الزوال ندبتها
ولا تبخلوا عني بإنفاق أدمع
معندمة أكوى بها إن كنزتها
لغائبة عني وفي القلب شخصها
كأني من عيني لقلبي نقلتها
يقولون كم تجري (لزينب) باكيا
وما علموا النعمى التي قد فقدتها
ألا في سبيل الله شمس محاسن
وإن لم تكن شمس النهار فأختها
تعرفتها دهرا يسيرا فأعقبت
دوام الأسى يا ليتني ما عرفتها
وقال أناس إن في الدمع راحة
وتلك لعمري راحة قد نكرتها
هل الدمع إلا مقلة قد أذبتها
عليك وإلا مهجة قد غسلتها
نصبت جفوني بعد بعدك للدجى
وأما أحاديث الكرى فرفعتها
وقال زماني هاك بعد تنعم
كؤوس الأسى والحزن ملأى فقلتها
بكيتك للحسن الذي قد شهدته
وللشيم الغر التي قد عهدتها
كلانا طريح الجسم بال فلو درت
إذا ندبتني في الثرى من ندبتها
بروحي مهاة ضمها الرمس بعدما
تألف قلبي للغرام وقلبها
حبيبة قلب كنت مغتبطا بها
ولكن برغمي في التراب دفنتها
وآنسة قد كان لي لين عطفها
فلم يبق منها غير فاني خيالها
أنادي انهضي والترب بيني وبينها
يعز على (صبري) المتيم صمتها
كفى حزنا أن لا معين على الأسى
سوى أنني تحت الظلام بعثتها
وليس أمامي غير دمعي وها أنا
لجيدك من دمعي عقود نظمتها
قضيت فما في العيش بعدك لذة
وكل ليال بعد (زينب) يا لها
سلام على الدنيا فقد رحل الذي
تطلبتها من أجله وأردتها
غزل (1)
قفا نبك من ساجي اللواحظ أغيد
يصول بأسياف الجفون ولا يدي
غزال يناجيني بلفظ معرب
ولكنه يسطو بلحظ مهند
وقد روت عن لينه واعتداله
صحاح العوالي مسندا بعد مسند
إذا قعدت أردافه قام عطفه
فيا طول شجوي من مقيم ومقعد!
كلفت به من قبل ما طال قده
فطوله فرط العناق المردد
وعاينت من فيه العقيقي خاتما
فصغت له باللثم فص زبرجد
وحدثني من ثغره ورضابه
عن الجوهري المنتقى والمبرد
وكنت حذرت الخود حين تمردت
فأوقعني حظي لأمرد أمرد
يخيل لي أني له لست عاشقا
لأن ليس لي في حبه من مفند
ولولا الهوى ما بت بالدمع غارقا
عليه وأشكو للورى غلة الصدى
وألثم عطفيه وجفنيه بعد ما
قتلت برمح منهما ومهند
وأبصر فيما تحت صدغيه من سنا
خيالي خلوقا تحت محراب مسجد
ورب مدام من يديه شربتها
معتقة تدعو لعيش مجدد
إذا جئته تسعى إلى ضوء كأسه (تجد خير نار عندها خير موقد)
تحدثك الأنفاس فيها عن اللما (ويأتيك بالأخبار من لم تزود)
فشم بارقا قد خولتك ولا تشم (لخولة أطلال ببرقة ثهمد)
من اللاتي راقت في يمين مديرها
فلو أهرقتها الكأس لم تتبدد
مصفرة من حيث تم كيانها
تطاف علينا في إناء مجسد
فأحسن بها من كف ساق كأنه
غزال تجلى في وشاح مورد
إذا قهقه الإبريق في فمه انثنى
يمثل غصنا ماس تحت مغرد
كأن سنا الإبريق حول شرابه
حبال شعاع الشمس تفتل باليد
كأن بقايا ما نضا من كؤسه
أساور تبر في معاصم خرد
كأن مليك الفرس صور نفسه
على هامه عمدا فمن يدن يسجد
سقى الغيث عني ذلك العيش إنه
تولى هنئ الورد غير مصرد
وفرق إلا مهجتي وحنانها
وجمع إلا مدمعي وتجلدي
وبدرا سرى في طية السحب مسرعا
فيا صاحبي دمعا لعلك منجدي
وقال التسلي بعدنا لجفونه
سهرت زمانا يا نواعس فارقدي!
حبيب قسمت الشعر ما بين حسنه
فسبحان من وقاه شر الحواسد
فلا غزل إلا له في قصيدة
ولا مدح إلا للحبيب (المخلد)
غزل (2)
لا ورشف اللما ولثم الخدود
ما عذولي عليك غير حسودي
هائم في هواك مثلي ولكن
يدفع الوهم عنه بالتفنيد
يا مليحا (صبري) عليك تقضى
وفؤادي في النار ذات الوقود
لا تسل عن مسيل دمعي بخدي
قتل الدمع صاحب الأخدود
كل يوم تروع قلبا خليا
يا بديع السنا بحسن جديد
حبذا في سناك لام غرامي
لابتداء الهوى وللتوكيد
لك وجه يعزى له كل حسن
كاعتزاء العلى إلى محمود!
صدودك
صدودك يا حسناء عني ولا البعد
إذا لم يكن من واحد منهما بد
بروحي من حسناء عطف إذا بدا
على الغصن قال الغصن ما أنا والقد
وجيد قد استحسنت دمعي لنظمه
وفي الجيد يا حسناء يستحسن العقد
من الترك إلا أن بين جفونها
ألاعيب سحر لا يقوم بها الهند
على مثلها يكوى العذول وإنما
على مثلها تحيى الصبابة والوجد (عزيز) على (صبري) المعنى دلالها
كيف بها لم تدر أني أنا العبد كد
أعذالنا مهلا فقد بان حمقكم
وقد زاد حتى ما لعذلكم حد
وقلتم قبيح عندنا العشق بالفتى
ومن أنتم حتى يكون لكم عند؟
سمحت بروحي للمهاة فما لكم
ومالي، وما هذا التعسف والجهد
وثغر يتيم الدر سلم مهجتي
فأتلفها من قبل ما ثبت الرشد
هو البرد الأشهى لغلة هائم
هو الغيث أو نور الأقاحي أو الشهد
ومرشفه المن الذي لا يشوبه
خمول أو الراح الشمول أو النهد
عهدت الليالي حلوة بارتشافه
وتلك الليالي لا يدوم لها عهد
فلا ابتسم البرق المنير (جبينها)
غداة تفرقنا ولا لعلع الرعد
تولت شموس السعد عني ففي العلا
سناها وفي قلبي المعنى لها وقد
فيا قلب مهلا في التقطع بعدهم
وهذا لعمري جهد من لا له جهد
ويا دمع فض وخدا بذكر خدودها
فإنك ماء الورد أن ذهب الورد
رعى الله دهرا كنت ألهو بحبها
أروح إلى وصل (لزينب) أو أغدو
جوادي من الكاسات في خمرة الهوى
كميت وإلا من قوام المها نهد
وفي مهجتي بدر الجمال موسد
وقد قدحت للراح في خده زند
زمان تولى بالمليحة وانقضى
وما زال بالأكدار حولي له جند
فيا ليتني لم أبغ عشقك (زينب)
وشيمة (اسماعيل ) أن يصدق الوعد
ويا ليت يوما مال غصنك كان لي
كأيام حلم قبل أن ضمني المهد
سلام ...
حياة ابن آدم مهما تطول
خيالا تمر كلمح البصر
فيولد صبحا، وظهرا يعول
وعصرا يوارى فيمسي أثر
وما العيش إلا منام قصير
وما الدهر للناس إلا سير
فتقوى الإله وصنع الجميل
لأقوم زاد قبيل السفر
وأمر العلي لا مرد له
ومن دونه لا يفيد الحذر
ليجر القضاء بأحكامه
ومن يستطع عناد القدر؟
دهتني الليالي بأرزائها
فلازم جفني البكا والسهر
خدمت المعارف عهدا طويلا
أمينا وفيا حميد الذكر
مجدا نشيطا سليم القوى
حليف النجاح، حديد النظر
وبعد اجتهادي ثلاثين عاما
أحاطت حياتي غيوم الكدر
ومن كلف النفس فوق الذي
تطيق احتمالا سعى للخطر
لذلك كان لإرهاق عيني
من الحظ ما لم أكن أنتظر
خبا النور عن مقلتي فانتهت
حياة اجتهادي بفقد البصر
سلام على يانعات الربيع
سلام على باسمات الزهر
سلام على طلعة النيرين
سنا الشمس حسنا وضوء القمر
سلام على ما حواه جمال
تحلت به متقنات الصور
سلام على نابغات الفنون
سلام على عبقري الفكر
سلام على خطرات النسيم
بروض العلوم، وجني الثمر
سلام على حالياتي اللواتي
لها في الثقافة ذكر عطر
لقد ضاع حقي الذي قدروه
كما ضاع مالي الذي أدخر!
أيرضى الإله؟ ويرضي النبي؟
ويرضيك أنت؟ ويرضي البشر؟
استنهاض
أيها الشرق تيقظ
واهجر اليوم الهجوع
هاهو المجد ينادي
وهو يبكي بالدموع
أين أبناء بلادي
أين سكان الربوع
قاوموا الجهل وهبوا
ألبسوا العلم الدروع
واطردوا من بات يسعى
نحو تفريق الجموع
كلكم عرب كرام
كلكم يأبى الخضوع
آية الله تجلت
فهي في أجلى سطوع
فاعملوا للمجد دوما
واتركوا ذل الخنوع
بلغوا مصر التهاني
بعد تسكاب الدموع
فهي عنوان الأماني
أو كشمس في الطلوع
وهي في الدنيا عروس
حليها تلك الزروع
أهلها امتازوا بلطف
ذكرهم مسك يضوع
حبذا النيل بمصر
حبذا هذي الربوع
تحية
بأبلغ لفظ روته العرب
أحيى احتراما رجال الأدب
يرحب قلبي بفن الأغاني
وكل مجد إليه انتسب
تطيب النفوس بفضل الغناء
ويذهب عنها الأسى والتعب
تنير العقول وتحيى القلوب
وتعطيك نشوة بنت العنب
بنى الفرس مجدا أضاءت به
نجوم الأغاني سماء الطرب
وأخرجت الدر من كنزها
ومن بعدهم هذبتها العرب
وللترك فخر بما أجهدت
ونالت من الفوز أسمى الرتب
أذاع لها الفن أسراره
وكل الأماني لها قد وهب
وأثمر في مصر روض الفنون
وسر التقدم منها اقترب
وها قد تجلت لنا همة
تبرهن أن العلا مكتسب
هنيئا لمصر بأبطالها
كبار النفوس كرام الحسب
رجال دعاهم لحب المعالي
فخار جدود أتوا بالعجب
بكل الفنون سموا وارتقوا
وها هو يشهد فن الطرب
إلى المجد يا مصر في عزة
وتحيا الأغاني ويحيا الأدب
تكريم
دعاك حبك للعلياء والرتب
إلى اكتشاف كنوز العلم والأدب
أجهدت نفسك بحثا عن جواهرها
ونلت بالجد منها غاية الأرب
حتى وصلت بساتين الفنون وقد
قامت تحييك فيها زهرة الطرب
عشقت فن الأغاني واتجهت له
وما بخلت بما أنفقت من ذهب
كان اختيارك للفن الجميل هدى
لكشف سر كنوز الفرس والعرب
قضيت عشر سنين في دراسته
ولحظة عنك بدر الفن لم يغب
وفي اغترابك كم قاسيت من ألم
جميل صبرك فيه آية العجب
ثبات عزمك (ياحفني) أتاح لنا
سر التقدم معصوما من الريب
هذا اجتهادك قد جلت موارده
وذا ذكاؤك باد غير محتجب
جددت في الغرب للمصري منزلة
في العلم كانت تسامي أرفع الشهب
أكسبت مصر فخارا نعم ما وضعت
يداك في عالم الأنغام والطرب
فاقبل تحيتها واعمل لرفعتها
وانفع بفنك فيها كل منتسب
لا زلت للوطن المحبوب نجم هدى
تضيء بين رجال الفضل والأدب
مصر
مصر العزيزة تاهت فيك أشجاني
زدني هياما بها يا طائر البان
قم فوق أهرامها واصدح بما نظرت
عيناك من ساحر منها وفتان
يا درة في جبين الدهر لامعة
يا كعبة العلم للقاصي وللداني
آثار مجدك لا زال الشباب بها
في عنفوان وريعان وسلطان
يا مصر تيهي فربات القصور بنت
لخالدات المعالي خير بنيان
ما زال قدرك يسعى المادحون له
بالمبدعات، بألباب، وآذان
الجزء
غزل الأغاني
ستريس
عذراء منف
يا من عواطفها تفيض حنانا
غذي القلوب ورجعي الألحانا
يا ربة الصوت الشجي حنينه
رنات صوتك تبعث الأشجانا
شيدت صرحا للزمان مقدسا
مغني الأوائل فارفعي البنيانا
بسمت أغاريد الأغاني عندما
صدح الهزار فجددي الأزمانا
جذبت عواطفك القلوب فأقبلت
فرحى تحي الفن والوجدانا
فإذا شدوت صرفت عن ألم الهوى
قلبا أسيرا حائرا ولهانا
ومنعت عن مضنى الغرام عذابه
وكأن خفق فؤاده ما كانا
وإذا بسمت بعثت أحلام المنى
وبدا السرور فبدد الأحزانا
وإذا خطرت ملأت أنفاس الصبا
صيبا وأخجل قدك الأغصانا
وإذا نظرت تكشفت لغة الهوى
عن سحر معنى أذهل الأذهانا
لغة تفهمت العواطف سرها
أم اللغات فصاحة وبيانا
شفتاك يحيي الميت در حديثها
وتبدل الخوف الشديد أمانا
عصماء حصنها العفاف وزادها
عز الحجاب صيانة وجنانا
حسن تمنع عن مطامع عاشق
دنف تشبب ساهرا نشوانا
خد تقبله النسائم وحدها
يسبي البدور ويفتن الإنسانا
سهرت سيوف اللحظ تحرس ورده
وإذا غفت تستنجد الأجفانا
ومقبل عذب شهي ورده
تخذ الوصول المستحيل مكانا
وجه حباه الحسن أجمل صورة
جعلته بدرا ساحرا فتانا
يا منتهى الآمال قلبي لم يعد
من سقمه يتحمل الكتمانا
والدمع لم يترك جفوني لحظة
ليلي نهاري باكيا حيرانا
فإلام وجدي والسهاد ولوعتي
وإلام ألقى في هواك هوانا
هذا فؤادي بعته لك راضيا
وصلا حكمت عليه أم هجرانا
فإذا منحت له الحياة فإنني
صب وإلا فامنحي الغفرانا
هو القدر!
تمنت جفوني أن ترى النوم لحظة
ولم تدر أن القلب لم يستطع صبرا
وكيف ينام الجفن والفكر ساهر
تشاغله النجوى وتحرقه الذكرى
إلى الله أشكو حرقتي وصبابتي
وسهدي وآلامي ومهجتي الحيرى
ظننت دوام الحب حلوا كما بدا
وسرعان ما صارت حلاوته مرا
فيا ليت قلبي خالف العين في المنى
ويا ليت عيني لم تذق للهوى خمرا
هو القدر الجاري على مهج الورى
إذا شاء من يعصي لأحكامه أمرا
تحملت ما لا يستطاع احتماله
وعانيت وجدا حير القلب والفكرا
أحاول أن أخفي لهيب محبتي
ويرفض دمع العين أن يكتم السرا
فيا قلب لا تجزع ويا نفس أملي
بلوغ المنى فالعسر لن يغلب اليسرا
سأبقى وفيا حافظ العهد صادقا
أمينا وربي يعلم السر والجهرا
العاشق
إذا لم يرج شفاء العلل
تمنى العليل دنو الأجل
وأي عليل كمضني الهوى
جريح الفؤاد صريع المقل
حليف السهاد بعيد المنى
قريح الجفون ضعيف الحيل
تعدى السقام على جسمه
وفوق الذي يستطيع احتمل
تمر الليالي وطيف الكرى
عن الجفن عمدا نأى وارتحل
فيا للهوى كم أذل الأسود
وأخضع للحب قلب البطل
بقاء الوفي على عهده
أمينا ينيل بلوغ الأمل
فإن فاز عاش سعيد الحياة
وإن لم يوفق شهيدا رحل!
عيون وعيون
قوة السحر في عيون العذارى
زادت الحسن والدلال اقتدارا
وأضافت إلى الجمال جلالا
صير الناظرين حيرى سكارى
وإذا تم في المشيئة أمر
من عساه يعاند الأقدارا
يا سهام الجفون كفي فهذي
مهج العاشقين جرحى حيارى
نالني من نبال لحظك سهم
طائش العقل قد تعدى وجارا
صال في مهجتي فمزق قلبي
وانبرى في الحشا ظلوما أغارا
ورماني في لوعة الوجد حتى
ضاق صدري ولم أجد لي اصطبارا
كان دمعي يجري لجينا فأضحى
من لهيب الهوى يسيل نضارا
حالف السهد مقلتي طول ليلي
والليالي تجدد الأفكارا
يا نعيم الوصال رفقا بصب
أضرم النأي بين جنبيه نارا
حيرة
بربك ما الذي أقصاك عني
وما تبغين من هذا التجني؟
نواحك حارت الأفكار فيه
بكاء يا حمامة أم تغني؟
شدوت فمالت الأغصان عجبا
ويعجبني من الغصن التثني
وجددت الحياة إلى فؤادي
وقلب الصب يحييه التمني
حنينك صير الدنيا خيالا
ومكن شاردات الفكر مني
سلي الأقمار عن دقات قلبي
وعن نومي وكيف جفاه جفني
نجوم الليل تعجب من سهادي
وتعلم صادق الأخبار عني
يساهرني النوى فيزيد وجدي
ويحرقني الجوى فتجود عيني
سقامي لوعتي دمعي أنيني
تهدم قسوة ما كنت أبني
سأحفظ يا حياة الروح عهدي
لأني قد وهبتك حسن ظني
لواعج
قد أودع الحب لحظيك ابنة العنب
لما تقرب منك الحسن بالنسب
وناولتك كنوز السحر معجبة
سر الجمال وتاج الطهر والأدب
تستر البدر خلف السحب من خجل
لما رأى الشمس تبدي آية العجب
بالله يا نسمات الصبح أين أرى
من بات قلبي لنجواها على اللهب
يا ليلة لست أنسى ما رأيت بها
خيال ذكراك عن عيني لم يغب
ويا ملاكا رماني قوس حاجبه
بمرهف من سيوف اللحظ ملتهب
أصاب قلبا بريئا لم يكن أبدا
يدري الغرام ولم يأنس إلى الريب
قد شاغل الحسن عيني واستباح دمي
فالقلب في الحرب والعينان في اللعب
سطا هواك على جسمي فأتلفه
والحب يفتك فتك النار بالحطب
سهدي أنيني دموعي لوعتي سقمي
لواعج عرضت قلبي إلى العطب
إني على العهد باق لا أضيعه
عساي بالصبر ألقى غاية الأرب
إليها
يا نسيما حملت طيب الأغاني
سر إليها وصف لها ما أعاني
عجب الروض واختفى الطير لما
وقف البدر وقفة الحيران
يا حنينا ملكت سمعي وقلبي
أنت كالسحر في عيون الحسان
كنت أغشى الغرام حتى رمتني
في شباك الهوى وعود الأماني
إن للغيد في الغرام دلالا
كم محب غدا صريع الغواني
أتلفت مهجتي وأدمت فؤادي
غادة سهم جفنها قد رماني
يخجل البدر أن يراها وتأبى
بدلال من البدور التداني
أين ألقى يا دهر من غادرتني
بين حال الوسنان واليقظان
أنت أشهى من الكنوز وأحلى
من نسيم الحياة في وجداني
إن طول النوى أعد لجسمي
من ثياب الضنى نحولا كساني
أشعلي النار ما استطعت فقلبي
لم تروعه زفره النيران
أنا راض بما أردت حياتي
أو مماتي حيث الوفاء دعاني
وهبتك قلبي
لمن أشتكي يا ليل باسمة الثغر
وما نالني منها من البعد والهجر
ليالي الهنا ولت سراعا وخلفت
فؤادي لذكراها يبيت على الجمر
سقى الله أيام الهناء التي خلت
من السحب أحلى ما يسيل من القطر
إليك اشتياقي ربة الحسن إنني
وحق الهوى ما بات غيرك في فكري
تطول الليالي والسهاد ملازمي
وسيل دموعي من لهيب الجوى يجري
سلي الليل هل جفني يرى النوم لحظة
وهل غير أناتي بجوف الدجى تسري
وهل أسهر الليل الطويل مسامرا
سوى ساريات النجم أو طلعة البدر
رعى الحسن ثغرا في محياك باسما
تبدى كبدر التم في ليلة القدر
وأهدى الجمال السحر عينيك معجبا
بما فيهما من فاتكات الهوى العذري!
وهبتك قلبي عند أول نظرة
وشاهد حبي عالم السر والجهر
سأحفظ في قلبي عهود محبتي
ومن غيرها يا حب عوني على الدهر
وأصبر مهما أتلف الصبر مهجتي
ولو أن في طول النوى ضيعة العمر
راقبوها
راقبوها خوف التأوه حتى
لا يذيع النسيم سر هواها
وأراقو دم المحاجر منها
قسوة حين أسرفوا في أذاها
وأعدوا لصفوها كل كيد
وادعوا أنهم أرادوا صفاها
وأقاموا من العيون شهودا
ساهرات تعوقها عن هناها
عذبوا قلبها الكليم المعنى
وأهاجو بين الضلوع جواها
فارق النوم جفنها وتوارى
نور آمالها وطيف مناها
وتعدى السقام ظلما عليها
فبكاها رغم التشفي عداها
نال منها الضنى فصارت خيالا
بعد أن أحرق اللهيب حشاها
أقسمت أن تصون للحب عهدا
وتقاسي العذاب مهما ضناها
بات طيف الكرى مناها وأضحى
واله الصبر زادها وعزاها
مثلت آية الوفاء فضحت
كل ما عز في سبيل وفاها
علمت أطهر القلوب غراما
أنما الصبر خير ورد سقاها
زهرة الحب أشرف الزهر نبتا
أبد الدهر لا يضيع شذاها
هكذا يرفع الغرام نفوسا
طاهرات قد أخلصت في هواها
سحر الجمال
تاهت بسحر جمالها عيناك
لما تملك في القلوب هواك
لعبت بميدان الغرام سيوفها
وهوت مواضيها على قتلاك
ردي عن المهج السيوف فقد جرى
بدم القلوب توردا خداك
يا ربة الوجه الجميل تدللي
ما شئت كل العاشقين فداك
قسما بمن جعل القلوب لك الفدا
وبفاتن الحسن البديع حباك
أنت الرجاء لعين صب ساهر
هجر المنام جفونه لنواك
يا من على الدنيا تتيه بحسنها
إن الجمال لملكه ولاك
لا تمنعي عني لقاءك وارحمي
صبا يجود بنفسه ليراك
وجدي وما بالقلب من ألم النوى
نار تجدد دائما ذكراك
جودي على أوفى محب ما له
سلوى على الدنيا بغير رضاك
شكوى
إلى الحب أشكو حبيبا هجر
وعلم جفني البكا والسهر
ليالي هنائي عجيب لها
تمر سراعا كلمح البصر
تطيل الليالي صروف النوى
وتمنع عني ضياء القمر
عيون تكامل فيها الجمال
تبارك من زانها بالحور
تداعب بالسحر مضنى الهوى
فتكشف من سره ما استتر
يمر فينعش ورد الصبى
على وجنتيك نسيم السحر
ترامى الغرام على مهجتي
وقد كنت منه شديد الحذر
فأودع قلبي لهيب الجوى
ومن يستطيع عناد القدر؟
سلي الليل عن لوعتي إنه
أمين فيروي صحيح الخبر
عشقتك لما دعاني العفاف
وفرط الجمال وسحر النظر
تعالي انظري كيف كاد الهوى
لأوفى محب أمين صبر
فؤادي يرضى بما تحكمين
ولو أن ما بي يذيب الحجر
يا عيونا
يا عيونا تملأ الدنيا غزل
إن سر الحب في سحر المقل
لست أنسى نظرة قد أودعت
في صميم القلب نيران الأمل
صوبت عيناك سهما نزعه
من فؤادي لم تفد فيه الحيل
لك وجه جل من صوره
فتن الحسن به لما اكتمل
يا جمالا كل أقمار السما
غيرة منه تولاها الخجل
نار حبي أبعدت عني الكرى
أسقمتني، مكنت مني العلل
أسهر الليل حزينا حائرا
لست أدري في غرامي ما العمل
مدمعي، سهدي، أنيني، لوعتي
كلما طال النوى أخشى الملل
والذي أعطاك لحظا ساحرا
وجمالا صار للحسن المثل
لو كنوز الأرض كانت بدلا
من محياك لما اخترت البدل
فاذكري صبا وفيا هائما
واعلمي أن سبق السيف العذل
إليك وفائي
إذا أنكر الحسن البديع حنيني
فهل ينكر الليل الأمين أنيني؟
سلي ساريات الليل عن سهد مقلتي
ونيران أحشائي وسيل جفوني
وما حل في قلبي من الوجد والجوى
وقد مكنت مني السقام شجوني
خطرت فحملت النسائم نفحة
من الطيب زادت في هواك جنوني
وأسفرت عن وجه تكامل حسنه
بطلعته نورا ملأت عيوني
وأرسلت سهما من لحاظك فاتكا
أصاب هوى قلب عليك أمين
سعير سرى في مهجتي فأذابها
ومن حر آهات الغرام يقيني
ظننت الهوى سهلا ولم أدر أنه
هوان لقلب العاشق المفتون
تكتمت حبي غير أن مدامعي
تبوح بسر في الفؤاد مصون
تعلم جفني السهد من روعة النوى
وتاهت بأبراج الخيال ظنوني
كساني ثياب السقم عهدك فارحمي
فؤادا بما يرضيك غير ضنين
إليك وفائي إنني صابر لما
قضته يد الأقدار فوق جبيني
حرب!
بين قلبي وسحر عينيك حرب
أشعل النار فيه وجد غرامي
فارفعي السيف يا جفون ويكفي
ما بقلبي من صائبات السهام
يا جمالا تملك القلب مني
أنت شغلي في يقظتي ومنامي
يا رجاء العيون إن دموعي
شاهدات بلوعتي وسقامي
ضاع نومي وحاربتني همومي
وكستني ثوب الضنى آلامي
إن جسمي يكاد يخفي نحولا
من زفير الجوى وسطو الهيام
أسهر الليل سابحا في خيال
أيقظته من نومه أحلامي
أرتضي المر في هواك وعندي
كل شيء يهون حتى حمامي
فاذكريني وخففي نار وجدي
أنت قصدي وغايتى ومرامي
القلب القاسي
القلب من نار الهوى يتألم
والعين في روض المحاسن تنعم
كل الحسان قلوبهن رحيمة
ما بال قلبك قاسيا لا يرحم
عيناك ساحرتي وحسنك فاتني
وسيوف لحظك في دمي تتحكم
يا من أرى الدنيا بقربك جنتي
قلبي أسير في هواك متيم
لم أنس أول نظرة كانت لها
شفتاك يا هبة السما تتبسم
من سحر جفنك قد تعلمت الهوى
إن العيون بسحرها تتكلم
ما حيلتي والجفن حالفه البكا
والدمع غاض وفاض من عيني الدم
قد راعني سهد وأتلف مهجتي
والسقم أعلن ماله أتكتم
إن كنت لا أشكو إليك صبابتي
يا منتهى أملي لمن أتظلم؟
أين العهود
أين الليالي اللواتي سببت سقمي
يا ليلة بعدها عيناي لم تنم
مرت كطيف خيال كان يسعدني
لو دام لكنه ويلاه لم يدم
يا نظرة أرسلت سهما إلى كبدي
فبات من جرحه في ثورة الألم
سرى الهوى كلهيب النار في جسدي
فالقلب في حرقة والجسم في سقم
سهدي حنيني عذابي لوعتي لهفي
دموع عيني غدت ممزوجة بدم
يا ربة الحسن إن لم ترحمي سقمي
لا بد يوما تعاني زفرة الندم
أين العهود اللواتي عللت أملي
لو طال هجري لأفضت بي إلى حكم
إني على العهد مهما طال بي أمدي
وحق من علم الإنسان بالقلم
جفون
يا جفونا أشكو إليها الغراما
جرح القلب فاستردي السهاما
أصبح القلب للجفون أسيرا
يشتكي الوجد والأسى والهياما
يا مهاة تجمع الحسن فيها
وحباها الجمال منه ابتساما
كم لعينيك من مواقف سحر
علمت صامت العيون الكلاما
لك لحظ وطلعة وقوام
ودلال أنسى الجفون المناما
كل بدر يتم في الشهر يوما
ومحياك في التمام دواما!
نار حبي ولوعتي ودموعي
أورثت مهجتي الضنا والسقاما
إرحميني إن شئت أو عذبيني
أقسم القلب أن يصون الغراما
أضرمي النار إن أردت عذابي
أو فقولي يا نار كوني سلاما!
دولة الحسن
في دولة الحسن بين اللحظ والتيه
يبدو الجمال الذي بالروح أفديه
إن الجمال سلاح الغانيات به
تسطو على قلب ولهان فتدميه
يا نظرة أرسلت نار الغرام إلى
قلبي فبات وجمر الحب يكويه
بالله مرحمة يا خير من جمعت
جواهر الحسن في ثوب من التيه
لا تسألي عن غرامي فهو لي حزن
وللصبابة سر لست أبديه
أبيت ليلي حزين القلب مكتئبا
ومدمع العين قد جفت مآقيه
ألازم السهد طول الليل في أرق
حتي أرى الصبح يحييني تدانيه
ما أجمل الصبر في ذل الغرام وما
أحلى رضا شادن قلبي يناجيه
حاولت إخفاء حبي عن عوازلها
لكنما دمع عيني كيف أخفيه؟
معللتي
معللتي من ليس لي غيرها شغل
هنيئا لعين لحظة منك لا تخلو
ألم يكف ما عانيت من ألم الجوى
وكل عذاب في غرامك لى يحلو
خطرت فحيتك الورود تبسما
وسلمت الأغصان وانتعش الظل
وحسنك فتان ولحظك قاتل
وقدك ما بين الغصون له العدل
جرى الحب يزجي في دمي نار وجدها
ويكذب من قد قال إن الهوى سهل
فهذى دموعي شاهدات بلوعتي
وعن طول سهدي يسأل النجم والليل
كأن سهادي بات يعشق ناظري
فبينهما في كل هجر لنا وصل
وما كنت أدري قبل فتك جفونها
بأن سهام الحب ليس لها عقل
وكم أرسل السحر الذي في لحاظها
سهاما بها مات المحبون من قبل
تملك مني الوجد حتى أذابني
ومهما انسلى جسمي فحبك لا أسلو
متى اللقاء
تعبت من السهد الطويل جفوني
وشكت من الدمع الهتون عيوني
واشتد ما بي من تباريح الهوى
حتى جرى يشكو الغرام أنيني
وأحاطني جيش الدجى بسكونه
فتراكمت حولي هموم شجوني
يا ليل أنت عرفت سر صبابتي
بالله بلغ لوعتي وحنيني
صف ما أعاني في سكونك من أسى
واذكر أليم مواجعي وابكيني
واشرح أمينا للحبيبة حالتي
فعسى حنان فؤادها يشفيني
يا من وهبتك عن رضاء مهجتي
ودمي وروحي والكرى هنيني
لم أستطع إخفاء طيفك لحظة
عن ناظري فمتي اللقاء؟ عديني!
قسما بمن جعل النفوس لك الفدا
سأصون عهدي في الهوى ويميني
فدى لك روحي
تعالي فقد آن الوداع تعالي
نهيم بأيام لنا وليال
أمد يميني للوداع وبعدها
أشد إلى وادي الخلود رحالي
سطا حبك القاسي فأتلف مهجتي
وجار على قلبي وأشغل بالي
سلي الليل عن دقات قلبي وحرقتي
وكم شتت الهجر الطويل خيالي
أساهر أشواقي إليك ومدمعي
يسيل دما من لوعتي وملالي
ظننت الهوى سهلا فلما تمكنت
لواعجه مني تغير حالي
تحملت فوق المستطاع من الجوى
ومن يحتمل ما راعني وجرى لي
وهبتك قلبي فاذكري عهد حبنا
غرامي تقديس بغير وصال
أودع فيك الطهر يا غاية المنى
فدا لك روحي والفؤاد ومالي
جوابها
إذا راعني ليلي بجفن مسهد
علقت بأهداب الخيال المشرد
وبت وحراس الكواكب سلوتي
عيون سهيل في الدجي وعطارد
وعني اختفى طيف التي كنت دائما
على نورها الهادى أروح وأغتدي
كحبلة طرف أخجل البدر وجهها
جمالا فأبدى رهبة المتعبد
إذا ما بدت بين الكواعب مثلت
عقود اللئالي تزدهي حول فرقد
هي الدرة العصماء من نظرت له
رمته بسهم صائب ومهند
سبي حسنها قلبي ومزق مهجتي
حسام سطا من فاتك الطرف أغيد
فأصبحت ولهانا جريحا معذبا
أردد طول الليل مر تنهدي
شكوت لها ما شفني من غرامها
وما نالني من وجدها المتوقد
فلم تتكلم بل أشارت كأنها
تقول: فلا تهلك أسى وتجلد!
كأن ملاك الحسن أوقف ثغرها
عن النطق حتي لا تبوح فأهتدي
ولكن عينيها الجميلة أشفقت
على قلبي المضني العليل المهدد
فقالت وآيات الرضاء تبسمت
سأحفظ عهد الحب فاصبر إلى الغد!
ملكت الفؤاد
فؤاد الصب يحييه لقاك
ويضنيه التمادي في جفاك
تعجب في السماء النجم لما
ضياء البدر أخجله ضياك
وما جردت سيف اللحظ حتى
تزاحمت القلوب على هواك
عيونك فاتكات السحر ترمي
على العشاق محبوك الشباك
تقبلك النسائم كل صبح
كأن المنعشات عشقن فاك
ولما فاق حسنك كل حسن
تمنت كل عين أن تراك
ملكت القلب حتي صار عبدا
يجوس النار حبا في رضاك
عشقتك فارحمي صبا وفيا
يعذب جسمه المضنى نواك
وحقك لو ملكت الأرض طرا
لأسلو أو أميل إلى سواك
فوالحب المقدس لست راض
وكل سعادة الدنيا فداك!
عن غادة
إن سطا الحب فلا يغني الحذر
فهو سهم الحظ في كف القدر!
كنت في حصن منيع أختفي
عن جمال الغيد فتان النظر
أتقي شر الغواني آمنا
من شراك اللحظ أو أسر الحور
لست أدرى سر ما قدر لي
في سماء الغيب من سحب الكدر
غادة قد أعجب الدهر بها
واشتياقا منه حياها القمر
أرسلت من مقلتيها نظرة
تيمتني، شاغلت مني الفكر
خلت منها أنني أرقى السما
بين حور العين في جو السمر
ليلة الأنس سريعا تنقضي
كوميض البرق أو لمح البصر
نار حبي حولت دمعي دما
روعتني، علمت جفني السهر
مزق الهجر فؤادي فارحمي
قلب صب من جوى الحب استنمر
واحفظي عهد غرامي إنني
يا رجاء العين أوفى من صبر
سؤال
نجوم السماء علينا اشهدي
فؤادي أم جفنها المعتدي؟
تطول الليالي على عاشق
نأى النوم عن جفنه المسهد
أساهر شوقي هياما بها
كأنى منها على موعد
يطوف خيالي بروج السماء
لعلي إلى برجها أهتدي
يشاغل عيني طيف له
نفوذ على فكري الشارد
أعد من السقم ثوب الضنى
لقلب ينار الجوى موقد
كسا الحسن وجهك ثوب الجمال
وأبدع في غصنك المائد
وقد أودع السحر أسراره
بعينيك يا فتنة العابد
يقبل ورد الصبى باسما
نسيم الصبا فوق خد ندي
سطت نار حبي على مهجتي
ومن من أليم الجوى منجدي؟
أخوض غمار الهوى راضيا
بما خطه الدهر لي في غد
سأحفظ للحب أوفى عهود
مددت إليها أمينا يدي
وفاء
سابق الريح نحوها يا غرامي
فمع الريح قد بعثت سلامي
وتذلل لها عساها حنانا
تمنح الصفو والهنا أيامي
نار حبي ترفقي بفؤادي
إن قلبي ممزق بالسهام!
أسهر الليل راصدا برج نجم
صورته لناظري أوهامي
علني أهتدي إلي نور طيف
فرط شوقي له أضاع منامي
ما سميري غير الدموع ووجدي
وسهادي ولوعتي وهيامي
إن كربي يكاد يحرق صدري
وأنيني يشق جوف الظلام «لست أدري ولا المنجم يدري»
يا فؤادي متى يحين ابتسامي
أتلف الهجر مهجتي فارحميني
يا رجائي وحققي أحلامي
أنا إن عشت لا أغير عهدي
وإذا مت سوف يحيا غرامي
هو الحب!
قلبي وربك لا يحب سواك
مهما هجرت وطال عهد جفاك
إن الغرام إذا تملك مهجة
رفع النهى لعوالم الأفلاك
يا من تجمعت المحاسن كلها
في وجنتيك ولحظك الفتاك
عيناك بالسحر العجيب تكحلت
واستودعت سر الهوى شفتاك
وضع الغرام على جبينك قبلة
لما تورد بالصبى خداك
صعب على قلبي التوجع والأسى
وعذابه ظلما بنار هواك
فإلى متي هذا الصدود ولم أكن
أدري الهوى وهوانه لولاك
إني سأحفظ ما حييت محبتي
روحي وجسمي والفؤاد فداك
رجاء
شغلت فؤادي بالصبابة والنجوى
وحملتني ما ليس يحمله رضوى
فيا لك من حب تعديت ظالما
سهامك غير القلب لم تتخذ مأوى
حملت على قلبي فأضرمته جوى
وأودعته وجدا دعاه إلى الشكوى
يشق هدوء الليل مر أنينه
وشكواه تجري في الظلام مع النجوى
أبيت الليالي طائر اللب حائرا
يساهرني شوقي إلى طيف من أهوى
فيا بهجة الدنيا هواك أذابني
ولما أجد غير الدموع له سلوى
فلا تتركيني للغرام فريسة
فلي من معاني حسنك السبب الأقوى
يوم الوداع
يوم الوداع لقد أضعت رشادي
ومنعت عن عيني طيب رقادي
أشعلت نار الحب بين جوانحي
وتركتها تكوي صميم فؤادي
مكنت من قلبي التأوه والضنى
وسلبت من غايتي ومرادي
لما خضعت لحكم سلطان الهوى
سلمت للصبر الجميل قيادي
يا ليل كم قاسيت فيك مواجعا
هطال دمعي شاهد وسهادي
يا ليل إنك عالم بصبابتي
ولكم شكوت إليك مر بعادي
حمل نسيمك حر أشواقي عسى
يا ليل يصفو قلبها لودادي..
واشرح لها وجدي وشدة لوعتي
فلعلها تروي غليل الصادي
ما لي أراك لغير ذنب شاهرا
يا دهر سيف عداوتي وعنادي
مهما اعتديت فإن حبي صادق
والله يعلم ما يكن فؤادي
لمن أشتكي؟
أضاع رشادي يا مناي جفاك
فياليتني ما ذقت طعم هواك
وهبتك قلبا كان لا يعرف الهوى
ولم يدر آلام الجوى لولاك
فمكنت منه الوجد يكوي صميمه
ولم ترحمي أنات قلب شاك
رمتني العيون الساحرات بسهمها
ومن منقذي مما جنت عيناك
لمن أشتكي سهدي ووجدي ولوعتي
وما نالني من لحظك الفتاك
تبينت من عينيك ما رمت كتمه
وما لم تذع أسراره شفتاك
ولما بدا صبح اليقين لناظري
جعلت فؤادي والحياة فداك
يساهرني شوقي إليك ومدمعي
يبرهن أني لا أحب سواك
أرى المر يحلو والعذاب كأنه
نعيم لقلبي في سبيل رضاك
إليك وفائي ربة الحسن إنني
وحق الهوى العذري لا أنساك
سأصبر حتى يحكم الله بيننا
وإن كنت راحمة فسوف أراك
قسم!
والله ما ذقت طعم الحب لولاك
ولا تعودت دمع المغرم الباكي
يا ظبية فتكت بالقلب مقلتها
سبحان من ببديع الحسن حلاك
صوني جمالك رفقا بالعباد فما
أقسى جفاك وما أبهى محياك
أنت الهناء لقلبي والشقاء له
فما أمرك في قلبي وأحلاك!
هبت نسيم الصبا تجري معطرة
لأنها لثمت لما سرت فاك
فذكرتني ليالينا وقد غفلت
عنا العيون وعين الصب ترعاك
لما التقينا وكان البدر ثالثنا
أحس قلبي بأن البدر يهواك!
لو لم يكن حسنك الأعلى لما خجلت
أنواره يا ضيائي حين يلقاك
نبال لحظك لما مزقت كبدي
سألتها رحمة بالمغرم الشاكي
قالت تعذب بحبي كي تشاطرني
ذل الغرام ونار الحب يا باكي!
أجبتها ودموع الصدق شاهدتي : عاهدت ربي أني لست أنساك
استسلام
من يعير الغصون لين قوامك
وجمال الزهور حلو ابتسامك
من لبدر الدجى بأنوار وجه
كل عشاقه ضحايا غرامك
أعجب الحسن إذ جمعت الغوالي
من كنوز الجمال تحت لثامك
كوكب أوقف العيون حيارى
تائهات فيما بدا من تمامك
رائعات في روض حسن بديع
مشهر للدفاع حد حسامك
فتك اللحظ بالقلوب وباتت
مهج العاشقين صرعى سهامك
يا شقاء القلوب إن فؤادي
يرتضي السقم خاضعا لاحتكامك
لم يفارق خيال طيفك عيني
مذ غدا القلب وهو عين مقامك
لقاء خيال
دمعي أهاج صبابتي وشجوني
والسهد أتلف مهجتي وعيوني
يا درة خلق الجمال لوجهها
فكأنها في لؤلؤ مكنون
حاولت أن أخفي جواي ولوعتي
ورجوت أن تنسي الدموع جفوني
لكنني ما استطعت كتمان الهوى
فوشت بمكنون الغرام شؤوني
زكي جمالا حزت فيه تمامه
وتصدقي منه على المسكين
لم أنس حين شكوت آلام الهوى
في ليلة منع المنام أنيني
وجرى النسيم إليك في غسق الدجى
يسري بسر في الفؤاد دفين
أقبلت في ثوب العفاف مصونة
ودنا حنانك راحما لحنيني!
