189

دراسات فی المذاہب الادبیہ والاجتماعیہ

دراسات في المذاهب الأدبية والاجتماعية

اصناف

ويجوز أن يكون هذا البديل هو ضريح أبيه أو صورته أو أثرا من آثاره التذكارية يحتفظ به الابن احتفاظا جنونيا لا يفسره مجرد الحب الأبوي أو الوفاء.

ومما لا شك فيه أن فاروقا كان مصابا بهذه الآفة على أشدها، وكانت غرائبه كلها تدور عليها، فقلما حدث حادث سياسي إلا ذكر فيه أباه، وقلما تكلم عن مشروع إلا أشار فيه إلى رغبات أبيه، وقلما عرضت مناسبة إلا ذهب فيها لزيارة ضريحه وبكى عنده أو تباكى بعد الوفاة بسنوات.

هذه الآفة من شأنها دائما أن تشعر صاحبها بقصوره وتلعج نفسه «بمركب النقص» الذي يدفعه إلى إظهار القوة وإظهار القسوة والشك في كل أحد غير «محور التشبث»، كأنه يتهمهم جميعا ولا يلقي باعتماده الباطن كله على غير هذا المحور.

وهذه الآفة، من جانب ما فيها من توقف النمو، تقترن بدوافع كدوافع الطفولة التي تحب أن تضم كل شيء إلى حوزتها علانية أو خلسة دون أن تشعر بغرابة عملها، وهذه هي الأعراض التي تلتبس بأعراض «الكلبتومانيا» أي: جنون السرقة، وليست هي جنون السرقة بعينه في سائر الأعراض.

إن «التشبث» الناشئ من توقف النمو يفسر لنا قسوة فاروق كما يفسر لنا ولعه بالاستيلاء على كل ما يراه، ويفسر لنا كذلك مظاهراته وتمثيلياته التي حسبها بعضهم من جنون الشهوة، فما هي في حقيقتها إلا «مركب نقص» في طبيعة لا تشعر باستيفاء كيانها ، فهي تتخلص من ألم النقص بتلك المظاهرات والتمثيليات.

ومن المرجح أن يكون الاختلال المقترن بأمثال هذه الآفات كامنا بالوراثة تضاف إليه الطوارئ الاجتماعية والشخصية، فينكشف على درجات، أو ينكشف دفعة واحدة في بعض الأطوار.

وقد حصرت مراحل العمر التي تكشف عن الجنون الكامن في أسنان ثلاث: سن المراهقة وهي من الحادية عشرة إلى السادسة عشرة، وسن النضج وهي من العشرين إلى نحو السادسة والعشرين، وسن اليأس أو سن الحرج وهي في الرجال بين الخامسة والأربعين والخمسين، وقد تتأخر إلى الستين وما بعد الستين.

وقد تكون العوامل الاجتماعية والعوامل الشخصية مضاعفة للآفات الكامنة أو معجلة بظهورها واستشراء أمرها، فإذا كان الأب هو «محور التشبث» في نفس المريض فمن العوامل التي تضاعف هذا التشبث أن ينقطع التعاطف بينه وبين أقربائه أو يحدث منهم ما يذله ويحيره، ويدفعه إلى المزيد من التعلق بذكرى أبيه، وإذا اتفق أن الابن فقد أباه وهو قاصر، يعلم قصوره وتذكره به الظروف، فمن المؤكد أنه لا يتخلص من هذا الشعور بسهولة كما كان خليقا أن يتخلص منه لو كبر ونما حتى يكون سلطان الأب مضايقا له دافعا به إلى التمرد عليه.

ومن المؤكد كذلك أن الإلحاح على البنية بالسهر والإجهاد والتعرض للمخاوف والمقلقات حائل دون الشفاء، ومدد جديد للعلة، ومعجل لظهورها قبل الأوان.

ومن كان ملكا يصنع ما يروقه ويأبى أن يحاسب نفسه ويتعالى أن يحاسبه غيره أو يستمع إلى ثناء المتملقين وينفر من نصيحة المخلصين، فقد أطبقت عليه البلية وامتنعت عليه سبل النجاة، وصحت فيه قولة قالها أبو تمام، لا تنسى في عبرة من عبر الأيام الجسام:

نامعلوم صفحہ