ما كان أشهى ذا اللقاء وليته
أبدا يدوم لواله محزون
قسما بحبك ما حلفت على الهوى
إلا لأني واثق بيميني
هبيني لحظة
فؤادي في عذاب من هواك
وجفني دائما بالدمع باك
فعيني في رياض الحسن تهمى
وقلبي فوق جمر من جواك
فيا ذات الرشاقة والتثني
متي ألقاك أو أنى أراك؟
جمالك ساحري وهواك وجدي
وروحي يا معللتي فداك
رنوت بلحظك السحري تيها
فما أقوى وأقسى ناظراك
عشقتك مذ رأيت الجفن يرمي
لخالي القلب محبوك الشباك
فصادتني الجفون بنبل لحظ
وقادتني الشباك إلى هواك
أبيت الليل أرقب كل نجم
أناجي لوعتي وأسى نواك
عسي ألقى خيالك فيه يبدو
فأملأ نور عيني من سناك
هبيني لحظة تطفي سعيرا
تأجج في ضلوعي من جفاك
ويا نور المنى سيان عندي
حياتي في غرامك أو هلاكي
فجسمي قد غدا من فرط حبي
خيالا لا يفارقه ضياك
شكوت إليك هجري فارحميني
ويكفيني من الدنيا رضاك
سلي الليل
سلي الليل عن سهدي ووجدي ومدمعي
ودقات قلبي والجوى ومواجعي
سكون الليالي شاهد بصبابتي
ومن غير ليلي إن تنهدت سامعي
يلازمني سهدي وقد فتك الهوى
بقلب لسلطان المحبة خاضع
رمتني العيون الفاتنات بسحرها
فأسهرت جفني راصدا نجم طالعي
لعلي أرى في طلعة النجم طيفها
يرد كرى صب من البعد والع
يزيد اشتياقي كلما طال هجرها
فحتى متى يا هجر ألقاك مانعي؟
دموعي وسهدي والنحول ولوعتي
تبرهن أني في الهوى غير خادع
تعدى علي الدهر حتى كأنني
إخال اجتهادي في المنى غير نافع
فيا من أرى في القرب منك سعادتي
إلا رحمة بالعاشق المتوجع
سأصون العهد
عيناي من حر الجوى
تبكي على قلب صريع
يا لوعة القلب الذي
أناته منعت هجوعي
حاولت كتم صبابتي
وأردت أن يخفى ولوعي
لكن دمعي قد وشى
بسرائر القلب الوديع
قاسيت آلام الهوى
وكم احتملت أذى خضوعي
أقضي الليالي ساهرا
أبكي على زاهي ربيعي
حولي تزاحمت الهموم
وما لكربي من شفيع
حبي سقى قلبي الضنى
وكوى بلوعته ضلوعي
مهما يحاربني النوى
فالصبر في حصن منيع
سأصون عهد محبتي
يا ربة الحسن البديع
عهد
رويدك قد جفا جفني منامي
وأدمى مدمعي قاسى غرامي
تعدى ناظراك على فؤادي
فبات يئن من وقع السهام
جمالك تاهت الأفكار فيه
محيا صورته يد التمام
تصبح ورد خديك الهوادي
نسائم حملت نجوى هيامي
تقبل منك ثغرا أودعته
معاني الحسن حلو الابتسام
لحاظك بالفواتك هاجمتني
وكنت أمامها أخشى انهزامي
ولكني تحملت المواضي
بقلب من سهام الجفن دام
كشفت بلحظك السحري سرا
يروق الصمت فيه عن الكلام
عشقتك فارحمي قلبا جريحا
وجسما هدمته يد السقام
نحولي والسهاد ونار وجدي
إذا طال النوى ساقت حمامي
وفائي لا تغيره العوادي
من الأيام أو قاسى الملام
وعهدي في المحبة سوف يبقي
يجدد ذكره دوما سلامي
كم تحملت
سر بوجدي ولوعتي وهيامي
يا نسيم الصبا وبلغ سلامي
وتهادى إذا بلغت حماها
وتلطف إذا شرحت غرامي
أنت تدري بما يعانيه قلبي
من أليم الجوى وفتك السهام
يا رسولا أودعت سر فؤادي
ساريات تشق جوف الظلام
يا أميني على رسائل حبى
صف سهادي ومدمعي وسقامي
كم تحملت في هواك هوانا
فاض دمعي له وعز منامي
ألبس الهجر مهجتي ثوب سقم
صورته من الضنى أوهامي
فاعطفي رحمة وجودي حنانا
أنقذيني من روعة الأحلام
سوف أبقى على وفائي أمينا
فاذكري ما حييت عهد غرامي
الحقيقة
سلطان من فتنتني فوق سلطاني
إن شاء عذبني أو شاء هناني
راشت سهام جفون من لواحظها
وصوبتها إلى قلبي ووجداني
لحظ الحبيبة راقب مهجتي كرما
متي رضاك يواسيني ويرعاني
لله فرط جمال بات يشغلني
عن كل شيء وللأحزان خلاني
يا من تكامل فيها الحسن أجمعه
الوجد أرقني والنوم عاداني
جمال وجهك لا ينجاب عن نظري
وورد خديك ممزوج بنيران
بسام ثغرك مطبوع على كبدي
وليل شعرك تهمي فيه أجفاني
يا ليلة لذ لي كأس الغرام بها
حتي تخيلت أن الدهر صافاني
مضت سريعا وذكراها تحملني
ذل الغرام ومر البعد أبكاني
كأن وعدك حلم زارني ومضى
كانت حقيقته وجدي وأحزاني
لولا الهوى
بدت قمرا بالفاتكين تقلدا
وقد أشهرت باللحظ سيفا مهندا
وقد أغمدت في حبة القلب سيفها
فأصبح جسمي بالغرام مهددا
ولم تدر عيني ما بقلبي لأنها
رأت في رياض الحسن خدا موردا
فشاغلها ورد الخدود عن الذي
تأجج نارا في الهوى وتصعدا
كلفت بها من قبل أن أعرف الهوى
فأصبح جفني في الغرام مسهدا
وكنت حذرت الغيد حين تمردت
فأوقعني قلبي بأهيف أغيدا
ولولا الهوى ما بت بالدمع غارقا
وقد كنت خلوا قبله متباعدا
لعوب لها من باهر الحسن طلعة
إذا أشرقت أبصرت غصنا تأودا
وقدا روت عن لينه واعتداله
صحاح العوالي بالجمال تفردا
لها أقسمت عيناي لا تترك البكا
ونفسي تمنت أن تكون لها الفدا
تجود جفوني بالدموع وها أنا
أبيت الليالي ساهرا متوقدا
تعدى على جسمي الضنى فأذابه
نحولا وخلاني خيالا مجردا
فيا ليلة مرت كأحلام نائم
أقمت لها في جذوة القلب مرصدا
ألا ليت شعري هل أوفق ساعة
إلى طلعة كانت لحبي مشهدا
ترد إلى روحي الحياة فأبتني
لعهد زمان الحب حصنا مشيدا
إليها
يا من أضعت بحبها أيامي
مني إليك تحيتي وسلامي
يا من لأول نظرة قد خلتها
ملكا تهادى فوق عرش غرامي
فتكت سهام جفونها بحشاشتي
فتك الأسود الصيد بالآرام
لعبت بقلب لم يكن يدري الهوى
هامت به في عالم الأحلام
يا درة بخل الزمان بمثلها
يا بدر حسن حاز كل تمام
لم أنس حين شكوت مر صبابتي
ما كان من وجد أطار منامي
واشتد وجدي من تباريح الجوى
ومدامعي فاضت وزاد هيامي
كفكفت بالكف الجميلة أدمعي
وبنظرة أطفأت نار غرامي
عقدت يمينك عهد حب بيننا
وبدا الرضا من ثغرك البسام
وافتر ثغرك عن حديث خلته
سحرا تسرب في دمي وعظامي
صن في فؤادك ما تبادل بيننا
واحفظ عهود محبتي وزمامي
الغيد تخدع والغواني طبعها
تبني العهود على ربا الأوهام
يا ليتني ما اجتزت تيار الهوى
يوما ولم أخدع بعذب كلام
ليلة
فؤادي الذي وفى على الجمر موجع
وعيناي في روض من الحسن ترتع
مضت ليلة لو حقق الله مثلها
بلغت المنى وأمنت ما أتوقع
تكامل فيها الصفو بيني وبينها
ونور الرضا من كوكب الحسن يسطع
خلونا ودارت بيننا نشوة الهوى
وقد كنت أشكو هجرها وهي تسمع
أذاعت دموعي ما تكن سرائري
وأعلن سقمي هول ما كنت أجرع
رحى الحرب قامت بين قلبي وجفنها
ودل الغواني في رحى الحرب يخدع
أرى القلب مهما نال حكما وجرأة
ذليلا لسلطان المحبة يخضع
تجلت لعينيها الجميلة لوعتي
وأن فؤادي في الهوى يتقطع
فقالت ويمناها تكفكف مدمعي
شهيد الهوى العذري لا يتوجع
تبينت من عينيك صدق محبتي
وأنك إن أخلصت لا تتزعزع
فلم أخش حراسا علي يواقظا
وجئتك لا ألوي ولا أتفزع
علي يمين الله أني على الوفا
وأن ليس لي في حب غيرك مطمع
فقلت لها والدمع ملء محاجري
وصدري من حر الجوى يتصدع
سأحفظ عهدي ما حييت وإن أمت
سيبقى غرامي عاطرا يتضوع
لحظ العيون
لحظ العيون حملت حملة عاهل
شاكي السلاح على المحب الأعزل!
مزقت قلبي بالسهام ولم تكن
ذا رحمة بصريع جفن أكحل
إني خضعت لحكم سلطان الهوى
وصبابة أبكي بدمع مرسل
يا من لها بين الكواعب طلعة
تاه الجمال بحسنها المتكامل
منع الهوى نومي وأتلف مهجتي
وسطا على جسمي الضعيف الناحل
ما حيلتي لو طال بي صرف النوى
والدمع جف وبات يشمت عاذلي
والله طيفك لا يفارق لحظة
عيني وليس سوى خيالك شاغلي
قسما بحبك إنني باق على
عهدى وعن نجواى لم أتحول
أجتاح صعب هواك مهما راعني
كأس المنية فيه عذب المنهل
إني أقدس بالوفاء محبتي
فتدللي ما شئت أن تدللي!
ربة الحسن
أضرم الوجد ناره في فؤادى
وأليم الجوى أضاع رشادي
هام قلبي لسحر عينيك لما
سكن الحسن منهما في السواد
من مجيري من الجراح اللواتي
كل يوم آلامهما في ازدياد
إن ورد الصبى تبسم عجبا
فوق خديك فتنة للعباد
ونسيم الصبا تعطر طيبا
من رياحين غصنك المياد
ربة الحسن خففي نار وجدي
وارحميني من مدمعي وسهادي
نسهر الليل في رجاء ويأس
بين حلو اللقا ومر البعاد
فإلام الجفا وهجرك أدنى
من يد السقم مهجتي وفؤادي
صار جسمي من السقام خيالا
طاردته شماتة الحساد
حبيبة القلب
حبيبة القلب كم حالمت في لهف
عداي فيك وكم عاديت أحلامي
أليم بعدك هاجتني لواعجه
وشوق قربك ضاعت فيه أيامي
رمت حشاي سهام منك فاخترقت
صميم قلبي وأدمت دمعي الهامي
يا من تصول سيوف من لواحظها
تذود عن مسفر منها وبسام
أودعت في الصبح نومي عند ناظرها
وعدت أشكو لليلي نار آلامي
أسامر النجم طول الليل من شغف
يا ليل بلغ سهادي فيك لوامي
أفدي التي كنت عنها كاتما شجني
والدمع أكبر واش بي ونمام
سهم رمته بقلبي نظرة تركت
في مهجتي لوعة يا قسوة الرامي!
قد حالف السهد جفني فانضنى جسدي
من فرط ما أسرفت في الوجد أوهامي
ما زال يسبقني في قربها أملي
حتى حدت بي لوادي اليأس أحلامي
وأصبح الجسم طيفا لا تفارقه
يد النحول وقلبي جرحه دام
مناجاة
يا ليل فيك مواجعي وشجوني
يا ليل علمت البكاء عيوني
يا ليل فيك لواعجي وتنهدي
يا ليل نومي خاصمته جفوني
ينساب دمعي في سكونك يا دجى
ويطوف في جوف الظلام أنيني
يأيها الليلي الطويل تزاحمت
حولي الهموم وغاض بحر شؤوني
قل للحبيبة رحمة بمتيم
فتك الغرام بقلبه المفتون
ما حيلتي في سهد جفني والجوى
وأنين قلبي والبكا وحنيني
قسما برابطة المحبة بيننا
إني سأحفظ بالوفاء يميني
يا حياتي
أبعد النوم عن جفوني سهادي
وكوى الهجر والصدود فؤادي
بات قلبي من الغرام يعاني
لوعة الوجد والضنى والبعاد
يا جمالا تكامل الحسن فيه
كيف أسلو وقد ملكت قيادي
هذه أدمعي تفيض لأني
كل يوم أرى الهوى في ازدياد
يا حياتي داوي بعطفك قلبي
أنت والله غايتي ومرادي
أحتسي الصبر في هواك وأرضى
أن يكون العذاب والمر زادي
لست أدري ما حيلتي ضاق صدري
من أليم الجوى وضاع رشادي
فانصفي من غدا لبعدك طيفا
وارحمي قلب حافظ للوداد
قسما بثغر ...
يا جفن إنك لم تذق طعم الكرى
يوما ولم تهنأ بطيب رقاد
فعلام يشكو هجره وبعاده
وصدى أنينك ضائع في واد
جد بالبكاء عسى بدمعك تنطفي
نار أحاط لهيبها بفؤادي
حب تربى في دمي فسرى به
حتى تملك مهجتي وقيادي
يا من تجيد عيونها لغة الهوى
هل غاب عن تلك العيون مرادي
لك نظرة فتن الجمال بسحرها
ومقبل يشفي غليل الصادي
إن المحاسن أبدعت تصويرها
في ناظريك وغصنك المياد
قسما بثغر بالسيوف ممنع
وبسحر لحظ قد أضاع رشادي
ما مس خدك غير أنفاس الصبا
نسماتهن روائح وغوادي
أنا مغرم فتك النحول بجسمه
وسطت عليه عداوة الحساد
إن تمنعي عني اللقاء فإنني
صب قد استعذبت فيك سهادي
إلى قلب
يا قلب أنت وناظري
لم أدر أيكما افترى
عيناي تمنعك الهدو
ء وأنت تمنعها الكرى
عطفا علي فإنني
لم أستطع أن أصبرا
إن الغرام سطا على
قلبي وفي روحي سرى
يا منتهى أملي لقد
حكم الهوى إن أسهرا
إني عشقتك فامنعي
عني العذاب الأكبرا
أخشى إذا طال النوى
لا أستطيع تصبرا
مهما تكتمت الهوى
فالدمع لن يتسترا
ما بين دمعي والجوى
أمسي وأصبح حائرا
أجد الحياة رخيصة
لو كان وصلك يشترى
غيرت حالي
يا بديع الجمال غيرت حالي
أين يا بدر صافيات الليالي؟
لست أنسى تلك العيون وقلبي
مزقته لحاظها بالنبال
أنت يا حب كم تركت نفوسا
حائرات في شاردات الخيال
وقلوبا أودعت فيها سعيرا
أبد الدهر ناره في اشتعال
أي ذنب جنيت يا حب لما
زدتني لوعة وأشغلت بالي
يا ملاكا سبى الحسان بلحظ
أودع الحسن فيه بنت الدوالي
كم تعذبت في هواك وكانت
مؤلمات العذاب فوق احتمالي
أسقم البعد والتجني فؤادي
وكساني ثوب النحول ملالي
إنني خاضع لحكمك فاهجر
أو فحقق يا بدر لي آمالي!
لقاء
نجوم الليل مهلا لا تغيبي
فقد وافت أغاريد الحبيب
يبشر باللقاء وأي بشرى
أسر من الهناء إلى القلوب
تراني بين منسدل الدوالي
وأخفق في ملاحقتي رقيبي
سألت الريح يحملني إليها
على أهدابه خوف المغيب
فوافيت الحبيبة في جنان
يمثل يقظة الرئم الهروب
تميل على الأزاهر وهي تلهو
بضم الورد في غصن رطيب
وفاقت في الرشاقة والتثني
جمال تلفت الظبي اللعوب
بدت قمرا فكانت نور عيني
سطت أسدا على قلب الحبيب
وجاءت وهي تخطر في قميص
نقي الذيل من كل العيوب
فقلت لها وقد تاهت دلالا
لقد أصبحت في زي عجيب
فثوبك والورود ووجنتاك
كلون السحب في وقت الغروب
فمالت ثم قالت وهي نشوى
لبعدك كان جسمي في شحوب
فلما ضمنا وقت التلاقي
تزايد في تسعره لهيبي
بدا وجهي يعبر عن غرامي
لأن الوجه مرآة القلوب!
وهبتك مهجتي فاحرص عليها
وصن عهدي وقل يا نفس طيبي
ومرت كالغزالة وهي ترنو
بمقلة شادن كلف طروب
فما أقسى الغرام على فؤادي
إذا كان التجني من نصيبي
ويا قاسي النوى رفقا بقلبي
ويا نار الصبابة من مجيبي؟
سأصبر حافظا للحب عهدا
وأرضى حكم علام الغيوب
نداءات عاشق
ما بال عيني لم تغمض ولم تنم
سيول أدمعها ممزوجة بدم
يا غادة ملكت قلبي محاسنها
فبات من وجده في روعة الألم
ردي علي ليالي التي سلفت
لم أنسها لا وما بالعهد من قدم
كم بات بارق ذاك الثغر يبسم لي
مذ جئت أسعى على العينين والقدم
يا رشفة هي راحي في الغرام بها
يهدي الدواء لقلبي من لماك فمي
ويا جمالا يواسيني بطلعته
بالله مرحمة يا ربة النعم
ويا جبينا ضياء الصبح لاح به
فأشرق الوجه منه في دجى الظلم
يا ربة الحسن جودي بالوفاء على
من قد يرى يقظات العين كالحلم
أين العهود اللواتي عللت أملي
وخلفتني أليف السهد والسقم
ما سالمتنا الليالي في محبتنا
حتى ذكرت هوى أيامنا القدم
يا لائي لا تلمني قبل تجربة
ذق الهوى فإن اسطعت الملام لم
لما خلونا وقد رابت ظواهرنا
وفي بواطننا بعد عن التهم
وبيننا عفة باتت تراقبنا
والطهر ما بين هياب ومبتسم
ترنو إلى بعين الظبي واجفة
وتقطف اللؤلؤ السيال بالعنم
ودعتها ودموعي جف موردها
فقبلتني ببسام فما لفم
فذقت ماء حياة من مقبلها
أحلى من الشهد أحياني من العدم
قالت تذكر عهودي وانتظر فرجا
أجبتها رغم خفاق ومنسجم
دين عليك سأحيا إن وفيت به
وإن بخلت تقاضينا إلى حكم
خبراها
خبراها بلوعتي وهواني
في هواها وبلغا ما أعاني
واذكرا ما شهدتما من غرامي
وسهادي ومدمعي وحناني
وأقيما لها براهين حبي
واشرحا حالتي لها وابكياني
عاهداها على يمين وفائي
يا نسيم الصبا وطيف الأماني
أيها الحب قد تعديت حتى
كاد يقضي علي دل الغوانى
كنت قبل الغرام في صفو عيش
خالي البال من صروف الزمان
فرماني نبل الجفون بسهم
أودع القلب زفرة النيران
وسقاه من العذاب كؤوسا
مترعات بالسقم والأحزان
كم تحملت فوق ما كنت أقوى
وتحيرت في قلوب الحسان
فاتركي التيه لحظة يا حياتي
وعديني متى يكون التداني
قصة لقاء
داري العيون اللواتي حيرت نظري
عن مقلتي فقلبي بات في خطر
فتاك لحظك سهم قد فرى كبدي
ولم يفد فيه ما أجهدت من حذر
يا طلعة البدر نور الحسن منك بدا
كأنه فرقد يسمو له بصري
صاغ الجمال جبينا منك فازدهرت
بالحسن آياته في وجهك النضر
فروض وجهك بالأزهار مبتسم
ولؤلؤ الثغر منظوم من الدرر
وحسن قدك فتان لناظره
يسبي العيون ويدعو القلب للسمر
أين الليالي اللواتي كنت أحسبها
تدوم يا ليلة قد سببت سهري
لما اجتمعنا وزهر الروض أنعشنا
تحت الدوالي وبين السحر والحور
غاب الحواسد والعذال وانصرفت
عنا الرواصد إلا مقلة القمر
وقد خلونا وجو الحب راق لنا
وراح عنا شديد الخوف والحذر
وبيننا دار كأس الحب تملؤها
يد الطهارة في وشي من الزهر
يهدي إلى العين أنوار المنى أملا
وللفؤاد كؤوس المنهل العطر
تبادلت شفتانا بيننا غزلا
أرق في لفظه من نسمة السحر
حتى إذا اشتد بي وجد الهيام بدا
طيف العفاف بنصح غير منتظر
لا تقربن حبيبا قد خلوت به
واقنع بحظك بين السمع والبصر
فارتاح قلبي لنصح الطهر وانبسطت
مني لمن فتنتني كف معتذر
دنا الوداع فلا تنسي محبتنا
إني على العهد حتى رحمة القدر
ودعتها ودموع العين مانعتي
عن الكلام وشوقي جد مستعر
قالت ودر اللآلى فوق وجنتها
جفت دموعي فلا تعزم على السفر
ما لي سواك حبيب قد تملكني
غرامه في دمي يجري من الصغر
فكن على البعد رمزا للوفاء عسى
يقرب الله جمع الشمل واصطبر
دقات قلبى الهوينا كي أشاطرها
مر الوداع ويا طيف النوى استتر
رنت إلي وورد الخد أمطره
سيل المدامع وانسابت على الأثر
وخلفتني عليلا أستغيث بها
من نار قلبي ودمع العين والسهر
حتى غدوت خيالا لا يفارقني
طيف الحبيبة حتى ينجلي قمري
عنها
فتنت عيون الناظرين بحسنها
سبحان من خلق الجمال وصورا
هيفاء زين خدها ورد الصبى
فتمايلت غصنا رطيبا ناضرا
حسناء طاهرة كزهرة روضة
عذراء ذابت دونها مهج الورى
مر النسيم بها فحيا باسما
وجرى فحف بفرعها فتعطرا
بيضاء يحدق شعرها بجبينها
فتريك في الظلماء بدرا مسفرا
ترنو لواحظها فتلعب بالنهى
لعبا تباع به القلوب وتشترى
عصماء كل جميلة أضحت لها
أمة ترى من سعدها أن تؤمرا
نظرت إلى العلياء منها مقلة
أهدت إلى هاتور لحظا ساحرا
وعلت علي عرش الجمال وأرسلت
شرك الغرام وأبعدت طيف الكرى
والشمس باسمة تودعها متى
غابت وتلقاها إذا الصبح انبرى
رسمت بوجه البدر صورة وجهها
وكأن حسن البدر فيها صورا
نظرت إلي فخلت كسرى باسما
فوق الجبين يصافح الإسكندرا
فوقفت مرتجف الجوانح حائرا
فيما أرى وكأن حلما ما أرى
حتى رمت قلبي سهام لحاظها
فأصابه ما كان قبل مقدرا
دخل الهوى قلبا بريئا لم يكن
يدري الهوى حتي انكوى وتسعرا
أجرى الغرام مدامعي وسطا على
جسمي وعلم مقلتي أن تسهرا
يحلو المنام لناظري فيرده
ممن تملكني خيال قد سرى
حتى إذا ما السقم أتلف مهجتي
وغدوت طيفا هائما متحيرا
أيقنت حقا أن سلطان الهوى
في حكمه دوما ظلوما جائرا
لا بد أن يجرى القضاء بحكمه
وعلى المعذب بالهوى أن يصبرا
متى يكون التداني؟
لست أدري ما حيلتي يا زماني
ضاع نومي وشاغلتني الأماني
كان قلبي من الصبابة خلوا
وعيوني قريرة الأجفان
كان زهر الربا وصفو الليالي
والنسيم العليل هم ندماني
كم تشببت والغزالة تكسو
سندس الأرض حلة الأرجوان
شفق يفتن الشقائق في الرو
ض ويسبي قلوب حور الجنان
لونه يملأ العيون جمالا
كنضار منضد بالجمان
راحة العيش لا تدوم وتأتي
سنة الدهر صافيات الزمان
نظرة أطفأت سراج نعيمي
وهنائي وسببت أحزاني
لست أنسى سلطانها في عيوني
وانقيادي لسحرها الفتان
وسهام الهوى التي صوبتها
لفؤادي وزفرة النيران
أصبح القلب في عذاب ووجد
وأنين ولوعة وهوان
كم تحجبت عن عيون العذارى
وتشاغلت عن جمال الحسان
غير أن القضاء طير قلبي
في شراك الهوى ودل الغواني
فألفت السهاد من حر وجدي
ودموعي قد قرحت أجفاني
ينقضي الليل في سكون رهيب
والليالي مثيرة الأشجان
طائر اللب سابحا في خيال
شردته لواعج الولهان
يا جمالا سلبت عقلي وقلبي
كاد قلبي يذوب مما أعاني
يا رجائي من الوجود وقصدي
ونعيمي متى يكون التداني؟
رفقا بحالي
يا سقيم الجفون أشغلت بالي
ليت شعري متي تعود الليالي؟
يا مهاة تكامل الحسن فيها
فتبارت لها قلوب الرجال
لك لحظ حراسه ساهرات
راميات عشاقها بالنبال
كل من نال من لحاظك سهما
بات يشكو صريع هذا الدلال
يا جمالا وهبته كل قلبي
أنا عبد لفرط هذا الجمال
وجهك البدر قد تساطع حسنا
حول أنواره تميل الدوالي
نرجس العين فوق ورد خدود
وعقيق مرصع باللآلي
لا أزال الوفي في عهد حبي
فاذكري إذ ملأت كأس الدوالي
هذه مهجتي تذوب غراما
يا طبيب القلوب رفقا بحالي!
أغنية حب
تسيل على خدى دموعي كأنها
سحاب على واد من النار يمطر
سمير غرامي ولد النار في دمي
وأودعني ما كنت أخشى وأحذر
دعتني إلى قاسي هواك ابتسامة
يهون لديها كل صعب ويصغر
جمال كنوز الأرض لو قدرت به
لزاد عليها قيمة حين يظهر
جفا النوم جفني حين أسلمت مهجتي
وقلبي لمن في غيرها لا أفكر
أبيت حزينا ساهر الجفن حائرا
أخاف إذا طال النوى كيف أصبر
يزيد غرامي لوعة كل ليلة
ويشتد كربي والجوى حين أسهر
تطول الليالي كلما طال هجرها
ومها انسلى جسمي فلا أتغير
أنا المغرم المضنى المعذب في الهوى
جريح سهام واله القلب حائر
سأصبر لا أشكو إليك صبابتي
ويفعل ربي ما يشاء ويأمر
حقيقة الحب
ارحم فؤادي فالعذاب حرام
واصبر عسى تصفو لك الأيام
قالت وقد رفعت سيوف جفونها
مني على عهد الغرام سلام
لا تحسبن الحب أمرا هينا
فهو الذي خضعت له الأعلام
وسأستزيدك أن في معنى الهوى
سرا تضيق لفهمه الأحلام
فهو البيان لمن أراد فصاحة
ولمن يخاطر في الدجى الإقدام
وهو اللسان لمن تعذر نطقه
ولمن تأهب للدفاع حسام
وهو البسالة والطهارة والندى
وهو الأسى والكرب والآلام
ويعلم العين الكلام ونعمها
لغة يفضل فهمها من هاموا
ويهيم بالنفس البريئة سابحا
في عالم أحلامه الأوهام
وهو الذي شغل العواذل أمره
وإذا تمكن حارت الأفهام
الضاحك الباكي
ولما التقينا والعواذل والنوى
تباعدن عنا كنت أبكي وتضحك
فلم أر روضا ضاحكا مثل وجهها
ولم تر مثلي ميتا يتحرك
بنفسي من ملكت زمام صبابتي
ولاح لها في رفعة النجم مسلك
كعاب لها في دولة الحسن نظرة
بمجهة أبطال الضياغم تفتك
قوام حوى كل الجمال وطلعة
إذا ما تبدت حسنها يتملك
أسائلها: هل تضحكين ومدمعي
يسيل دما من لوعة الوجد يسفك؟
فقالت وقد مالت بها نشوة الصبى : خشيت إذا جادت عيوني تهلك
فأحببت أن يهدي ابتسامي تحية
ليهدأ قلب عاشق متوعك
وفضلت أن ألقاك بالطلعة التي
بها كل قلب مغرم يتبارك
فقلت: تعالي نسترق خلوة الهوى
على غفلة من عاذل يتشكك
وقمنا وقام الطهر يحرس ذيلنا
من الرجس حاشانا نميل ونشرك
هي العفة العصماء بيني وبينها
وما عاشق من ليس للنفس يملك
تغريدة
يا من سطا سيفها الماضي على كبدي
ما من خلاقي أن أشكو إلى أحد
أعارك السحر ما أوليه من رهب
وضمك الحسن ضم الروح للجسد
يا درة سحرت عيني محاسنها
وضاع من ولهي في حبها رشدي
أتذكرين الليالي السالفات لنا
وليلة لست أنساها إلى الأبد؟
مرت كطيف منام كم صبوت إلى
دوامه غير أن الدهر لم يرد
شربت فيها كؤوس الحب صافية
ونلت غاية آمالي يدا بيد
فنان وجهك هنتني محاسنه
وحلو ثغرك عني غير مبتعد
ملأت عيني بالحسن البديع وقد
أسلمت لله أمري في مصير غدي
خلوت رغم العيون الراصدات لنا
وبت لا عذلا أخشاه من أحد
تهم نفسي فيما فيه لذتها
لا شك فيه رضاء الواحد الصمد
طهارة الحب تسمو بالنفوس إلى
عوالم الروح بين الشمس والأسد
أهدى الجمال إلى عينيك بهجته
وأودع الجفن ما أوهى به جلدي
وزاد حسنك نور البدر حين بدا
فأشعل النار في قلبي وفي كبدي!
تبسم الورد في خديك فانتعشت
أزاهر الروض في أثوابها الجدد
وكان طيف المنى بالبشر مبتسما
ترنو إليه نجوم الليل من صعد
تناثر الدر واجتازت غواليه
حصن العقيقين عن صفين من برد
دارت أحاديث شوق بيننا فسرت
كأنها نغمات الطائر الغرد
سحر تملك قلبي فانشغلت به
عن ألسن العذل أو عن أعين الحسد
سر سرى في دمائي فانصرفت به
عن عالم الأرض أو عن مطمع الجسد!
عيناك قد كاشفت قلبي بغايتها
ووردك العذب لم يبخل بري صدي
ناجيت حتى لمحت اللحظ حن إلى
نجواي فيه حنين الحلم والرشد
نجوى يسعرها ما بيننا غزل
ولو أردنا سوى هذين لم نجد
ما كنت أعلم أن الحب يفتك بي
ما بين منسجم مني ومتقد
حنين قلبك للشكوى أباح دمي
وروعة الموت أدنى من فم ليد
يشكو الفؤاد على آثارها لهفا
حتى يناديه صوت: قف ولا تزد!
يقول للقلب: إن الحب أشرفه
ما جرد النفس من طهر عن الرغد
صوت هو الطهر في نور العفاف بدا
والطهر خير صفات النفس والجسد
سلامة النفس من رجس يدنسها
كنز يدوم لمن وفى إلى الأبد
واللهو كالشهد حلو في مذاقته
وأي سم ثوي في ذلك الشهد
أرى بوجهك بدرا جل صانعه
لو حل بالأفق لم يظلم على أحد!
أقصيت نفسي عن ورد ظمئت به
حينا وكم حاربتني النفس من كمد
وإن نأيت بجسمي عن جناك فقد
تركت عندك قلبا غير مبتعد
وشت دموعي بحب كنت أكتمه
وكلما رمت إخفاء الهوى تزد
ما أعجب الحب يدعوني إلى تلفي
فأرتضي لوعة قد مزقت كبدي
يا ربة الحسن كوني للوفا مثلا
فالقلب آماله دوما لقاء غد!
دلال
لقد هاجني وجد بمن زارها بعد
فياليتني بعد وياليتها وجد
وهبت الهوى قلبي البرئ ولم أكن
أفكر أن القلب يحرقه الصد
وأودعته من خالفت شرعة الهوى
وطبع الغواني لا يدوم لها عهد
محال توفي عهدها وتصونه
ولو خبأته بين أنيابها الأسد
تزول الجبال الراسيات لمكرها
وكم ذاب من إغرائها الحجر الصلد
فإن حقدت لم يبق في قلبها رضا
وإن رضيت لم يقص عن قلبها الحقد
وإن عشقت كانت أشد صبابة
من الواله الساعي إلى حتفه السهد
كذلك أخلاق القيان فلا تكن
صريع الغواني فالمنية والكيد
لقد فتنت لبي وقلبي وناظري
مهاة سباني في محاسنها القد
إذا خطرت في الروض أينع زهره
وإن لعبت في الماء خالطه الشهد
وإن بسمت رق النسيم ونورت
ثغور زهور الروض وابتسم الورد
وإن عبست أجرى السحاب دموعه
وزاد وميض البرق واشتبك الرعد
شكوت لها حبي ومر صبابتي
فتاهت بعينيها وقد خجل الخد
فعاهدتها أني أدوم على الوفا
إذا هي وفت ثم طاب لها العهد
وقد تم عهد الحب بيني وبينها
وسرعان ما جارت وغيرها البعد
على أن حبا أشغل القلب في الصبى
يزيد على مر الزمان ويشتد
ألا قاتل الله الغرام فإنه
عذاب، كؤوس الموت في فمه شهد
بعدت عن الغيد الغواني تعففا
لذلك قامت بالتهاني لي الأسد
بالله رفقا
يا أخت أقمار السماء محاسنا
وشقيقة البدر المنير سلام
يا درة عشق الزمان جمالها
جادت على الدنيا بك الأيام
عيناك ساحرة الجفون تسلطت
منها على مهج الرجال سهام
إن تمنعي نبل الجفون فقد سطا
من حاجبيك على القلوب حسام
كم من قلوب قد ملكت قيادها
عقدت عهود غرامها الأوهام
يا نظرة تركت بقلبي جمرة
منها تأجج في الفؤاد غرام
هذا غرامك قد تسعر وجده
في مهجة فتكت بها الآلام
كم كابدت كبدي لبعدك لوعة
وجفا جفوني في هواك منام
بالله رفقا أخت أقمار السما
تعذيب قلبي في هواك حرام
كيف أصنع؟
بدا لي برق من ثناياك يلمع
أسال غيوثا من جفوني تهمع
فأصبح قلبي فوق جمر من الهوى
وعيناي في روض من الحسن ترتع
مضت ليلة لم يشهد الدهر صفوها
بأمثالها لم يحظ كسرى وتبع
ودارت كؤوس الحب بيني وبينها
وما عاشق من لا يذل ويخضع
تقول وقد فاضت بنا نشوة الهوى
غرامك حي ليس فيه تصنع
أتيتك لم أحفل بلوم عواذلي
وجئتك أشكو ما ألاقي وأجرع
تذكر عهودي واحترم شرعة الهوى
وكم من فؤاد شفه الحب يخدع
فهذي يميني توثق العهد بيننا
وهذا فؤادي من فؤادك يسمع
فقلت لها والدمع ملء محاجري
وقلبي من وجد الجوى يتقطع
رضعت لبان الحب منذ طفولتي
فصار دمي يجري بما كنت أرضع!
سرى الحب يزجي في دمائي حرارة
يسعرها هجر طويل مروع
ولولا النوى ما حالف السهد ناظري
وما قرح الجفن المعذب مدمع
تمر الليالي ليلة بعد ليلة
يطارد عني النوم كربي ويمنع
يساهر جفني النجم حتى إذا بدا
جبين الضحى من نوره أتشجع
كساني عذاب البعد ثوبا من الضنى
له كل قلب واله يتقطع
طوال الليالي مكنت علة الهوى
بقلبي فأمسي حائرا يتنزع
كفاني عذابا ما أعاني من الأسى
وما لي سوى سقمي ودمعي مشفع
فجسمي مما شفه كاد يختفي
نحولا ونفسي أوشكت تتشعع
ولو لم يكن صوتي لأنكرت أنني
إذا ما التقينا واقف أتوجع
فديتك مهما قد نأى عنك ناظري
فطيفك حولي ما خلا منه موضع
وكم وشت العذال بيني وبينها
فقلت دعوني إنني لست أسمع
أنا العاشق المضنى المقيم على الهوى
فلا تطلبوا ما لا يفيد وينفع
عقدت يميني بالوفاء وها أنا
غدوت خيالا يا هوى كيف أصنع؟
فاتنتي ارحمي
بالسيف أقسم لحظها
لما تأهب للقتال
لا بد من حرب الهوى
بيني وأفئدة الرجال
لمعت سهام جفونها
لما تحركت النبال
وانقض فاتك سيفها
كالليث يقتحم الرعال
يسطو على مهج لها
ببريق لمعته اتصال
بدم القلوب تخضبت
يا سيف متنك والنصال
طعنات حدك أخضعت
أقسى القلوب إلى الدلال
لك صولة قد حكمت
في مهجة الأسد الغزال
يا لحظ.. آلام الهوى
لم تبق للقلب احتمال
فتك الغرام بمهجتي
والبعد صيرني خيال
بالله فاتنتي ارحمي
صبا تملكه الجمال
السهد لازم جفنه
والوجد زاد به اشتعال
إلى رقيب!
هباء ضاع كيدك يا رقيبي
فحسن الحظ أصبح من نصيبي!
تناصبني العداء بغير ذنب
وتظلمني بإلصاق العيوب
ولما لم تنل بالبغي مني
مرادك صرت في أقسى الكروب
أراد الله أن ينجاب كربي
لأن الله علام الغيوب
علمت بأن حبي حب طهر
بعيد الشك عن كل الذنوب
فخالفت الضمير بسوء قصد
وفوقك حلقت عين الرقيب
فخفف ما استطعت أذاك عني
وحاذر وقفة اليوم الرهيب
ستسأل في غد عن كل هذا
تجيب عليه في وقت عصيب
فدع عنك الوشاية واجتنبها
فإن الله ستار العيوب
توعدت الحبيبة بانتقام
وظلما قد حملت على الحبيب
فأرصدت العيون بكل فخ
مزودة بألسنة الخطوب
ولما لم تنل ما كنت تبغي
عمدت إلى مناوأة الكذوب
فلفقت الأكاذيب اختلاقا
وما فكرت في بطش الحسيب
وكم حاولت فتنتنا خداعا
ولم تك بالمهذب واللبيب
وخانتك المكائد ساخرات
وقادت مقلتيك إلى النحيب
فمت كمدا لأنك شر باغ
وأن البغي يغلب في الحروب
خلوت مع الحبيبة في صفاء
وقد غفلت عيونك يارقيبي
ودارت بيننا زفرات وجد
تسعرها مناجاة الحبيب
وقد نقل الغرام لنا حديثا
أرق من النسائم للقلوب
قلوب العاشقين لها حنان
يدوم من الشباب إلى المشيب
يلذ لها العذاب وكل صعب
تقدمه إلى صدر رحيب
وودعني الحبيب ونار قلبي
ودمع العين في وجد رهيب
فياليت الزمان يمن يوما
بجمع الشمل في وقت قريب
أنت بدر
أنت بين الغيد بدر
قد حوى كل الجمال
لك في عينيك سحر
يجعل الدنيا خيال •••
يا جفونا قلدتها
قوة السحر السهام
ولحاظا أودعتها
آية الحسن الغرام •••
يا مهاتي إن قلبي
ذاب من طول البعاد
قد كوته نار حبي
فاختفي طيف الرقاد •••
كل شيء يا ملاكي
ما خلا حبي يهون
إن حظي من هواك
كيفما شئت يكون •••
إن عفوت عن غرامي
فارقت جسمي السقام
أو تعمدت ملامي
فعلي الدنيا السلام
يا ليل
مكنت من قلبي الهوى
ووقعت في أسر العيون
بالنار يكويني الجوى
بالنبل ترميني الجفون •••
يا ليل فيك توجعي
سهدي تحيط به الهموم
يا ليل دامي أدمعي
ترثي لحالته النجوم •••
يا من تملك حسنها
قلبي فأودعه الغرام
وسطت مواضي لحظها
عمدا فأبعدت المنام •••
جسمي سرى فيه الهوى
والسقم صيرني خيال
لا تمنعي عني الدوا
يا من تبناها الجمال
دمعي يخفف كربي
إن تنكري سوء حالي
أو تجهلي ما جرى لي
سلي طوال الليالي
ما للسهاد ومالي
شب الغرام بقلبي
والوجد فوق احتمالي
حاولت كتمان حبي
فأعلن الدمع حالي
يا ليل إن سقامي
لم تبق غير خيالي
ما حيلتي في هيامي
يا سهد أخشى ملالي
يا ليل فيك نحيبي
ومدمعي واشتغالي
يا ليل أين طبيبي
يعد كأس الدوالي
دمعي يخفف كربي
يا جفن جد بالبكا لي
كم عذب الحب قلبي
وأشغل البعد بالي
سهدي ووجدي وحزني
وما أعد الهوى لي
لا شك تذهب عني
إذا رضاك بدا لي
تمنيت شهدك
لو كنت تذكر عهدك
ما خفت والله صدك
يا من لك الحسن وحدك
لا خير في العيش بعدك
تعجب الورد لما
كشفت في الروض خدك
والحسن تاه دلالا
وأكبر الغصن قدك
يا جفن شاكي سلاحي
أعد للحرب جندك
أشكو إليك جراحي
فالقلب أصبح عبدك
لو كنت تدري سهادي
أو ذاق جفنك سهدك
ما كان مرك زادي
وقد تمنيت شهدك
يا حب عذبت قلبي
بالنار أضرمت وجدك
لم أدر ما هو ذنبي
كأنني كنت قصدك
رحماك إن فؤادي
ما زال يذكر عهدك
رضاك كل مرادي
فوف للصب وعدك
لقاء على كأس
إليك أم التداوي وابنة العنب
فالكأس من فضة والراح من ذهب
قالت وقد أسفرت عن طلعة سحرت
عيني فتاهت بها من شدة العجب
وصير الراح خديها موردة
والخمر تذهب ما في النفس من ريب
تبسمت ودنت والكأس في يدها
تهتز أعطافها من نشوة الطرب
تقدم الكأس باليمنى مدلهة
وتمنع القلب باليسرى عن الهرب
هذا الدواء الذي رد اللقاء لنا
أسرع لقد آن وقت اللهو واللعب
وصوبت سهم عينيها إلى كبدي
وأطلقته بلا ذنب ولا سبب
فقامت الحرب من عيني لوجنتها
ومن فؤادي لتلك الأعين النجب
كافحت حتي بدا لي الضعف وانهزمت
قواي مما تولى القلب من وصب
وقعت في أسرها دامي الجراح ولم
ترأف بقلب بنار الوجد ملتهب
ظنت بأن فؤادي لم يكن دنفا
وأن دمع جفوني غير منسكب
لو لاحظت أدمعي تجري دما لبكت
فكيف لو نظرت قلبي على اللهب
بينا لواعج هذا الحب تفعل في
حشاي فعل دبيب النار بالحطب
كانت أنامل يسراها بدت عنما
تجوس صدرا تبدى آية العجب
تداعب الدر والياقوت لاهية
قد شاغلتها اللآلى فهي في لعب
والكأس ما زالت اليمنى تقدمها
وقد تفاخر فيها الحسن بالنسب
لما تباطأ ثغري عن تناولها
لما دهى القلب والعينين من كرب
أحس قلب التي أهوى بمشغلتي
ووسوس الظن أن الكأس لم تطب
فحاولت أن ترد الكأس مسرعة
لكنني لم أمكنها من الطلب
فانقض كفي على أعنامها رغبا
والنسر ضم جناحيه من الرهب
يا غادة فتكت بالقلب نظرتها
كيف اصطباري وقد صرنا على كثب
أتجهلين بأن الخمر معصية
وكم سمعنا بها في مجلس الطرب
تروح باللب حتي ربما ارتكبت
حساتها ما هوى بالطهر والأدب
قالت وورد الحيا قد زان وجنتها
إن الشراب يواسي قلب مكتئب
ألا ترى أنها للروح منعشة
ترد طيف الأسى عن فكر مضطرب
بعزمها اجتزت تيار الغرام ولم
أحفل بوقع سهام الظن والريب
تمكن السهد من عيني فأرقها
وقد تعدى على قلبي فواحربي
فقادني وجد قلبي غير واجفة
إلى اقتفاء خيال جد في طلبي
شاغلتها ورفعت الكأس من يدها
صفراء رصعها عقد من الحبب
لم أستطع كتم ما بالقلب من شجن
فإن غدا خافقا لا بد من سبب
حبيبة القلب جددت الحياة إلى
من كاد هجرك يدنيه من العطب
هذا غرامي يذكي النار في جسدي
والنوم عن مقلتي قد جد في الهرب
صبرت حينا على وجد كلفت به
وأنت مشغولة باللهو واللعب
حتي قضي الله أن أحظى بقربك يا
مليكة الحسن عن أم لها وأب
أنت التي ملكت قلبى بعفتها
فإن بعدت فما في العيش من أرب
هذا هو الطهر قد حياك مبتسما
تاج الطهارة عز اليوم كالذهب!
إن العفاف جمال لا يزول وقد
يغيب كل جمال وهو لم يغب
لا تشربي الخمر بعد اليوم فاتنتي
وعاهديني بأن نبقى على كثب
يا لائمي في هوى ذات العفاف كفى
هون عليك وخفف ثورة الغضب
وإن دنا منك صوت النصح فاصغ له
واعمل لرفعة شأن الطهر والأدب
الجزء
أوبريت وأناشيد مدرسية
حنين الأرواح
تاريخ السلم الموسيقي (محاورة بين يوبال بن قابيل بن آدم عليه السلام مخترع الآلات الوترية والسلم الموسيقي (قبل الطوفان) وبين الحكيم اليوناني مخترع السلم الموسيقي (بعد الطوفان) - هذه القطعة التاريخية خيالية، وهي خاتمة رواية (حنين الأرواح) التي وضعها المؤلف.)
أوبرا
تحضر روح يوبال أنغام موسيقية مشجية من آلات وترية صنعت بعد الطوفان. فتدخل الروح مستفسرة عن صانع تلك الآلات وعن واضع السلم الموسيقي لاعتقادها أن الطوفان محا آثار هذا الفن واندثرت آلاته.
يوبال :
هل يقين ليت شعري
ما أراه أم خيال؟
منذ كان الفلك يجري
بين موج كالجبال
لم أعد يا قوم أدري
أن للدنيا اتصال •••
كان جسمي في أمان
تحت أبراج العلا
لم يغيره الزمان
لا ولا كف البلى •••
إن تاريخي المجيد
كان مرآة العجب
كنت من عهد بعيد
عاشقا فن الطرب
العود والقانون
والناي الحنون
تلك آلات النغم
باعثات للشجن
مذهبات للحزن
كم أضاعت من ألم
إنها صنع يدي
منذ آلف السنين •••
يا قوم قد أبعد الطوفان ما اخترعت
مواهبي ثم أفنى ما يدي صنعت
فكيف جاءت إليكم بعد ما بليت
آثارها في بطون الأرض واندثرت
من ذا الذي أخرج العلم العجيب لكم
ومن يداه أصول الفن قد وضعت؟ (يدخل الحكيم مبتكر السلم الموسيقي)
الحكيم :
أنا الذي وضع النغم
وأعاده بعد العدم
كونته من سلم
بأدق تنسيق رسم •••
يوبال :
كيف ابتكرت أساسه
ونشرته بين الأمم؟ •••
الحكيم :
لقد رأيت خيالا
قد جاءني في منامي
يقول هيا فبادر
إلى استماع كلامي
في شاطئ البحر كنز
من المواهب سامي
إذا حصلت عليه
بلغت أقصى المرام •••
يوبال :
وهل أجبت نداه؟
الحكيم :
إليك ما قد بدا لي
ساقت إلي الهوادي
من الفضاء رنينا
قد كان طرقا ولكن
ملئت منه حنينا
مشى الهوينا لسمعي
وكان سمعي أمينا
دقاته قد أسرت
إلي سرا دفينا
أودعته في فؤادي
وكان كنزا ثمينا
يوبال :
ماذا سمعت أجبني
ملأت رأسي ظنونا؟ •••
الحكيم :
سمعت تن تن أربعا
صوتا به قلبي افتتن
دقات مطرقة وسندا
ن تساوت في الزمن
قد ملت منها طربا
وضاعفت عندي الفطن
فساورتني فكرة
والحظ بالوقت ارتهن •••
يوبال :
قد زدتني شوقا إلى
ما نلت من ذكر حسن •••
الحكيم :
لما انصرفت إلى الطرب
وسموت في جو الأدب
وجهت ثاقب فكرتي
والنصر يرفع من غلب
فصنعت أعجب آلة
مقياس صوت للطرب
ثبت سبع صفائح
في قطعتين من الخشب
رتبتها في وضعها
ليكون محفوظ النسب
أطوالها المتباينة
لنجاحها كانت سبب
ضبطت مقاييس النغم
وبذاك تم لي الأرب •••
يوبال :
قد جئت حقا بالعجب
وخدمت عشاق الطرب
الحكيم :
نور الهداية قد أنار طريقي
والحظ والتوفيق كان رفيقي
إني ابتكرت من المعادن آلة
سميتها بالسلم الموسيقي! •••
يوبال :
إني ليسعدني النجاح وحسبها
أن توجت بالفوز والتوفيق •••
الحكيم :
تمشت إليها قلوب الشعوب
وما ذاك إلا بفضل العجم
لقد أبدع الفرس تصويرها
فحازت رضاء جميع الأمم
وهذبها العرب من بعدهم
بدر المعاني ونور الحكم •••
يوبال :
حديثك أنعش مني الفؤاد
فزدني سرورا بتلك الهمم
الحكيم :
سمت وارتقت وعلا نجمها
وثغر التهاني لها قد بسم
بما نالها من يد الفاتحين
كبار النفوس كرام الشيم
تجلت على الترك روح الأغاني
فأوحت إليها بسر النغم
وكانت تفيض هبات الملوك
على النابغين جزيل النعم
وقد أعجز الفن في وصفه
فصيح اللسان، وأعيا القلم
الموسيقى والعليل
كأن الطب أعياه اعتلالي
وما ألقاه من فرط الهزال
فغادرني أجوب ظلام يأس
وأسبح بين أمواج الخيال
بحثت عن الدواء فعيل صبري
وضاعف ما أعانيه ملالي
سرت نحوي النسائم حاملات
دواء غيرت نجواه حالي
أغاريدا وأنغاما وشدوا
تمشت في دمي فارتاح بالي
هلموا أطربو سمعي وغنوا
فمن ألحانكم تصفو الليالي
القطع الغنائية بقلم شجرة الدر
القطعة الأولى
يا طيور الروض غن
واملئي الدنيا سرور
وابد يا حلو التثني
بين منثور الزهور •••
جددي صفو الليالي
يا عيونا ساحرات
وانظمي در اللآلي
يا ثغورا باسمات •••
يا ملاك الحب يا سر الحياة
يا سمير القلب في نجوى مناه
أنت طيف الحظ ترمي بالمنى
في ظلام اليأس أو نور النجاة
القطعة الثانية
أيها البلبل غرد
فوق مياس الغصون
أطرب السمع وجدد
صوتك المشجي الحنون •••
في أغاريد الهنا والغزل
وأناشيد المنى والأمل •••
قد صفا وقت الأغاني
مذ بدت شمس الجمال
وازدهي عيد التهاني
في علا ذات الجلال •••
درة عصماء حلت
في سما برج السعود
هيبة الملك تجلت
حين حياها الوجود •••
صن حماها في هنا الملك الأمين
وأنلها مشتهاها يا إله العالمين •••
أيام سعدك أقبلت
يا ربة الحسن البديع
وشموس ملكك أشرقت
فاستقبلي المجد الرفيع •••
هيا إلى ذرا العلا
يا درة النيل الفريد
وعطري مجد الألى
يا زهرة الوادي السعيد
القطعة الثالثة
أغيد رنا
أهيف القنا
ماس وانثنى
في حلى الهنا
فاتن الدلال
ساحر النظر •••
هزه السرور
منعش الزهور
كوكب القصور
مخجل البدور
رائع الجمال
وجهه القمر •••
ظبية اللوى
شفني الهوى
قد عز الدوا
والقلب انكوى
بالسحر الحلال
من طول السهر •••
روع يا سقام
واقس يا سهام
واهجر يا منام
ما أحلى الغرام!
لو تم الوصال
في صفو السمر! •••
تيهي وانعمي
قد تم المنى
طيبي واغنمي
أيام الهنا
يا ذات الجلال
قد شاء القدر!
صحوة العلم ونشوة المال
الثري :
أيها البلبل هيا غن لي
إن خير العيش ساعات الهنا
الموسيقي :
جددي يا نفس آمال المنى
وانف عن عيني يا طيف العنا
ها هو النشوان مني قد دنا
فانتصر يا فن واحكم بيننا
الثري :
منذ حين كنت أهوى
أن أرى أهل الطرب
الموسيقي :
أنت في أرغد عيش
أنت في أسمى الرتب
أمطرت سحب الغنى
فوق كفيك الذهب
تطرب النفس وتلهو
تحتسي بنت العنب
أي شيء تبتغي
حي واشكر من وهب
الثري :
بالمال كان غرامي
وقد بلغت مرادي
فاليوم أصبح عندي
لا يستميل فؤادي
الموسيقي :
كل حكم في الوجود
سابق فيه القدر
من دنا منه السعود
لم يذق طعم الكدر
الثري :
دع خيالات الحياة
واغتنم وقت السمر
الموسيقي :
كيف ينسى القلب آه
إن في الذكرى العبر
الثري :
إني لأعجب أن تشتكي
وفيك تكامل فن الطرب
حبتك المواهب أسرارها
ومنك تقرب أهل الأدب
الموسيقي :
تدفق حولي بحر الفنون
وأمطر فوقي سحاب النغم
ومن عجب أنني كلما
نبغت أرى البؤس في احتكم
الثري :
غريب على مسمعي ما تقول
لأن حديثك شيء عجب
الموسيقي :
بالذي أعطاك قل لي
كيف ينسى الأغنياء
أن في الأموال حقا
من حقوق الفقراء؟
الثري :
دع أحاديث الثراء
نحن في فن الغناء!
الموسيقي :
لا يبين الحق إلا
حين ينجاب الغطاء
الثري :
عشت في جو السرور
بين آلات الطرب
أجتني أشهى الزهور
من بساتين الأدب
الموسيقي :
متعت سمعك بالنغم
ورتعت في الرزق الجزيل
قل لي بحقك ما الذي
قدمت للفن الجميل؟
الثري :
أرى فؤادي يحنو
إلى سماع الأغاني
أسعى إليها طروبا
كأن وحيا دعاني
الموسيقي :
لعل كفك أسدت
للفن بعض الأماني؟!
الثري :
إن بسط الكف طبع
من طباع المسرفين
يعقب التبذير فقر
بئس حال النادمين
الموسيقي :
إن بذل المال جود
نعم أجر المحسنين
الثري :
لم أجد يوما بمالي
خفت من ذل الهوان
كنت أخشى سوء حالي
لو بدا غدر الزمان
الموسيقي :
اكتسب بالمال أجرا
ليس للدنيا أمان
الثري :
نلت من سحر المعاني
سر أعماق القلوب
الموسيقي :
يا نصير الفن هيا
جد كما جاد الكرام
لو منعت البر عنا
فعلى الدنيا السلام
الثري :
كلفت نفسك نصحي
حتى أنرت طريقي
إني سأبذل مالي
للعلم والموسيقى
مجد مصر
(1)
إن تجديد الأغاني
في علا الشعب المجيد
مذ بدت شمس الأماني
فوق مجد لا يبيد •••
جددي يا مصر عهدا
كان من أبهى العصور
خلدت علياه ذكرا
لم تغيره الدهور •••
فيه جاءت خارقات
هن آيات الفطن
أسفرت عن مدهشات
بهرت عين الزمن •••
كنت للعمران كنزا
سره العلم العجيب
ولمجد الشرق عزا
ذكره دوما يطيب (2)
يا مصر أرضك تبر
واديك مهد العظات
يجري بسهلك نهر
عذب فسيح فرات •••
يا نيل مجراك تسري
منه لمصر الحياة
ما دام ماؤك يجري
فمصر دوما فتاه (3)
يا حمام النيل غن
مطربا حلو النشيد
راق للغصن التثني
في ربا الوادي السعيد •••
أيها الشعب المفدى
أنت مصباح الشعوب
نلت في التاريخ مجدا
منه تهتز القلوب
صوت الضمير
آن تبكيت الضمير
حينما حل الندم
وانجلى ليل السرور
مذ بدا صبح الألم •••
اعتبر يا ذا الجحود
إن في الذكرى العبر
كل شيء في الوجود
تحت أحكام القدر •••
ليس للدنيا أمان
فهي مرآة العجب
إن من طبع الزمان
ساعة الصفو الغضب •••
صحوة العمر خيال
باسم فيه الأمل
لو دنا منه الزوال
لم تفد فيه الحيل •••
إنما الطيش هوان
ساقه سوء الأدب
فاحذروا كيد الحسان
واهجروا بنت العنب •••
انظروا آلام صب
عاش في اللهو سنين
واسمعوا أنات قلب
راعه فرط الأنين •••
حيث ضيعت الشباب
كن مدى العمر حزين
عش ذليلا في عذاب
إن للذكرى حنين
أناشيد مدرسية
(1)
إلى العلا
إلى العلا
يا شباب النيل هيا
بلغوا مصر المراد
فاصعدوا متن الثريا
وارفعوا مجد البلاد
مصر يا مهد الأوالي
خلدوا الماضي العجيب
شيدي صرح المعالي
فوق واديك الخصيب
نحن للعلياء نسعى
في نشاط طائعين
والإله الحي يرعى
كل أواب أمين
من سعى للعلم أسدى
للنهى نور اليقين
نال توفيقا وأهدى
للمنى الفتح المبين
مصر يا كنز الغوالي
مصر يا ذات الجلال
جددي عهد الأوالي
وارفعي شأن الهلال
أيها الوادي المفدى
أنت آمال القلوب
قد ورثنا عنك مجدا
حاز إعجاب الشعوب
هذبوا النشء تسودوا
يا مصابيح الحياة
وانشروا العلم وجودوا
تغنموا عفو الإله
إن بذل الروح يحلو
في علا الوطن الكريم
من أراد المجد يعلو
ذروة الشرف العظيم
مصر يا كل الأماني
مصر يا وادي الكرام
حققي عيد التهاني
يوم نحظى بالمرام (2)
إلى العلا
إلى العلا
هيا إلى ربا العلا
شبيبة الشعب المجيد
وعطرى ذكرى الألى
يا زهرة الوادي السعيد
يا مصر يا أم القرى
يا ربة المجد العظيم
لا زلت عالية الذرا
مهد الحضارة والنعيم
إن المعارف لو سمت
أحيت مواهبها القلوب
وقت البلاد وأودعت
سر التقدم في الشعوب
بالعلم تنقاد المنى
طوعا وينجاب الظلام
هبنا الثقافة ربنا
حتى نرى نور السلام
يا مصر يا ذات السنا
يا كعبة العلم العجيب
تفدي حماك قلوبنا
وشبابنا حتى المشيب
ها نحن أبناء الألى
شادوا الصروح الخالدات
آثارهم رمز العلا
شهدت لهم بالمعجزات
قمنا لتثقيف النهى
والعلم مطلبه جهاد
للنفس في تهذيبها
شأن لإصلاح البلاد
رب المشارق إننا
نسعى إلى نور الفلاح
حقق لنا آمالنا
وامنح أمانينا النجاح
أهل الثقافة والهدى
أنتم مصابيح الحياة
للعلم دوموا سرمدا
ترعاكم عين الإله
مصر الفريدة جددي
عهد السيادة والجلال
حيى بنيك ورددي
ذكرى انتصارات الهلال
نشيد مدرسة خليل أغا
هيا إلى طلب العلا
في نهضة الفوز المبين
سدنا على كل الملا
حمدا لرب العالمين
يا ربنا هيئ لنا
من أمرنا سبل الرشاد
كن عوننا وارأف بنا
يا من عليه الإعتماد
هبنا الهداية إننا
نسعى إلى نشر السلام
حتى تتم لنا المنى
في ظل آباء كرام
العلم نبراس به
نسمو إلى أوج الفلاح
من سار في أضوائه
يحظى دواما بالنجاح
يا مصر يا أم القرى
يا ربة الوادي السعيد
يا من لها عجب الورى
آثار مجدك لا تبيد
ها نحن أبناء الألى
خضعت لبأسهم الأسود
قمنا إلى صرح العلا
نبني كما شاد الجدود
خير المعاهد (دارنا)
أولى المدارس في السباق
ظفرت بغايات المنى
وتعاهدا ألا فراق
أعلامها أسدوا يدا
للعلم حق لها الثناء
وبفضل نهضتهم غدا
سير الجميع إلى ارتقاء
منحوا الثقافة حقها
وسعوا إلى نور اليقين
صقلوا بعلمهم النهى
هذا هو الفضل المبين
يا من رفعتم شأننا
أنتم لنا رسل السلام
أرواحنا وقلوبنا
لكم الفداء على الدوام
يا صفوة الأشبال قد
شملتكم نعم الإله
حيوا المؤدب واشكروا
كي تغنموا صفو الحياة
نشيد مدرسة محمد على
يا نشء للمجد هيا
قد لاح نجم السعود
إلى مناط الثريا
إلى مكان الجدود
شادوا صرح المعالي
فوق الربا شاهدات
تشدو بما للأوالي
في مصر من ذكريات
لمصر في الدهر مجد
مخلد لا يغيب
باق ولو طال عهد
رمز الجلال المهيب
بالعلم تحيا الأماني
بالعلم تسمو الشعوب
يا مصر عيد التهاني
يوم ائتلاف القلوب
إنا نقوم الليالي
في همة واجتهاد
نرجو سماء المعالي
سعيا لمجد البلاد
يا مصر تربك تبر
واديك مهد العظات
يجري بسهلك نهر
عذب زلال فرات
يا ملهم الرشد إنا
نرجو الهدى والفلاح
ثقف نهانا وزدنا
علما وهيبا النجاح
خير المعاهد دامت
أنوارك الساطعات
أعلام رشدك قامت
نحو العلا خافقات
يا قادة النصح نلتم
بالعلم أسمى مقام
ثقفتمونا فكنتم
رسل الهدى والسلام
نشيد مدرسة عابدين
إلى العلا
إلى العلا
سارعوا نحو العلا
واهتفوا يحيا الشباب
جددوا مجد الألى
خلدوا الذكر المهاب
مصر يا كل المنى
نحن أشبال الأسود
هذه أهرامنا
فوق واديك شهود
أنت يا أم القرى
كل آمال الشعوب
نلت إعجاب الورى
مذ تملكت القلوب
هب لنا منك الهدى
وأتنا الفتح المبين
نحن للنيل الفدا
يا إله العالمين
روضنا السامي همى
فوقه غيث الحياة
زهره لما نما
داعي العليا دعاه
إن تهذيب النهى
سر إصلاح البلاد
مذ تجلت شمسها
آن للنشء الجهاد
إنما العلم الحياة
في بساتين الخلود
خير ما وهب الإله
من له كتب السعود
مهدنا الفياض جد
بالكنوز الغاليات
صن شبيبتنا وزد
عزم نهضتنا ثبات
قادة العلم اصعدوا
بالشباب الناشئين
للمعالي جاهدوا
نعم أجر العاملين
نشيد مدرسة القربية
إلى العلا
إلى العلا
تروق المعالي وتصفو المنى
لكل مجد سعى للنجاح
فيا ملهم الرشد هيء لنا
حنانا طريق الهدى والفلاح
إلى العلم نسعى فكن عوننا
وهيء لنا منك صدق اليقين
لك الأمر وحدك يا ربنا
فجد بالرضاء على الناشئين
سمو المواهب يحيى النهى
ويبعث في النفس روح الكمال
متى تم للنفس تهذيبها
كستها الثقافة ثوب الجلال
إلى المجد سيروا فصرح العلا
قريب التداني لعزم الشباب
هلموا فلبوا نداء الألى
أذلوا الأسود وساقوا السحاب
لهم في بطون الثرى آية
وفوق الهضاب لهم معجزات
لآثارهم في الورى منعة
رواسي رغم البلى خالدات
تفديك يا مصر أرواحنا
دواما من المهد حتى المشيب
فيا ربة المجد كوني لنا
سراج هدى نوره لا يغيب
زهور المنى في النهى نورت
وأثمر في النفس غرس العلوم
وشمس العلا فوقنا أشرقت
تبارك أقمارنا والنجوم
رجال الثقافة أعلامنا
بدور الهداية رسل الحياة
صقلتم نهانا فلانت لنا
صعاب الأماني بفضل الإله
وأرشدتمونا فنلنا المنى
وهذبتمونا فحق الثناء
فدوموا لرفعة أوطاننا
وفوزوا كراما بخير الجزاء
نشيد مدرسة الشيخ صالح
إلى العلا
إلى العلا
يا معهد التعليم قد
أولاك بالنعم الإله
فز وانتصر واغنم وسد
واشكر مصابيح الحياة
العلم نبراس الهدى
يدعوا إلى نور الفلاح
يهدي البسالة والندى
لمن اعتلى صرح النجاح
يا مصر عهد شبابنا
وقف على العلم المنير
حتى تتم لنا المنى
فإلى علا الوطن المسير
يا مصر يا أم القرى
يا ربة الوادي الكريم
لعلاك خاصمنا الكرى
سعيا إلى الشرف العظيم
ها نحن أبناء الألى
آثارهم رمز الخلود
قمنا إلى صرح العلا
نبني كما شاد الجدود
مصر العزيزة رحبي
ببنيك أشبال الأسود
حيي شبابك واطلبي
علياء مجدك أن تعود
أنت السعادة والمنى
ترعاك عين لا تنام
أرواحنا وقلوبنا
رهن الجهاد على الدوام
كن عوننا يا ربنا
واكتب لنا الفوز المبين
هبنا الهداية إننا
نسعى إلى نور اليقين
نشيد مدرسة مصر الجديدة
ربنا حمدا وشكرا
أنت خير الراحمين
كن لنا عونا وذخرا
يا إله العالمين
هب لنا التوفيق دوما
واهدنا سبل الرشاد
واملأ الآمال عزما
يا بصيرا بالعباد
صن لنا الآباء عزا
إنهم رمز الحنان
واجعل الطاعة زادا
للفؤاد وللسان
إن كنز العلم بحر
لا يهدده النفاد
للعلا سيف وبدر
نشره يحي البلاد
اطلبوا العلم دواما
فهو مصباح الفلاح
من سعى للعلم يحظى
بالأماني والنجاح
يا كرام النشء هيا
صافحوا نجم السعود
وارفعوا فوق الثريا
مجد آثار الجدود
نلت يا مصر المعالي
منذ آلاف السنين
فاذكري عهد الأوالي
وارفعي شأن البنين
أيها الوطن المفدى
قد وهبناك الحياة
عز من أولاك مجدا
وليدم فضل الإله
مصر يا كل المنى
نحن أشبال الأسود
جددي المجد لنا
فوق أبراج السعود
إننا للعلم نسعى
بين جد واجتهاد
وعيون الله ترعى
كل من رام الجهاد
مهدنا مصر الجديدة
معهد العلم المنير
دار تهذيب مجيده
فضلها فينا كبير
قد حوت أتقى قلوب
ملؤها نور اليقين
روح آداب وعلم
في رجال عاملين
يا رجال العلم أنتم
للهدى رسل السلام
يرجع الفضل إليكم
أحسن الله الختام
ربنا حمدا وشكرا
أنت خير الراحمين
كن لنا عونا وذخرا
يا إله العالمين
الجزء
ربيبة الكوخ
مسرحية مترجمة عن تشارفس جارفس
أسهم الشاعر في الحركة الفنية في عصره بتأليف وترجمة بعض المسرحيات، وقد اخترنا هذه المسرحية المترجمة إلى اللغة الفصحى لتكون دليلا على العمل الفني الذي كان يقدمه.
الفصل الأول
المنظر الأول [غرفة بكوخ المطحنة بإحدى قرى برنستابل على نهر التو] (مائدة حولها ثلاثة مقاعد. ليرا جالسة وفى يدها كتاب. تضعه)
ليرا :
ما أهنأ هذه الحياة. وما أسعدنى بين هذين الشيخين الجليلين: والد كرس حياته لتهذيب ابنته التى انقطع من أجلها عن العالم، وخادم أمين ما ترك لحظة من ثمين وقته إلا نفحها فيها بغوالى نصائحه. فليباركمهما الله كما سهرا على نعيمى. (تقف) أماه! أماه! أين أنت الآن؟ كيف تتركيننى فى الربيع الأول من زهرة شبابى؟ يا ترى أين أجدك يا من أسأل الله لك الرحمة؟ أمي! أو ما علمت أن ابنتك تحن إليك كما لو كانت بين ذراعيك. إلهي؟ أين أجدها؟
آدون تشستر (يدخل) :
تجدينها فى شخصي يا عزيزتي. أنا أمك وأبوك، يا زهرة الربيع. فهل تشكين ألما؟
ليرا (تطوق أباها بذراعيها) :
كلا يا أبتي. إنما أراني أحن كثيرا إليها. وما خلوت بنفسي لحظة إلا رأيت خيالها الطاهر يبسم لى عن ثغر لعبت به يد البلى. وكثيرا ما شعرت بيمينها تمسح على شعري، كأنها تسألني الصبر على فراقها. فأشعر إذ ذاك براحة. وما هي إلا هنيهة حتى أفيق من خيالي، فأندب سوء حظي.
تشستر (يسقط على الكرسى) :
يا لها من ذكرى مؤلمة. ليرا! (يمسح شعرها) تناسي تلك الشواغل. واطردي تلك الخيالات.
جرفث (يدخل) :
ها قد أحضرت الحطب يا مولاي. فهل من حاجة قبل أن أبدأ فى تجهيز الطعام.
تشستر :
نعم. (ينظر إلى ليرا)
نسيت نظارتي بجانب الكتاب الذي كنت أطالع فيه على المائدة. فهل لك أن تحضريها يا ليرا (ليرا تخرج) .
جرفث! ما أصعب الدين. الدين هم بالليل ومذلة بالنهار.
جرفث :
هون عليك سيدى. فربما ارتفعت الأسهم التي لك فى الشركة، فتنتظم لنا أسباب الحياة.
تشستر :
هذا كل ما بقى لى من أمل. جرفث! إننى أريد الجريدة. فاذهب إلى پترال وسل جرپلى أن تعطيكها، وبلغها تحيتى. (لنفسه)
عسى أن يكون فيها تفريج كربتي.
جرفث :
سأذهب حالا.
ليرا (تدخل) :
ها هي النظارة يا أبت.
تشستر :
شكرا لك يا ابنتي (يقبلها ثم يقف)
هيا بنا إلى الحديقة يا عزيزتي. (إلى جرفث)
إنى منتظر.
ليرا (تبقى ويخرج تشستر) :
إلى أين يا جرفث؟
جرفث :
إلى پترال .
ليرا :
ولماذا؟
جرفث :
لأحضر شيئا لأبيك، يا عزيزتي.
ليرا :
دعني أذهب بدلك، فأنت تعب كما يلوح لى..
جرفث :
لا يا مس ليرا. فأنا لا أزال أشعر بقوة شبابي تتضاعف. ذلك لأني أوقفتها على رعايتك.
ليرا :
أنت تثق بحبي إياك. ولو كان فى وسعى أن أقوم بكل شئون المنزل ما توقفت عن ذلك لحظة.
جرفث :
شكرا لعواطفك.
ليرا :
وتعلم أيضا أن سعادتي فى ركوبى القارب. فلماذا تمنعنى عن الذهاب إلى پترال حيث أعبر النهر، فأتسلى.
جرفث :
ولكن ...
ليرا (تطوقه بذراعيها) :
لا تعاند من أحبتك.
جرفث :
بارك الله فيك يا عزيزتى. سأذهب حالا لأعد لك القارب. (يخرج) .
تشستر (يدخل وفى يده كتاب) :
هل ذهب جرفث يا عزيزتي؟
ليرا :
نعم. ذهب ليعد لي القارب يا أبتاه.
تشستر :
لك أنت، ولماذا؟
ليرا :
لأنى سأذهب بنفسي لإحضار حاجتك من پترال.
تشستر :
وهل تعلمينها؟
ليرا :
لا. وهل عندي علم الغيب؟
تشستر (بوداعة) :
وكيف تحضرين ما لا تعرفين؟
ليرا :
سأسأل جرفث متى ركبت القارب.
تشستر :
ولم اخترت الذهاب بنفسك ومنعت جرفث؟
ليرا :
لأنه تعب جدا يا أبى. وأحب أن أساعده ليستريح قليلا.
تشستر :
وهل يسعدك أن تخدميني يا ليرا؟
ليرا :
هذا كل مناي يا أبي. هل تثق بخدمتي بعد ذلك؟
تشستر :
حسنا يا ليرا. إني أريد الجريدة، فقد كانت مسز جرپلى تعيرني إياها كلما أردت.
ليرا (تبتسم) :
نعم. (تشستر يجلس ويقرأ) .
أتسمح لي أن ارتدي معطفي وقبعتي؟
تشستر :
لك ما أردت (تخرج) . ما أشد حبي إياها إنها لا تعرف شيئا عن الدين. حسنا فلتذهب.
ليرا (تدخل بالقبعة والمعطف على يدها) :
ها أنا ذي.
تشستر :
إلي كي أقبلك (يقبلها. تخرج. لنفسه)
إن ذكرى الماضى تؤلم الشيخ. ثروة زالت، وزوجة طاهرة ماتت. يالهول كل ذلك! أو لم تكفني تلك المصائب، حتى أرزح تحت عبء لم أتعوده من قبل! الدين! الدين! ما أصعب احتمال هذه الكلمة! بل ما أشد وقعها على سمعي! رحماك يا إلهي! (يدخل جرفث)
هل ذهبت ليرا؟
جرفث :
نعم.
تشستر :
وهل علمت شيئا عن سبب إحضاري الجريدة ؟
جرفث :
كلا. إنها لا تعلم عن العالم سوى شيئين.
تشستر :
وما هما؟
جرفث :
أولهما أنك أبوها. وثانيهما أنني خادمها الأمين.
تشستر :
ما أسعدها، وما أشقاني!
جرفث :
هون عليك يا سيدي.
تشستر :
لتكن مشيئة الله إمض، أنت إلى عملك. وسأحضر إلى غرفة المائدة بعد أن تعود ليرا. (يخرج جرفث. تشستر يعود إلى القراءة. بعد قليل ينظر فى ساعته).
تشستر :
عجبا لقد انقضت ساعتان ولم تحضر ليرا. كيف تأخرت إلى هذا الحد والمسافه لا تحتاج إلى أكثر من نصف ساعة. (يقف ويسير نحو الباب)
جرفث! جرفث!
جرفث (يدخل) :
بماذا يأمر مولاي؟
تشستر :
لقد تأخرت ليرا. أليس كذلك؟
جرفث :
لعل مسز جرپلى ...
تشستر :
دعتها لتناول الغداء؟
جرفث :
ولم لا؟
تشستر :
ليس ذلك من عادتها. وقلبي يحدثني بأن هناك سببا آخر.
جرفث :
لا أظن. فأنا أعرف قلب الطائر الذي أربيه.
تشستر :
لقد داخلني الشك فى تأخرها. إذهب أنت إلى عملك. وسأستريح قليلا في مخدعي حتى تحضر. (يخرج) .
لورد أمتاريدج (يدخل مبلل الثياب وليرا معه تمسح الماء عنه بمنديلها، وفى يسراها الجريدة) :
أظنني لم أفهم قوانين هذه اللعبة الغريبة.
ليرا :
أية لعبة تعني؟
داين :
لا أعني شيئا وأسأل الله أن تكوني سالمة من كل أذى.
ليرا :
نعم. إنى سالمة. ولكن ما الذي حملك أنت على الاستحمام بملابسك؟
داين :
استحمام! (بدهشة)
إنك سليمة النية يا حسناء.
ليرا (بوداعة) :
لست أفهم معنى ما تقصد.
داين (يعصر كم قميصه) :
إنك تعرفين ما يجول بخاطري، يا سيدتي. لقد ظهر لي أنك لم تكوني فى خطر، ولكنك كنت تستغيثين.
ليرا :
أنا؟ أواثق أنت مما تقول؟ إني كنت أغرد لأداعب طيور الماء ... أهذه في عرفك إستغاثة؟
داين :
تغردين، (بعجب)
ما أشد وهمي!. لقد حسبتك تغرقين ... لذلك بادرت إلى إنقاذك بأن قذفت بنفسي في الماء قبل أن أفكر في خلع ملابسي.
ليرا :
لقد أخطأ ظنك يا سيدي.
داين :
مصادفة عجيبة.
ليرا (مبتسمة) :
أما أنا فكنت أظنك تغرق ... ولذا أسرعت لنجدتك بقاربي. وكنت أنت تحسبني أغرق فقذفت بنفسك لإنقاذي. فكلانا فعل الواجب عليه .
داين :
لقد أصبحت مدينا لك بحياتي يا سيدتي.
ليرا (بنظرة شفقة وحنو) :
إنه ليسعدني أن أراك دائما. إن بيتنا هو هذا الكوخ الصغير. أما أنا فأعيش بين شيخين: والد كريم، وخادم أمين..
تشستر (يدخل) :
لماذا تأخرت يا ليرا، وأين الجريدة؟ (دون أن يلتفت إلى اللورد) .
ليرا :
لقد أحضرتها يا أبي (مشيرة إلى داين) . وقد أوشك أن يغرق.
تشستر (يتناول الجريدة.. إلى داين) :
أراك مبتل الثياب.
داين :
نعم يا سيدي. ولولا ابنتك لكنت الآن من سكان جوف السمك.
تشستر (بدون اكتراث) :
أتحب أن تجفف ثيابك عندنا؟ (يتردد اللورد بين الشيخ وليرا ولا يتكلم) .
ليرا (لداين) :
لماذا لا تقبل دعوة أبي؟
داين :
قبلت دعوتك يا سيدي.
تشستر :
تفضل فاجلس. (يجلسون) .
داين :
أقدم لك نفسي. أنا من أسرة أرمتايدج، واسمي داين.
تشستر :
وأنا من عائلة تشستر، واسمي آدون، وهذه ابنتي ليرا، وهذا منزلي.
داين :
إني أعرف بعض أفراد هذه الأسرة الكريمة.
تشستر (بلهجة حزن) :
أما أنا. فلم أرى أحدا منهم منذ سنين، وكأني آلم من ذكر الماضي (إلى اللورد)
إني سعيد بزيارتك.
ليرا :
وأنا أيضا أشارك أبي في هذه السعادة.
داين :
شكرا، يا سيدي. وأنت يا منقذة حياتي.
تشستر :
من أين أنت قادم، يا مستر داين؟
داين :
من لندن للترويح عن النفس، ولقد صدق من قال: إن السفر قطعة من العذاب..
تشستر :
وأين كان السفر؟
داين :
إني قضيت أكبر شطر من حياتي في السياحة: فجبت فيافي أيسلنده وسهول الروسيا، وغابات الهند وسيلان وجزائر الهند الشرقية والهند الغربية. وأواسط افريقية، وهضاب الكونغو والكمرون والحبشة، ومنابع النيل، والنيجر والمزون، والمسيسبي وسانت لورنس؛ تلك المناظر التي تأخذ بمجامع القلوب، وكذلك زرت أعظم مدن أمريكا، واستراليا حبا في الوقوف على أخلاق الناس وشغفا بمناظر الطبيعة، ورغبة في الصيد والتسلية.
تشستر (يتفرس فيه بعد أن يصلح نظارته) :
وهل كنت تستطيع الوفاء بنفقات هذه السياحات الطويلة؟
داين :
هذا سهل جدا، لأن والدي يدفع ما أحتاج إليه بسخاء.
تشستر (بإعجاب) :
إنه على ما يظهر واسع الثروة. وهل كنت سعيدا في سياحتك الأخيرة.
داين :
بدون شك.
تشستر :
وهل أنفقت زمنا طويلا في رحلتك الأخيرة يا مستر داين؟
داين :
نعم يا سيدي، لقد قضيت فيها ثلاث سنين متواليات.
ليرا :
وكيف كنت تصبر على فراق أبويك؟
داين :
ليس لي غير والد شيخ، لا يترك القلم طرفة عين، وهو الذي حبب إلي السفر رغبة في تهذيب أخلاقي، ونمو معلوماتي، كي أتمكن من احتلال مركزه في المستقبل.
ليرا (بحزن) :
وأمك، هل فارقتك صغيرا كما فارقتني أمي؟
داين :
نعم، تركتني في المهد.
ليرا :
إنها... (يقاطعها الشيخ ليغير الموضوع) .
تشستر :
ومتى عدت من هذه الرحلة يا ضيفنا العزيز؟
داين :
منذ شهر.
تشستر :
هل رأيت الصين، يامستر داين؟
داين :
كلا، لقد كان في نيتي أن أقضي شطرا من حياتي في الصين، واليابان، غير أن صديقا لي دعاني وأنا في كلكتا إلى سنغافورة احتفالا بعيد ميلاده فلبيت الدعوة. وكان الجو في سنغافورة حار جدا، ومع أن البلدة آية في الإبداع والرونق لم أتمكن من المكث بها سوى ثلاثة أيام، ولما عزمت على العودة إلى برنامجي الأول، من زيارة بكين، ويوكوهاما، وطوكيو، حبب إلي صديقي تغيير هذا البرنامج، والإستعاضة عنه بزيارة منحدرات نياجرا في أميركا. ورأيت أن أوافقه إذا شاركني فيها فكان أنيسي في تلك الرحلة الطويلة. وما مالت الشمس للمغيب إلا وكنا على ظهر الباخرة.
ليرا :
واعجبا! إني لم أسمع مثل هذا الحديث من قبل.
تشستر :
وهل رأيت أن صديقك كان محقا في وصفه، أم أنه أسرف في المبالغة.
داين :
إن ما رأيته من جلال النظر كان أضعاف ما وصفه لي صديقي: رأيت الجبال هناك يعلوها الجليد الناصع البياض ورأيت، الينابيع ينحدر ماؤها من ارتفاعات هائلة، وشاهدت ماءها المتدفق وكأنه صيغ من سبائك الذهب، وقد تناثرت حولها قصور عشاق المناظر الجميلة.
تشستر :
أنت شاهدت، إذا، أجمل مناظر العالم.
داين :
تقريبا..
ليرا (لداين) :
أما أنا فلم أر غير هذا المكان، يا سيدي؛ ولم أعرف مخلوقا آخر غير أبي وجرفث ومسز جربلي جارتنا.
داين :
ومن هو جرفث؟
ليرا :
هو خادمنا الأمين .
تشستر :
هل تسمح لي يا مستر داين أن أذهب إلى مخدعي لقضاء بعض العمل؟ (يقف) .
داين (يقف وتقف ليرا) :
كما تريد يا سيدي.
تشستر :
شكرا لك (يخرج) .
داين (ينظر إلى ليرا بإعجاب) :
أرى كوخكم هذا أشبه شيء بصومعة ناسك. لقد انفرد بالجمال في هذه البقعة المنعزلة. مس ليرا! أتعيشين هكذا وحدك؟ إنها لعيشة جافة. ألا تشعرين بذلك؟
ليرا :
لم أفكر في ذلك قط. فقد ألفت هذه الحياة منذ طفولتي.
داين :
أليس لكم أصدقاء؟
ليرا :
ما أظن أن لنا صديقا. أراك تستغرب كلامي، فهل هو غريب حقا؟
داين :
لا داعي للغرابة، فيما أظن. ولكن أسعيدة أنت بهذه الحياة المملة؟
ليرا (ببساطة) :
لم لا أكون سعيدة؟ وكيف تصف هذه الحياة بالملل؟ أأنت كثير الأصدقاء؟
داين :
إني كثير الأصدقاء. ذلك لأن أبي كثير الإختلاط بالناس. ألم تسمعي عن آستار منستر؟
ليرا :
لم يرد على سمعي هذا الإسم قط. وهل تسكن أنت وأبوك بيتا واحدا؟
داين :
أبي يسكن ستار منستر، أما أنا فدائم التنقل. إنه في عمل مستمر، وأنا في فراغ دائم.
ليرا :
وهل هو راض عن ذلك؟
داين :
كلا.. إننا في نزاع دائم: هو يريد أن أكون معه في مجلس النواب، أو على الأقل أن أخلفه فيه.
ليرا :
ولماذا ترفض ذلك المركز العظيم الذي تتمناه النفوس؟
داين :
لأنني لست من رجاله.
ليرا :
وكيف اتفق ذلك وأنت في نضارة الشباب؟
داين :
أميل بطبعي إلى الراحة والسكون. ولا أعشق في هذا العالم سوى (يتوقف) ...
ليرا :
سوى ماذا؟ ما بالك تفكر؟
داين :
سوى الرحلات والمناظر الجميلة.
ليرا :
ولكن ألا تفضل ذلك المركز السامي على تلك الأماني التي لا تلبث أن تزول؟
داين :
ربما فكرت في ذلك فيما بعد.
ليرا :
يظهر لي أن أباك من أركان هذا المجلس العظيم.
داين :
كان عضوا في البرلمان قبل أن ينتقل إلى مجلس اللوردات.
ليرا :
نعم، فهمت. فهو إذن لورد.
داين (يحني رأسه) :
نعم. هو لورد آرل ستار منستر. ألم تطعي على شيء من أخباره؟ ذلك لأنه لاتخلو صحيفة في لندن من ذكر اسمه.
ليرا :
لسوء حظي أني لم أتعود مطالعة الصحف. لكن لماذا يذكرون اسمه دائما؟
داين :
لأنه من الوزراء، ومركزه يقترن بجميع الحوادث العظيمة. (يصمت)
عفوا يا مس ليرا، فقد أتعبتك بهذا الحديث الممل.
ليرا (باحترام) :
لا مستر داين. ولكن عفوا لجرأتي. بماذا يجب ان أدعوك منذ الآن؟ نعم، لقد اهتديت. لورد داين. (تنحني) .
داين (يبتسم) :
أنا لا أود أن أسمع من هاتين الشفتين الجميلتين سوى داين فقط.
ليرا (بخجل) :
لك ما تشاء.
داين :
هل تعلمت شيئا من الموسيقى؟
ليرا (باستغراب) :
وكيف أعرفها، وأنا بين شيخين لا يتكلمان إلا عند اللزوم؟
داين :
مسكينة أنت يا ليرا. والتصوير؟ وصيد السمك؟
ليرا :
لا هذا ولا ذاك. وهل تصيد النساء السمك؟
داين :
إنه من ألذ متعهن. ولو كانت هناك قصبة لعلمتك الصيد في ساعة واحدة. فقد علمت ابنة عم لي (يتوقف)
فنبغت فيه، ولكنها لم تستمر.
ليرا :
ألأنها ملت الصيد، أم ألهاها شيء آخر عنه؟
داين :
لا، بل خطر لها أن الصيد خطيئة. إذ بسببه يقع الظلم على الحيوان المسكين.
ليرا :
وكيف خطر لها ذلك؟
داين :
في العالم أناس كثيرون لا يأكلون ولا يشربون ولا يتحركون قبل أن يتساءلوا عما إذا كان في ذلك خطيئة. وثيودوسيا ... (يتوقف) .
ليرا (تقاطعه) :
ثيودوسيا! ما أغرب هذا الإسم. لا شك أنه اسم ابنة عمك.
داين :
نعم (يدخل تشستر) .
تشستر :
أرجو أن تعفوعن جرأتي لدخولي عليكما بغير استئذان.
داين (يقف) :
إن ذلك يضاعف سرورنا.
ليرا :
إن سعادتي في أن أراك يا أبي. ألا توافقني على ذلك يا مستر داين؟
داين :
وهل في ذلك شك؟
تشستر :
إنا نعتبرك صديقنا من اليوم. فلا تحرمنا من زيارتك كلما سنحت لك الفرص. وأنا على يقين من أنك ستجد في كوخنا وما حوله من مناظر الطبيعة خير تسلية لك. أليس كذلك يا ليرا؟
ليرا :
هذا يحتاج إلى برهان. وأنا أضم صوتي إلى صوت أبي، عسى صوتانا يجدان إلى قلبك سبيلا.
داين :
إن لساني ليعجز عن وصف شكري لعواطفكما. وإني أهنئ نفسي بهذه الصداقة وأسأل الله أن تكون سبب هنائي (ينظر إلى ليرا)
وتأكدي يا مس ليرا أني لا أنسى ما لك علي من جميل. وإني أعدك ألا أترك فرصة تسمح لي بزيارتكما دون انتهازها (يقف)
لقد مضى النهار، وأخاف أن يداهمني الليل. والطريق وعر. فأستودعكما الله.
تشستر (يقف) :
ألا يمكن أن تقضي معنا هنا هذا المساء؟
ليرا (باستعطاف) :
نعم، ألا يمكن؟
داين :
كان يسرني ذلك جدا، لو لم أكن مضطرا أن أصل برنستابل الليلة لدواع مهمة، ويمكنني ان أراكما في صبيحة الغد.
تشستر :
حسنا.
ليرا :
أصحيح هذا؟ أيمكن أن أسعد بزيارتك غدا؟
داين :
سأبذل قصارى جهدي. (يصافحهما)
إلى الغد. وما الغد ببعيد.
تشستر :
إلى الملتقى يا مستر داين، إنى على أهبة استقبالك غدا. (إلى ليرا)
أنا ذاهب إلى غرفتي، وبعد أن تودعي ضيفنا العزيز ... (يخرج تشستر) .
داين (يمسك يدها بيديه) :
أتظنين أن في صيد السمك خطيئة، كما تتوهم أترابك؟
ليرا :
وما اخطيئة في ذلك؟
داين :
إذا سأعود غدا لأعلمك الصيد، إلى الملتقي (يخرج) .
ليرا :
رعتك عين العناية. (لنفسها)
ما أجمله! وما أرق حديثه وأعذبه! إنه لورد غني شريف، نعم إنه الابن الأكبر لأيرل استار منستر، وكفاه ذلك فخرا. (تتنهد)
أما أنا، أنا ابنة الشيخ تشستر، ربيبة الكوخ. آه. أين هذا الكوخ الحقير من ذلك القصر الكبير؟ ولكن (بشمم)
مالي وهذه الأحلام التي تسبح بي في عالم الخيال؟ كيف للأرض أن تساوي القمر في رفعته؟ كفاني سعادة أن أهبط من سماء منزلته العالية، وقبل أن يتدانى فيصادقني.. (تصمت)
ثيودوسيا، ثيودوسيا. من هي. أه، إنها ابنة عمه، إنها صاحبة قصر وخدم، غنية ونبيلة. إنهما متناسبان وميكافئان ثروة وجاها. ويلاه! ماذا أصابني! أأحسد نعمة أسداها الله إلى غيري؟ إن هذا هو عين الحماقة. ما أضعف قلب النساء! يجب أن ننتظر الغد ... (تقف)
وما الغد ببعيد. (تمشي إلى الباب وتخرج) . (تطفأ الأنوار. يتغير المنظر بغاية السرعة)
المنظر الثاني (غرفة فاخرة بفندق برنستابل. جاك خادم الفندق يرتبها. الوقت ليلا)
جاك :
ما أشد هوس هذا السيد! إن انتسابه إلى أسرة ارمتايدج لفلتة من فلتات الطبيعة! (يضحك)
شاعر! (يضحك)
شاعر مختل الشعور! لا يعي ما يكتب ولا يفهم معنى ما يقول، يسطو على قصائد جونس وبرونتج فيسرق ما يروق له منها وما أسرع ما يغير الغرض ثم ينسب ذلك الجهل إلى نفسه. (يضحك)
ومن أقبح ما سمعت أنه يغني! (يضحك ثم يجلس)
مسكين شاب، قوي غني غير أنه مرتبك العقل، ضعيف الإرادة، بليد الذاكرة. والأدهى من ذلك أنه جبان، سلبه الجبن كل علائم الشرف.. وهو فوق هذا وذاك رسام و ... (يضحك)
يدعي انه فنان يصور حقائق الأشكال. والحقيقة أنه يقلب المرئيات كما تفعل عدسة الآلة الراسمة.. (يضحك)
فينقش بذلك صورا لا يفقه ما ترمي إليه إلا هو وحده. (يضحك)
ولكن مالي وجهله؟ الدينار هو هدفي. فما دام يحب الألقاب، ويعشق الظهور الكاذب، فسأملأ منه جيوبي ذهبا، وليس له إلا أن أقول: حضر السيد تشاندس. تفضل يا مولاي. الجميلة سألت عن اللورد. ما أجمل هذه الصورة! ما أبدع هذا الخيال! ما أطرب هذا اللحن! ما أمتن هذا النظم! إني أسمع وقع أقدام، فمن الزائر يا ترى؟ لعله هو المعتوه. (يجري إلى الباب) .
داين أرمتايدج (يدخل داين ومعه أدوات الصيد) :
أأنت هنا يا جاك؟
جاك (ينحني) :
في خدمة مولاي.
داين :
حسنا، خذ هذا إلى غرفتي الخاصة، وأعد المائدة.
جاك (يأخذ الأدوات) :
هل سيدي اللورد ضيفنا الليلة؟
داين :
نعم. (يجلس، يخرج جاك. داين لنفسه)
لقد وعدتها بأن أعود في الغد، وما أشد سرورها بذلك. مسكينة، ما أضيعها في ذلك المكان المنفرد! إنها تعيش كراهبة. تصبح وتمسي بين شيخين يمثلان الفناء بأجلى معانيه. فما أقسى الدهر، وما أعجب أطواره. يجب أن ترى لندن. يجب أن ترى السعادة وترفل في لباس النعمة والهناء.
تشاندس (يدخل وفي يده ورقة وقلم) :
آه. ابن العم. هل أنت هنا يا لورد؟
داين (بازدراء) :
أي شيطان حملك إلى هذا المكان؟
تشاندس :
شيطان! (يضحك)
والله، يابن العم، إن من يسمعك الآن يحسبك غير راض عن قدومي.
داين :
أو في ذلك شك! ألم تعهد في الصراحة؟
تشاندس :
إذن فأنت لاتمزح؟
داين :
ومن أدراك أني أمزح مع المتهوس؟
تشاندس :
أمتهوس أنا؟
داين :
هذا ما لا يختلف فيه اثنان.
تشاندس (بحدة وهو يجلس) :
هذه بلاد حرة يا عزيزي، وهذا فندق عام. فما معنى احتقارك لي ونحن متساويان في الضيافة؟ بل يلوح لي أنني أكثر منك مالا.
داين :
أنت يلوح لك كل شيء؛ لأن مكروب الخيلاء الذي يملأ فراغ رأسك، وإن كان بطئ العمل، إلا أنه دائم الحركة.
تشاندس :
أنا أعتقد أنك تمزح. ولولا ذلك ...
داين (يقاطعه) :
لهاجت عواطفك (يضحك)
أليس كذلك؟
تشاندس :
دعنا من الجدال، فنحن يجب أن نكون أصدقاء، لأننا من عائلة عريقة ومن دم واحد فلا داعي إلى التفضيل.
داين :
إن هذا لغريب، لقد تركتك في لندن أمس، فما معنى قدومك برنستابل اليوم؟
تشاندس :
أتجول باحثا عن الجمال.
داين (بهزء) :
الجمال! ما أخف عقلك! وأية جميلة تعشقك؟
تشاندس :
حقا إنك لا تعرف قدري يا ابن العم. ألم تسمع بقصائدي التي يتغنى الناس بها في جميع المنتديات؟ إن بعض الفاتنات الجميلات شهدن لي منذ شهر بأنني فقت مشاهير الشعراء.
داين (يضحك) :
إنك واهم..
تشاندس :
أراك تتهكم، ذلك لأنك لم تتعلم الشعر، وإذا سمعته، فكيف يتأتى لك أن تصل إلى المعنى الذي يرمي إليه الشاعر؟ وإن وصلت إلى قشور المعاني، فهناك بون شاسع بين ما تفهمه أنت وما نتشبع به نحن الشعراء.
داين :
شعراء! (يضحك)
إنك لشديد التمسك بالفن.
تشاندس :
لتترك الشعر لمن يفقه معناه، وما قولك في فن التصوير؟ ألست الآن من أمهر المصورين؟ والموسيقى؟ ألم أبلغ في الموسيقى منزلة لم يبلغها إنسان؟ صرح بأفكارك! تكلم!
داين (بتهكم) :
أهنئك بهذا النبوغ. وأسأل الله ألا يجعل شعرك وألحانك وتصويرك سببا في سقوط هذه الفنون الجميلة.
تشاندس :
الفنون الجميلة! (ببله) ما أحسن هذا الوصف، وما أقدرك على حسن التعبير! إنك تنجح، إذا علمتك الشعر يا عزيزتي.
داين :
كفى، يامعتوه. أتحسب أنك الآن محاط بلفيف من خفيفات العقول اللواتي يحسبن كل كلمة تقولها منزلة.
تشاندس (بسرور) :
كل كلمة أقولها منزلة. بارك الله فيك يا عزيزي. لقد أنعشتني بهذا الوصف الجميل.
داين (بحدة وغضب) :
أترك السفسطة يا أحمق، وأخبرني لماذا حضرت إلى هذا الفندق.
تشاندس :
حضرت صباح اليوم لأرى مناظر الطبيعة حول ضفاف التو. ولقد شاهدت الغروب ونظمت فيه قصيدة، يا لها من قصيدة ترقص الطير لها في كبد السماء! أتحب أن أسمعك إياها! (يحاول القراءة)
اسمع يا لورد.
داين :
ما أنحس هذه الليلة، وما ألعن هذه المصادفة!
تشاندس (يطوي الورقة بغضب) :
إنك شديد التمسك بخرافاتك يا عزيزي داين. ولئن سألتني بعد ذلك أو توسلت إلي أن أسمعك شيئا فسأرفض بتاتا ضاربا بتوسلاتك عرض الحائط! أفهمت الآن يا لورد؟
داين :
لا بأس عليك (يضحك) .. أنا أعرف أنك عند نفسك نابغة في كل شيء.. تشاندس: ولماذا تهينني، وأنت تعلم أن نبوغي هذا هو الذي جعلني كثير الكلام؟
داين :
هون عليك.
تشاندس (بسرور) :
شكرا لك إني أحبك وأحترمك، يا لورد.
داين :
دعنا من هذا، وأخبرني متى حضرت من لندن.
تشاندس :
أمس، في القطار الأخير - وقد مررت بكاسل تروز.
داين :
حسنا، أتعلم ماذا حدث لي ليلة أمس؟
تشاندس :
لا أعلم شيئا.
داين (بغضب) :
دخل على خادمي ولفرد، وأخبرني أن امرأة تريد أن تراني.
تشاندس :
امرأة! إنك لا شك لم تقابلها. فالمرأة الشريفة لا تزور الأشراف في مخادعهم ليلا.
داين :
بل قابلتها رغم ذلك. فإذا بها فاتنة خلابة المحاسن، وهي فوق ذلك في مقتبل الشباب.
تشاندس :
سامحك الله يا عزيزي. وماذا يقول الناس عنك إذا ظهر الأمر؟ إن خادمك ولفرد..
داين (يقاطعه) :
لا. إني أثق بخادمي.
تشاندس :
هذا صحيح. وماذا كانت ترجو هذه الحسناء من مقابلتك على إنفراد؟
داين :
حالما أبصرتني تقهقرت مذعورة. وعندما قمت لأقدم لها مقعدا تستريح عليه، جعلت ترسل إلى أشعة محرقة من نظرها الملتهب وكأن وجهها قد غيرته المفاجأة. فبينما هي عندمية اللون، إذ بالصفرة تضرب على وجهها نقابا تنكمش للونه القلوب. ولما خرجت من الشك إلى اليقين اضطربت إضطرابا شديدا هائلا مريعا، ثم وضعت يديها على وجهها لتستر الخجل الذى تولاها، وهي تقول بصوت خافت ضعيف. أخطأت يا سيدي فاعف عني لجرأتي، ودعني أنصرف. ثم تمتمت قائلة: إنه ليس هو. وكأنها كانت تنتظر أمري لها بالإنصراف. بيد أني عوضا من أن أستسلم للدهشة، فهمت أن لها أمرا خطيرا، فدفعني الفضول إلى الإستمرار، عسى أن أقف على آلام تلك العذراء المسكينة. وأظنك لا تجهل نوادر الفتيات التعيسات اللواتي يلعب بهن طيش الشباب.
تشاندس :
مسكينة تلك المنكودة وهل كانت حكايتها مؤثرة؟
داين :
ومدهشة
تشاندس :
وأية صدفة عجيبة قادتها إليك؟
داين :
إسمع. سأتم لك الحديث قلت لك إنها خجلت وأرادت الإنصراف. غير أني منعتها، مدفوعا بعامل الشوق إلى معرفة مصابها، عساي أن أجد سبيلا لمد يد المساعدة إليها. فامتقع لونها ونظرت إلي نظرة كاد يجمد لها الدم في عروقي، وأنت أنين الملسوع قائلة، والدمع يملأ محاجرها: إن شابا سطا على طهارتها ولكنه أخفي عنها اسمه، وبعد أن وعدها بالزواج أخلف وعده وجد في الهرب.
تشاندس :
يا إله السماء إنه لدنئ سافل.
داين :
نعم. دنئ سافل: وستدهشك جدا معرفته.
تشاندس :
معرفته؟ أو أعرف أنا مثل هذا الوحش السفاك!
داين :
لاتتعجل. فهو صديقك الذي لا ينفصل عنك طرفة عين، وأكثر بلاغة من هذا الذي يرافقك كظلك فلا يفارقك حتى في مخدع نومك.
تشاندس :
لا يفارقني حتى في مخدع نومي؟ أظنك واهم يا لورد. إذ أنه ليس لي صديق له عندي هذه الميزة.
داين :
لقد خانتك ملكة الشعر هذه المرة ياأحمق. (لنفسه)
ليس لهذا المعتوه الذكاء الكافي وآاسفاه!
تشاندس :
خانتني ملكة الشعر؟ إن هذه ألغاز لا أفهمها.
داين :
لا تفهمها؟ شيء عجيب!
تشاندس :
يظهر أني لم أعر كلماتك تمام الإصغاء. لذلك فاتني فهمها.
داين :
ما دمت ضعيف الذاكرة، بليد الفكرة، سأفصح لك عن الأمر بكلمات أجلى..
إسمع: إن ذلك النذل السافل ترك عند الفتاة المسكينة منديلا مطرزا باسم عائلته.
تشاندس :
يا له من أحمق. ولكن ما الذي قادها إليك؟ أبلغها أنك أحد القضاة فأتتك هالعة لتنتصر لها؟
داين :
لقد قادها إلي تشابه الاسم، أفهمت؟
تشاندس :
أو كان هذا الوحش يدعى داين؟
داين :
خسئت أيها النذل! (يقف)
آرمتايدج يا جبان. اسم عائلتي الشريفة. إنك أهنتها بدناءتك.
تشاندس (بخوف) :
وهل قالت تلك المحتالة أن السالب لشرفها هو أنا؟
داين :
أيجسر لسانك على الإنكار، وقد وصفتك من قمة رأسك إلى أخمص قدمك، ولم تترك برهانا أقوى من دموعها؟
تشاندس (يثب من مكانه) :
ماذا تقول؟ أنا! ووصفتني أيضا!
داين :
مكانك يا أحمق، ولا تزد على فظاعة الجرم دناءة الكذب. فأنا أعرفك كما أعرف نفسي أيها القديس المتنكر.
تشاندس (بحدة) :
إنك تهينني يا لورد. ومن يدريك أن لهذا الموضوع شأنا آخر؟
داين :
إن مثل هذه الحوادث لا تخلو من المبالغة. ولكني أرى هذه الحادثة خالية من المبالغات. (يقف)
أنا داين أرمتايدج وريث أسرة أرمتايدج أتكلم الآن بالإنابة عن رأس هذه الأسرة: لورد أرل أستار منستر آمرك بما يأتي: يجب أن تجعل لهذه الفتاة قدرا شهريا تتقاضاه منك.. من خزينتك الخاصة، ما دمت في عالم الأحياء.. بذلك وحده يمكن أن تصلح ما أفسدت، فتشتري شرف عائلتك بالمال.
تشاندس (يرتجف) :
ولكن.
داين (بغضب) :
لا أريد أن أسمع شيئا غير القبول.
تشاندس :
هدئ من روعك، يا لورد، ولكن.
داين (يضرب الأرض بقدمه) :
لا تتردد، وإلا..
تشاندس :
وإلا ماذا؟
داين (يهجم عليه) :
وإلا قذفت بك من هذه النافذة. أجب: أتقبل أم ترفض؟ لا بد من أحد الأمرين.
تشاندس (بخضوع) :
قبلت.
داين (مشيرا بأصبعه إلى الباب) :
اخرج (يخرج تشاندس متثاقلا) إلى الشيطان!
الفصل الثاني
المنظر الأول (طريق النهر. نور ضئيل. باكورة الصباح)
تشاندس (يدخل من طريق وروبرت رودن من الطريق المضاد) :
من الذي أرى؟ رودن؟ أأنت هنا يا روبرت، وفي مثل هذه الساعة؟
روبرت :
لورد تشاندس أرمتايدج في برنستابل؟
تشاندس :
صدفة غريبة، ماذا تفعل هنا يا روبرت؟ ألم تزل من رجال الكنيسة؟
روبرت :
لقد تركت الهياكل من زمن بعيد.
تشاندس :
إذن، ماذا تصنع الآن؟
روبرت :
أصنع؟ (باستغراب)
حقا إنك لشاعر ايها الصديق. هل تحتاج حالتي إلى ترجمان؟
تشاندس :
اني لم أقابلك منذ عهد طويل. لذلك لا أعلم عنك شيئا.
روبرت :
وفيم كانت تهمك مقابلتي، وجيوبك مفعمة بالذهب؟
تشاندس :
دعنا من هذا، واشرح لي حالك الان، وماذا تصنع؟
روبرت :
قضيت زمنا طويلا أجوب النهار وأقطع الليل باحثا عما أسد به الرمق. وكثيرا ما كنت أقضيهما على الطوى فأعود وقد أنهكني التعب إلى بيتي الحقير. (يتأوه)
فأفترش بساط التعاسة. ولما ضقت ذرعا بحالي، وكبر علي ان أحتمل هذا الشقاء، رجوت صديقا كنت أتوسم فيه الخير أن يمد لي يد المساعدة بأن يجد لي عملا أيا كان.
تشاندس :
وماذا قدم لك ذلك الصديق؟
روبرت :
أجهد نفسه حتى وجد لي وظيفة صغيرة.
تشاندس :
وأي وظيفة وجد لك؟
روبرت :
معلم صبيان في مكتب صغير هنا.
تشاندس :
لا تقطع الأمل، فربما كانت هذه المقابلة فاتحة السعادة.
روبرت :
سعادة! انك سليم النية يا عزيزي! ألا يمكن أن تجد لي عملا عندك، وأنت واسع الثروة؟
تشاندس :
سأفكر في موضوعك؛ ومتى وجدت عملا يليق بك، بعثت في طلبك.
روبرت :
أشكرك يا صديقي. والآن هل تسمح أن تقرضني قطعة ذهبية. وإني أذكر أن لك عندي قطعتين من عهد المدرسة. (يضحك)
لست إخالك تعتذر عن إقراضي.
تشاندس :
كفى. (يضع يده في جيبه)
تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن! إني في غاية الخجل يا روبرت!
روبرت :
أيعتذر الغني الكبير السيد تشاندس وريث أسرة ارمتيايدج العظيمة عن إقراض قطعة ذهبية.
تشاندس :
إنها الصدفة، يا روبرت. فليس معي الان سوى تحويل كبير سأصرفه متى عدت إلى مصرف برنستابل. وأقسم لك بشرفي أن أمر بمنزلك فأعطيك أضعاف ما طلبت.
روبرت :
إني منتظر، فلا تنسى يا صاحب التحاويل. أنظر تحت تلك الربوة تجد بناء أبيض. هذا هو المكتب. أما منزلي فلا يبعد عنه كثيرا.
تشاندس :
فهمت أأنت ذاهب إلى المكتب الآن؟
روبرت :
نعم. وأراني تأخرت قليلا. وأنت أيها السيد ماذا جاء بك إلى أرض غير آهلة بالسكان، وعهدي بك ميالا إلى الملاهي والظهور؟
تشاندس :
قمت من لندن إلى برنستابل، وفارقتها بعد منتصف الليل قاصدا تلك الربوة الجميلة .
روبرت :
من لندن إلى تلك الربوة (يضحك)
حقا إنك لمدهش. إن من يسمعك الآن يتصور أن هذه الربوة إحدى هياكل الرمان.
تشاندس :
إني أعشق المناظر الهادئة الجميلة.
روبرت :
إن وقتي لا يسمح لي بأكثر من هذا. وأظنني تأخرت، فإلى اللقاء. (يصافحه)
لاتنسى وعدك!
تشاندس :
لا تخف سأوفيه! (يصافحه. يخرجان كل من طريق. الصباح يزداد نورا. وتدخل ليرا من الطريق الذي خرج منه تشاندس بالقبعة وعلى كتفها رداء أسود) .
ليرا (لنفسها) :
كأن إله النوم يأبي أن يمس جفني بأنامله اللطيفة، وكأن سلطان الكرى قد كبر عليه أن يرفق بضعفي. فأرقت طول ليلتي. وما سبب لي ذلك سوى وعده لى. ها هو الصبح قد انبلج. فهل هو موف وعده، أم عاقه النسيان. (تصمت؟ تسمع وقع أقدام فتفرك يديها فرحا)
ما أسعدني، لقد حضر!
داين (يدخل من الطريق الذي دخل منه تشاندس وخرج منه روبرت وبيده قصبة الصيد وسلة بها طعام). :
صدفة جميلة! أأنت على علم بساعة وصولي؟
ليرا :
لقد أمحي إلى أنك ستبكر. وها قد صدق الوحي.
داين :
ما أطهر قلبك!
ليرا (ببساطة) :
ما هذا الذي تحمله في يدك؟
داين :
إجلسي. (ينزع الرداء عنها ويجلسان)
هذه قصبة الصيد.
ليرا :
إنها جميلة.
داين :
وزادها جمالا أن مستها هذه اليد (يمسك بيدها) .
ليرا :
وكيف يتسنى لهذه القصبة أن تصيد؟
داين (يتنهد) :
أنعمي النظر. هذه قصبة الصيد، وهذه العلبة بها الطعم.
ليرا :
الطعم؟ وما معنى هذه الكلمة الغريبة؟
داين :
الغذاء الذي يوضع في الخطاف الحديدي ليبتلعه السمك.
ليرا :
وعلى ماذا تحتوي هذه السلة؟
داين :
خوف اشتداد الجوع، رأيت أن أحضر غذاء خفيفا.
ليرا :
حسنا فعلت، يا لورد.
داين :
دعينا من الألقاب الآن. وها أنا ذا سأبدأ بشرح الدرس. فهل أنت على استعداد؟
ليرا :
إني كلي آذان صاغية.
داين :
إن من كانت لها هاتان العينان الساحرتان، وهذا الوجه الصبوح، وهذه الوداعة النادرة لجديرة بأن تمثل أورانيا لدى قدماء اليونان. وهاتور لدى قدماء المصريين!
ليرا :
ما هذه الأسماء الغريبة؟ أهذه من درس الصيد أم فاتحة لدروسه؟
داين (يتنهد) :
لا دخل لهذه الأسماء بصيد السمك، لأنها من دروس صيد القلوب!
ليرا (ببساطة) :
ألصيد القلوب دروس؟
داين :
نعم. وستدرسينها متى خفق هذا القلب (مشيرا بيسراه إلى فؤادها) .
ليرا :
إني لا أفهم هذه اللغة.
داين :
ستفهمينها من تلقاء نفسك بدون معلم وبغير درس. إنما لكل شيء أوان.
ليرا :
وكيف أتعلم درسا لم أتلقنه عن أستاذ؟
داين :
إن الهوى أستاذ قوي الإرادة.
ليرا :
الهوى؟ لم أفهم هذا أيضا. إني أنشق الهوى كل لحظة، ومتى أردت.
داين :
هذا صحيح، (بسرور)
إنك تنشقين الهواء. أما الهوى فشيء آخر (يتنهد) .
ليرا :
إنك أحرجت مركزي، وجعلتني أعتقد أنني بليدة، ضعيفة الفهم.
داين :
أن جهلك بهذه اللغة لأكبر برهان على أنك أشرف ملك في هذا العالم. والآن سنبدأ درس الصيد. ومتى توالت دروسه. تعلمت من خلالها ما تشوقت إليه الآن.
ليرا :
لقد زدتني شوقا إلى الصيد.
داين (يمسك يدها وفيها القصبة) :
هكذا تبدئين الصيد. (يرمي الخيط) .
ليرا :
ولماذا تقذف بهذا الخيط؟ وما هي هذه العقدة التي أراها في وسطه؟ (ترفع القصبة)
إني أرى فيها قطعة من الغاب الخفيف.
داين (يمسك العقدة بيمينه ويضغط بيسراه على معصمها) :
أعيريني كل سمعك الآن حينما تجلسين استعدادا للصيد، إبدئي بوضع الطعم في هذا الخطاف على هذه الطريقة. (يضع الطعم) .
ليرا :
وما فائدة هذا الخطاف الحاد؟
داين :
إن السمكة لجهلها تزدرد الخطاف الملبس بالطعم ظنا منها أنه قطعة غذاء واحدة.
ليرا :
مسكينة، أنت، ايتها السمكة!
داين :
فما تلبث تشعر بأن الذي ازدردته إنما هو قطعة من الحديد حادة الطرفين، فتسرع في إخراجها ولكن يستحيل عليها ذلك فتحاول الهرب غورا في الماء، فيعوقها الخيط عن الهرب، ويكون الخطاف بهذه الحركة قد تمكن من أحشائها فمزقها شر ممزق.
ليرا :
يا للفظاعة! هذه هي الخطيئة بعينها. فما أقسى الإنسان!
داين :
هذا ما كنت أخشاه.
ليرا (بألم) :
إني لا أرى سعادة في الصيد.. لقد بدأ يخيل لي أن هذا الوحش الذي يسمونه الإنسان إنما خلق ليكون هولا وبلاء على فصيلة الحيوان.
داين :
ولماذا؟
ليرا :
ألم تقل إن في الصيد تسلية ولهوا؟
داين :
ومن ينكر ذلك؟
ليرا :
أنا. إذ كيف يخطر لقلب، مهما كان شعوره، أن يسر بهذا المنظر المريع، (بخوف)
بينما تكون السمكة المسكينة تذوب ألما من أحشائها التي تنقطع في يد جلادها الخطاف؟ إني ضعيفة القلب، فلا تعجب مني، لأن هذا فوق مستطاعي.
داين (يتنهد) :
حمدا لله، لقد بدأت تتعلمين لغة القلوب (يمس قلبها) .
ليرا :
مازلت لا أفهم شيئا من هذه الرموز.
داين :
ستفهمينها فيما بعد، ولنعد إلى تتمة الدرس، قلنا إنك تضعين الطعم أولا ثم ترمين الخيط في الماء، فيتدلى لى منه ما بعد العقدة، وتسبح العقدة على وجه الماء، تروح وتجيئ طوع إرادته. ما بالك تتنهدين؟
ليرا (تضع يسراها على فؤادها) :
لا شيء، إني سعيدة جدا بحسن تعبيرك.
داين :
وأنا أكاد أطير فرحا بهذه البشرى.
ليرا :
وبعد أن تطوف العقدة على وجه الماء؟
داين :
لا تلبث أن تهتز كأن يدا مرتجفة تجتذب الخيط إلى جوف الماء، وتتوالى هذه الحركة حتى تغوص العقدة دفعة واحدة، إذ ذاك تسرعين بإجتذاب الخيط، وبنعشك أن تخرجي بيدك الخطاف من جوف السمكة.
ليرا (بدهشة) :
أنا؟ إني أعتقد أن هذه وحشية، فكيف أقربها؟
داين :
لقد أعدت على ذكرى ثيو... (يسكت فجأة) .
ليرا :
نعم. ثيودوسيا. (تتنهد فيرتفع صدرها وتمسح العرق من جبينها) .
داين :
يظهر أن جميع الفاتنات ضعيفات القلوب، رقيقات العواطف، يعتقدن أن الصيد خطيئة.
ليرا :
ربما كان ذلك.
داين :
ولكني أقول إن هؤلاء فقط هن طيبات القلوب. (يلقي القصبة)
ألا تشعرين بالجوع؟
ليرا :
أنا؟ لا أظن أني أحتاج إلى شيء ما دمت معي.
داين :
شكرا لهذه العواطف. (يتناول السلة)
لا بأس من تناول شيء خفيف. (يفتحها ويخرج لقيمات بالجبن) . تنازلي بقبول هذه مني.
ليرا (بحياء) :
شكرا يالورد.
داين :
دعيني من يا لورد هذه الآن، فإني في خلوة لذيذة تشمئز من هذا اللقب. معي قليل من الشراب، أتسمحين بشيء منه؟
ليرا :
أنا لا أشرب غير الماء.
داين :
والخمر؟
ليرا :
يشربها أبي وجرفث، أما أنا فما تعودتها قط.
داين :
إنها تحلو في مثل هذه الساعة.
ليرا :
ولكني لا أحتسيها.
داين :
ستحتسينها من يدي، أترفضين؟
ليرا (بخجل) :
كلا، ولو كان سما.
داين (يخرج زجاجة خمر وكأسا واحدة) :
عوفيت يا عزيزتي، إني أفتخر الآن بصداقتك، وأكاد أحسد نفسي عليها. إني أخجل أن أقدم لكي خمر ستار منستر في مثل هذه الكأس الحقيرة. (يملأ ويناولها) .
ليرا (تشرب) :
إنها لذيذة جدا. (تناوله الكأس)
أتشرب أنت في هذه الكأس أيضا؟
داين (يتنهد) :
كان يمكنني أن أحضر كأسين. غير أني تعمدت إحضار كأس واحدة.
ليرا :
ولم ذلك؟
داين :
إن هذه الكأس قبل أن تمس شفتيك الجميلتين كانت لاتساوي شيئا. أما الآن فهي تقدر بالملايين.
ليرا (تحني وجهها استحياء) :
وكيف ذلك؟
داين :
أترك الحكم لقلبك، فهو أعدل شاهد وأصدق حكم.
ليرا (تضع يدها على قلبها وتنظر إلى الأرض) :
لقد بدأت أفهم لغة القلوب. إنك مخلص، ياسيدي اللورد..
داين (يشرب الكأس) :
شكرا لك يا إلهة الجمال. إني لا أحب الألقاب في مجلس أنس كهذا. ليرا: اسمحي لي أن أسقيك كأسا بيدي. (يملأ الكأس)
ها هي ذي. (يضع الكأس على شفتيها ويسراه تطوق عنقها)
إشربي..
ليرا (تأخذ قطرة صغيرة فتهتز) :
كفاني الآن، فإني لم أتعودها.
داين :
بالله عليك لا ترفضي. (يدني الكأس من فمها) .
ليرا (باستعطاف) :
ياسيدي، (تمد يدها إلى الكأس)
سأشرب.
داين :
بيدي لا بيدك.
ليرا (بخجل) :
أمرك (تشرب)
كفى إني لا أستطيع أكثر من ذلك.
داين (يلتصق بها) :
لأجلي. آه لو تعلمين (واضعا يده على خدها) .
ليرا (بخضوع) :
بحقك لا تحملني ما لا أطيق.
داين (يشرب مابقي في الكأس) :
لا بأس. فمن الذى يستطيع أن يصل إلى ما وصلت إليه؟ أراني أسعد مخلوق الآن.
ليرا :
إنك تتكلم بلساني يا داين. ولكن بماذا أشعر؟ (تتأفف)
أشعر أن الهواء بدأ يتغير، فأين معطفي؟ (تقف ويقف اللورد) .
داين :
هاهو يا ملاكي. (يمسك بالمعطف) .
ليرا :
عفوا، ياسيدي.
داين :
بيدي يجب أن ترتديه.
ليرا :
هذا فوق الواجب يا سيدي. وهل يتنازل اللورد بأن يضع الرداء بيده الكريمة على كتفي؟
داين :
اللورد في القصور، أما هنا فأنا عبد.
ليرا :
إن مقامك عظيم (ترخي يدها لتسحب الرداء)
إنك أجهدت نفسك وأخجلتني (وهو يحاول أن يلبسها إياه) .
داين (يطوق عنقها من الخلف ويقبض بأنامله على شفتيها ويدني فمها من فمه) :
آه ما ألذ الهوى، وما أقسى الغرام! (يقبلها قبلة حارة) .
ليرا (تنتفض وتدفعه عنها باحتقار) :
إليك عني. (تقف كالصنم شاخصة إليه) .
داين (بخضوع) :
عفوا! معذرة! ليرا، ليرا، مالك لاتجيبين؟ (يدنو منها فتبتعد)
إني أحبك. ما كان يجب أن أعترف لك بغرامي الآن، وفي مثل هذه الساعة. ولكنه الحب. لم أقو على ضبط نفسي. (يدنو فتبتعد)
أتخافين مني؟ إني أفضل أن أموت على أن أخيفك. آه لو تعلمين! ليرا عفوا. لقد أذنبت، فاغفري. ليرا. الرحمة! إنها نزعة الشيطان وطيش الشباب، فعفوا أيها الهيكل اللطيف.
ليرا (واجمة وصدرها يرتفع وهي تنكمش في معطفها) :
لا عفو.. ولا مغفرة. الوداع يا لورد! (تنحني)
لا أمل في أن تراني بعد الآن. (تعدو مذعورة، تخرج من الطريق التي دخلت منها) . (يسدل الستار لتغيير المنظر بأسرع ما يمكن)
المنظر الثاني (غرفة بكوخ المطحنة، وبها جرفث جالسا يطالع).
ليرا (تدخل وترتمي على مقعد) :
ما أتعس حظي، ياليت أمي لم تلدني! آه.
جرفث (يهرع إليها) :
ماذا أصابك يا زهرة الربيع؟ ويلاه! بالله لا تخفي عني شيئا.
ليرا :
لاشيء، بيد أني قطعت مسافة طويلة على القدم. ولما كنت لم أتعود ذلك فقد أنهكني التعب.
جرفث :
إنك بكرت شوقا إلى تعلم صيد السمك فأين تركت المعلم؟ ولماذا لم يصحبك في العودة؟
ليرا (باضطراب) :
لقد ذهب.
جرفث :
ولم الاضطراب؟ أحدث ما يزعجك؟
ليرا :
كلا لم يحدث شيء (تتنهد)
لقد ذهب ولن يعود أبدا.
جرفث :
لا بد أن يكون في الأمر شيء. فهل لحقتك منه إهانة؟
ليرا :
أتظنه وضيعا حتي يقدم على إهانتي؟
جرفث : : قرأت في وجهه الشرف والأمانة. ذلك ما جعلني أسمح لك بالخلوة معه. ولكني لم أفكر في طيش الشباب. ليرا! إبنتي! إذا كانت قد بدرت لك بادرة سوء، فبماذا يعتذر خادمك الشيخ إلى ضميره إذا لم يرد الإهانة إلى صاحبها نارا محرقة؟ ليرا (بشهامة)
إني وإن كنت أدب على العصا، فإني لا زلت أمام عدوك شابا قوي الساعدين..
ليرا :
هدئ روعك. واعلم أنه قضى آخر لحظة من وقته الثمين بكل أمانة وشرف.
جرفث :
ولماذا انصرف على عجل؟
ليرا :
خاف أن يتخلف عن موعد الباخرة.
جرفث :
باخرة! أيفارق لندن؟
ليرا (تتنهد) :
نعم، إلى اليابان. وقد أرسل أمتعته أول أمس، وسيلحق بها اليوم. (يسمعان صرخة شديدة من الخارج. تقف)
إني أسمع استغاثة. أنصت. إنه يطلب المعونة.
جرفث (يهرع إلى الباب) :
استريحي أنت، وسألبي نداء المستغيث.
تشاندس (يدخل متوكأ على الباب) :
آه، أظن أن ساقي انكسرت.
جرفث :
يحمله (إلى مقعد)
دعني أر.
تشاندس :
لا تمسني. فالألم شديد. آه.
ليرا :
مسكين! (بشفقة)
اعتن به يا جرفث.
تشاندس :
شكرا لك يا سيدتي. (إلى جرفث)
أرجوك أن تسعفني بجراح ماهر. آه!
جرفث (يفحص الساق) :
الأمر بسيط لا يحتاج إلى الجراح الماهر. إن قدمك مصدوعة فقط.
يشاندس :
قدمي؟ (يتوجع)
ساقي كلها يارجل. إني أكاد أموت ألما - ويلاه إني سقطت من هذه الرنوة الشامخة.
جرفث :
ومن قال لك أن تقف على ربوة رملية ينهار رملها تحت أقل ثقل؟
تشاندس :
من قال لي؟ آه، سل الذي خلق هذه المناظر الجميلة، لتكون خلوة للشاعر.
جرفث :
عفوا ياسيدي، فالمقام لا يدعو إلى فلسفة. إنك تحتاج إلى عناية.
تشاندس :
آه (لنفسه) .. كل الناس لا يفهمون.. أسعفني بربط ساقي. (يتوجع)
أرجوك.
جرفث :
انتظر قليلا (يخرج) .
ليرا :
هدئ من روعك، فستستريح حالا. (لنفسها)
مسكين.
جرفث (يدخل ومعه اربطة من الشاش) :
ها قد احضرت لك ما يلزم.
تشاندس :
اسرع، بالله عليك..آه!
جرفث (يبدأ بالربط وتساعده ليرا) :
لا تخف. لا تتألم.
تشاندس :
اواه لا تضغط.. كن رحيما.. آه بالله عليك.
ليرا :
تجلد ياسيدي، فسيزول الألم.
جرفث :
انتهى.
تشاندس :
آه إنى في غاية الألم.
ليرا :
إنك رجل فيجب أن تتحمل الألم مهما كان.
تشاندس (بغرام) :
إنك ملك هبط من جنات الخلد.
دون تشستر (يدخل) :
ماذا أرى؟ من هذا؟ أين معلم الصيد ؟ (يقف مبهوتا) .
ليرا (تتنهد) :
أتسأل عنه ياأبي؟
تشستر :
نعم أين هو؟ ومن هذا الذي يتألم؟
ليرا :
رحل إلى اليابان - وهذا كان يستغيث فأغثناه.
تشستر :
إلى اليابان؟ حسنا. (بعد قليل)
وهذا، ماذا أصابه؟
تشاندس :
لقد كسرت ساقي ياسيدي..آه!
تشستر :
لعلك أحسن حالا الآن.
تشاندس :
نعم أشعر ببعض الراحة. (يتوجع) .
تشستر (يجلس) :
من أنت! وما سبب هذا الحادث؟
تشاندس :
أنا جوفري بارل (يغير اسمه) ، مولع بالنظم والموسيقى والتصوير، وولعي بهذه الفنون الجميلة سبب لي ما حدث.
تشستر :
وكيف اتفق ذلك؟
تشاندس :
شوقا لمراقبة شروق الغزالة، وحبا في نظم قطعة فنية، حضرت من لندن، وعلوت ربوة رملية. وبينما أنا سابح في بحر الخيال. زلت قدمي، وانهارت الرمال، فهويت. آه!
تشستر (يضحك) :
إذن فأنت تجيد النظم، يا مستر بارل.
تشاندس :
نعم. والموسيقى والتصوير. آه!
تشستر :
يظهر أنك بلغت غاية هذه الفنون.
تشاندس :
ألم تقرأ شيئا من نظمي؟ ألن تسمع مقطوعة من ألحاني؟ (يتألم)
ألم يقع نظرك على صورة من رسمي؟
تشستر :
كلا. لم أر، ولم أسمع.
تشاندس :
آه لقد فاتك الحظ الأوفر. ولكني ألتمس لك العذر. ذلك لأنك في عالم آخر غير عالمنا.
تشستر :
إني أحمد الله الذي أقصاني عن عالمكم (يقف)
كن مستريحا فإني لا أحب أن أزيدك ألما.
تشاندس :
أرجو سيدي أن يسمح للمس ليرا بالبقاء هنا لمساعدة هذا السيد (مشيرا إلى جرفث) .
تشستر (يمشي إلى الباب)، (إلى ليرا) :
اتسمحين بالبقاء ياعزيزتي لتسلية ضيفنا غير المنتظم الحواس؟
ليرا :
ومتى تسمح لي أن أفارقه؟
تشستر :
متى سئمت هذيانه. جرفث! جهز الغرفة الشرقية وانقله إليها متى طلب الراحة (يخرج) .
ليرا :
حسنا، سأفعل.
تشاندس :
شكرا لك يا سيدي، وأنت يا سيدتي.
جرفث :
سأقوم بهذا يا مولاي.
ليرا (تجلس وتطالع في كتاب) :
ياترى أين هو الآن؟ (بصوت منخفض)
وهل ذهب إلى غير عودة؟ (تتوجع) .
تشاندس (لنفسه) :
إنها تتألم. (إلى جرفث)
هل تسمح لي بشربة ماء! (جرفث يقوم. يخرج)
تشاندس (يلتفت إلى ليرا) :
سيدتي، هل يؤلمك وجودي؟
ليرا :
وكيف تتصور ذلك؟ إنه ليسعدني أن أراك بكامل صحتك وعقلك.
تشاندس :
بكامل عقلي؟ شكرا لك يا حسناء. إن جمالك أنساني ما أنا فيه من الألم، وهام بي إلى العالم السماوي، ويروق لي أن أنظم الآن (يبحث عن مفكرته وقلمه)
إني فقدت مفكرتي.
ليرا (تضحك) :
الحمد لله.
تشاندس :
أتحمدين الله على فقد مفكرتي، وقد خسرت بفقدها كل شيء؟
ليرا (بسخرية) :
إن وجود مفكرتك الآن يضاعف آلامك، فخير لك أن تفقدها.
تشاندس :
إنك لا تحبين لى الخير، فما سبب ذلك؟
ليرا :
إنك سابح في بحر خيالك.
تشاندس :
أتوهم كل شيء. (يتوجع)
دعينا من هذا، واخبريني. هل تشعرين بوحشة في هذا الكهف المنعزل؟
جرفث (يدخل بالماء ويسمع السؤال الأخير) :
تفضل يا حضرة الفيلسوف، وسأجيبك أنا على هذا السؤال.
تشاندس (يرتجف) :
جوزيت خيرا. (يتأوه) .
جرفث (يسترد الكأس ويجلس) :
كيف تشعر المس ليرا بوحشة، وهي بين شيخين أوقفا البقية الباقية من حياتهما على حراستها وحمايتها وبذلا قصارى جهدهما في دفع الأذى عنها؟
تشاندس :
نعم، فهمت، فاعف عني.
جرفث :
لا بأس عليك. فما دعاك إلى هذا إلا ميلك الشديد إلى حب الاستطلاع، شأن الشاعر.
تشاندس :
هذا صحيح، وإني لتعجبني منك هذه الشهامة.
جرفث :
هاهي مولاتي زهرة الربيع تقوم بحاجتك حتي أعود. (يخرج وفي يده الكأس) .
تشاندس (لنفسه) :
زهرة البيع ما أبهج هذا الإسم! إنه لينطبق عليها تماما (لليرا)
إنل تشبهين عصفورا في قفص يازهرة الربيع باعتزالك العالم المتمدين والحياة الصحيحة. (يلتفت خائفا من جرفث) .
ليرا (غارقة في بحر الفكر) :
ياترى أين أنت الآن؟ (غير ملتفتة اليه) .
تشاندس :
أراك منشغلة عن كلامي، وكأنك تسبحين في عالم غير هذا العالم، ياسيدتي.
ليرا :
أتظن أن مخلوقا يخلو من الهم؟
تشاندس :
أنا خال من كل هم وحياتي لا يشوبها كدر ولم أعرف القلق (يتوجع)
ولكن لا، إنك صادقة أيتها الحسناء. إني بدأت أشعر أن قلبي يدق. فلي الشرف أن أقدم نفسي فداء لك إذا احتاج الأمر.
ليرا :
شكرا ياسيدي. إني لا أحتاج إلى مساعدة إنسان. هل تحب أن تذهب إلى المخدع الذى أعددناه لك لتستريح؟
تشاندس (يتأوه) :
وما الداعي للعجلة، وسعادتي في أن أكون معك؟
ليرا :
لم أفهم معنى ما ترمي إليه.
تشاندس :
أنت ايتها الروح اللطيفة، لم تخلقي لتعيشي هنا، بل حيث يتجلى ضوؤك بين من يعرفون معنى النور.
ليرا (تتأفف) :
كفى ياسيدي. (تقف) .
تشاندس (يحاول الوقوف فتساعده إلى غرفته) :
إنك لأطهر ملك وقع عليه نظري حتى الآن. آه (يتوكأ على ذراعها)
ليرا!
ليرا : : شكرا. (تساعده حتى يخرجان. ثم تعود فترتمي على المقعد) . آه؟ يالهي إنه ذهب غاضبا. لم أكن أعرف قبل الآن ما الهوى. أواه! إنه يحرق الفؤاد (تتوجع) . ما أقساك أيها الإنسان الظالم لنفسه. أيها الحبيب الذى لا أعلم عن مستقره شيئا. ترى أين أجدك؟ هل يزورك طيفي، كما لا يفارقني خيالك؟ وهل لا زلت على عهدي أم ضربت صفحا عن غرامي؟ علمتني كيف أندب سوء حظي، وعلمت مقلتي انهمال العبرات (تقف)
داين! داين! وهل بقلبك الآن ذلك اللهيب الذى يتأجج نارا في جسدي، أم تناسيت تلك التي تتعذب لبعدك، وتذوب شوقا اليك؟ يا إله السماء! يا أشد ما أنا فيه! يا لهول ما أقاسي من أجله! (تضع يدها على جبينها)
ثيودوسيا، أين الرحمة ياربة الغني والجاه؟ أين السماحة والحلم يا أميرة قصر تود زيارته الملايين. (تبكي)
يقول إنك طيبة القلب، محبة للخير، ولوعة بالاحسان. فهل تسمحين لي بمن أحب؟ ألم تشفقي على زهرة كادت تلعب بها يد الفناء؟ (تسكت قليلا) . كلا لن يكون ذلك أبدا. ألأجلي، أنا الفتاة الحقيرة التعسة، تترك من خلقت من أجله؟ اني أكون ظالمة بهذا الحكم. ومن الحسد أن أرفع نظري إلى مقامكما الأسمى. فما أنا إلا ألعوبة في يد الدهر وأضحوكة في فم التعاسة. إني حقيرة وفقيرة، فمن الجنون أن أطلب المستحيل. إذن فلتطمئن، أيها اللورد. وليتولك إله السماء. (تسقط على الكرسي) .
تشستر (يدخل) :
ليرا! ليرا! إبنتي ماذا أصابك؟
ليرا (تقف مرتجفة) :
سلمت يا أبي. لا شيء. إني أحتاج إلى الراحة قليلا.
تشستر :
هاتي ذراعك يا ابنتي. (يأخذ ذراعها) . (ليرا تمشي متوكئة على ذراع أبيها حتى الباب. تخرج ويبقى تشستر)
تشستر :
في حراسة الله (ينادي جرفث)
جرفث! (يدخل جرفث)
هل أعددت لي الشاي، وهل انتهي عمل المنزل؟
جرفث :
الشاى ينتظر أمركم. أما أعمال المنزل فلم تتم بعد.
تشستر :
اذهب فاحضر لي الشاي، واستمر في عملك (يخرج. جرفث لنفسه)
آه يا إلهي، مالي أرى المصائب لا تكاد تتركني لحظة، ما أشد ألمي، وما أعظم خوفي. ما عساه أن يكون! إني لا أكاد أذكر ليفى حتى يقشعر جسمي بمجرد ذكراه. ويكاد الدم يقف في عروقي.
جرفث (يدخل باضطراب) :
المستر دجارفن ينتظر أمركم.
تشستر (يقف مذعورا) :
دجارفن. ماذا عساه يطلب مني؟ ولم يزورني في مثل هذه الساعة؟ (إلى جرفث)
هل يحمل أورافا؟
جرفث :
نعم. إن حقيبته مفعمة بالأوراق.
تشستر :
أيمكنك أن تنكر وجودي، أو أن تعتذر عن عدم إمكاني مقابلته؟
جرفث :
أما إنكار وجودك، يا مولاي، فمستحيل؛ ذلك لأنك لم تعودني الكذب. وأما اختلاقي سببا للاعتذار فممكن.
تشستر (بكبرياء) :
جرفث! لا هذا ولا ذاك، دعه يدخل، فقد قضيت ذلك العمر الطويل ولم أجبن أمام أشد الحوادث خطورة.
جرفث :
تجلد يا مولاي (يخرج) .
تشستر (لنفسه) :
دقت ساعة الحساب. يا الهي، أسألك المعونة.
دجارفن (يدخل ويتبعه جرفث) :
عفوا يا مستر تشستر، ومعذرة لدخولي عليك في مثل هذه الساعة المتأخرة (رافعا قبعته بشماله ومصافحا تشستر بيمينه) .
تشستر (يصافحه) :
أهلا بك يا صديقي دجارفن العزيز. هذا بيت صديقك، فيمكنك أن تلجه متى شئت وبغير استئذان. تفضل. (يجلسان) .
دجارفن :
أشكرك ياعزيزى تشستر.
تشستر (إلى جرفث) :
اذهب إلى عملك، يا جرفث (يخرج جرفث)
هل من خدمة يا عزيزي؟
دجارفن :
نعم، ما دعاني لزيارتك الآن إلا وجوب دفع المال.
تشستر (بدهشة) :
المال! وأي مال تعني يا عزيزي؟
دجارفن :
كان يجب أن تعلم أن ذلك سيقع يوما فتستعد لمقاومته.
تشستر :
لم يخطر ذلك ببالي.
دجارفن :
أجل فهذا شأن السادة أمثالك. أما رجال الأعمال فهم دائما على استعداد.
تشستر :
وكيف ذلك يا سيدي؟
دجارفن :
إني أراك غير يقظ يا سيدي.
تشستر :
لم أفهم بعد ما ترمي إليه. فأفصح لي عن المسألة .
دجارفن :
منذ سبع سنين استدنت مبلغ خمسمائة جنيه من ليفي المرابي.
تشستر :
هذا صحيح. وبعد؟
دجارفن :
لو كنت تحسب لمستقبل ابنتك حسابا، لما اقترضت خمسمائة بنس من هذا الرجل.
تشستر (بدهشة) :
إني لم أعلم عنه شيئا. فماذا جرى؟
دجارفن :
لا تأسف، فقد فات الأوان. أنت استدنت المبلغ ولكن أتعلم كم دفعت في فوائده؟ إنك بلا شك تجهل ذلك. لا تندم فقد أصابك السهم. (يضحك)
إنك دفعت ستين في المائة على أدق حساب.
تشستر :
إذن فهو يستبيح شرب الدماء.
دجارفن :
وعلى الأخص دماء من لا يقرءون العواقب. ومع هذا فليفيلا يفكر أبدا في الدين، لأنه يجدد العقد كلما جاء يوم الاستحقاق. وذلك لأنه يثق في قدرتكم على الدفع. ولسوء الحظ لقد انتقل هذا السند إلى وفاء لدين كان لي عند ليفي.
تشستر (بارتياح) :
إذا أنا مدين بالمال لك أنت الآن، لا إلى صاحب الستين في المائة؟؟
دجارفن :
نعم، من قال لك إنني لا أطالبك بالأرباح؟
تشستر :
إذا لا بأس من تأجيل الدفع، فإني قادر على دفع الربح.
دجارفن :
يسؤني جدا أني مضطر إلى رفض طلبك لأني في شديد الحاجة إلى المال حتى لا تتوقف أعمالي. وفوق ذلك فإني أريده حالا.
تشستر :
مستر دجارفن، تريده حالا؟
دجارفن :
نعم، اذا قلت أريده، فالمعنى أني أريده الآن.
تشستر :
وإذا كنت لا أملكه الآن؟ ما العمل اذا؟
دجارفن :
وما ذنبي أنا، وقد دفعت قيمة السند نقدا؟
تشستر :
ثق أنني لو كنت أملك المال لكفيتك مؤونة طلبه. ولو كان عندي ما يساويه ما توقفت لحظة.
دجارفن (ينظر في الغرفة) :
يظهر أن مسألتي أدعى للأسف من مسألتك، لأني أرى جميع أثاث هذا الكوخ وثمنه لا يفي بنصف ما أطلب (يتلفت)
الأثاث قديم ولست أرى فيه شيئا له قيمة، فهل عندك حلى يا مستر تشستر؟
تشستر (بانزعاج) :
عندي حلي؟ إذا أنت تريد أن تبيع أثاثي وأمتعتي وتخرجني من بيتي؟
دجارفن :
المضطر يركب الصعب. أتحسب أني أتخلى عن حقي؟ إنك لا بد أن يكون لك أصدقاء.
تشستر :
لا صديق لي وا أسفاه! ليس لي في كل هذا العالم غير ابنتي. ابنتي الوحيدة المسكينة. إني لا أظنك يا مستر دجارفن تقسو لدرجة طردنا من عشنا الهادئ المطمئن، (يتأوه) .
دجارفن :
إني حزين لأجلك من كل قلبي.
تشستر :
كان لي مال ولكني ابتعت به أسهما من شركة الترام الأجنبية، مؤملا أن أربح ما أسد منه ديني، وهأنذا أترقب الفرصة.
دجارفن :
أن هذا لمضحك. أتشتري بكل مالك أسهما، وأنت لاتعلم عن هذه الشركة شيئا؟ إن أسهم هذه الشركة آخذة في الهبوط السريع.
تشستر :
نعم، وا أسفاه. فقد طالعت هذا النبأ في صحيفة لندن، ولكن ربما تكون قد صعدت بعد ذلك.
دجارفن :
إذن سأمهلك أسبوعين. وتأكد أني لا أسمح بعدها بيوم واحد.
تشستر :
إني أشكر كريم عواطفك.
دجارفن :
على هذا أتفقنا. ويلوح لي أنك قبلت. (يقف ويرفع قبعته) . إلى اللقاء. (ويخرج) .
تشستر (يقف فيشيعه إلى الباب. لنفسه) :
لقد دنا الأجل، فلا قوة إلا بالله. إلهي، أين أجد المال؟ آه! كيف تكون حياتي إذا طردت من بيتي. مسكينة أنت يا ابنتي، لقد جنيت عليك.
جرفث (يدخل) :
خفض عليك، يا مولاي، ولا تيأس.
تشستر :
جرفث. إذا انقضت المدة التي أعارني إياها الزائر ولم أوف الدين، طردت وابنتي من هذا البيت، فواحسرتاه على خاتمتي، ووا أسفاه على شيخوختي!
جرفث :
لا تعجل بالحكم يا مولاي. وكم أعطاك من الزمن؟
تشستر :
أسبوعين فقط. فإن لم أوف ديني، أصبح هو المالك المتصرف في بيتي وما فيه (يبكي يقف)
ساعدني إلى مخدعي، فإني أشعر بإنحطاط قواي، وكأن زورة دجارفن لي كانت نذير الهلاك. (يتوكأ على ذراع جرفث) .
جرفث :
مولاي، مالي أرى اليأس بالغا منك غايته؟ إني قطعت معك شوطا كبيرا من عمرك المملوء بالمصاعب، فلم أكن أشعر باهتزازك أمام كوارث لا تعد هذه بجانبها شيئا.
تشستر :
لقد مات الأمل وقضي الأمر. فلا راحة إلا بالموت، ولكن ليرا (يبكي)
إني خلقت لأكون حزن عليها. ليرا! أعف عني يا ابنتي، ولا تلعنيني. أملت لك السعادة، فضاع أملي، وحبط مسعاي. ابنتي لم يكن هذا بخاطري، ولكن هي مشيئة الله فتجلدي يا ابنتي، واعتصمي بالصبر، وإسألي الله لي الرحمة. (إلى جرفث)
جرفث! احتفظ بهذه الجوهرة، انها كبدي، فاسهر على حراستها. (يسقط مغشيا عليه) .
جرفث (ينظر إلى السماء) :
رحمتك، يا إله السماء.
الفصل الثالث
(غرفة الكوخ السابقة.. تشستر يجلس بادى المرض على كرسي كبير، وجرفث بجواره)
تشستر :
اليوم موعد الجريدة يا جرفث.. فهل ذهبت ليرا لاستحضارها؟
جرفث :
نعم، ذهبت. هل أحضر لك كأس الدواء؟
تشستر :
لا. إنتظر حتي تحضر ليرا.
ليرا (تدخل ومعها الجريدة) :
أبت، (تطوقه بذراعيها)
كيف أنت الآن؟
تشستر :
أحمد الله يا حبيبتي (يقبلها) .
ليرا :
هاهي الجريدة، يا أبتاه. (تشستر يتناول الجريدة بلهفة ويقرأ)
جرفث (يقوم) :
إني ذاهب لتجهيز الطعام (يخرج) .
تشستر (يصرخ فتقع الجريدة من يده، ويرتمي على المقعد) :
ويلاه ضاع الأمل (يتحشرج صدره) .
ليرا (تستغيث وتقف كالمجنونة) :
المعونة. آه، يا أبت. ماذا أصابك؟ (تركع) .. ماذا دهاك؟ (تبكي)
إلهي! (تجري إلى الباب)
جرفث! جرفث!
تشاندس (يدخل وهو لا يحسن المشي وينحني على تشستر) :
لا تخافي يا مس ليرا. لا تضطربي الأمر بسيط. علي بقليل من الماء (تخرج، لنفسه)
السر في هذه الجريدة (يدفعها برجله تحت المقعد) .
ليرا (تدخل ومعها الماء) :
ها هو الماء يا مستر بارل (باضطراب)
ماذا دهاه؟ (تنحني على أبيها)
هل اختبرت نبضه؟
تشاندس :
آه، رحماك يا أبي.
جرفث (يدخل منزعجا) :
مولاي! ماذا جرى يا مستر بارل؟ ويلاه (ينحني على سيده) .
تشاندس :
لا شيء هدئ من روعك. إنه في إغماء وسيفيق بعد قليل.
جرفث (يضع ىأذنه على قلبه) :
مولاي! مولاي! (يبكي) .
تشستر (يتحرك) :
آه! بماذا أشعر؟
ليرا (بفرح إلى جرفث) :
إنه يتكلم (تقبل أباها) وافرحتاه!
تشستر (يمد ذراعيه لابنته ويتأوه) :
آه، ابنتي المسكينة.
ليرا :
ماذا أصابك يا أبت. ماذا جرى؟
تشستر :
آه يا ليرا. لقد قضي الآمر، (إلى تشاندس)
أشكرك ياسيدي لحسن عنايتك.
تشاندس :
عافاك الله يا سيدي. لا شكر على واجب. (إلى جرفث)
يجب أن تنقله إلى مخدعه ولتسرع باستدعاء الطبيب (يحمله جرفث وتساعده ليرا ويخرجان)
إني لاحق بكما متى أصلحت رباط ساقي (لنفسه)
يجب أن أعرف سر هذه الجريدة (يأخذ الجريدة بتلهف)
ها هو السر. (يقرأ)
شركة ترام بانجويلا ليمتد. إن.. إن أسهم هذه الشركة سقطت إلى الصفر. (يقطع الجزء المكتوب ويخفيه في ملابسه) . الآن ظفرت بليرا.. فيجب أن أقوم بتمثيل دوري بمهارة (ينادي)
جرفث. جرفث (يدخل جرفث) .
جرفث (بألم) :
لا يزال في اغفاء شديد.
تشاندس :
إذا أسرع باستحضار أقرب طبيب. (يخرج جرفث مسرعا) .
تشاندس (لنفسه) :
يجب أن أفاجئها بالخطر الذي يتهدد أباها، وأفهمها أني الوحيد الذي يستطيع دفع هذا الخطر عنها وعن أبيها، وأعدها بدفع الدين إلى دجارفن يوم الأجل المضروب. وإذ ذاك أكشف لها عن رغبتي في الإقتران بها. نعم. إنه من السهل جدا على فتاة مهددة كليرا أن تقبلني زوجا لها، متى رأت أني افتديت شرف أبيها بالمال (يجلس)
ما أسعد حظي! هذا ما كنت أمني نفسي به! سأدفع مبلغ الخمسمائة جنيه لقضاء لبانتي من هذه الغادة الهيفاء، ثم أطلق ساقي للريح، فأذهب حيث لا تعلم عني شيئا.
جرفث (يدخل) :
لقد حضر الطبيب، وهو يعود مولاي الآن. فهل لك أن ترافقه يا مستر بارل.
تشاندس :
حسنا، هيا بنا. (يخرجان) .
ليرا (تدخل) :
لماذا منعني المستر بارل من حضور ما يقرره الطبيب؟ بل لماذا سألني أن أنتظره في ردهة الأستقبال؟ إلهي، ما غرضه، ولم أتعود الانفراد به؟ (تجلس)
إني أقرأ في وجهه الميل إلي، وأشعر في نفسي النفور منه. يخيل لي أن هذا الشيطان إنما يضمر لي الشر. ولكني مع هذا سأنتظره لأعلم منه سر هذه المقابلة.
تشاندس (يدخل) :
عفوا يا مس ليرا، فإني سألتك الخلوة بضع دقائق لأمر ذي بال.
ليرا (بلهفة) :
ماذا قال الطبيب عن أبي؟
تشاندس :
أعيريني سمعك يا سيدتي، أتعلمين ما قاله لي الطبيب عنك؟
ليرا :
عني أنا؟
تشاندس :
نعم، إنه عندما رآك أشفق عليك من السهر والإهتمام بأمر المريض، وقال إنك تنهكين قواك، إذا واصلت السهر.
ليرا (بأسف) :
المريض! أنسيت أنه أبي؟ إني ممتلئة قوة وشبابا، فما معنى ذلك؟
تشاندس :
إن مرض أبيك لا يعد شيئا أمام هول المصيبة.
ليرا :
المصيبة، وأية مصيبة تعني؟
تشاندس :
إنه سر كان يجب أن أكتمه عنك.
ليرا :
أراني أقوى على احتمال أشد المصائب، فلا تأخذك الشفقة بي.
تشاندس :
إنها عثرة لسان يا مس ليرا، وما كنت أود أن أبوح لك بشيء.
ليرا :
لم يا سيدي؟ إنني ابنته وليس له في الدنيا سواي.
تشاندس :
إني سمعت بعض الحديث بالصدفة.
ليرا (بتوجع) :
وما هو هذا الحديث؟ لا تردد بالله عليك.
تشاندس :
كلا لا أجسر أن أبوح لك بشيء.
ليرا :
رحماك!
تشاندس :
هوني عليك يا ليرا، واجلسي بجانبي كي أشرح لك الموضوع.
ليرا (تجلس) :
عجل.
تشاندس :
إنها مسألة مالية، فهدئي من روعك. (يجلس) . لقد اكتشفت من محادثة طويلة دارت بين أبيك ورجل مالي أن أباك اقترض مبلغا كبيرا منذ سبع سنين، وكأنه نسي الدين لطول عهده.
ليرا :
دين! (باندهاش)
أأبي يستدين؟ إني لا أظنه فقيرا.
تشاندس :
لم أكن أعلم عن أسرار أبيك شيئا، وكنت أظنه واسع الثروة، لذلك أخذتني الدهشة عندما رأيته يبكي أمام المرابي.
ليرا :
أبي! (باندهاش) .
تشاندس :
والذى ضاعف دهشتي أن المبلغ زهيد جدا وهو خمسمائة جنيه فقط.
ليرا (بذهول) :
خمسمائة جنيه. إني لا أصدق ذلك. فأبي غني.
تشاندس (يضحك) :
غني؟ وما الذي أخره عن الدفع؟
ليرا (تبكي) :
وارحمتاه!
تشاندس :
لا تعجبي من هذا. لم يكن أبوك أول غني زالت عنه ثروته.
ليرا :
هل ما تقوله صحيح؟
تشاندس :
نعم. إن الضربة لشديدة. وإنه ليدمي فؤادي أن يطرد هذا الشيخ الجليل من بيته.
ليرا (تصرخ) :
إلهي هذا فوق ما أحتمل. (تسقط) .
تشاندس (يحملها بين ذراعيه ويجلسها) :
ليرا! ليرا! الخطب جلل، والمصيبة عظيمة. ولكن أجيلي نظرك فيما حولك، عساك تجدين صديقا ينقذك.
ليرا :
آه، إني عديمة الأصدقاء (تفكر)
ولكن لا. ويلاه إنه بعيد (تبكي)
بعيد جدا حيث لا أعلم عن مستقره شيئا.
تشاندس :
بصوت خافت (لنفسه)
ويلاه، ألها صديق؟
ليرا (تفيق) :
لا تفكر فيما أهذي به. آه. وآسفاه!
تشاندس :
وهل نسيت أن لك صديقا يتمنى لك أية خدمة؟
ليرا (تقف ) :
أين هو؟
تشاندس :
تفرسي في مليا. ألا يمكن أن تسمحي بمصادقتي؟ مري تجديني عبدا.
ليرا :
وهل تتنازل بصداقتنا، وقد علمت أننا فقراء؟ (تتنهد) .
تشاندس :
وهل هذا يحتاج إلى شك، أيتها العذراء الشريفة؟ أتعتقدين أن الفقر عار؟ ضعي يمينك فوق صدري تعلمي لمن يخفق الآن.
ليرا (باستغراب) :
أنحن في موقف غرام؟
تشاندس (بخداع) :
إنه الحب. ليرا. إني أعبد هذا المحيا النضر. أتشكين في حبي؟ أعيريني سمعك، واستحضري الرحمة من أعماق قلبك الطاهر، يتجل لك صدقي. ليرا! إن كلمة واحدة منك تنقذ أباك.
ليرا :
أأنت تدفع الدين عن أبي، إذا قبلت حبك وصداقتك؟ (تتنهد) .
تشاندس :
هذا لا ريب فيه.
ليرا :
ولماذا تحتمل بلاء وقع على غيرك؟
تشاندس :
إنه الحب الذي يدفعني إلى ذلك. هل تشكين في حبي، يا مس ليرا، وأنا أنتفض وجدا بين يديك الآن؟ (بخداع)
ليرا.. تصوري أباك وما هو فيه، واذكري مصيره بعد أيام. وقارني بعد عزك اليوم وتعاستك غدا وثقي أنني أدفع عنك الكارث فأستحق على ذلك الحب منك.
ليرا :
لم أفهم مرادك من الحب.
تشاندس :
لم تفهمي مرادي؟ ان هذا لعجيب. أأقدم نفسي فداء لشرف أبيك، ولا أستحق منك كلمة شكر؟
ليرا :
أمرادك مني أن أشكرك؟
تشاندس :
ذلك على الأقل.
ليرا :
إذا كان هذا غرضك، فإني أقدم لك عني وعن أبي وافر الشكر اعترافا لك بالجميل، وأقبل صداقتك.
تشاندس :
إني أقبل منك هذا. أيتها الفاتنة، وأستزيدك رحمة بي وشفقة علي.
ليرا :
إذا أنت تريد اكثر من الشكر والصداقة؟
تشاندس :
نعم. يا ليرا أني أتمني أن أقدم حياتي ومالي فداء لك وأبيك.
ليرا :
إن شريف عواطفك تضطرني أن أقبل أكثر مما ذكرت.
تشاندس :
عديني أن تكوني زوجتي، وأنا أنقذ أباك من خطر الدين (بتوسل) .
ليرا (تهم، وتسحب يدها من بين يديه) :
ذلك لن يكون، أقام العالم أم قعد؟!
تشاندس :
ليرا.. ماذا أسمع؟ أترفضين يد من قدم إليك ماله وحياته، أيتها العذراء؟ (يقف)
أزيحي قليلا هذا الغطاء عن عينيك، ينكشف لك عن هول المستقبل وسوء المنقلب. وإذ ذاك تعلمين أنني إنما أردت بك خيرا. واحكمي بعد ذلك بما تشائين.
ليرا (تقاطعه) :
كفى، كفى.
تشاندس :
إن كلمة واحدة من فمك الطاهر تبعث رسول الرحمة إلى أبيك المسكين. ليرا ... إن السعادة بين شفتيك. تكلمي. مالي أرى جبينك يتصبب عرقا؟ ألحقتك مني إهانة؟
ليرا :
كلا (مرتجفة) .
تشاندس :
ليرا! إني أنتظر أحد أمرين، القبول أو الرفض.
ليرا (تتنهد) :
يا إلهي، إنك أحرجتني. (تبكي)
مستر بارل، أنقذ أبي وأنا أقبل ما تريد (وتسقط على المقعد واضعة يدها على جبينها) .
تشاندس (لنفسه) :
وافرحتاه! (إلى ليرا)
إني سأقوم حالا بوفاء الدين.
ليرا :
شكرا لك. (يتأوه) .
تشاندس :
إنك الآن تحسنين إلي وإلى أبيك. (يقترب منها)
ما أوفاك في عيني الآن!
ليرا (تبعده بلطف) :
تمهل. هكذا أرادت مشيئة الله. إبق هنا حتى أخطر أبي وجرفث بذلك، وما إخالهما يرفضان.
تشاندس (برعب) :
لا تفعلي هذا يا ليرا، إذ يجب أن تخفي ذلك عنهما.
ليرا (بتعجب) :
لا أفعل؟ أيجب أن أخفي ذلك؟ (بدهشة)
إنه من الشهامة إعلان الزواج فهل هنالك سر؟
تشاندس (بخبث) :
نعم، أعيرني سمعك. إن ثروتي العظيمة تحت إشراف أحد أفراد أسرتي. وإذا أعلن زواجي هذا الآن كان سببا في ضياع تلك الثروة الكبيرة؛ ونحن في حاجة إلى المال، لأنك كما تعلمين فقيرة.
ليرا (بذهول) :
زواجي يقضي على ثروتك بالضياع؟
تشاندس :
ليس زواجك فقط، بل كل زواج بغير شرط الوصية.
ليرا :
أتشترط الوصية زواجا خاصا؟
تشاندس :
بلى، ولكن إلى أجل محدود ينصرم بعد سنة. وحينئذ أكون حرا مطلق التصرف.
ليرا :
إذا نؤجل زواجنا حتى تحصل على ثروتك.
تشاندس (بخوف) :
والدين؟ أنسيت أن أجله قد حل؟
ليرا :
ولم لا تقوم بالسداد ويكفيك مني العهد؟
تشاندس :
ومن يضمن لي ذلك، والعذارى قلوبهن هواء؟
ليرا :
كأنك تطعن في أمانتي.
تشاندس (بغضب) :
إذا أنت ترفضين، والرفض يفضي بأبيك إلى الهلاك. فهل تختارين له التعاسة والشقاء؟ أنت لا تعلمين الخطر المحدق بكم. إنكم بعد ثلاثة أيام ستطردون جميعا من هذا الكوخ والمزرعة ويسلب منكم قهرا جميع ما تملكون.
ليرا (تبكي) :
آه يا إلهي وارحمتاه!
تشاندس :
لا تجزعي يا ليرا، فقد وفق الله لك منقذا يحبك من كل قلبه.
ليرا :
ليكن ما أراده الله.
جرفث (يدخل) :
لقد طال انفرادكما، فهل لذلك من سبب؟
ليرا (باضطراب) :
وأبي، كيف هو الآن؟
جرفث (بامتعاض) :
أبوك! أظن لم يعد يهمك أمره. وإلا لما تأخرت عنه وهو يناديك في غيبوبته، فلا يجاوبه غير صدى صوته (إلى تشاندس)
أبهذا تدعوك المروءة يا مستر بارل؟
ليرا (برجفة) :
يدعوني أبي فلا يجدني؟ (تجري إلى الباب وتخرج) .
جرفث :
فيم كنتما تتباحثان؟
تشاندس :
كنا نتكلم في أمر العناية بالمريض.
جرفث (بسخرية) :
المريض بين يدي رحمة الله، وهو في حاجة إلى الدواء، وسأذهب لاستحضاره من بترال. فكن حارس المنزل حتى أعود.
تشاندس :
أأنت في حاجة إلى مساعدة مالية؟
جرفث (بازدراء) :
ومن قال لك أننا فقراء؟ (يخرج مسرعا) .
تشاندس (لنفسه) :
لقد تم مرادي، وحالفني التوفيق، بأن صرفت التحويل. سأشتري تلك الغادة بمبلغ خمسمائة دينار. وإنه بلا شك ثمن بخث. إني نسيت الكاهن. وأين أجد كاهنا يقبل أن يعقد لي عليها؟ وماذا يكون جوابي إذا علم أني اختلسها؟ (حيرة)
وإذا تم العقد، فهل يتيسر لي الهرب؟ ولو علم داين بذلك فكيف يكون موقفي أمامه؟
جرفث (يدخل) :
مستر بارل، إني لم أكد أبتعد عن المنزل حتى اعترضني رجل وسألني عنك.
تشاندس (برجفة) :
عني أنا؟ وبماذا أجبته؟ وهل ذكر لك اسمه؟
جرفث :
نعم، علمت أن اسمه روبرت رودن.
تشاندس (بدهشة) :
روبرت رودن؟ وكيف علم هذا الرجل إنني هنا وبماذا أسماني؟
جرفث (بتعجب) :
بماذا أسماك؟ وهل لك اسم غير دوجرفري بارل؟
تشاندس :
كلا.
جرفث :
إنه وصفك دون أن يسميك.
تشاندس (باطمئنان) :
كيف وصفني؟ وما ملخص هذا الوصف؟
جرفث :
سألني عما إذا كنت من سكان هذه الناحية، وعما إذا كنت أعرف العائلة التي تسكن هذا الكوخ، قأجبته بقولي أنا من سكان هذا الكوخ. فعلى من تسأل؟ فأردف قائلا: أسأل عن سيد بلغني أنه نزل ضيفا على أهله. إثر حادث ألم بساقه وأزيدك إيضاحا أنه شاعر وموسيقي فعلمت أنه يسأل عنك.
تشاندس (باهتمام) :
وماذا كان جوابك؟
جرفث :
قلت نعم، إنه لا يزال عندنا.. أتحب أن تراه؟
تشاندس :
لا بأس، دعه يدخل. واذهب في قضاء حاجتك.
جرفث :
إني عهدتك شريفا. لذلك سأذهب مطمئنا (يخرج) .
تشاندس (لنفسه) :
هاقد حضر الشقي روبرت. فلأستخلصنه لنفسي. إنه شيطان رجيم. وهو نعم الكاهن المطلوب.
روبرت (يدخل) :
المعذرة، ياسيدي تشاندس (رافعا قبعته)
إذا جاءت زيارتي على غير دعوة منك.
تشاندس :
أهلا بك يا روبرت.
روبرت :
لفد دعتني إليك الحاجة الشديدة، يا لورد.
تشاندس :
وأنا لا أنكر الوفاء بوعدي.
روبرت :
لقد أوشك الدائنون أن يسدوا في وجهي كل الطرقات.
تشاندس (يضحك) :
إنك داهية، يا روبرت. أخبرني كيف علمت أنني هنا؟
روبرت :
انتظرتك طويلا، فلما لم تشرفني بزيارتك، كما وعدت، تنسمت أخبارك.
تشاندس :
حسنا، لقد كنت أفكر فيك قبل دخولك علي ببضع دقائق؟
روبرت (بدهشة) :
عسى أن يكون الأمر خيرا.
تشاندس :
رأيت أن أنفحك بمبلغ كبير ليكون لك رأس مال يضمن لك حسن المستقبل.
روبرت (بدهشة) :
مبلغ كبير! إنك بذلك تبرهن على مجد لأجدادك.
تشاندس :
سأنقدك خمسين ذهبا.
روبرت (بدهشة) :
خمسين ذهبا؟ إني لا أكاد أصدق ذلك.
تشاندس :
إنها الصداقة تدفعني إلى مساعدتك، يا عزيزي روبرت.
روبرت :
سأتمكن بهذا المال من القيام برحلة تعود علي بالثروة.
تشاندس :
وسفرك إلى بلادك ثانية هو جل مرغوبي.
روبرت (بدهشة) :
جل مرغوبك! إن هذا لعجيب.
تشاندس :
إني أتمنى لك السعادة والخير من وراء ذلك السفر.
روبرت :
لقد عدنا إلى الفلسفة، إذ يريبني منك هذا العطاء.
تشاندس :
إنه يهمني أن يكون صديقي غنيا، فأبعد عن رأسك سوء النية.
روبرت :
الآن صرت على تمام الثقة، فهل يمكنك أن تدفع لي الآن شيئا على الحساب؟
تشاندس :
لا شك.
روبرت (بدهشة) :
إنك تعاملني اليوم معاملة ما كنت أتوقعها. ويغلب على ظني أنك ستطلب مني قضاء مهمة.
تشاندس :
لا تكن كثير الفضول، ياروبرت، فستصبح سعيدا.
روبرت :
إنك أسرتني بلطف معاملتك. وستجدني طوع أمرك من الآن.
تشاندس (بدهاء) :
ولولا ثقتي بك ما اخترتك (يضع يده على كتفه)
روبرت! أتذكر عهد المدرسة ؟
روبرت :
نعم.
تشاندس :
استجمع ذاكرتك. واذكر السنة الأخيرة من دراستنا، وأخبرني هل تتمثل أمام عينيك الرواية التي مثلناها في ذلك العهد؟
روبرت :
نعم وأتخيلها الآن. وكنت فيها تجيد تمثيل البارون أليس كذلك؟
تشاندس (يضحك) :
ونسيت أنت الدور الذي كنت قائما بتمثيله، وأحرزت فيه السبق على جميع الممثلين.
روبرت (يضحك) :
نعم. القس.
تشاندس :
منذ ذلك العهد شاهدت روايات عديدة. ولم أوفق لرؤية ممثل أجاد دور القس إجادتك إياه لذلك أطلب منك تمثيل هذا الدور غدا في التاسعة صباحا!
روبرت (بدهشة) :
غدا في التاسعة صباحا!
تشاندس :
نعم لتعقد زواجا بين شاب وفتاة.
روبرت :
لا شك أنك تمزح، إذ كيف يكون العقد محترما أمام القانون؟
تشاندس :
دعنا الآن من القانون، وافترض أنك تمثل ذلك تمثيلا..
روبرت :
الممثل غير مسؤول يا لورد.
تشاندس :
لك ذلك..فأجبني: هل تقوم بهذه المهمة فتستحق الذهب، أو ترفضها فأضطر لمساومة سواك؟
روبرت (باهتمام) :
وأين يكون العقد؟
تشاندس :
في كنيسة القديس مرقس القديمة.
روبرت :
على الضفة اليمنى من نهر التو.
تشاندس :
إذا يجب أن تكون هناك قبل الساعة العاشرة من صبيحة الغد.
روبرت :
ومن هما؟
تشاندس :
أما الشاب فهو أنا.
روبرت (بدهشة) :
أنت نفسك؟
تشاندس :
نعم، ألم أقل إنها ألعوبة؟
روبرت :
وهل هي راضية، وتعلم سر الموضوع؟
تشاندس :
عليك أن تقوم بواجبك كقس حقيقي. سلها أراضية هي أم لا، وسوف تجيبك.
روبرت (بانزعاج) :
إسمح لي أيها السيد أني أشعر بأن هناك سرا، وأخشي أن يكون خطرا علي.
تشاندس :
إطمئن، فلا خطر عليك.
روبرت :
ومن هذه الفتاة؟
تشاندس :
هذا ليس من شأنك.
روبرت :
وهل سنكون وحدنا في الكنيسة؟
تشاندس :
خوفا من افتضاح أمرك، سأحضر معها فقط. فهل أنت على استعداد؟
روبرت :
تنقصني ملابس القس، وسأستأجرها اليوم.
تشاندس (يضع يده في جيبه ويخرجها بالذهب) :
خذ هذا على الحساب. يجب ألا تستريب بك الفتاة.
روبرت :
كن مطمئنا (يعد الذهب)
والباقي من الخمسين؟
تشاندس :
سأدفعه بعد تمام العقد.
روبرت (يمد يده) :
إلى الملتقى.
تشاندس (وهو يصافحه) :
غيرت إسمي هنا، فأصبح دجوفري بارل. (بصوت خافت)
فإذا صادفك الخادم الشيخ وسألك فلا تنسى.
روبرت :
فهمت دجوفري بارل (يخرج) .
تشاندس (لنفسه) :
لقد تم كل شيء. وأصبحت ليرا لي، ألهو بها ما شئت. فيالسعادتي!
جرفث (يدخل ومعه الدواء) :
لقد أحضرت الدواء.
تشاندس :
حسنا. أسرع إلى المريض. (يدخل جرفث إلى مخدع المريض) .
تشاندس :
سأمثل دوري الأخير، متي حضرت ليرا.
ليرا (تدخل متلفتة) :
يخيل إلي أني كنت أسمع محاورة هنا. كانت تدور بينك وبين رجل آخر.. فهل أنا على يقين؟
تشاندس (باهتمام) :
هل وصل إلى سمعك منها شيء.
ليرا :
كلا إني كنت منصرفة بكليتي إلى العناية بأبي.
تشاندس :
اسأل الله له تمام الشفاء.
ليرا :
شكرا، يا مستر بارل.
تشاندس :
لقد دعتني حوادث مهمة وظروف حرجة إلى المبادرة بإتمام عقد زواجنا قبل فوات الوقت.
ليرا :
إنك غريب الأطوار يا سيدي. ما هي تلك الدواعي المهمة؟
تشاندس :
هنالك سببان قويان. أولهما أنه وردت الآن رسالة إلى أبيك من مستر دجارفن الدائن يطلب فيها وجوب وفاء الدين بعد غد، وإلا اضطر إلى تنفيذ ما اتفقا عليه ورفقا بحال أبيك، سأخفي عنه ذلك.
ليرا :
ويلاه! (مرتجفة)
أين هذه الرسالة؟
تشاندس :
هاهي معي لأبرهن بها على صداقتي وحسن نيتي (يهم بإخراجها ليوهمها أن ذلك حقيقي) .
ليرا (بسذاجة) :
دعها إنك صادق. تكفيني منك الصراحة.
تشاندس :
أما الثاني، فقد حمل إلي الرسول الذي كان هنا الآن نبأ مزعجا، ألا وهو أن عمتي البارونة في فراش النزاع، وهي لا وريث لها وتسألني العودة حالا لأستلم الوصية.
ليرا (تتنهد) :
إذا ستسافر حالا؟
تشاندس :
يمكنني تأجيل السفر إلى ما بعد إتمام العقد غدا.
ليرا :
ولم هذه السرعة؟
تشاندس :
لأدفع المبلغ مطمئنا هادئ البال.
ليرا :
وماذا عليك لو دفعت المبلغ وسافرت، وبعد عودتك يتم ما أردت، وربما تماثل أبي للشفاء، فيشترك معنا في هذا الزفاف؟
تشاندس :
كان بودي أن أقوم بجميع أوامرك. غير أني أخشى تغيير رأيك.
ليرا :
أتخشى أن أنقض عهدك؟ أقسم لك بأبي وأمي...
تشاندس :
لا داعي للقسم، وخير البر عاجله.
ليرا :
آه، ولكن ...
تشاندس :
لا تترددي وتشجعي .
ليرا :
أتشتريني بالمال، يا مستر بارل؟ إني أعتبر هذا قسوة منك.
تشاندس :
كفي. ها أنا راحل عنك. آسف لرفضك يدي.
ليرا (تبكي) :
إرحم دموعي، يا مستر بارل، أيسمح شرفك أن تترك هذا الذي وضعك في منزله واعتنى بك أيام آلامك لكي يذهب ضحية المال؟
تشاندس :
كفى أيتها العذراء. فإنقاذ أبيك يتوقف على كلمة منك.
ليرا :
آه! أيها القاسي ألا تزال مصمما. (تتنهد) .
تشاندس :
لن أتحول قيد شعرة عن عزمي. وأقسم لك بشرفي أنك إن لم تذعني لأمري ارتحلت عنكم حالا. إن كلمة واحدة تزف إليك السعادة.
ليرا :
أليس للرحمة سبيل إلى فؤادك؟
تشاندس :
لا أمل في استعطافي، أيتها العذراء. واحد من اثنين إجابة أم رفض.
ليرا (بجنون) :
تمهل. انتظر يا صاحب المال. نج أبي، وافعل ما شئت (تبكي) .
تشاندس (يعود عودة الظافر) :
إنك الآن تستحقين حبي، يا مس ليرا. فهل أنت راضية عن زواجنا؟
ليرا :
والمال، أتدفعه حالا متى قبلت؟
تشاندس :
بلى، وها أنا على قدم الاستعداد. فغدا صباحا يعقد العقد ويدفع المال.
ليرا (برعب) :
ويلاه. غدا يتم هذا الزواج العجيب!
تشاندس :
في كنيسة مرقس القديمة.
ليرا (بذهول) :
ياآلهة السماء! (لنفسها)
أأدنس هيكلها المقدس! آه. كيف أطرد خياله عني. ياآلهي. (تسقط) .
تشاندس (يساعدها على النهوض) :
ماذا أصابك؟ (لنفسه)
بماذا كانت تتمتم كأنها مأخوذة! لا بد أن يكون لها سر سأكتشفه بعد. (إليها)
انهضي يا ليرا.
ليرا (تفيق قليلا. وهي تهذي) :
زواج؟ هيكل القديس مرقس؟ كهف صباي؟ لا! لا!
تشاندس :
ليرا! عودي إلى رشدك.
ليرا (تمسح جبينها) :
نعم. (تقف)
أنقذ أبي. واعلم أن ليرا العذراء باعت نفسها لتفدي شرف أبيها.
تشاندس :
مسكينة أنت، يا ليرا. (يضع يده على كتفها)
أعيريني سمعك، سأذهب إلى برنستابل الآن لأستحضار المال. وأعود في الثامنة صباحا إلى الكنيسة مصحوبا بالأب المحترم. فيجب أن نجدك. ولن يكون لنا رابع أفهمت؟
ليرا :
نعم، فهمت.
تشاندس :
وماذا أنت قائلة؟
ليرا (تنتحب) :
لا شيء. وإن لم يتيسر لك الحصول على المال، فماذا يكون العمل؟
تشاندس :
التحويل معي، فاطمئني جدا. إلى الغد (يخرج) .
ليرا (لنفسها) :
ما أشد ما أقاسي! (تسقط على الكرسي)
آه. أين أنت يا أماه؟ إني أكاد أرى روحك الطاهرة تحلق بأجنحة رحمتها فوق غصن شبابي الذابل. أماه، كيف تتركيني فريسة هذا الوحش القاسي، ينشب مخالب قسوته في هيكل ابنتك المقدس؟ أبت، أين أنت لتذود عن ابنتك؟ لقد ضرب سوء طالعي حولك سورا من حديد.. (تقف)
ويلاه بماذا أشعر؟ ماذا أرى؟ أفي يقظة أنا أم في منام؟ لورد داين، أيها الحبيب! أين رحلت عني شهامتك في وقت الحاجة إليها؟ عفو أيها الشريف، إني مرغمة. ترى أين أجدك الآن قبل أن يفوت الوقت؟ (تتنهد)
إلهي أنت وحدك القادر على الأخذ بناصري. فإليك أضرع وبك أستجير. إلهي أترضى أن أبيع نفسي كالسلعة؟ أقدرت علي العذاب، وكتبت لي الشقاء؟ أنا لم أقترف ذنبا أستحق عليه هذا الجزاء. فلم كتبت علي التعاسة والشقاء؟ (تبكي)
إلى اي حمى غير حماك ألتجئ؟ وبأي قدرة غير قدرتك أتوسل؟ كنت أكل أمري إلى أبي وحبيبي، بيد أن مشيئتك أقصتهما عني. (تبكي)
إلهي إني أكاد أجن من هول هذه الضربات المتواليات. آه، ماذا أرى؟ (بحزن)
وحقك يا ملك الموت (تركع)
رفقا به، رحمة بأبي. أتوسل إليك، اتركه لي. (تبكي) . أيتها الروح الطاهرة، أتوسل إليك بدموعي (تحدق ببصرها وترتجف فاتحة ذراعيها) . أماه! أماه! يا من أرى سعادتي في قربها، هل أنت راحلة كسابق عادتك، أم اخترت البقاء لحماية ابنتك؟ ويلاه! إنها حانقة علي. أماه رفقا بابنتك. لم أجن ذنبا إني بريئة. ما رضيت إلا كرها، وما قبلت الأمر إلا مرغمة. اختفى عني من كان يستطيع إنقاذي، لو علم. أبي يحتضر، المرابي لا يرحم، الدين يجب أن يدفع بعد غد. (تجهش بالبكاء)
أماه، إنقاذا لشرف أبي قذفت بنفسي إلى الهاوية. نعم، سأكون بالكنيسة في الأجل المضروب. (تسقط على الأرض وهي تلفظ أ ... ما ... ه ... إ ... ني لاحقه ... بك) . (تسدل الستار على مهل أثناء نطق الجملة الأخيرة)
الفصل الرابع
المنظر الأول (طريق النهر) (تدخل ليرا بملابس سوداء وعلى رأسها القبعة متأهبة للسفر)
ليرا :
أخشى أن يفوتني القطار، ومسز ليزلي في انتظاري. لماذا لم يحضر جرفث، وقد وعدني ألا يتأخر؟ (تتأمل)
كفاني أيها الدهر، أصبحت خيالا. (تبكي)
مات أبي، نعم قضي من كان يحيا من أجلي. أيتها السماء، أمطري قبره غيوث رحمتك، ومري ملائكة الرحمة أن تبارك جسده الطاهر. (تبكي)
أيها الوالد الشهيد، إن ابنتك قامت بالواجب عليها، ولكن كان ذلك بعد فوات الأوان. فلا تلعني، واشفق علي لقد قبلت بغير علم منك، وذهبت معه إلى الهيكل بدون مشورتك. نعم هذا عقوق. إني لم أحترم أبوتك التي أقدسها، ولكني كنت مرغمة. ولو علمت السبب لغفرت لي ذنبي. (تبكي)
ترى أين ذهب ذلك الوحش المفترس، إنه كان يحسبني أبيع شرفي. لذلك أبى أن يسلمني المال الذي تعاهدنا عليه حين علم بموت أبي المسكين. إنه لنذل دنيء.
جرفث (يدخل ومعه حقيبة السفر) :
ألا تزالين مصممة على السفر؟
ليرا :
نعم وأشعر أن فيه سعادتي.
جرفث (يمسك يدها ويضع الحقيبة على الأرض) :
ليرا، يحزنني جدا أن أراك تقذفين بنفسك بين أمواج عالم لم تتعوديه من قبل. وكيف تظنين أن هناك السعادة، وشيطان الشر كثير الجنود؟ ليرا، أنعمي النظر جيدا في خادمك الأمين، ولا يربك منه شعره الأبيض. هاهو لا يزال أمامك يشعر أن قوة شبابه تعاوده، ويخيل اليه أن ما أصابه من البلاء بموت أبيك وضياع الكوخ ...
ليرا (تقاطعه) :
نعم لقد خسرنا كل شيء. (تبكي) .
جرفث (يستطرد) :
كل ذلك طرد عني ضعف الشيخوخة، وأرجع إلي شرخ الصبا وفتوة الشباب، حتى أراني الآن أنافس ابن العشرين جلدا على العمل. فلماذا لا تثقين بقوة ساعدي، وقد أوقفت حياتي على خدمتك منذ نعومة أظفارك يا ليرا؟ أنسيت أن شخص أمك وروح أبيك يتمثلان الآن في شخصي أنا؟ فلم تطوحين بغض شبابك اليانع بين براثن ذلك الدهر القلب؟ أما تخشين ما عساه يخبئه لك القدر؟ إرجعي إلى صوابك، يا ابنتي، واختاري البقاء معي في كوخنا الحقير.
ليرا :
في كوخنا الحقير؟ هل أرجعه لنا دجارفن بعد أن سلبه منا أمس؟
جرفث :
لقد تنازل لي عن ايجار الغرفة التي كنت أتخذها مخدعا لي.
ليرا :
أما تعلم أن هذا التنازل في نظير حراستك أملاكه الجديدة؟ (تبكي) .
جرفث :
إن هذا يقطع كبدي. فهوني عليك، وأخبريني علام عولت، إذا. ألا تزالين على عزمك؟
ليرا :
هذا لا شك فيه. سأذهب حالا إلى برنستابل، ومنها إلى لندن لأقابل صاحبة العنوان مسز لزلي، وإني لأظنها ربة قصر تروز.
جرفث :
نعم إنها رئيسة حاشية القصر، وهي المكلفة من قبل الليدي بانتخاب الوصيفة.
ليرا :
حسنا إنهم يريدون فتاة يتيمة (تبكي)
تحسن القراءة ومن أسرة شريفة، تعيش في القصر لغير أجل محدود. وقد توفرت في كل هذه الشروط، وقلما تتوفر في سواى، لذلك أراني مطمئنة لهذه الوظيفة الجديدة.
جرفث :
إنك هكذا يا ليرا، فعلى الطائر الميمون يا ابنتي العزيزة، واذكرى أنك تركت شيخا أحنى ظهره الكبر، وأضعف بصره الهرم، حملك طفلة بين ذراعيه، وكان يحنو عليك حنو الأم، ويرضعك لبان الأدب، حتى نشأت مثال الطهارة والعفة، وساعده على ذلك أنك سليلة النبل والشرف (يبكي) . تذكري هذا الهيكل الفاني يا ليرا، وإذا ما واتتك لحظة يمكنك فيها أن تكتبي فلا تدعيها تمر عبثا، وإذا شعرت بوحشة فأسرعى بالعودة إلي لأفتح لك ذراعى وأضمك إلى قلب يتقطع لفراقك، ولأستنفد آخر نقطة من دمى في الذود عنك، باذلا قصارى ما وهبني ربي من القوة في حمايتك من غائلة الفاقة يا ليرا، لا زالت لدى القوة الكافية لكسب ما يطرد عنا ألم الجوع، فلم العجلة؟ أما كان يجدر بك انتظارى حتى أوارى لحدي؟ وما ذلك اليوم ببعيد، إذ ذاك أموت قرير العين وأرقد هادىء البال.
ليرا (تبكي) :
إنك تقطع أحشائي بتوسلاتك المرة، ولكن فات الأوان؛ إني فقدت كل شيء، أصبحت لا أجد مخلوقا يحنو علي سواك، ولما كانت راحتك غاية مناى، فقد آليت على نفسي الشقاء والعمل، فابق أنت، واعلم أني أسعى ليعيش كلانا آمنا على نفسه من الفقر. جرفث! هون عليك أمر فراقي، وثق أني لن أنساك ولن أتناساك، يا من أضعت زهرة حياتك في الدفاع عن عفتي وشرفي؛ إني أعترف لك بالفضل، وأشكر لك حسن الصنيع؛ ولما كنت آخر مخلوق له علي حق التصرف، وله وحده ميزة الرعاية، فها أنا ذا لا أخطو خطوة واحدة إلا بأمر منك، وإني لا زلت ربيبتك المطيعة.
جرفث (يبكي) :
إني لا أحب أن أكون حائلا بينك وبين السعادة، فما دمت تشعرين بالهناء لسفرك هذا، فإني ألزم الصبر مرغما، وأوصيك خيرا بشخصك المحبوب وبشيخوختي الفانية.
ليرا :
كن مطمئنا فإني سأجعل طريق المراسلة مفتوحة بيننا ولن أوصدها ما دمت أنسم هواء الحياة، وسأبعث لك بكل مرتبي الشهري لتقتصده عندك، حتى إذا اضطرتني الحياة أن أهجر لندن عدت إليك فنعيش ما بقي لنا من العمر آمنين طوارئ الدهر.
جرفث :
آه يا ليرا، إنك طيبة القلب (يبكي)
إلهي! أقدرت لي أن أراها ثانية!
ليرا :
هديء من روعك، فالحياة كلها شقاء. وأخبرني، هل أصبت الشقي حين أطلقت النار عليه؟
جرفث :
أي شقي؟ نعم، تذكرت: دي جوفرى بارل المعتوه، أليس كذلك؟
ليرا :
نعم، هذا الوحش المفترس.
جرفث :
كلا، إنه نجا بأعجوبة، ذلك لأنه توارى عن نظرى بين ملتف أغصان الغابة فأخطأته، ولكني أعدك أنه هالك من يدي متى وقع بصري عليه، وسأتتبع آثاره ولو تعلق بأهداب الرياح، إنه جني علينا جناية ما أظنها تغتفر؛ ذلك لأنه كان السبب في موت أبيك، لأن ذهابك معه إلى كنيسة القديس مرقس كان شؤما على سيدي، إذ ظن ما لا أحب أن أطلعك عليه.
ليرا :
أبي ظن بي السوء؟ (تبكي) .
جرفث :
ومع هذا، أخذت أبرهن له جهد مستطاعي، فلم أفلح. (يبكي)
مسكين لقد قتله بارل باختطافك من يده وهو على فراش النزع. أنظري ياابنتي، كيف مات أبوك وهو يتوسل إلي أن أنقذ عفتك من الضياع.
ليرا :
أبي! (يحزن)
أشهد الله أني طاهرة بريئة. نعم، نم هادئا، وستعلم في قبرك أن ابتك دافعت عن نفسها أحسن دفاع. (تبكي)
إنه غشني وكفى. فاترك لله عقابه.
جرفث :
إني حتى الآن لم أعلم شيئا عن هذا السر الذي أخفيته عني فهل لك أن تطلعيني عليه حتي يستريح ضميري؟
ليرا :
أه، ياجرفث. لست أستطيع ولساني لا يجسر أن يفوه بكلمة. وكفاني تعذيبا ولكن اطمئن فسأجعل اعترافي لك على لسان الرسائل. والآن أخاف أن يفوتني القطار، فأستودعك الله؟
جرفث :
رغم تبكيت ضميرى سأنتظر.
ليرا :
وداعا يا جرفث. وستراني إن شاء الله بارة وفية.
جرفث (يضمها إلى صدره ويقبلها بحرارة) :
إلى الملتقى يا ليرا. تجلدي ياابنتي. واعتقدي أن الله سيتكفل بحراستك بعينه التي لا تنام. فلن تصل إليك يد الشر، مهما كانت قوية. ليرا! سأعود إلى غرفتي فأوصد علي بابها، وأمتنع عن رؤية العالم بأسره واضعا أمام عيني الضعيفتين صورتك المحبوبة. ويخيل إلي أني لن أرفع نظرى عنها إلا متى تناولت منك الكتاب الأول مبشرا بسلامة الوصول. فبالله عليك لا تتركيني فريسة الإنتظار، وأعلمي أنه لا سلوان لي، أنا الشيخ الفاني، سوى الرسائل.
ليرا :
هون عليك، يا ولدي المحبوب. واسمح لي أن أدعوك بوالدي منذ اليوم (تعانقه وتبكي) .
جرفث :
بارك الله فيك يا ابنتي. (ينظر في الساعة)
لقد أذنت التاسعة. فعلى الطائر الميمون. ليرا! ها أنا ذا أضرع إلى الله أن يسمح لي برؤيتك فبل أن أموت.
ليرا :
أستودعك الله. (تبكي)
جرفث! أسألك الصبر والجلد. (تعانقه بحرارة)
إلى الملتقى أيها الأمين (تخرج) .
جرفث (لنفسه بذهول بينما يمسح دموعه) :
إلى الملتقى يا من نزعت الروح عني بفراقك (يبكي)
إلهي لقد مات تشستر، وسافرت ليرا، وبقيت انا، فلم اخترت هذا؟ ولم لم تترك الوالد لابنته، حتى لاتضطر الفتاة العذراء إلى مااضطرت إليه الآن؟ سبحانك. ويا إلهي، كن معها أينما حلت، وهيء لها الخير أنى توجهت، وأبعد عنها الأذى (يمشي. إلى الباب ببطئ وتفكير) . (يغير المنظر بعد أن تطفأ الأنوار بغاية السرعة)
المنظر الثاني (غرفة فاخرة بقصر كاستل تروز. بها مكتب وبيانو على الجانبين) (ليدى تيودوسيا هاينلت جالسة على مكتبها وأمامها أوراق تفحصها وأمام المكتب قسان: مارتن فاترو والفرد، وعلى الجهة اليسرى امرأة في سن الأربعين، مسز ليزلي)
تيودوسيا (تكتب ثم ترفع رأسها) :
ألم يتأخر أحد الأعضاء أمس؟
فانشو :
كلا ياحضرة الليدى، وقد قرأت له ورقة الإعتذار المقدمة منك.
تيودوسيا :
وهل وافقت قبولا؟ (تعاود الكتابة) .
فانشو :
نعم (يدخل داين أرمتايدج) . (داين يحي القسيس برأسه ويبتسم لتيودوسيا ويجلس بجانبها)
فانشو (ينظر إلى اللورد بامتعاض) :
متى شرف حضرة اللورد؟
داين :
الآن.
تيودوسيا (ترفع رأسها فترى اللورد) :
داين، أهلا بك ياابن العم، نحن في اجتماع كما ترى، وأنت سيد القصر فاختر لنفسك أى مكان تستحسن ريثما ينفض الإجتماع.
داين :
حسنا (يظل جالسا ينظر إلى فانشو من طرف خفي) .
فانشو :
يلوح لي أن سيدي اللورد يفضل أن يحضر الإجتماع.
داين (بسخرية) :
إن هذا يشجعني على عمل الخير.
تيودوسيا :
يا حبذا لو صح ذلك! (تستطرد وهي تكتب)
ستة وثلاثون ياردة من الفلانيل بحساب شلن وخمسة بنسات للياردة الواحدة (ترفع رأسها فترى داين) .
داين :
أنا لا أظن أني كنت كاتب حسابات.
تيودوسيا :
عفوا، أنا لم أوجه إليك عملية الحساب.
فانشو (عابسا) :
جنيهان وأحد عشر شلنا فقط.
تيودوسيا (تكتب) :
نعم، جنيهان وأحد عشر شلنا بالضبط، وكم عدد الأعضاء؟
فانشو (ينظر في الأوراق) :
ثمانية وعشرون عضوا.
تيودوسيا :
وكان كل عضو يدفع قيمة اشتراك قدرها بنس في الأسبوع، فبعد كم من الزمن يدفع الثمن؟
داين (بسخرية) :
بعد مائة سنة.
فانشو :
دع عنك المزاح يالورد، أنسيت أن اجتماعنا هذا لصالح الفقراء؟ فلم التهكم؟
داين :
معذرة يا حضرة المحترم، أنا لا أتهكم.
فانشو :
لا داعي للسخرية بنا ياحضرة اللورد.
تيودوسيا :
أتجهل أهمية هذا العمل ياعزيزي داين؟ إنا نجتهد في تأليف قلوب جماعة من الموسرين لنحصل منهم على مبالغ من المال يكفي لشراء ملابس للفقراء تقيهم قسوة البرد.
داين :
أما أنا فإني على استعداد لدفع هذا المبلغ فورا، ولا داعى لهذه المشاغل.
تيودوسيا :
ليس هذا هو الغرض، إنما الغرض هو الاستمرار في عمل الخير. فلو لم تشكل جمعية تقوم بكل ما يطلب منها من المعونة دون ارهاق، أعني بدفع مبلغ زهيد في كل أسبوع، لأستحال على فرد واحد أن يقوم بأي عمل خيري مستديم.
داين :
واذا لم يتيسر جمع المبلغ من حضرات الأعضاء، فلا شك أن العقاب سيقع على الفقراء المساكين.
فانشو (بغضب) :
إني أستحسن أيتها الليدى المحترمة أن تؤجلي هذا الإجتماع إلى فرصة أخرى.
داين :
هل أزعجكم وجودى؟
فانشو :
كلا يالورد، فقد أضعنا من وقت حضرة الليدي زمنا طويلا في هذا العمل، وهي الآن تحتاج إلى الخلوة والراحة. فلنؤجل هذا الإجتماع إلى ما بعد الغد إن أمكن ذلك. (يقف) .
تيودوسيا :
رأى موفق. (تقوم وتصافح القسين)
إلى ما بعد غد.
فانشو :
إلى الملتقى ياحضرة اللورد. (يصافحه) .
داين (يمزح) :
أتحب أن أكون أحد الأعضاء في الإجتماع القادم؟
فانشو :
أنت السيد الآمر. (يخرج ورفيقه) .
تيودوسيا (إجلس يا داين) :
لماذا لم تسألني عن صحتي كما هي عادتك؟
داين :
لأني وجدتك مشغولة (يجلس)
وأحببت ألا أصرفك عن المهم.
تيودوسيا :
أو تحتقر عملنا هذا يا لورد؟
داين :
كلا يا عزيزتي. إما أستسهل دفع المبلغ عن جمعه في سنوات.
تيودوسيا :
إن دفع هذا المبلغ وأضعافه صفقة واحدة لمن السهل جدا على فرد غني، ولكن من المستحيل أن يستمر ذلك.
داين :
إني أنظر إلى هذا الموضوع من وجهة نظري تخصني وحدي. ومعنى ذلك أني أفضل دفع ألف شلن عن أن أشتغل بعمل كهذا نصف ساعة.
تيودوسيا :
إنك مخطئ جدا يالورد - وياليت المصور أبدعك في القالب الذي أفرغت أنا فيه.
داين :
أعوذ بالله (يضحك)
أأصبح عاشقا للمحابر والأوراق؟
تيودوسيا :
وهل في هذا عار عليك؟
داين :
كلا. ولكني أميل إلى الهدوء والسكينة.
تيودوسيا :
دعنا من هذا، واشرح لى أين كانت سياحتك. وهل، كنت تشعر فيها بالسعادة؟
داين :
نعم كنت في سعادة وهناء، غير أني لم أكن أعلم شيئا عن أستار منستر، ولا كاستل تروز. ذلك لأنه يندر أن تمس يدي صحيفة. ولا تنسى ذلك الجهل.
مسز ليزلي :
حماك الله من ذلك يا لورد! كيف تنسب لنفسك ما ليس فيك؟
تيودوسيا :
إنك بذلك تفتحين لى سبيل التمادي في معتقده، ياعزيزتي ليزلي.
داين :
أصبت المرمى ياابنة العم. فلا عدمتك أبدا.
تيودوسيا (إلى ليزلي) :
كان يجب عليك مساعدتي لتفتحي لعينيه طريق الخير فيسلكه.
داين (يضحك) :
لقد انقضت جلسة الحسنات، وبدأت جلسة السيئات. ولكني مع هذا أراك ملكا مصلحا أيتها القديسة المحسنة.
تيودوسيا :
إن آراءاك هذه تبرهن على أنك لا تدرك كنه مركزك العظيم، ولا تشعر بمقامك الرفيع. إن شابا في صحتك وثروتك وجاهك يجب أن يمد يد المساعدة إلى المحتاجين؛ فيطعم المسكين، ويكسو اليتيم، وينتشل البائس من مهاوي الفاقة، ويأخذ بناصر من أحنى عليه الدهر.
داين (غارقا في تأملاته) :
أترضي مكارم أخلاقك، أيتها الواعظة الحسناء. سليلة أسرة هاينليت، أن تصميني هذه الوصمة؟
مسز ليزلي (إلى تيودوسيا) :
يظهر أن حضرة اللورد كان في تفكير عميق، وكانت وجهته غير كاستل تروز، وإلا ما كان قد فهم ما فهم.
داين (لليزلي) :
شكرا لك أيتها الأمينة. لقد كنت أحسبك أكثر محبة لي مما بدا الآن.
تيودوسيا :
إنها تقول الصراحة، فما معنى التهكم؟ إني أستحلفك بشرفك أن تخبرني هل كنت مصغيا إلى كلماتي الأخيرة؟
داين :
لا أنكر عليك أنه فاتني منها شيء.
تيودوسيا :
وكيف استنتجت هذا الحكم الجائر علي وعلى صديقتي العزيزة؟
داين :
أنه أوحى إلي به من صيد السمك. فما أسعد الذين ينقطعون للصيد!
تيودوسيا (بأسف) :
دعنا مما لا فائدة فيه، واشرح لنا شيئا من سياحتك الأخيرة.
داين :
لقد طفت بجميع المدائن والقرى الواقعة على ضفتي نهر التو، وصادفت المعتوه في فندق برنستابل.
تيودوسيا (بدهشة) :
ومن هو هذا المعتوه؟
داين :
شاعر، ومصور، وموسيقي العائلة.
تيودوسيا (تضحك) :
لقد فهمت (إلى ليزلي)
إنه يعني تشاندس ارمتايدج.
داين :
نعم هو ذلك الأبله. ولقد وقعت بيننا مشاجرة عنيفة أدت بي إلى طرده من غرفتي.
تيودوسيا :
إنك تمقته مقتا شديدا يا لورد. فهل من سبب؟
داين :
لا داعي لذكر السبب الآن، لأنه مشين ومخجل. (يستطرد)
ولما انقضت تلك الليلة المشؤومة بكرت أتمم سياحتي حول النهر. فأعجبتني بقعة أرض هناك كأنها روضة من رياض الفردوس (يتنهد)
فأحببت أن أستظل تحت وارف ظلالها. وما استقر بي الجلوس لحظة حتى ذكرت ساعة صيد السمك (يتنهد)
وزن في أذني أن الصيد خطيئة.
تيودوسيا :
إذن ماذا صنعت؟
داين :
بدأت أصيد. (يتذكر)
وما هي إلا هنيهة حتى هبت ريح عاصفة كادت تقتلع أشجار الوادي، فارتديت معطفي. وسرعان ما فارقت تلك الروضة الأنيقة (يتنهد)
التي سلبتني عقلي لما أبدعته فيها الطبيعة من الرونق والجمال.
تيودوسيا :
أو تستبيك روضة، يا لورد؟
داين :
إني بدأت أن اتعلم الغزل.. (يتأوه)
ولكن آه! فارقني حسن الحظ.
تيودوسيا :
إنك تتكلم بلغة تستر تحتها أسرارا غامضة.
داين :
لا وحقك، يا ابنة العم. إني خلو من الأسرار الغرامية، إذا كنت ترمين إلى ذلك.
تيودوسيا :
لا بأس. ألم تر تشاندس منذ تلك الليلة؟
داين :
كلا ولا أحب أن أراه.
تيودوسيا :
لقد كتب إلي منذ شهر لأقبله عضوا عاملا في جمعيتنا الخيرية، فقبلناه. وقد طلب مابقي له من إيراد هذه السنة، فأرسلت إليه تحويلا بمبلغ خمسمائة جنيه. وعلمت منه أنه نزل ضيفا على عائلة فقيرة في طريق برنستابل. دون أن أعرف السبب. ومنذ ذلك الحين انقطعت عني أخباره تماما.
داين :
نزل ضيفا على عائلة فقيرة في برنستابل؟ هذا ما لا أصدقه (لنفسه)
إنها ليست فقيرة. (يستطرد)
ولكن مالنا ولهذا الأبله!
تيودوسيا :
ما عهدتك على هذه الدرجة من الكراهية له قبل الآن. أنسيت أنه يحمل لقبك؟
داين :
إنه لا يستحق هذا اللقب. (يصمت قليلا)
نسيت أن أسألك عن صحة حضرة الإيرل المحترم، والدي.
تيودوسيا :
بخير.. يواصل عمله بهمة لا تعرف الملل ساعات متواليات.
داين :
إني أشعر بألم الجوع.
تيودوسيا (إلى مسز ليزلي) :
مري يا عزيزتي بإحضار المائدة.
ليزلي (تقف) :
هل نسيت مولاتي موعد قصر جاردن سكوير في لندن؟
تيودوسيا (تنظر في ساعتها) :
يجب أن تسافرى بعد الطعام مباشرة؟ هل بعثت بالعنوان الكافي لوصيفتها الجديدة؟
داين (إلى تيودوسيا) :
أبعثت في طلب وصيفة جديدة؟
تيودوسيا :
نعم، لأترك شؤون القصر إلى ليزلى. وأختص بها لنفسي.
ليزلى :
نعم أمرتها أن تصل إلى محطة واترلو، حيث تكون العربة في انتظارها. وسأتقبلها في قصر مولاتي بلندن، ثم أرافقها إلى هنا.
تيودوسيا :
أسرعي بتنفيذ ذلك بعد فراغك من المائدة مباشرة. (ليزلى تنحني وتخرج)
تيودوسيا (إلى داين) :
ألم تعلم أن أباك سيشرفني بزورته اليوم، يا لورد، فلقد تناولت كتابا منه أمس وعدني فيه بأنه سيشرف قصري اليوم. فما أشد سروره برؤيتك هنا!
داين :
كان يدور في خلدي أن أترك كاسل تروز إلى استار منستر اليوم حيث أتشرف بمقابلة. أما وقد صار على وشك الوصول، فمن الواجب انتظاره هنا.
شارل (ينحني ويدخل) :
المائدة في انتظار مولاتي.
تيودوسيا :
ومسز ليزلى؟
شارل :
تجهز أمتعة السفر.
تيودوسيا (تقف) :
إلى المائدة بالورد.
داين (يقف) :
هات ذراعك يأابنة العم. (يخرجان) .
شارل (لنفسه وهو يرتب الصالون) :
ما أسعد حياة الأغنياء وما أهنأها!
وليم (من الداخل) :
شارل! شارل! (يظهر وليم بالباب)
شارل! لقد وصل مولاي الإرل.
شارل (يسرع الخطى إلى الباب ليستقبل الإيرل) :
أوصلت العربة إلى باب القصر؟
وليم :
استعد، فهو الآن على الدرج.
الإيرل (يدخل فينحني شارل ووليم) :
أين مولاتكما؟
شارل (ينحني) :
على المائدة.
الإيرل :
ألم تصلكم أخبار عن ولدي لورد داين؟
شارل :
مولاي اللورد هنا في القصر من صبيحة اليوم.
الإيرل (بدهشة) :
داين هنا في كاستل تروز؟ (لنفسه)
ولم لم يصل رأسا إلى استار منستر؟ (إلى شارل)
إذن هو على المائدة الآن؟
شارل (ينحني) :
نعم، يا مولاي.
الإيرل :
حسنا، لا تعلن خبر قدومي إلى الليدي إلا بعد انتهاء المائدة. (شارل يدخل ينحني ويخرج ووليم)
الإيرل (لنفسه) :
أحمد الله، فقد وصل سالما بعد رحلته الطويلة (ينادي)
شارل!
شارل (يدخل وينحني) :
مولاي!
الإيرل :
إني أسمع الأميرة تودع انسانا، وأخشى أن يكون اللورد.
شارل :
إن مولاتي تودع مسز ليزلي. لتلحق بقطار لندن كي تحضر وصيفة جديدة.
الإيرل :
إنك شديد النباهة يا شارل.
تيودوسيا (تدخل ومعها داين) :
لقد شرفتني بزورتك قصري، يا سيدي الإيرل. (تصافحه) .
داين (يصافح الإيرل) :
تحيتي إلى الوالد المحترم.
الإيرل :
أهلا بكما يا ولدي. (يجلسان. داين عن يمينه وتيودوسيا عن شماله) .
تيودوسيا :
أهلا بك من كل قلبي، يا سيدي اللورد الأكبر.
الإيرل (لتيوديسيا) :
أشكر لك هذه العناية. (لداين)
وأين كانت سياحتك الأخيرة؟
داين :
إنني بفضل رضاء سيدي الوالد المحترم أتمتع بالصحة والهناء في كل مكان.
الإيرل :
وهل كنت سعيدا في تلك السياحات الفريدة؟
داين :
نعم، وكنت امتلئ قوة ونشاطا.
الإيرل (مبتسما) :
أو كان قلبك يذكرني، وأنت في سرورك ولهوك؟ ما ظننت ذلك؟
داين (بحياء) :
أما في سروري فنعم، وما أظنني ألهو الآن.
الإيرل :
بارك الله فيك يا ولدي، أعرني أذنا صاغية. (إلى تيودوسيا)
أتسمحين بمشاركتنا ياعزيزتي الليدي؟ (إلى داين)
أما آن لك أن تفكر في مستقبلك؟
داين :
يسعدني أن أكون مشمولا من سيدي الوالد بالعطف، أما مستقبلي فهو ما يوجهني إليه حظي.
الإيرل :
أعددت لك مركزا ساميا لا يحتاج إلى اجهاد، وسترى أنه سيحسدك عليه كل شريف.
تيودوسيا :
ستملأ قلبي ابتهاجا بقبولك، يا عزيزى داين.
داين :
إن رحلاتي الكثيرة في معظم مدن الدنيا المتحضرة زادت ثقافتي وأكسبتني خبرة واطلاعا، وإني آنس في نفسي القدرة على القيام بكل ما يسند إلي من الأعمال.
تيودوسيا (بشفقة وحنو) :
عزيزي داين، إنك ترفع دعائم بيتك العريق بحسن ثقتك بنفسك.
الإيرل :
لو أنعمت النظر، ياولدي، فيما نطقت به الليدي، لعلمت مقدار حبها لك وشغفها بحسن مستقبلك.
شارل (يدخل وينحني) :
مولاتي الليدي!
تيودوسيا (باهتمام) :
ما وراؤك يا شارل؟
شارل :
إن جمعية ملجأ الأيتام الجديد التي شرعت مولاتي في إنشائه قد تكامل أعضاؤها، وهم في انتظار حضرة الرئيسة.
تيودوسيا :
ألم تعلم أن حضرة الإيرل هنا، وهو ضيفنا اليوم؟
شارل :
أعلم ذلك يا مولاتي.
تيودوسيا :
ولم لم تستعمل عقلك حين الحاجة إليه؟ كان يمكنك أن تقدم اعتذاري، أو أن تنيب عني حضرة القس.
شارل :
حاولت إنابة حضرة القس المحترم فلم أفلح، وقد ألح على أن أعرض على مولاتي الأمر أولا، فإذا صدر أمرك السامي بإنابته، قبل مرغما.
تيودوسيا (بدهشة) :
مرغما؟ وما معنى ذلك يا شارل؟ (بحدة) .
شارل :
إن بعض الأعضاء غير راض عنه، هذا هو سر الخلاف.
تيودوسيا :
وكيف علمت ذلك؟
شارل :
رأيتهم يتغامزون، وسمعت الناقمين عليه يتهامسون، فتجلت أمام عيني نار الحقد التي تشتعل في صدورهم، وخفت سوء العاقبة. لذلك أسرعت لعرض الأمر.
تيودوسيا :
إذا يجب أن أتلافى الموضوع بنفسي قبل أن يستفحل. (إلى الإيرل)
أيسمح لى سيدى الإيرل ببضع دقائق؟
الإيرل :
لقد أعجبتني شهامتك، يا عزيزتي. لك ما تشائين.
تيودوسيا (إلى شارل) :
شارل. أعلن قدومي. (ينحني ويخرج. تقف)
لا تقلقا لغيابي (تخرج) .
الإيرل :
في حراسة الله (إلى داين)
إنها أشرف فتاه كللت تاريخها بأكليل المجد. ولقد أضافت إلى أسرتنا أحسن ذكرى بما خلدت من آثارها من الحسنات.
داين :
الحق معك يا والدي العزيز. إنها مثال الفضيلة والخير.
الإيرل :
إني أخلو بك الآن. فهل تحب أن نتكلم في شأنها؟ وما هو رأيك؟
داين :
نتفاوض في شأنها؟ وكيف أعلن لكم رأيي في شأن لا علم لى به؟
الإيرل :
ألعلك نسيت الخطبة التي ارتبطت بها منذ حداثتك؟
داين (باضطراب) :
إني لم أفكر في هذا الشأن قط.
الإيرل :
ولكني أهتم بسعادتك. أتجهل أهمية هذا الموضوع، وما يقع كلانا فيه إذا فصمت عراه لا قدر الله.
داين :
نعم أعلم ذلك.
الإيرل :
لقد أرحت ضميري بها التصريح. وكان يخيفني أن تكون أصبحت قليل العناية به.
داين :
وكيف لا أهتم بما أنت مهتم به. وغرضك الهناء والراحة لي.
الإيرل :
أحمد الله الذي وفقك إلى معرفة الواجب عليك.
داين :
إني أحترم رأيك، يا ولدي المحبوب، وأقدس طاعتك. بيد أني أخول لنفسي الحق في شيء واحد.
الإيرل (يقاطعه) :
هو الزواج. أليس كذلك؟ إني لمحت غرضك بمجرد الاشارة.
داين :
نعم. أحب أن أطلق لنفسي فيه حرية الإختيار، حيث أرى السعادة والشقاء مقرونين به.
الإيرل :
أنت محق ياداين. وأضف إلى ذلك أنني أبوك. فلا تقطع صلة أبوتي واحترم مقامي.
داين (بخجل) :
احترام مقامك واجب مفروض على. ولا يجرؤ أقوى عامل في الحياة أن يعبث به أو يزعزع من مركزه. ورأيك فوق ما تحب أن يكون. غير أني في هذا الموضوع أميل بطبعي إلى دقات قلبي، وأنصاع إلى نداء ضميري. فبالله عليك، يا والدي، دعني وشأني في أمر زواجي. ولا تزف بيديك، التي ما تعودت غير الرحمة والعدل، التعاسة والشقاء لوحيدك الخاضع المطيع (يتنهد)
والدي العزيز! لقد عودتني الجرأة، وعلمتني الصراحة، فلا يغضبك أني استعملتها في حضرتك وأمام شخصك المحترم.
الإيرل (يتنهد) :
لقد سال منك دم الشرف على أسنة الطيش، إذ سولت لك نفسك مخالفة أبيك، فرضيت له الإهانة، وقد بلغ هذه السن.
داين :
رحماك، والدي!
الإيرل :
إني تعاهدت ولورد هاينلت على ذلك - فكيف يسوغ لك أن تسفه رأيي، وأنا نافذ الكلمة. إنك بذلك الرفض تمزق أحشائي، وتصم اسمي بوصمة عار لا تمحى. أأختم حياتي بهذه النتيجة؟ ومن المحزن أنها لا تصدر إلا عنك أنت!
داين (بخشوع) :
هدئ روعك، ياأبي، واسمح لي بتقبيل يدك اعترافا مني بالخطأ، (يقبل يده)
وجبا في طلب العفو، (باستعطاف)
يا والدي العزيز، أعلن أني طوع أمرك.
الإيرل (بارتياح) :
أرضيت أن تكون زوجا لليدي تيودوسيا هينلت؟
داين (ينظر إلى الأرض باضطراب) :
نعم قبلت، ولكن أمهلني ريثما أكون على استعداد.
الإيرل :
لك مني ذلك. ولكن ضع نصب عينيك تنفيذ رغائبي. وتعهد لي من الآن ألا ترفض يدها مهما كانت الأسباب.
داين :
إني أعاهدك يا والدي الأعز على احترام رأيك، واتباع مشورتك.
الإيرل (يضع يده على كتفه) :
بارك الله فيك. وآمل أن ابن استار منستر لا ينقض عهده.
داين :
أبت لا تسترب بعهدي لك.
الإيرل (ينظر في الساعة ثم ينادي) :
شارل!
شارل (يدخل وينحني) :
مولاي!
الإيرل :
إني تركت أوراقا هامة في حقيبتي الصغيرة، فسل خادمي أن يسلمك الحقيبة بما فيها وأتني بها. (شارل ينحني ويخرج)
لك أن تساعدني في ترتيب أوراق يهمني إنجازها اليوم. ولقد اخترت لك ذلك حتي لا تسأم وحدتك هنا.
داين :
إني طوع الأمر.
شارل :
يدخل فينحني ويضع الحقيبة أما الإيرل.
الإيرل :
حسنا، ها هو العمل ياداين فهيا بنا إلى غرفة المكتب.
داين :
هيا بنا (يتناول الحقيبة. يقف) .
الإيرل (إلى شارل) :
شارل! إذا انتهت حضرة الليدى من عملها قبل أن نترك غرفة المكتب وسألت عني واللورد، فعرفها أننا ندرس أوراقا هامة، يجب أن ننتهي منها الليلة. (يخرجان) .
شارل (ينحني. يرتب البهو) :
يندر وجود شيخ بهذا النشاط.
وليم (يدخل لمساعدة شارل) :
شارل! ما رأيك في هذا الشيخ الجليل؟
شارل :
هذا هو الرجل العامل النافع اليقظ.. ويا حبذا لو حذا لورد داين حذوه.
وليم (يمسح البيانو ويفتحه ويلعب بأصابعه عليه) :
إنها ألعوبة منعشة (يعزف بأنغام رديئة)
غريب! يظهر أن الأصابع التي تدق على هذه الآلة (ينظر إلى أصابعه)
هي أصابع الأغنياء والجميلات فقط، لذلك أرى أصابعي تخونني، لأني ألتمس ما ليس من شأني.
شارل (يسرع إليه ويغلق الآلة) :
اسكت يا متهوس. متى تترك الرعونة أيها الأحمق! ماذا يكون عقابك لو داهمتك مولاتي الآن؟
وليم (غاضبا) :
إنك تهينني، يا شارل، وسأطلب من مولاتي ألا أكون معك في عمل واحد منذ اليوم. (يخرج) .
شارل (لنفسه) :
إني أتعذب جدا في إصلاح هؤلاء الخدم، فلا بد من استبدال غير النافع منهم. (يخرج) . (سكوت طويل. تظلم الأنوار تدريجيا. تدق الساعة 6 دقات)
مسز ليزلى (تدخل وتتبعها ليرا ووراءهما وليم) :
مالى أراك غاضبا ياوليم؟
وليم :
لست على وفاق مع شارل، وسأنتظر ريثما تنتهي مولاتي من اجتماعها، فأبسط إليها شكايتي.
ليزلى :
كن واسع الصدر يا وليم.
وليم :
إن شارل اهانني.
ليزلى :
إنه يمزح معك، وهو أكبر منك سنا وأطول عهدا في خدمة مولاتنا الليدى. فلا تتعجل في عمل ما عساه يعود عليك باللائمة والتعنيف.. أقدم لك الانسة ليرا تشستر وصيفة مولاتنا الجديدة.
وليم (ينحني) :
لقد شرفت كاسل تروز.
ليرا :
شكرا، ياوليم.
ليزلى (إلى ليرا) :
استريحي، يا عزيزتي. فقد صرفنا وقتا طويلا في السفر. (إلى وليم)
إذهب بأمتعة الآنسة ليرا إلى مخدعها الخاص. (وليم ينحني. يهم بالخروج)
ليزلى :
انتظر! لم لم تخبرني أين مولاتنا الليدي؟
وليم :
مولاتي في إجتماع أظنه أوشك أن ينتهي وأرى أنها لن تنتظر أكثر من ذلك.
ليزلى :
حسنا، اذهب، ومر خادمة الغرفة أن تجهزها، (يخرج وليم)
إني سعيدة بك يا عزيزتي ليرا.
ليرا :
إن شفقتك على ياسيدتي، جعلتني أسيرة احساسك الشريف.
ليزلى :
أشكر لك هذا العطف وأزيدك علما بأن مولاتنا مثال المروءة ومكارم الأخلاق.
ليرا :
والله إن قصرا يحويك بين جدرانه لخليق بأن يكون معبدا مقدسا، فإذا كنت أنت بهذه المكارم، فما بال سيدة القصر؟
ليزلى :
شرحت لك، يا عزيزتي، ما يجب اتباعه لمولاتنا من الواجبات، فإذا اتبعت ما رسمت لك، كنت سعيدة.
ليرا :
إني وعيت كل شيء، فاطمئني.
ليزلى :
بارك الله فيك يا ليرا. (تنصت)
ماذا أسمع؟ الخدم يهرجون.
شارل (يدخل بعجلة) :
أين وليم؟ ولماذا لم يوقد الشموع وقد هجم الظلام؟
ليزلى :
ما بالك يا شارل؟
شارل (ينحني) :
عفوا يا حضرة الرئيسة (يجرى إلى الباب وينحني)
مولاتي الليدى!
الليدى (تدخل) :
أهلا بك يا ليزلى (مشيرة إلى ليرا)
ليرا تشستر؟
ليزلى (تنحني) :
أجل يا حضرة الليدى، لقد وصلت إلى جاردن سكوير في الموعد، ولم نلبث أن قمنا إلى كاسل تروز.
الليدى (تجلس) :
إني سعيدة جدا برؤيتك يا مس ليرا، وأتعشم أن تكوني صديقة لا وصيفة.
ليرا (بابتهاج) :
إن هذه أسعد لحظة مرت بي منذ تنسمت الحياة.
الليدى :
اجلسي بجانبي يا أميرة الكوخ، وقصي على أدوار حياتك موجزة. (إلى ليزلى)
اجلسي يا ليزلى.
ليرا (تجلس بجانب الليدى) :
إن قصتي محزنة.
ليزلى :
لقد أهاجت عواطفي منذ أول نظرة وقع بصري عليها في جاردن سكوير.
الليدى :
من هو أبوك يا ليرا؟ ومن أي أسرة؟
ليرا (تتنهد) :
أبي آدون تشستر، كان شريفا غنيا، سكن أمريكا وأثرى فيها، ولكن خانه الحظ، وأظنه فقد ثروته فعاد إلى انجلترا يحملني طفلة بعد أن ماتت أمي، وكنت في الربيع الأول (تبكي) .
الليدى :
لا تجزعي يا عزيزتي، وثقي أنك أصبحت منذ اليوم في أحضان أخت وأم معا.
ليرا :
عاد أبي إلى برنستايل يحملني رضيعة، وابتاع كوخا صغيرا على ضفة نهر التو أمام كنيسة القديس مرقس القديمة، وكان يقوم بتربيتي شيخ أمين (تتنهد)
ظل في خدمة أبي أربعين عاما، ولقد قام بتهذيبي خير قيام، وكان يحنو على حنو الأم، فيدرأ عني كل مكروه حتي ترعرعت لا أعلم عن الدنيا غيره ووالدى، ولم أصادق رجلا غيرهما لأننا كنا في معزل عن العالم (تتنهد)
ومنذ أيام قلائل داهمتنا مصيبة يالهولها (تبكي)
أوقعت الفشل في ذلك العش الهاديء المطمئن وشتت شمل ساكنيه (تبكي) .
الليدى :
يا إلهي (بحزن)
وما موضوع ذلك المصاب؟
ليرا :
فوجئنا بدين كان على أبي منذ بضع سنين. وكان لمراب غليظ القلب جامد العواطف، وكان ذلك المرابي قد شعر بعجز أبي المسكين عن وفاء دينه. فبعد أن كان يقنع سنويا بالفائدة، جاء يسأله دفع الدين صفقة واحدة، وإلا سلب منا جميع مانملك، وطردنا من الكوخ. (تبكي) .
الليدى :
يا إله السماء (بشفقة)
ليتني علمت ذلك في حينه! مسكينة! وكم كان مقدار ذلك الدين؟
ليرا (تتنهد) :
خمسمائة ذهبا.
الليدى :
فقط! نعم، لقد كان عظيما عليكم لأنكم لا تملكونه.
ليرا :
أجل يا مولاتي - لقد تصدى لنا ذلك المرابي الصخري القلب، وأقسم أن يسلبنا كل ما نملك، إذا انقضى أسبوعان ولم نوفه دينه. فهوى أبي الشيخ مصعوقا (تبكي)
على فراش الألم. وظل ينزع حتى بقي من الأجل المضروب يوم واحد (تبكي)
فلم يجسر على رؤية شمس ذلك اليوم الرهيب، فاستغاث بملك الموت، فأغاثه. (تبكي)
نعم، لقد لفظ النفس الأخير وهو يباركني. وتركني أتخبط في ديجور الشقاء. (تخنقها العبرات)
آه! إنها ذكرى يقشعر لها بدني، يا سيدتي. (يغمى عليها)
آه! رحماك أيها الوالد المسكين.
الليدى (بحزن واهتمام) :
شارل! على بالمنعشات. مسكينة أيتها الفتاة. (يخرج شارل) .
ليزلى :
إنها قطعت نياط قلبي بحديثها المؤلم.
شارل (يدخل على عجل بالمنعشات) :
هاهي يا مولاتي.
الليدى (وتتناول الكأس. لليزلي) :
بيدي أنا لا بيدك يا عزيزتي.
ليزلى :
إنك رحيمة يامولاتي.
الليدى (ترش ماء الزهر على وجه ليرا) :
انتظرى ياليزلي، إنها ستكون أسعد فتاة في كاسل تروز، وربما كانت أسعد مني.
ليرا (تستفيق) :
عفوا ياسيدتي. (تحاول الوقوف فلا تتمكن)
إني خادمة.
الليدى (تجلسها بيدها) :
كلا إنك أميرة هذا القصر، يا ليرا، فاستقبلي السعادة والهناء واذا كان الدهر قد لعب معك دورا محزنا، فأنا أرغمه على أن يزف السرور إليك كرها لا اختيارا.
ليرا (بسرور) :
أنت جديرة بالعبادة يا مولاتي، فلا عدمتك أبدا. (تتنهد)
مات أبي وهجم علينا ذئب المال فأجلاني وخادمي الشيخ عن الكوخ. ولما سالت عبراتي على يديه وأوسعتها تقليلا، هبط رسول الرحمة إلى قلبه الصلد، فتنازل لنا عن أجره سكنى غرفة خادمي نظير حراسة الكوخ. (تتنهد)
مسكين أنت يا جرفث! فظللنا بها إلى أن أراد الله أن أكون تحت رعايتك؟
الليدى :
لا تحزني. فأنا أمك وأبوك يا ليرا. وماذا صنعت بخادمك المسكين؟
ليرا :
تركته في غرفته يئن لفراقي حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا. (تتأوه) .
الليدى :
إن هذا لمحزن (تشعر بأن الصالة مظلمة، تنادي شارل)
مالي أراكم أهملتم الواجب هذا المساء؟ لم توقدوا الشموع كالعادة؟ أين وليم؟
شارل (ينحني) :
هذا من واجب وليم يا مولاتي. واني أراه غائبا.
ليزلى :
لقد ذهب إلى مخدع مس ليرا.. ليرتب أمتعتها.
الليدى :
وأنا بنفسي يجب أن أرتب لها غرفة النوم. فهلم بنا يا عزيزتي لأوصلك بيدي إلى مخدع هنائك الجديد (تقف الليدى وليرا وليزلي) .
ليرا :
إنك تعجزين لساني عن الشكر، يا مولاتي.
ليزلي (إلى شارل) :
سأرسل لك وليم يساعدك على إنارة البهو ليكون في استعداد لإستقبال حضرة الليدى بعد قليل.
الليدى :
شارل! لقد نسيت أن أسألك عن حضرة الإيرل واللورد، فأين هما؟
شارل (ينحني) :
في غرفة المكتب. لقد شدد على مولاي الإيرل ألا يزعجه، لأن عمله هام جدا. وإذا رغبت مولاتي أن تشاركهما فيه فلتتفضل.
الليدى (بسرور) :
وهل قبل اللورد أن يشترك مع أبيه في العمل؟
شارل :
نعم.
الليدى (بارتياح) :
إنها لمعجزة مدهشة. دعهما في عملهما، لأني أرافق مس ليرا إلى مخدعها وعليك أن تصدر تنبيها عاما إلى جميع خدم القصر أن يكون احترام مس ليرا من احترامي! أفهمت.
شارل (ينحني) :
سأنفذ أمر مولاتي. (تخرج الليدى وليرا وليزلي. يبدأ بإيقاد الشموع) .
وليم (يدخل) :
لماذا بعثت في طلبي؟
شارل (يضحك) : .ها.. لقد عدت يا أحمق. أنسيت أني أقوم بواجبك الآن؟
وليم (بذهول) :
ولكني غاضب منك، فما رأيك؟
شارل :
أنا رئيسك، فيجب أن تطيعني. وانحن أمامي من الآن وإلا ...
وليم (بغضب) :
أنحني أمامك من الآن؟ ومن أنت؟ أأصبحت مولاتي؟
شارل (يضحك) :
إنك ظريف جدا ياوليم. هل أنت غاضب مني؟ إني كنت أمزح معك.
وليم :
قبلت اعتذارك. وأرجوك ألا تكثر مزاحك لأني سريع الغضب.
شارل :
هل رأيت الوصيفة الجديدة؟ وهل بلغتك الأوامر؟
وليم :
رأيتها، ما أجملها. ولكن لم أستلم أوامر؟
شارل :
صدر أمر مولاتنا الليدى أن تخاطب الوصيفة الجديدة بيامولاتي بعد الإنحناء.
وليم (يضحك) :
ومن بلغك هذا الأمر الجديد؟
شارل :
مولاتنا الليدى نفسها. فاذهب وادع جميع الخدم لأصدر إليهم الأوامر الجديدة.
وليم (ينحني) :
لك الطاعة يا مولاى (يضحك ثم ينحني ويخرج) .
شارل :
إنه خفيف العقل والروح معا (يبتسم. يدخل الخدم جميعا ويقفون حول البهو)
هل بلغكم أمر مولاتكم؟
الجميع :
لا ياحضرة الرئيس.
وليم (غاضبا) :
كيف لا، أيها الأغبياء؟ أنسيتم الإنحناء؟ (ينحني)
ألم انبهكم معشر البلداء؟ (يضحكون) .
شارل :
اسمعوا (يصمتون)
لقد نزلت بقصرنا اليوم آنسة جديدة تدعى ليرا تشستر، فصدر أمر مولاتنا أن يكون احترامها من احترام مولاتنا. أفهمتم؟
الجميع :
نعم.
وليم (يجرى إلى الباب ثم يعود مسرعا وينحني) :
الأميرة!
الليدى (تدخل ومعها ليزلى وليرا فينحني جميع الخدم) :
أقدم لكم مولاتكم الجديدة مس ليرا تشستر، فيجب احترامها كشخصي في كاسل تروز، ولقد أصبح لها حق التصرف في شؤونكم جميعا ... أفهمتم؟
الجميع (بانحناء) :
لتحى الأميرة.
الليدى :
اذهبوا إلى أعمالكم، وليبق شارل ووليم بالباب. (يخرج الخدم، وتذهب الليدى إلى جهة المعزف)
ليزلي! ألك أن تطربينا قليلا احتفالا بليرا؟
ليزلى :
لك الطاعة، ياربة الإحسان. (تجلس وتعزف) .
الليدى (تجلس بجانبها) :
اجلسى يا ليرا. أتجيدين التوقيع على هذه الآلة الشجية؟
ليرا (بخجل) :
كلا، ياسيدتي. وما وقع نظري عليها قبل اليوم (تضع يدها على جنبيها) .
الليدى :
مابالك؟ أتشعرين بألم؟
ليرا :
إن شدة سروري سببت لي دوارا خفيفا.
الليدى :
لا بأس عليك. إنه سيزول حالا متى استرحت قليلا، فاجلسي (تجلس ليرا) .
ليرا :
إن السعادة التي أشعر بها الآن أنستني كل آلامي. فلا عدمتك يا إلهة المكارم.
الليدى (بسرور) :
إنك بدأت حياة جديدة، فاصرفي عنك الهم.
شارل (يدخل وينحني) :
مولاي اللورد.
داين (يدخل مسرعا) :
هل أنتم محتفلون بأبي؟ (يذهب إلى الليدى)
تركته وأسرعت بالهرب. (يضحك) .
ليرا (تصرخ وترتمي) :
آه! (تتمتم) . هو بعينه. إذا هي تيو... (يغمى عليها) .
داين (يرى ليرا) :
ويلاه! إنها هي (يتراجع)
ليرا (يمسح جبينه)
افتحوا النوافذ. إني أكاد أختنق. بماذا أشعره؟ آه! (يرتمي على مقعد) .
الليدى (تقف مشدوهة وتسكت ليزلي عن العزف) :
أسعفوها بالمنعشات (تنظر إليها تارة وإلى اللورد أخرى)
انتظروا، احملوها إلى غرفتها (يحملون ليرا ويخرجون)
لورد (تذهب إلى داين)
لورد! ماذا دهاك؟ (شارل)
إلى بطبيب القصر حالا. (يخرج شارل)
هل أصابك شيء؟ (تجلس بجانب اللورد)
تكلم يا داين. ماذا اعتراك يا عزيزي؟ لماذا لا تتكلم؟ ويلاه! (بقلق)
لماذا لم يحضر الطبيب؟ لقد تأخر.
الطبيب (يدخل مع شارل) :
بماذا تأمر الليدى؟ (ينحني ويرفع قبعته)
ماذا أصاب اللورد؟ (يهتم به جدا) .
الليدى :
لا أعلم سوى أنه دخل البهو ونحن في شبه احتفال، وما إن توسط القاعة حتى انتابه ما ترى.
الطبيب (يعالجه فيفيق) :
لا بأس عليه ... لقد ثاب إلى رشده.
داين :
أين أنا؟ الطبيب! ليدى هاينلت! (يتلفت على ليرا)
ماذا أصابني أيها الطبيب؟ (يتمتم)
أين هي؟
الطبيب :
إنك في إغماء بسيط يا لورد لن يلبث أن يزول تماما. وأنصح لك أن تذهب لتستريح في غرفتك.
داين (يساعده الطبيب على النهوض) :
نعم يجب أن أستريح. ولكن مالي أراني ضعيفا؟
الليدي (تقف) :
شارل. وليم.
الخادمان (يدخلان وينحنيان) :
بماذا تأمر الأميرة؟
الليدى :
ساعدا اللورد حتى مخدعه، وافتحا جميع النوافذ. ولا تزعجا حضرة الإيرل.
الطبيب :
نعم، سيعود إلى رشده تماما بعد نصف ساعة (يخرج الخادمان باللورد) .
الليدى (للطبيب باهتمام) :
ما رأيك فيما اعترى اللورد من الإغماء؟ وما هي أسبابه؟ (تصمت قليلا)
أعرني سمعك، فسأطلعك على سر صغير شاهدته بعيني الآن. (تتنهد)
لقد دخلت في خدمتي وصيفة جديدة. وهذه الليلة هي أول عهدها بالقصر. ولم يقع نظر اللورد عليها سوى هذه اللحظة التي فارق فيها شعوره. ولقد أصابها ما أصابه في نفس الزمن. فأمرت بنقلها إلى غرفتها في الحال، فماذا ترى في هذا الإتفاق الغريب؟ إن قلبي يحدثني أن هناك صلة قديمة بين اللورد وهذه الفتاة، ويزيد من هذا الشك أنه تمتم باسمها وتمتمت باسمه. فما هو رأيك؟
الطبيب (بدهشة) :
لم أر، حين اختبرت قلب اللورد، ما يدل على ذلك. بل كل ما عنده نتيجة إفراطه في عمل أجهد فيه نفسه. فهل كان مشغولا قبل أن يدخل البهو مباشرة؟
الليدى :
صدفة غريبة. نعم كان في عمل مع حضرة الإيرل، ومكث مدة طويلة، ولقد سئم العمل فهرب مسرعا.
الطبيب :
هذا سبب إغمائه، فإن كثرة العمل العقلي مع شدة الضوء والإكثار من التبغ، كل هذا يسبب الإغماء السريع.
الليدى :
عليك إذا أن تعود الوصيفة الآن في مخدعها، ثم تطلعني على النتيجة. وها قد شرحت لك ما يحدثني به قلبي، وإني في انتظارك هنا حتى تعود، وإذا كانت تهذي فراقب كل كلمة تخرج من فيها.
الطبيب :
سأعمل الواجب على. (يبتسم)
أريحي ضميرك، ولا تسرعى بنقمتك، فربما كانت الفتاة مظلومة. (يخرج) .
الليدى (حانقة) :
ماأغرب طوارئ الحدثان! لقد بدأت أشعر بحركة جديدة، أنا التي ما تعودت غير السعادة والصفاء. داين. ياابن ستار منستر: حذار أن تكون قد نقضت عهدي، فتكون بذلك قد وصمت أسرتك بعار لا يمحى. (تفكر)
ولكن كيف ذلك؟ أي ذنب جنت تلك المسكينة، إذا كان قد أوقعها سوء حظها في حبه وكان ذلك منذ عهد طويل؟ أترضى مكارمي أن أفرق بين عاشقين تعاهدا في الحب والوفاء؟ أنا التي أوقفت حياتي على البر والإحسان. كلا! (بشفقة)
أأسبب المصائب لفتاة تعسة منكودة الطالع، جرعها الدهر مر عذابه، ورماها بسهم نقمته وغضبه؟ أفقدها أمها رضيعة، واختطف أباها فجأة، وسلب مالها ونعيمها، وطردها شريدة من عشها الهادئ. كل ذلك بغير ذنب جنت. أيليق بي أن أنتزع منها آخر أمل لها في تلك الحياة المحزنة؟ وإذا كانت قد أحبته وأحبها. فمن الظلم أن افرق بينهما. (بشهامة)
أيتها الفتاة، قري عينا فسأزفه إليك بيدي إن كان هذا متمناك. ليرا لقد أحببتك لأول نظرة، فمن الشرف والمروءة أن يظل حبي لك كما هو. ليرا.
شارل (يدخل وينحني) :
الطبيب يامولاتي.
الليدى :
ليدخل. (يخرج شارل) .
الطبيب (يدخل مبتسما وفي يده ورقة صغيرة كتب فيها ما سمعه من ليرا) :
لقد علمت كل شيء . الفتاة في إغماء طويل، وهي تهذى فتذكر ألفاظا لا دخل لها في الموضوع، لقد سمعتها تلفظ أماه، مسكين أنت ياوالدي، رحماك يا مستر دجارفن. تنح عني يا بارل، هون عليك يا جرفث، إني أكاد أختنق، ترى أين أجدك أيها النائي عني؟ (يقرأ هذا في ورقة)
وتغمغم فيما بين ذلك ألفاظا غريبة، فعلمت أن هذه الفتاة قد أصابها الدهر بضربة قطعت نياط قلبها، فهي في بؤس لا غرام، لأن الفاظها هذه تشف عن آلام نفسانية، وهياج عصبي شديد، وظهر لي أنها قروية لم تطأ قدمها القصور قبل اليوم، فكثرة الأضواء واختلاف ألوانها وشدة السرور بعد نهاية الحزن، كل ذلك سبب لها الهياج الدموي الشديد، فهي بريئة من حب اللورد، كما أنه بريء من حبها، إذ لا علاقة بين لورد عظيم وفتاة قروية مسكينة، فاصرفي ما عندك يا مولاتي واعتقدي في براءتها.
الليدى :
لقد اقتنعت الآن، هل أمرت لها بالدواء؟
الطبيب :
نعم وأعطيت التعليمات الكافية إلى خادمتها.
الليدى :
واللورد أتتركه بغير عناية؟
الطبيب :
وهل يليق ذلك؟ إن دواءه النوم، فمتى أغمض جفنه ساعة، حصل على تمام الشفاء، ولكن ذلك لا يمنع أن اعوده الان.
الليدى :
حسنا، إني أقدم لك شكري لجليل خدمتك.
الطبيب (ينحني) :
لا شكر على واجب (يخرج) .
الليدى (لنفسها) :
إن الحوادث التي صادفتني اليوم لخليقة بالإعجاب.
شارل (يدخل وينحني) :
لقد نام هادئا يامولاتي.
الليدى :
هل كان يهذى في نومه؟
شارل :
كان مضطربا يغمغم ألفاظا ما فهمت منها شيئا.
الليدى :
ومولاتك الجديدة، هل زرت مخدعها؟
شارل :
كلا يامولاتي.
الليدى :
اذهب فادع مسر ليزلي إلى هنا (يخرج)
لابد أن تكون ليزلي قد علمت منها أكثر من الجميع.
الإيرل (يدخل) :
أتأذن لي حضرة الليدى بالدخول؟ (بابتسام) .
الليدى (تقف) :
أهلا بك يا حضرة الإيرلال المحترم.
الإيرل (بسرور) :
لقد شغلته مدة طويلة، ولكنه غافلني. تركني أمعن النظر في موضوع هام وهرب (يضحك)
لا بأس، سأعوده شيئا فشيئا (يجلس وتجلس الليدى)
حالما تركني وخرج، سمعت جلبة وضوضاء سكت على أثرها صوت المعزف، ثم ساد سكون غريب ... في القصر. فهل هذا صحيح، أم كنت واهما؟
الليدى :
نعم حدث ذلك، إثر مصاب ألم بالقصر ومن فيه.
الإيرل (بدهشة) :
إثر مصاب؟ وماهو؟
الليدى :
أجل. لقد خرج اللورد من غرفة المكتب إلى البهو، فألفانا في شبه احتفال بتشريفكم وكانت الوصيفة الجديدة وصلت القصر منذ أكثر من ساعة، فما توسط البهو، ونظر إليها، حتى سقط في إغماء.
الإيرل (باضطراب) :
داين؟ ولدي؟ يغمى عليه لرؤية خادمة؟ ما معنى ذلك؟ إنك بلا شك واهمة يا حضرة الليدى.
الليدى :
ومن غريب الإتفاق أن هذه الفتاة ما إن وقع بصرها عليه حتى سقطت مغمى عليها أيضا! فماذا ترى في هذا الإتفاق المدهش؟
الإيرل (بغرابة) :
وأيضا الفتاة؟ إن هذا لغريب إذا، كيف اتفق ذلك؟ وماذا قال الطبيب؟
الليدى :
لقد اهتم بهما اهتماما عظيما. ولشدة دربته أسند إغماء اللورد إلى كثرة عمله العقلي وشدة الضوء والتدخين، وأسند إغماء الفتاة إلى سرورها الفجائي بعد حزنها العظيم، وإلى الإنقلاب الذى شمل حياتها المضطربة، فأخرجها من حقارة الأكواخ إلى جلال القصور.
الإيرل :
نعم الطبيب. لقد أجاد التعليل. وأين داين الآن؟
الليدى :
في مخدعه ينام نوما هادئا. فاطمئن عليه. ولقد أفهمني الطبيب أن دواءه النوم.
الإيرل (يقف) :
يجب أن أراه.
الليدى :
إنه سيفيق بعد ساعة، فمن الحكمة أن ننتظر حسب أمر الطبيب.
الإيرل :
سأراه بعيني فقط، ولن أكون سببا في إقلاق راحته. فهل لك أن ترافقيني يا عزيزتي؟
الليدى (تقف) :
سألحق بك متى حضرت مسز ليزلي، لأني أرسلت في طلبها الآن. (يخرج الإيرل. لنفسها)
إنه شديد المحبة لولده، ويهمه ألا يكون اللورد عاشقا.
شارل (يدخل وينحني) :
مسز ليزلي يامولاتي. (تدخل ليزلي) .
الليدى :
كيف حالها الآن، ياعزيزتي ليزلي؟
ليزلى :
لقد تحسنت، بيد أن إغمائها الطويل جعلها تتفوه في هذيانها، بما يصدع الأفئدة حزنا عليها.
الليدى :
وما رأيك في هذا الإتفاق المدهش؟
ليزلى :
إن رأي يعزز رأى الطبيب، يا حضرة الليدى. وأنا أثق من براءتها وثوقي من نفسي..
الليدى :
لقد آليت على نفسي ألا أكون حجر عثرة في سبيل هنائها، إذا صح ظني .
ليزلى :
إنك أسمى من أن تنغصي حياة فتاة مسكينة. إنها احتمت بنا، فمن المروءة ألا نتخلى عنها في آونة الشدة، وفوق ذلك فإن قلبي يحدثني أنها بريئة.
الليدى :
لقد اقتعت برأى الطبيب.
ليزلى :
ومولاي اللورد، كيف هو الان؟
الليدى :
انه بخير. ولقد أقر الطبيب أن علاجه النوم. ومنذ برهة خرج حضرة الإيرل من هنا ليعوده، ووعدته أن ألحق به. فاذهبي أنت للعناية بليرا.
ليزلى :
سأقوم بواجب المروءة خير قيام. (تخرج) .
الليدى (لنفسها) :
سوف ينكشف الغطاء، ولكني لن أنقض عهدا نطقت به. إني أعتقد في قدرة الله. داين، لورد ارمتايدج! كن كما تحب أن تكون. إني وهبتك مالي ونفسي، فإن أحببت كنت لك قرينة صادقة، وإن أبيت كنت لك صديقة مخلصة. وأنت أيتها الفتاة المسكينة، لا يخفك انتقامي. إني سأكون لك درعا متينة. تدرأ عنك الأذى، وتقيك شر حوادث الدهر. فكوني هادئة مطمئنة، واستقبلي السعادة والهناء.
الفصل الخامس
(غرفة فاخرة بقصر استار منستر، لإقامة حفلة شائقة) (ولفرد خادم لورد داين ارمتايدج يرتب البهو)
ولفرد :
ما أعجب حوادث هذا الدهر! (يبتسم)
لقد أصبح مولاي اللورد مغرما، أيها اللورد! يالسعادة من بها كلفت! غريب! من كان يظن أن داين ارمتايدج رب أستار منستر العظيم تستبيه وصيفة؟ أيسمح شرفه العظيم أن يفصم عرى الخطبة التي ارتبط بها مع ليدى تيودوسيا هاينلت الشريفة الغنية؟ وكيف يكون مركز مولاي الإيرل، لو تم ذلك؟ (بعجب) . لقد بات القصر، ولا حديث فيه غير غرام اللورد. وما أظن هذا بخاف عن مولاى الإيرل، ولا عن الليدى نفسها. أصدق أصدقائه، لورد سانت أوبن يعزز له هذا الحب، ويساعده على إشهاره. من يجسر أن يحول قلب العاشق إلى غير من يهوى؟
بول (يدخل) :
هل بلغك خبر الحفلة، يا ولفرد؟
ولفرد :
أي حفلة تعني؟
بول :
الحفلة الشائقة التي ستقام هذا المساء في القصر. ولقد أوفد اللورد رسولا إلى ليدى تيودوسيا أميرة كاسل تروز ومسز ليزلي ومس ليرا تشستر ليحضروا هذه الحفلة. وسيكون لوجود مس ليرا شأن عظيم في هذا الإجتماع.
ولفرد :
أي شأن ياترى؟
بول :
ربما أصبحت مس ليرا تشستر ليدى داين ارمتايدج؟
ولفرد :
ويحك! كيف تجرؤ على هذا التصريح، ومن أفضى إليك بذلك؟ أواثق أنت مما تقول؟
بول :
إنه اتفق لي أن سمعت محاورة بين مولاي اللورد، وبين لورد أوبن، علمت منها ما تنبأت به الآن.
ولفرد (بدهاء) :
لا تنطق بكلمة واحدة مما سمعت لأي إنسان في القصر، وإلا اعتبرت خائنا.
بول :
آليت على نفسي ألا أنطق بحرف مما سمعت.
ولفرد (بخداع) :
اجتهد أن تنسى كل حرف فاه به مولاك. أفهمت؟
بول :
نعم. لك مني ذلك.
ولفرد :
ومن يؤيد لي ذلك؟
بول :
يمكنني أن أسر لك ماسمعت. وإذاك يكون السر بيني وبينك. فإذا أذيع هذا السر، كنت أنت الواشي.
ولفرد (بانتصار) :
حسنا إني أوافق على هذا الرأى. اجلس. (يجلسان) .
بول :
كان مولاى بغرفة المكتب على موعد مع صديقه لورد سانت أوبن. وما أن دخل الصديق، حتى أسرع مولاي فأوصد الباب. وكنت إذ ذاك في الغرفة المجاورة أرتبها، فسمعت مولاي يتأوه، فاستفزني الفضول أن أنصت عساى أعلم شيئا من سبب آلامه فأفتديه بمهجتي إذا لزم الحال، وبينما كانت تساورني تلك الشواغل، إذ سمعت مولاى، بعد أن، تنهد، يقول: صديقي الأعز! سألتك أن أراك في خلوة كي أشرح لك ما صادفني في رحلتي الأخيرة. فأجاب اللورد: إني مصغ لك، يا عزيزي، وستجدني أجود بدمي راضيا في سبيل هنائك! فأجاب مولاى: هذا أملي فيك أيها الصديق! واستطرد: لقد اتفق لي أن رأيت غادة يتلاعب بها قارب صغير في مياه التو أمام كنيسة القديس مرقس القديمة. وخيل إلى أن الفتاة تحاول إنقاذ نفسها من الغرق، فألقيت بنفسي في الماء، وكدت أغرق لو لم تسعفني بقاربها. وسرعان ما انتشلتني من الماء. وهنا توقف مولاى قليلا وتنهد من أعماق قلبه، ثم أردف: وصل بنا القارب إلى الشاطئ، فساعدتني حتى عشها الجميل، وهو كوخ صغير آية في الإبداع، وقدمتني إلى أبيها، وهو شيخ جليل عليه سيما الوقار. فاستضافني حتى جفت ثيابي، ولسوء حظي كانت المدة الوجيزة التي لا تبرح ذاكرتي كافية لولوعي بتلك الحسناء. نعم إنها جديرة بحبي، إنها فتاة عفيفة حوت وحدها نصف جمال العالم، تعيش بين شيخين أحنى ظهرهما الكبر: أب وخادم أمين. وهنا اشتد تأوه مولاى، فخاطبه اللورد قائلا: وهل تبادلتما نظرات الحب؟ فأجاب مولاي بتأوه: نعم ولكن واأسفاه! وعدتها أن أعلمها صيد السمك في صبيحة اليوم التالي، وما بزغت شمس ذلك اليوم حتى أسرعت إليها وفاء لوعدي. ثم أردف: ليت شمس ذلك اليوم ما طلعت! فلقد كانت سبب بلائي، إذ دفعني طيش الشباب إلى اختلاس قبلة، يا لهول ذكراها! فانتصبت جامدة كأنها تمثال، وأرسلت إلى نظرة انخلع لهولها قلبي، ثم فرت شاردة كالظبي دون أن تعير توسلاتي أقل التفات، فطار صوابي، ووقفت جامدا كالصنم أشيعها بنظرة الندم حتى توارت عن عيني الدامعتين. وهنا أفاض العبرات، وأردف قائلا: فرجعت وأنا أعض بنان الندم في يأس وأسف. وهنا سمعت مولاى الإيرل يستأذنهما في الدخول، فانقطع الحديث ولم أعد أسمع شيئا. إنني أسمع وقع أقدام. (يجري إلى الباب)
يقف ولفرد.
داين (يدخل داين وبجانبه لورد سانت أوبن إلى ولفردوبول) :
ستشرف القصر بعد قليل ليدى تيودوسيا، فيجب أن يكون قصري على تمام الإستعداد. انصرفا. (يخرجان بعد أداء التحية إلى سانت أوبن)
أجلس يا عزيزي. (يجلسان)
عدت إلى كاستل تروز فعلمت عزم حضرة الإيرل على زورة القصر في ذلك اليوم، فرأيت وجوب انتظاره. (يتنهد)
وما حضر حتى خلق لي عملا شغلني. ولما سئمته خرجت إلى ردهة الإستقبال، وما توسطتها حتى جمد الدم في عروقي، ذلك لأنني فوجئت برؤيتها.
سانت أوبن (بدهشة) :
ومن جاء بها إلى كاسل تروز؟
داين (يتنهد) :
إنها دخلت في خدمة ليدى تيودوسيا على إثر حادث مؤلم أفقدها أباها، وأقصاها عنوة عن عشها الهاديء الجميل.
سانت أوبن :
حديث مؤلم. وماذا حدث حين وقعت العين على العين؟
داين :
شعرت أن الأرض تموج تحت أقدامي، وكأن سماء البهو تهبط فوق رأسي، وما لبثت أن سقطت لا أعي شيئا وتصادف أن غشيها ما غشيني، فأسرعوا بنقلها إلى مخدعها. ولقد دخل الشك قلب الليدى، بيد أن الطبيب أزال هذا الريب. ولما افقت بادرت إلى غرفتها واعتنيت بها بنفسي (يتنهد) .
سانت أوبن :
ذلك الذي ولد الشك ثانية في قلب الليدى، وأكثر اللغط بين الخدم.
داين :
أجل، ولكن تم ذلك على رغم إرادتي، ولم أحفل بكل ما أذيع عنا في القصر. بل ظللت بجانبها حتى أفاقت تماما. ويظهر أن الليدي تباحثت في الأمر مع حضرة الإيرل، فبرح القصر دون أن يراني، فساءني ذلك جدا، وعرفت أني لن أدخل أستار منستر ما حييت. غير أن حضرة الإيرل لاحظ خطأه، فبادرني برسالة سألني فيها سرعة الوصول لأمر جلل، فلم أر بدأ من الطاعة. حاولت أن أخلو بالفتاة لأشرح لها الأمر، فلم أفلح بادئ ذي بدء، إذ رفضت بتاتا أمر اجتماعنا. خلوت بها فترة قصيرة بعد جهد جهيد، فوجدت منها نفورا جعلني أرتاب فيها. كانت تمسح دمعها المتناثر فوق خديها كأنها تكتم سرا غامضا تندلع نيرانه في فؤادها، فانبريت إلى التوسل، فلم يجد نفعا. (يتأوه)
لم أتمالك أن فاتحتها في أمر الزواج. فنظرت إلى نظرة ملؤها الرعب ووثبت من مكانها كالمأخوذة. كانت دموعها أكبر شفيع لها عندي، فأصبحت كالمصعوق تكاد رأسي تحترق. سألتها عن سبب ذلك الإعراض وقد وضعت تحت أقدامها ثروتي ولقبي وحياتي، فأجابتني وهي ترتجف وقلبها يكاد يفارق صدرها من هول ما هي فيه من الإضطراب: إليك عني، فلم أعد لك. وتولت حياء بعد أن سترت وجهها بيديها ثم وقفت وأرسلت إلى نظرة لن تبرح مخيلتي إلى الأبد. ثم صاحت: وداعا يا لورد إنك لن تراني بعد الان. ولا أمل في خلوتك بي بعد ذلك. ثم غمغمت بصوت خافت: قائلة ليتك علمت، وياليتني رأيتك في حين الحاجة إليك، ثم اختفت وهي تقول: مات الأمل. (يتأوه)
ماذا تراه يا صديقي في كل ذلك؟
أوبن :
يلوح لي أن ما أشقى الفتاة أنها كملت قلبا وقالبا، فيا لسعادة من كانت له!
داين :
هذا كل ما أشقى من أجله. ولقد قضيت ليلة الأمس حتي انبلج الصبح وأنا أقنع والدي الإيرل بوجوب زواجي منها، فهاله الأمر، وشق عليه احتماله. فأخذ يعنفني، ولكنه كان يضرب في حديد بارد. ولما آنس في نفسه اليأس، لجأ إلى إرهابي والغضب متمكن منه.
أوبن :
وبعد؟
داين :
لم يثن ذلك من عزمي وصممت على فصم عرى الخطبة التي بيني وبين تيودوسيا، وأن أعود فأتوسل إلى ليرا.
أوبن :
وهل أطلعت حضرة الإيرل على ذلك التصميم؟
داين :
نعم بعد عناء طويل.
أوبن :
وهل وافقك أخيرا؟
داين :
وافقني مضطرا، ووعدني مكرها، ولم يقبل إلا بعد أن تولاه اليأس.
سانت أوبن :
وعلى ماذا عولت، حين تحضر الليدى هنا؟
داين :
أترك كل شيء لوالدى، فقد أخذ على عاتقه ذلك.
سانت أوبن :
ومن تظنه يتقدم ليطلب يد الليدى تيودوسيا هاينلت؟
داين :
لقد قضت السنين الطويلة في صحبة رجل تقول إنه مثال التقوى، رجل خلق ليكون لها، كما انها لم تخلق إلا له، انقطعت إليه بكليتها، فهو لا يفارقها لحظة واحدة بدعوى أنه مساعدها في عمل الخير.
سانت أوبن :
ومن هو؟
داين :
مارتن فانشو.
سانت أوبن (بدهشة) :
القس؟
داين :
هو بعينه!
أوبن :
إذا صح ذلك تم ما أرادت.
ولفرد (يدخل. وينحني) :
سيدي الإيرل.
الإيرل (يدخل إلى سانت أوبن) :
هل أنت هنا. يا أعز الأصدقاء؟ (يخرج ولفرد) .
أوبن (يقف وداين) :
نعم منذ ساعة، يا سيدي الإيرل.
الإيرل :
هل صرح لك داين بآلامه ونواياه؟
أوبن :
نعم.
الإيرل :
وما رأيك الخاص في موضوعه الهام؟
أوبن :
إن صديقي محق في كل ما صمم عليه.
الإيرل :
حتى وفي رفض يد الليدى تيودوسيا؟
أوبن :
أجل يا سيدي الإيرل، فإنه إن لم يرفض يدها اليوم، وسترفض هي يده غدا.
الإيرل (بغرابة) :
ومن أين أوحيت لك تلك النبوءة المستحيلة؟
أوبن :
لم أتنبأ، بل هي الحقيقة. إن ليدى تيودوسيا هانيلت على وفاق تام مع حضرة القس مارتن فانشو. لا تعجب يا سيدى الإيرل، هذا هو الواقع، وهي التي تفكر في إيجاد الطريقة التي تسوغ لها قطع علائق تلك الخطبة التي تربطها باللورد. لقد آن لك يا سيدى الإيرل أن تعرف كل شيء، فإن كان صديقي (مشيرا إلى داين)
يفكر في إيجاد طريقة يقطع بها تلك الخطبة، فهذا نفس ما تفكر فيه الليدي الآن.
الإيرل :
إنك اليوم غيرك بالأمس، يا عزيزي أوبن. فلم التحامل على الليدي؟
أوبن :
حاشاي أن أتحامل على من أقدس احترامها. إنها أشرف أميرات هذا العصر.
الإيرل (يألم) :
إني كنت أدخرها لولدي.
أوبن :
أيقوى سيدي على معاندة القدر؟ إنها أصبحت والهة بحب فانشو، وكذلك هو.
الإيرل :
إني لم أكن أنتظر ذلك.
أوبن :
أما وقد علمتم كل شيء، فقد وجبت عليكم مساعدة صديقي (مشيرا إلى داين) .
الإيرل :
إن استطعت ما تأخرت.
أوبن :
وكيف لا يستطيع سيدي الإيرل، إذا كان يريد؟
الإيرل :
ذلك معناه أني كنت لا أود..
سانت أوبن (باستفهام) :
زواج الأنسة ليرا تشستر من صديقي اللورد؟ (مشيرا إلى داين) .
الإيرل :
أجل.
أوبن :
لأنها فقيرة، أم لكونها فقدت والديها؟
الإيرل :
لا هذا ولا ذاك. بل لأنني لا أعلم شيئا عن سر مولدها، ولا عن أسرتها.
أوبن :
كيف لم تمر بذاكرة سيدي الإيرل أسرة تشستر في لوكشير، وهو يعلم كل شيء عن جميع الأسر الكبيرة؟
الإيرل (يفكر) :
أسرة تشستر في لوكشير؟ نعم إني أعلم أشياء كثيرة عن هذه الأسرة، إن أملاكها تتاخم أملاكنا في لوكشير. إنها أسرة كبيرة فهل مس ليرا منها؟
أوبن :
نعم. وهي ابنة أكرم رجل في تلك الأسرة.
الإيرل :
نعم الفتاة. إني قبلتها عروسا لداين.
داين (بفرح شديد) :
لا عدمتك، ياوالدي الأعز.
الإيرل :
إني أسعى وراء سعادتك ياداين، وأنت تعلم علم اليقين أني واسع الثروة وأنها ستؤول من بعدي إليك، فما دمت تحب ليرا تشستر، فها هي ثروتي بين يديك، وهي تضمن لك ولزوجك السعادة عن سعة. طب نفسا واجتهد في أن تزف ليرا تشستر إليك.
ولفرد (يدخل وينحني) :
لقد وصلت مولاتي الليدى يا مولاي.
الإيرل (إلى داين) :
أسرع في استقبال الليدى يا داين؛ (لسانت أوبن)
وأنت إذا سمحت يا لورد (يخرجان وولفرد) .
الإيرل (لنفسه) :
إنه يهواها، وليس لى أن أسيطر على القلوب. تيودوسيا، إنه لم يخنك، ولكنك انشغلت عنه، وأهملت الإتصال به، فليست لك عليه من حجة (يسمع ضوضاء)
هاهي الليدى!
ولفرد (يدخل وينحني) :
مولاتي الليدى!
الليدى (تدخل وبجانبها سانت أوبن ومن ورائها داين وليرا ومن خلفهما القس فانشو ومسز ليزلي) :
تحيتي إلى سيدى الإيرل المحترم.
الإيرل (يقف) :
أهلا بك يا ابنتي العزيزة. (يصافحها)
لقد شرفت استار منستر يا أميرة كاسل تروز. (يصافح ليرا ومسز ليزلى)
إني سعيد جدا بتشريفكن قصري.
الليدى :
إني بلسانهما أقدم إلى السيد الإيرل شكرا عظيما على هذه العواطف السمحاء. (مشيرة إلى فانشو)
وأقدم لكم حضرة القس مارتن فانشو المحترم.
الإيرل (يصافح فانشو) :
أهلا برجل التقوى. لقد حملت إلى قصرى بزورتك هذه ملائكة الرحمة وآيات الغفران.
فانشو (ينحني) :
أعز الله سيدى الإيرل.
داين (لتيودوسيا بفرح) :
إني أرى كل شيء يبتسم.
تيودوسيا (بسرور) :
إني سعيدة جدا برؤيتك، ياابن العم.
الإيرل (يجلس) :
تفضلوا بالجلوس (يجلسون، إلى ليرا)
لقد آنست استار منستر يا سليلة أسرة تشستر العظيم!
داين (يفرك يديه من شدة الفرح ويهمس إلى داين) :
إنه رفع مقامها في عين الليدى.
ليرا (تبتسم بفرح) :
إني بالإنابة عن مولاتي الليدى اشكر عواطفكم السامية يا مولاى.
الليدى :
هل تعرف أسرة مسز ليرا، ياحضرة الإيرل؟
الإيرل :
نعم، وهي من أمجد الأسر القديمة، ولا تزال أملاكها تتاخم أملاكنا في لوكشير.
الليدى (بعجب) :
في لوكشير؟
الإيرل :
نعم، ولا غرابة في ذلك فأنا أعرف رؤوس هذه الأسرة الكبيرة، وكأنه يلوح لي منذ عشرين سنة إني سمعت عن كبير تلك الأسرة الشريفة إنه رحل إلى أمريكا، هاجرا بعض أفراد أسرته، فأثرى هناك وأصبح من كبار الماليين.
ليرا (باهتمام) :
أتذكر يا مولاى اسم هذا الشريف؟
الإيرل (يتذكر) :
أظنني لا أستطيع ذلك الآن لأن مشاغلى العظيمة أبعدت عن ذاكرتي مثل تلك الروايات. (يصمت قليلا) . ها قد فطنت، إنه بلا ريب السيد آدون نشستر.
ليرا (تبكي) :
هو والدى، يا مولاى.
الجميع (باندهاش) :
أبوها!
الإيرل (بسكون) :
أبوك، أنت، ياابنتي؟
داين (بفرح واهتمام) :
نعم يا والدي، وقد سبق لي أن تعرفت به في سياحتي إلى برنستايل، وتناولت الشاى في بيته، وهناك رأيت المس ليرا تشستر لأول مرة.
الإيرل (باهتمام) :
ولم لم تخبرني عن هذه المصادفة الغريبة، يا ولدى؟
داين :
لم أكن أعرف شيئا عن ذلك ياسيدى الوالد.
الإيرل (إلى ليرا) :
وما السبب في عودتكم من أمريكا، يا ابنتى العزيزة؟
ليرا :
لا أعرف السر في ذلك، وربما عرفه خادمي الأمين، جرفث.
الإيرل :
وأين جرفث؟
ليرا :
يسكن كوخنا، لا يزال في برنستابل.
الإيرل :
وهل هو مسن؟
ليرا :
نعم، إنه أكبر من والدي سنا. (تتأوه)
لقد كان ساهرا على حراستي وهو طيب القلب.
الإيرل (يتذكر) :
نعم، إني رأيته مع أبيك غير مرة في المزرعة. ولقد أعادت هذه الذكرى إلى ذاكرتي أشياء كثيرة عن هذه الأسرة التي ربما تكونين أنت وريثتها الوحيدة.
ليرا (بفرح واهتمام) :
أفي يقظة أنا أم في منام؟
الإيرل (بسرور، يضحك) :
في اليقظة يا عزيزتي، وسأرد لك ما سلبك الدهر، وأزف بيدى هذه إليك الهناء والسعادة.
ليرا (بفرح عظيم) :
كم أنت كريم يا مولاى!
ولفرد (يدخل وينحني) :
المائدة على استعداد.
الإيرل (يقف) :
هلموا إلى المائدة (إلى الليدى)
تفضلى يا ليدى.
الليدى (باندهاش) :
تفضل ياسيدى الإيرل (تقف) .
داين (إلى الجميع) :
إن قصر استار منستر يتلألأ نورا بضيوفه هذا المساء (يتأبط ذراع الليدى يخرجون) .
بول (يدخل ليرتب البهو) :
حقا لقد أحسن رئيسي ولفرد في اقتراحه عدم التدخل في شئون الأمراء. نعم إني لست سوى خادم ضعيف يمكن استبداله من أجل هفوة، فكيف أجحد هذه النعم، ولا أشكر الله عليها؟
الإيرل (يدخل متوكئا على ذراع ليرا) :
رغبة في الخلوة بك، دعوت الليدى إلى قصري هذا المساء، وسألتها بإلحاح أن تصحبك بمعيتها. (يجلس)
اجلسى إلى جانبي يا ليرا، وأعيريني كل التفاتك.
ليرا (تجلس) :
ها أنا ذي خاضعة لأمرك يا مولاي.
الإيرل :
أتعلمين إني عظيم الثروة، وليس لي وريث شرعي غير وحيدى اللورد داين، وهل تعلمين أيضا كم أحبه؟
ليرا (تتنهد) :
نعم أعلم ذلك.
الإيرل :
وكنت قد تعاهدت وأخي لورد هاينلت أن تزف تيودوسيا إلى داين متى عرفا معنى الحياة. وكانا إذ ذاك في المهد. ولما ترعرعا شرحت لهما إرادتنا فوافقا عليها. غير أن الدهر أبى أن تتحقق تلك الأماني، ووقع داين في حب غادة شريفة سواها.
ليرا (باهتمام) :
ومن هي هذه الغادة التي كلف بها اللورد؟
الإيرل :
أظنك لا تنسين صيد السمك على ضفة نهر التو.
ليرا (تخفي وجهها بين يديها) :
أبلغ مولاى السر؟
الإيرل :
نعم، أعلم كل شيء. (يمسح شعرها بيمينه)
كوني مطمئنة فلم يخرج السر من لسان الولد إلا إلى صدر الوالد.
ليرا :
يامولاي!
الإيرل :
اطمئني فقد اخترتك عروسا لولدي ولم يبق إلا كلمة القبول من فمك.
ليرا (بانزعاج) :
أنا؟
الإيرل :
وهل في ذلك شك؟
ليرا :
ولكن ... (في تفكير عميق) .
الإيرل :
ولكنك فقيرة، أليس كذلك؟ أتظنين، يا ابنتي، أن الفقر عار؟
ليرا :
لا، يا مولاي (بدهشة) ولكن ...
الإيرل :
ولكن ماذا يا عزيزتي؟ أراك مرتبكة فهل يؤلمك سر اعتراك في حياتك الأولى؟
ليرا (ترتجف) :
آه، يا مولاي! (تبكي) .
الإيرل :
تبكين أيضا؟ أرافضة أنت طلبي، يا ليرا؟
ليرا :
إن المضطر يركب الصعب يامولاى.
الإيرل :
وهل يضطرك شيء إلى رفض طلبي؟
ليرا (بخجل) :
ربما كان ذلك، ياسيدي، وأراني مرغمة.
الإيرل :
أتبخلين علي بشرح ما يؤلمك؟
ليرا (بألم) :
لا يجسر لساني على النطق، يا مولاي.
الإيرل (يمسح شعرها بيمينه) :
أنظري مليا في المسألة، وأعلمي أني أريد لك الخير.
ليرا :
كان يسعدني ذلك، لو استطعت.
الإيرل :
إنه ليدهشني رفضك يد اللورد، مع أنها تسعد أغنى شريفة في لندن.
ليرا :
هذا صحيح، يا مولاي.
الإيرل :
إذا، كيف ترفضينها؟ وفوق ذلك فهي يد من يهواك لدرجة العبادة.
ليرا :
يا إلهي! (بحزن)
إن رفضي يد اللورد يقذف بي إلى هاوية الهلاك أياما قليلة، ثم يبعث بي إلى عالم الأبدية، حيث أرقد هادئة بعيدة عن تلك الآلام التي يصعب علي احتمالها.
الإيرل :
لا بد أن هناك سر تدفنينه على صدرك الكتوم. ولكن مهما كان هذا السر فلا أظن أنه يحول دون قبولك الإقتران باللورد.
ليرا (تبكي) :
مولاي، أستحلفك بكل عزيز أن تغير موضوع هذا الحديث!
الإيرل :
تطلبين محالا ياابنتي ؛ لأنك بهذا العمل تزعجين حياة شاب أوقفها لحبك. وأقسم بشرف أسرته ألا يتزوج سواك.
ليرا (ترتجف) :
مولاي، رحمتك! واذكر أني فتاة ضعيفة.
الإيرل (باستغراب) :
من منا يطلب الرحمة؟ واذكري أيضا أني إيرل استار منستر أطرح تحت أقدامك ثروتي وسعادة ولدي، وأنت ترفضينها! فيالك من قاسية!
ليرا (تنتحب بشدة وتنظر إلى السماء) :
إلهي، رحمتك أسألك، المعونة!
الإيرل (يحنو) :
ليرا، اذكري أنني شيخ يلعب بي الفناء، فلا تكدري علي صفو لحظاتي الأخيرة.
ليرا (تمسح جبينها إثر دوران شديد) :
ارحمني، يا مولاي، فإني أكاد أختنق. واسمح لي بالإنصراف لأنشق الهواء، وأمامنا متسع كبير من الوقت نعاود فيه الحديث، (تقف ببطء فتخونها رجلاها، فتسقط)
أنقذني، يا سيدي، وأسعفني بالهواء ... الهواء!
الإيرل (يسرع إلى النافذة فيفتحها) :
لا بأس عليك يا عزيزتي. (باهتمام)
كيف أنت الآن؟
ليرا (بكلام متقطع) :
أحمد الله ... إن الهواء أنعشني ... فشكرا لك يا سيدي الإيرل.
الإيرل :
سأتركك قليلا، يا عزيزتي، لمفاوضة الليدى في فصم عرى الخطبة، كي أزف إليكما السعادة. (يخرج) .
ليرا (لنفسها) :
إلهي! أمي! أبي! أين أنتم؟ لماذا لم تسرعوا لنجدتي من هول ما أنا فيه؟ داين! حبيبي! إني أحبك لدرجة العبادة. ولكن ما حيلتي وقد رماني الدهر بنكبة لا مخرج لي منها، وقيدني بأغلال لافكاك لها؟ (تقف)
دى جوفرى بارل! ليت شمس اليوم الذى عرفتك فيه ما طلعت، بل ليتني مت قبيل أن أضع يميني البريئة في يدك الخائنة آونة ذلك اليوم المشؤم. إلهي! كيف سمحت لهذا الوحش المفترس أن يرتبط إلى الأبد بفتاة يتيمة بائسة! مات أبي الذي كان يرعاني، ورحلت أمي التي كانت ترحم دموعي، وفارقت خادمي الأمين الذي أوقف حياته لحراستي. ويلاه! أتلفت حوالي فلا أرى منهم أحدا. (تنظر إلى السماء)
لم يبق لي سواك ياخالق الرحمة. النجدة، يا إله السماء. (في هذه الحالة يسمع صوت ينادي: مولاتي! فتلتفت لتجد ولفرد منحنيا وفي يده طبق فيه كتاب)
ولفرد (يدخل وفي يده طبق فيه كتاب) :
مولاتي! (ينحني) .
ليرا (بانزعاج) :
ما وراؤك؟ (لنفسها)
إنه سمع كل شيء.
ولفرد :
كتاب برسم مولاتي المس ليرا تشستر بقصر كاسل تروز.
ليرا (تتناول الكتاب بيد مرتجفة) :
برسمي أنا؟ تنظر العنوان برنستابل (بفرح)
لاشك أنه من جرفث. (تقبله) .
ولفرد :
هل من خدمة يا مولاتي؟
ليرا :
هل وقع نظر مولاتي الليدى على هذا الكتاب؟
ولفرد :
نعم، وهي التي سلمتني إياه وأمرتني بتسليمه إليك متى وجدتك في خلوة.
ليرا (بدهشة) :
في خلوة؟ ولم ذلك؟
ولفرد :
هكذا أمرت، ولم أعلم السبب.
ليرا :
حسنا. أنا لا أحتاج إلى شيء. (ينحني ويخرج. تفتح الكتاب باهتمام)
إنه وصل متأخرا. (تنظر في التوقيع)
جرفث. (تقبل الإسم)
ما أطيب قلبك الطاهر! (تجلس وتقرأ) «سيدتي وابنتي الوحيدة، رعاك الله في غربتك. لقد انقطعت عني أخبارك منذ سفرك. إنه ليزعجني ذلك لأني لا أعلم السبب. هل أنت سعيدة كما أتمنى، فأشكر إلهي لقبوله توسلاتي أم تتألمين فأعد ذراعي إلى ضمك إذا أحببت العودة؟ أو أطير على أجنحة الرياح إليك إذا فضلت البقاء؟ ابنتي، لقد شاهدت حادثا أمس يهمك الاطلاع عليه ...». (لنفسها)
يهمني الاطلاع عليه! ماذا عساه يكون؟ (تعيد القراءة) . «بينما كنت أتصيد بجانب المغارة، أبصرت جماعة على ضفة النهر يهرجون، فعبرت النهر إليهم، فإذا هم مجتمعون حول جثة رجل حملها الماء إلى الشاطئ، ولكنها مشوهة جدا وممزقة الثياب. فلم يتمكن أحد منا من معرفة صاحبها، فساعدتهم على حملها إلى المغارة ولقد حانت مني إلتفاتة، فألفيت على القطعة الباقية من معطف الغريق زرا من الأزرار اللامعة المصنوعة على شكل كوكب والتى كنا نراها على معطف دى جوفرى بارل ...».. (لنفسها)
يالله، أيمكن أن يكون هو الغريق؟ (تواصل) «... ولما خلعنا المعطف عن الجثة، وجدنا في جيب الصدار الداخلي دفترا تذكرت أني رأيت مثله معه ولما فتحناه لم نتمكن من قراءة شيء، بل عثرنا بين طياته على أوراق مالية قيمتها خمسمائة جنيه ...» (لنفسها)
خمسمائة جنيه! هذا سر لا يعلمه أحد غيرى أنا وحدى. (تواصل) «... أخذني الفضول فبحثت الوجه جيدا، فرأيت فيه علامات دلتني على أن الغريق إنما هو دى جوفرى بارل بعينه ...» (لنفسها)
وافرحتاه! (تقبل الكتاب تقرأ) «... لقد مات من كنت تخشينه، يا عزيزتي. فكوني هادئة، واطمئني. وإني أهنئك على خلاصك من التصورات المؤلمة التي سببها لك هذا الوحش القاسي. أنا لا أعلم السر في رعبك منه للدرجة التي شاهدتها ...» (لنفسها)
نعم، إنه لا يعلم. (تقرأ) «... صحتي جيدة. ليس لي شاغل سواك. سأحضر متي حانت الفرصة. مني إليك قبلتي الأبوية. المربي جرفث» (تطوي الكتاب وتضعه في صدرها)
الآن أشرق نجم سعادتي، فشكرا لك يا إلهي..
ولفرد (يدخل وينحني) :
مولاي الإيرل.
الإيرل (يدخل) :
لعلك أحسن حالا الآن يا ابنتي.
ليرا (تنحني) :
شكرا لعواطفكم الرحيمة، يا مولاي.
الإيرل :
لقد تم كل شيء، وقبلت الليدي عن طيب خاطر، وستجهز لك بيدها ملابس العرس. إنها طيبة القلب، ولم يبق لي الآن إلا أن أسمع كلمة القبول منك.
ليرا (بفوز) :
إني مطيعة يا مولاي.
الإيرل :
بارك الله فيك، يا ابنتي، إذا كنت راضية.
ليرا (بخجل) :
نعم رضيت. وإني رهينة أمر مولاي.
ولفرد (يدخل وينحني) :
سيدي اللورد وصديقه لورد سانت أوبن.
الإيرل :
ليدخلا. (يدخل داين وسانت أوبن) .
سانت أوبن :
نرجو ألا نكون قد أزعجنا سيدي الإيرل ومس ليرا.
الإيرل (يضحك) :
إنه يسرني حضوركما، لأنه جاء في الوقت المناسب. (ينظر إلى داين)
إني أهنك يا ولدي العزيز بعروسك (مشيرا إلى ليرا) .
سانت أوبن :
وأنا أيضا أقدم تهنئتي القلبية لصديقي الأعز.
داين (بفوز) :
أحمد الله، وأشكر لسيدي الوالد هذا العطف الكبير.
الإيرل :
اجلسا يا ولدي. (يجلسان) .
سانت أوبن :
إن ليدي تيودوسيا قابلت هذا النبأ بكل سرور.
الإيرل :
يسرني أن تكون سعيدة، لأن لها في قلبي مكانة الإبنة.
ليرا :
إنك أثقلت كاهل الجميع بحسناتك المتواليات، يا سيدي الإيرل.
الإيرل :
لم أفعل غير الواجب علي كما لو كنت ابنتي. هيا بنا يا عزيزتي إلى مكتبي الخاص. (تقف فيقف الجميع ويتأبط ذراع ليرا)
أيسمح لنا ولدي؟ (ينحني داين وسانت أوبن) .
ولفرد (يدخل وينحني) :
مولاتي الليدي أأمرت بإعداد المركبة.
داين :
إلى كاسل تروز؟
ولفرد :
نعم.
داين (إلى سانت أوبن) :
يجب أن تشيعها، يا لورد.
سانت أوبن :
حسنا هيا بنا. (يخرجان ) .
ولفرد (يرتب الأثاث) :
لاشك أن هذه العذراء الجميلة تقربت إلى الله بثوب العفاف والطاعة حتى أن الله زف إليها هذه السعادة التي كانت تتمناها أجمل وأثرى النبيلات.
بول (يدخل) :
هل من خدمة يا حضرة الرئيس؟
ولفرد :
هل تحمل أخبارا عن عراك القلوب الذي يدور اليوم في قصرنا الذي ظل هادئا السنين الطويلة؟
بول :
لقد لاحظت أن سيدتي الليدي قد سرها فصم عرى الخطبة التي تربطها بسيدي اللورد ويظهر أنها ستستعيض عنه بحضرة القس المحترم، لأنها - على ما سمعت - تميل إليه كل الميل، وأنا لا أنكر أني قرأت في وجهه علائم البشر والإرتياح، إذ سمعته يقول لها وهو يكاد يطير فرحا: إنه بدأ يشعر منذ اليوم بالأمل والسعادة الدائمين.
ولفرد :
حسنا، وسيدي اللورد، علام عول إذا؟
بول :
إنه بلا شك سيتزوج الحسناء صاحبة القصة التي عنفتني على سماعها.
ولفرد :
إنك بعيد النظر، شديد الذكاء، يا بول. إني أسمع جلبة، فمن القادم يا ترى؟
بول :
لا تشغل بالك، فحركة القصر اليوم غير عادية. (يدخل داين وفانشو وسانت أوبن) .
داين (إلى ولفرد) :
هل لا يزال مولاك الإيرل في مكتبه مع مس ليرا؟
ولفرد :
أجل، يا مولاي.
داين :
ليطمئن في خلوته (إلى ولفرد)
انصرف. (يخرج ولفرد وبول.. إلى صديقيه)
تفضلا بالجلوس (يجلسون. لفانشوا)
لم رفضت الليدي أن نصحبها إلى كاسل تروز؟
فانشو :
لم تكن وجهتها كاسل تروز. إنها أسرعت لترأس اجتماعا خيريا هاما.
داين :
ولم لم تستصحب حضرة المحترم، كما هي عادتها؟
فانشو :
لقد أنابتني في رئاسة اجتماع آخر لم يحن وقته بعد، فآثرت البقاء معكم ريثما يأتي الوقت المناسب. (بدهشة)
وهل يسوؤكم وجودي؟
داين :
استغفر الله. إن وجودكم بيننا يضاعف سرورنا.
فانشو :
أشكركم.
ولفرد (يدخل حاملا بطاقة صغيرة ويقدمها إلى فانشو) :
حامل هذه يلتمس مقابلة سيدي شخصيا.
فانشو (يتناول البطاقة وينظر فيها. بدهشة) :
مره بالدخول (ينحني ويخرج) .
ولفرد (يدخل) :
أرجوكم المعذرة ياسادة (إلى فانشوا)
عندنا رجل يحتضر، وقد ألح كثيرا في طلبكم شخصيا للإعتراف. ومن غرائب ما شاهدت منه أنه يغمغم بين آن وآخر بكلمة ارمتايدج ولم نعلم لذلك من سبب.
داين (باهتمام) :
أرمتايدج؟ إن هذا عجيب. من هو يا ترى هذا المحتضر؟ أعلمت ما اسمه؟
ولفرد :
نعم، لقد قال أن اسمه روبرت رودن. ويظهر أنه كان من رجال الكنيسة، لاحظت ذلك من ترتيله في صحوته أناشيد الهياكل الكهنوتية وبعض المقدسات.
داين (يجهد ذاكرته) :
روبرت رودن؟ إني لا أعرف عن هذا الإسم شيئا، ولكن من يدري، فربما كانت له علاقة بذلك الأحمق تشاندس؟
فانشو (إلى ولفرد) :
ها أنذا ألبي نداء الواجب المقدس. (إلى داين وسانت أوبن)
أتسمحان لي بالانصراف لتأدية هذه الخدمة الدينية (يقف اللورد وسانت أوبن) .
داين :
أيمكن أن نصحبكم؟ وهل يجوز ذلك؟ أراني مدفوعا بعامل حب الإطلاع إلى سماع اعتراف هذا المحتضر.
فانشو :
هذا شأن يتعلق به وحده، فإن شاء كان، وإن رفض استحال.
داين :
ما دام يذكر ارمتايدج، فهو لا شك يرتاح لوجودي.
فانشو :
هلموا بنا، وسننظر في ذلك متى وصلنا..
داين (إلى ولفرد) :
هيئوا لنا العربة. (يخرج ولفرد. خرجون، تدخل ليرا في ثوب أبيض) .
ليرا :
ما أطيب قلب ذلك الشيخ! إنه يذكرني بوالدي. (تجلس) إن حنانه ضاعف في قلبي من حب داين، ليته يعيش طويلا كي أنسي بقربه فقدان أبي. (تصمت قليلا ثم تمسح جبينها)
رباه، بماذا أشعر! إن دقات قلبي تنذرني بحدوث أمر، فما هو ياترى؟
ولفرد (يدخل وينحني) :
مولاتي، وصل إلى القصر شيخ طاعن في السن، فسأل عنك. ولما علم بوجودك هنا، طلب مقابلتك في خلوة، فدهشت من ذلك الطلب، ولما رآني مترددا، قال: لا بأس عليك، اذهب إلى مس ليرا، واذكر كلمة جرفث.
ليرا (تصرخ بإندهاش) :
جرفث! جرفث! هل حضر؟ أحقا ما تقول؟ إني لا أكاد أصدق. ليدخل! (بدهشة)
وافرحتاه ... لا تعجب.. إنه أبي. ما أشد سروري! (يخرج ولفرد) .
جرفث (يدخل ممتلئا سرورا) :
حملني الشوق إليك، يا ابنتي.
ليرا (تجري إلى الباب وتطوقه بذراعيها وتقبله) :
جرفث؟ جرفث! هذا أنت؟ أهلا بك. أفي يقظة أنا أم في منام!
جرفث :
هأنذا، يا ابنتي العزيزة! أأنت سعيدة؟
ليرا :
تمت سعادتي بوجودك الآن.
جرفث (بانشراح) :
ضاعف الله سرورك. (يجلس وتجلس ليرا بجانبه)
كنت أعرف أنك تسكنين كاسل تروز مع ليدي تيودوسيا هاينلت. ولما وصلت إلى القصر علمت أنك انتقلت إلى ستار منستر فما سبب هذا الإنتقال؟
ليرا :
نعم (تتأوه)
إن الحوادث التي مرت بي والمصائب التي تقلبت في أحضانها، تذوب لهولها صم الصخور.
جرفث (بدهشة) :
أتتكلمين عن شخصك المحبوب.
ليرا (بتوجع) :
نعم، عن نفسي أنا.
جرفث :
أما كفي ماجرى حتى تضاعفي أحزاني بحر شكايتك؟ إبنتي، بالله عليك ما سبب هذه الآلام؟
ليرا :
فارقتك بعد المصاب الفادح إلى كاسل تروز، مصحوبة بمسز ليزلي التي أرضعتني لبان نصائحها، وبالغت في مواساتي. (تتنهد)
وعندما دخلت القصر قابلتني ربة الإحسان وسيدة كاسل تروز، ليدي تيودوسيا، بكل حفاوة وترحيب ورفعت مكانتي بين حاشية القصر، حتي أصبحت مكانتي لا تقل احتراما عنها. وقد مزقت بأيديها البارة الكريمة تلك الحجب الكثيفة التي كانت تخيم حول سعادتي؛ وأقصت عن قلبي المتوجع جميع الهموم والأحزان. (تتأوه)
ما أطيب قلبها يا جرفث!
جرفث (باهتمام) :
وبعد؟
ليرا :
كنا نحتفل باللورد الأكبر إيرل ستار منستر. وقد أخذ القصر زينته. وكنت موضع إعجاب الجميع، وما هي إلا لحظة (تتنهد)
حتى رأيته يدخل فجأة (ترتعش)
ويلاه! (تسكت) .
جرفث (بغرابة) :
من هو؟
ليرا (تتنهد) :
بربك، كفى! لا تضطرني إلى ...
جرفث (بشغف) :
إلى، إلى ماذا؟ أتخفين عني ما يؤلمك؟
ليرا (بحزن) :
كلا. (بخجل)
ولكن ...
جرفث :
أنا أبوك.
ليرا :
نعم. أنت وحدك الذي يهمك شأني (تبكي)
لورد داين أرمتايدج.
جرفث (يبتسم) :
فهمت، الذي علمك صيد السمك، أليس كذلك؟
ليرا :
نعم هو بعينه. (تتنهد، فيرتفع صدرها) .
جرفث :
لا شك أنك تحبينه. أقرأ في عينيك.
ليرا :
نعم، أحببته منذ ذلك الحين.
جرفث :
وماذا حدث عند دخوله؟
ليرا :
لما وقعت العين على العين انتابني إغماء شديد، فسقطت على الأرض فاقدة كل حس. ولم أعلم ماذا جرى بعد ذلك. (تتنهد متوجعة)
ولما أفقت وجدتني في سريري وبعض الخدم يعتنون بي، وعلمت في صحوتي أن داين أصابه ما أصابني في نفس الوقت ونقل إلى سرير الليدى، وظل الكل حوله حتي أفاق.
جرفث (بدهشة) :
اتفاق غريب. (يدنو من ليرا) .
ليرا (بخجل) :
شاع على الألسنة منذ ذلك اللحظة أن حبنا متبادل وقديم. نعم، (بحنان)
إني وهبته كل قلبي منذ أول نظرة. وثق أنه خيل إلي أن الليدي أخذتها الغيرة، إذ أن الجميع كانوا يعتقدون أن ليدي تيودوسيا ولورد داين قد خلق كل منهما للآخر. وبهذا كانت تتم رغبة الإيرل وأخيه لورد هاينلت.
جرفث (باهتمام عظيم) :
هل نالك من غيرتها أذى؟
ليرا (بحنو وعطف) :
حاش لله أن تمد ليدي تيودوسيا يدها بإساءة إلى مخلوق، مهما نقمت عليه، إنها مثال العفو والإحسان.
جرفث (بانشراح) :
إذا، كيف تخيلت أن الغيرة تسربت إليها؟
ليرا :
تجسم لي ذلك من اهتمامها واستدعائها الطبيب، وسؤاله عن سبب الإغماء، وكيف أتفق أن يقع في وقت واحد ولأول مقابلة. (تتنهد) .
جرفث :
حسنا، وماذا تم بعد ذلك؟
ليرا (تتنهد) :
لم يقو اللورد على إخفاء ما يخالج نفسه نحوي، فكاشفني بحبه، ورجاني أن أقبل يده فأكون عروسا له، فلم أقبل.
جرفث (بغرابة) :
عروسا له؟ ولم لم تقبلي؟
ليرا :
ولما يئس من قبولي لجأ إلى حضرة الإيرل والده، فقضينا الساعات الطويلة وهو يرجوني بإلحاح، وأنا مصممة على الرفض.
جرفث (بدهشة وحزن) :
إني لا أجد سببا لامتناعك. فهل لذلك من سبب؟
ليرا (تتأوه بألم شديد) :
ويلاه! (تفرك على يديها)
إنك لا تعلم ...
جرفث :
لا أعلم؟ (باستغراب)
أحدث لك هنا شيء مؤلم؟
ليرا (تبكي بحزن) :
هنا؟ (تنتفض)
أما هنا، فلا؟
جرفث (بفزع وغضب) :
إذا هناك، قبل أن تبرحي العش.
ليرا (بوجل ورعب) :
نعم هناك. (تصمت قليلا)
يالها من ذكرى مؤلمة ...
جرفث :
إنك قد صوبت سهما إلى صميم قلبي. نعم لقد تحققت هواجسي. إني كنت ألاحظ عليك يوم سفرك أنك تكتمين عني آلاما كانت ترتسم على محياك، وتوسلت إليك أن تصارحيني، فالتزمت الصمت. (بتململ وأسف)
ولكن ما علاقة كوخ المطحنة بقصر ستار منستر؟
ليرا (تمسح دموعها) :
مسكين أنت، يا جرفث. إنك لا تعلم شيئا. نعم، أخفيت عنك كل شيء .
جرفث (باهتمام) :
كيف سولت نفسك هذا؟
ليرا (بتوسل) :
رحماك، يا إلهي! (تتنهد) .
ولفرد (يدخل وينحني) :
مولاي الإيرل في حاجة إلى رؤية مولاتي حالا.
ليرا (تقف مذعورة) :
الإيرل؟ (إلى جرفث)
هلم معي لأقدمك إلى سيد القصر، ولنؤجل ما نحن بصدده حتي نعود. (يقف جرفث ويخرجان) .
ولفرد (يرتب المقاعد) :
إنها ملاك، فليهنأ بها مولاي اللورد. يلوح لي أن هذا الشيخ الذي يتجسم الشباب في سواعده، ويتجلي الإخلاص. تحت جبينه المتجعد، وتسطع الشهامة حول شعره الأبيض، قد أفرغ كل ما وهبه الله من حكمة في تربية هذه الزهرة حتي أينعت.
داين (يدخل ومعه فانشو وسانت أوبن. إلى ولفرد) :
هل لا تزال مس ليرا تتشرف بصحبة الإيرل؟
ولفرد (ينحني) :
ذهبت الآن مع جرفث، بناء على طلب مولاي الإيرل.
داين :
من هو جرفث؟
ولفرد :
خادمها الشيخ. لقد حضر اليوم من برنستابل.
داين (باهتمام) :
حسنا، إذهب وهيء الغرفة المجاورة لهذا البهو. إني أريد أن أسمع بأذني كل كلمة تدور بين هذا الشيخ ومس ليرا. أفهمت؟ (ينحني ولفرد ويخرج) .
داين (إلى فانشو وسانت أوبن) :
ما رأيكما في اعتراف روبرت رودن؟ (يجلسون) .
فانشو :
إنه غاية في الغرابة.
سانت أوبن :
إني لا أكاد أصدق ما سمعت.
داين :
إن ما يدهشني قبولها يدي، وهي تعلم ما بينها وبين تشاندس من العلاقات.
فانشو :
هذا الموضوع غريب في بابه، فلا بد أن يكون قد وصلها عن تشاندس أخبار تأكدت منها أنه لن يعود، وبعد ذلك قبلت يد اللورد، ومع هذا فهي بريئة، ألقت بنفسها بين مخالب ذلك الوحش تحت تأثير حادث مؤلم سوف نعرف حقيقته.
داين :
أحب أن أسمع كلمات روبرت رودن الأخيرة، فأين الورقة؟
فانشو (يخرج الورقة) :
هاهي (يقرأ) «.. جاءني يوما صديق لي عرفته في المدرسة، وسألني أن أساعده في تمثيل رواية، وكان يعلم ماضي وأني كنت من خدمة الكنيسة، فعرض علي أن أمثل دور قس. وكنت حين ذاك في أشد حالات الضيق لتراكم الديون علي، وكنت سكيرا، فسقاني وشرب معي حتى نزع عني البقية الباقية لي من الضمير، ثم أخرج المال، فألجأني الفقر إلى موافقته. إن هذا الرجل كان شيطانا، فزين لى المستقبل، وكان غرضه أن أمثل عقد قران نظير إعطائي مبلغا كبيرا من المال. فاتفقنا على أن يحضر هو والفتاة إلى كنيسة خربة، فأعقد له عليها ...»
سانت أوبن :
لا شك أنه زواج باطل.
فانشو (مستأنفا) : «.. في اليوم المعين ذهبت إلى الكنيسة المهدمة، وآسفاه! ويلاه، إني أشعر الان برهبة ذلك المكان الموحش! وبعد قليل أقبل هو والفتاة، وكنت أتوقع أن أرى فتاة عادية، فإذا بي أرى غادة خلابة المحاسن لها سذاجة الأطفال، تغلب عليها معاني الطهارة والشرف ...».
داين :
ويل لذلك النذل، إن انتقامي سيكون شديدا.
فانشو (مستمرا) : «... ومع أن ذلك الرجل الشيطاني كان يؤكد لي أنها جاءت مسوقة بإرادتها فإنه لم يظهر عليها ما ينم عن ذلك، كان يلوح لي أن حزنا عميقا، أو مصيبة عظيمة دفعتها إلى ذلك المكروه ...».
سانت أوبن (لداين) :
أرأيت يا عزيزي أنها كانت مسوقة رغم إرادتها؟
داين :
سننظر في ذلك يا لورد.
فانشو (يواصل) :
فلم أقو على ضبط نفسي، ولكن الشيطان كان يبسط إلى كفيه، فأرى الذهب يلمع، فيصل بريقه إلى أعين الفاقة التي كانت تحيط بي من كل مكان، فسولت لي نفسي الطامعة أن أقرأ كلمات الإكليل. رحماك يا إلهي! وبعد أن تم ذلك أخذت المال وسافرت إلى أستراليا، إلا أن خيال تلك المسكينة المنكودة الحظ كان يطاردني أينما ىذهبت، ففررت إلى الهند، ثم جبت بلادا كثيرة أملا في أن يختفي عن عيني شبح تلك الفتاة الطاهرة. ولكن عبثا كنت أحاول. ولقد داهمتني الأمراض حتي رمتني الأقدار بين أيديكم. إني أحتضر الآن.. وهذا يريحني؛ إذ به أتخلص من رؤية ذلك الشبح المخيف. اسمي روبرت رودن واسم الفتاة ليرا، والإسم الحقيقي للرجل تشاندس ارمتايدج، واسمه عند الفتاة دجوفري بارل. واسم الكنيسة القديس مرقس، ببرنستابل قرب النهر. إذا كانت لكم معرفة بالفتاة أو أمكن أن تعثروا عليها، فاسألاها الصفح والمغفرة.
داين (بألم) :
إن حواسي تضطرب. فما الرأي؟
ولفرد (يدخل وتنحني) :
مس ليرا وخادمها الشيخ قاصدان البهو .
داين (يقف وسانت أوبن وفانشو) :
هلموا بنا إلى الغرفة التي هيأها لنا ولفرد. (يخرجون من باب داخلي) .
ليرا (تدخل وجرفث يتوكأ على ساعدها) :
إنه يحبني، كما لو كان أبي حيا. أرأيت كيف أكرمك وطلب إليك ألا تفارقنا أبدا؟
جرفث :
إن لساني ليعجز عن وصفه.
ليرا (بألم) :
إني وعدته، فكيف العمل؟
جرفث (بدهشة) :
ما معنى هذا؟
ليرا :
أنصت إلى سأطلعك على الحقيقة، وكنت أتكتمها حتى الآن، ولم أبح بحرف منها لمخلوق.
جرفث (باهتمام) :
ماهي هذه الحقيقة؟ اشرحيها حتي أسدي إليك نصيحتي فيستريح ضميري.
ليرا :
ارجع قليلا إلى الكوخ، وفكر، في حياتنا الأولى. لقد حضر معي شاب كاد يغرق وانتشلته من الغرق. وفي اليوم الثاني حضر ليعلمني صيد السمك. هذا هو اللورد داين ارمتايدج ابن الإيرل. وهو المخلوق الوحيد الذي أحببته منذ أول نظرة. (تبكي) .
جرفث :
ولم البكاء، وقد أصبح قرانكما مؤكدا.
ليرا :
إسمع. بعد أن سافر داين (تتنهد)
حضر إلى كوخنا ذلك الشيطان دجوفري بارل، الذي استضفناه مدة طويلة.
جرفث :
إطمئني، فأنا ما حضرت إلى هنا إلا بسببه.
ليرا :
لقد أفهمني أن أبي مدين في خمسمائة ذهبا، وأن صاحب الدين هددنا بطردنا من الكوخ واستيلائه عليه وعلى مزرعتنا الصغيرة. وجسم لي مصيرنا ونحن نتسول في الشوارع، وبرهن لي على ذلك حتى أقنعني أن هذا صحيح. وفعلا كنت أقرأ على وجه أبي علامات الضجر والخوف كلما قرب أجل الدفع. ولما زادت العلة على أبي تمكن مني الشيطان، وأكد لي أن نجاته في دفع الدين. وتوسلت إليه وأنا في حالة اليأس، أن يدفع هذا الخطب عنا، إذا كان ذلك في مقدوره. فأخبرني أن المال موجود، ولكن هناك شرط يجب أن أقبله، فسألته مطمئنة، فقال إنه يدفع الدين، إذا قبلت أن أتزوجه (تتأوه بألم) .
جرفث :
ياللشيطان! وبعد؟
ليرا :
حاولت تارة بتوسلاتي وطورا بدمعي أن أثنيه عن غرامه، فلم أفلح. وكنت كلما أبصرت أبي يتوجع، طار قلبي شعاعا وانفطر هلعا. فجثوت على أقدامه متوسلة أن يدفع المال وينقذ شرف والدي، فأبى إلا بالقبول. ولما رأيت أن أبي هالك، وتحققت ألا نجاة إلا بقبولي. (متنهدة)
قبلت ...
جرفث (باهتمام عظيم) :
ليرا، ما هذا الذي أسمع؟
ليرا :
عندها أخبرني أنه ذاهب حالا إلى بترال ليصرف المبلغ ويحضره معه، وطلب مني أن أكون في صباح اليوم التالي في كنيسة القديس مرقص القديمة على ضفة النهر حيث يكون في انتظاري مع القس (تتنهد)
أدهشتني هذه السرعة، فسألته عن سببها فأجاب بأنه سيسافر في أقرب فرصة للحاق بعمته المريضة. ولما سألته عن سبب تكتم هذا الزواج. قال: إن عمته لم علمت بزواجه حرمته من الوصية. (تتأوه)
مضت تلك الليلة.
جرفث :
ياللمصيبة! ليتني علمت منك هذا في حينه.
ليرا :
ذهبت إلى الكنيسة (بتوجع)
فألفيته والقس روبرت رودن في انتظاري والإضطراب باد عليهما، إذ كنت أقرأ في عيني القس علامات الخوف والتردد كأنه كان يخشى أن يفاجأ، أو كأنه كان مسوقا رغم أنفه إلى عمل يأباه ضميره. وبعد تردد تلا كلمات الإكليل وهو يرتجف ولسانه يتلعثم. ومد دجوفري بارل يده إلى القس بقبضة من الذهب. فتناولها القس وخرج يعدو. وكأنه لص يتوارى عن أعين لاحقيه. (تبكي) .
جرفث :
يا للخيانة! إنه عقد باطل، لأن هذا القس لم يكن سوى لص مأجور، لتتوهمي أن هذا صحيح. كفكفي الدمع يا ابنتي، وكفى فقد انتقم الله لك من عدوك.
ليرا :
حاول أن يظفر مني ولو بابتسامة، فشردت عنه ولم أمكن يده الدنسة أن تمس حتى طرف ثوبي. رجعت ودموعي تتدفق على فقد حبيبي، وما وصلت الكوخ حتى وجدت أبي جثة هامدة. (تبكي بحرقة)
فوقفت جامدة أمام جسده الطاهر أندب سوء حظي. ولما رأيته بجانبي طلبت منه المال لأدفعه عن أبي محافظة على وعده وشرفه، فرفض بدعوى أن الدين أصبح حقا لي بعد موت أبي. فطار صوابي وصرخت، عندما رأيتك، وكان ما كان من هروبه. ولم أسمع عنه شيئا حتى الآن غير ما جاء بكتابك من أنه مات غريقا.
جرفث :
أبشري يا ابنتي، فإن هذا العقد باطل، والرجل الذي يخيفك قد هلك.
ليرا (بفرح) :
بالله، زدني إيضاحا.
جرفث :
إسمعي يا ابنتي: حدث بعد أن بعثت إليك بكتابي أن دجوفري بارل، ذلك الشيطان، حضر يتنسم أخبارك، ظنا منه أنك لا تزالين في عشك القديم.
ليرا (باستغراب) :
عجيب! إلى الكوخ؟ (باندهاش)
وبعد؟
جرفث :
أخذ يحوم حول المزرعة، فأبصرني، ففزع لرؤيتي.
ليرا :
وبعد؟
جرفث :
تناولت معولا من حديد وهممت أعدو وراءه فأخذ طريقه إلى النهر، فانطلقت أثب خلفه كالنمر يطلب فريسته.
ليرا (بتلهف) :
وبعد؟ وبعد؟
جرفث :
قفز إلى قارب المزرعة، واتجه إلى الشاطئ الثاني، فصممت على اللحاق به سابحا. وما كاد يصل إلى الشاطئ حتى ألقيت بنفسى في الماء، وما توسط النهر حتى أخذته رعدة وأقسم أنه ما أراد بك سوءا، وأن زواجه منك ما كان إلا مهزلة أو ألعوبة، وأنه غير شرعي، لأن القس لم يكن سوى رجل بائس فقير كان يمثل دورا مأجورا عليه.
ليرا :
هذا مدهش. (بسرور) ، إنك أحييت ميت آمالي، وأعدت لي الحياة المطمئنة التي كنت قد يئست من الحصول عليها.
جرفث :
لم تؤثر في تلك الكلمات، بل استشاطتني غضبا، لأني كنت خالي الذهن من كل هذا، فألقيت بنفسي في الماء، وقد أخذتني رعدة هائلة، فلما أبصرني قذف بنفسه إلى الماء طلبا للفرار سابحا إلى الشاطئ الثاني. ولما كان لا يحسن السباحة ساعده حسن الحظ بأن رآه أحد الصيادين وهو يستغيث فأغاثه بقاربه.
ليرا (باهتمام عظيم) :
يا إلهي! وبعد؟
جرفث :
بينما كان يعصر ثيابه على الشاطئ الثاني وكنت أنا في قارب المزرعة، أعالج تحويله عن كومة الرمل لا تزال به، قرعت أذني صرخة مفزعة، فسرحت نظري ناحية الصوت، فرأيت جمعا محتشدا تتقدمه إمرأة عارية الرأس مبعثرة الشعر، وهي تصيح: هو هو بعينه!
ليرا (بخوف) :
ويلاه! إني أرتعد.
جرفث :
وما كدت أصل إلى الشاطئ، حتى كانت المرأة قد انقضت عليه، واندفعت به إلى الماء مطوقة إياه بذراعيها، وما هي إلا لحظة حتى غاصا معا تحت الماء في النهر. حاول الكثير من الحضور إنقاذهما فلم يفلحوا.. كانت المرأة قابضة على عنقه فاستحال عليها الخلاص، وهلكا تحت الماء ...
ليرا (بذهول ) :
إذا لقد مات دجوفري بارل؟ وافرحتاه!
داين (يدخل وسانت أوبن وفانشو) :
شكرا لله، لقد هلك الخائن.
ليرا (تقف وجرفث. تنظر إلى الأرض بخجل. بارتجاف) :
داين؟
داين (بانشراح) :
نعم، إنه أنا (ينظر إلى جرفث)
لقد شرفت قصرنا، وأدخلت علينا السرور، وجلبت لنا الهناء بتشريفك ستار منستر اليوم.
جرفث (ينحني) :
شكرا لك، يا مولاي.
ليرا (مشيرة إلى جرفث) :
إنه مربي الذي أرضعني لبان الفضيلة.
داين :
نعم الرجل. لقد عرفت كل شيء. (ينظر جرفث إلى ليرا اختلاسا)
لا تنظر إليها، فإني أرى قلبها يرقص فرحا. (يبتسم)
لا تعجبا من هذا فإني سمعت كل كلمة دارت بينكما، ووعيت الحديث من أوله إلى آخره.
ليرا (بخجل) :
أسمعت كل شيء؟ (تتنهد) .
داين :
وأعلم عنك أكبر مما تعلمين. (يلتفت إلى فانشو وسانت أوبن)
أقدم إليك صديقنا فانشو مارتن، الأب المحترم، ولورد سانت أوبن.
ليرا (تنحني) :
لي عظيم الشرف.
داين (إلى صديقه) :
إني أتشرف بأن أقدم لصديقي المخلصين ليدي ليرا ارمتايدج.
سانت أوبن (بسرور) :
إنى أهنئكما من كل قلبي بهذا الإتصال الدائم.
جرفث :
وأنا الآن لا يسعني شيء من الفرح الذي هز قلبي من أعماقه، ذلك القلب الذي لم يدخله السرور منذ عهد الشباب إلا هذه اللحظة فقط. (يمسح عينه)
هذه دموع الفرح تجلل شعري الأبيض، فليبارككما الله يا ولدي.
داين :
اسمعي يا عزيزتي، فسأزيدك ثقة بأني ملم بالموضوع أكثر من إلمامك به. لقد حضرنا، أنا وصديقي، اليوم اعتراف محتضر. ولم يكن هذا المحتضر سوى اللص روبرت رودن الذي كان يرافق ابن عمي تشاندس ارمتايدج، الذي تعرفينه باسم دجوفري بارل.
ليرا (بأسف ورعدة) :
ابن عمك؟ هذا عجيب.
جرفث (بصوت خافت) :
ابن عمه؟ ياللداهية!
داين :
لا تأسف، فإني غير آسف، لأن سلوكه كان مشين، وستعلمان عنه أشياء كثيرة. لقد شرح روبرت كل ما حصل في كنيسة القديس مرقص القديمة. وها هو ذا اعترافه مع صديقي المحترم (مشيرا إلى فانشو) . سأطلعكما عليه فيما بعد، إن روبرت لم يكن راضيا عن ذلك وقال إنه كان دورا هزليا وأن هذا العقد لا شك باطل. واعترف بأنه عطف عليك لأنك كنت ملاك الطهارة، وكنت غير راضية عنه، مسوقة إليه بدافع قوي لا يعلمه، وختم كلامه بطلب العفو منك فأسألك الصفح عنه.
جرفث :
حقيقة إن مولاي يعرف أكثر مما تعرف والآن، وقد وضح كل شيء، لا يسعنا إلا أن نشكر الله على هذه النتيجة.
داين :
وأثر من هذا أن أنباء غرق تشاندس وصلت إلينا على لسان البرق وفي صحف لندن ولم يعلم والدي الإيرل بذلك بعد.
فانشو :
إنا نقابل هذا الخبر بمزيد الأسف.
سانت أوبن :
وأنا أشارك صديقنا فانشو في هذا الأسف.
داين :
بارك الله فيكما، هذا مصير كل حي. والآن أسألكما ألا تطلعا والدي الإيرل على شيء من هذا الحادث، لأنه سريع التأثر، وصحته تهمني. ألا توافقان على ذلك؟
سانت أوبن :
أصبت. وإني سأتناسى منذ هذه اللحظة كل ما علمته عنه.
فانشو :
الحق معك، يا عزيزي داين، وأنا أشارك اللورد (مشيرا إلى سانت أوبن)
في عواطفه السامية.
داين :
أشكركما على هذا الإخلاص. (إلى ليرا)
بقي علي أن أسمع من فمك الطاهر الحلو الجميل كلمة القبول، فهل أنت راضية؟
ليرا (بابتهاج) :
نعم راضية؟، ومن كل قلبي.
سانت أوبن (بسرور) :
أهنئك، ياعزيزي، بهذه الدرة اليتيمة. (يصافحه) .
فانشو :
إن ملائكة الرحمة تحرس هذا الهيكل الشريف (مشيرا إلى ليرا) ، وإني أتمنى لك عمرا طويلا، وحياة طيبة سعيدة.
جرفث :
أما الآن فلا يسعني، أنا الشيخ الذي لعب به الدهر زمنا طويلا إلا أن أتقدم بقدم ثابتة وحنان قوي إلى آنسة ليس لي في الدنيا غيرها (يأتي من الخلف فيمسك يد داين بيمينه ويد ليرا بشماله ويضعهما معا. ينظر إلى داين)
هذه هديتي إليك، وأمانتي عندك، فاحتفظ بها إنها كنز ثمين. (ثم يضع يديه على رأسيهما وينظر إلى السماء)
اللهم باركهما، وهب لهما العمر والهناء!
نامعلوم صفحہ