دراسات فلسفية (الجزء الأول): في الفكر الإسلامي المعاصر
دراسات فلسفية (الجزء الأول): في الفكر الإسلامي المعاصر
اصناف
ولكننا انفصلنا عن هذا الجانب العقلي العلمي الإنساني الخالص الذي طوره الغرب، فكان وراء نهضته الحديثة. وأخذنا نحن ننقل العقلانية والعلمية والإنسانية الغربية التي هي تطوير لهذا الجانب فينا من تراثنا القديم. ثم عدنا نفتش عليه ونبعثه كفخر واعتزاز بالقديم دون أن يكون دافعا على الإبداع الجديد، ورفضا للنقل عن الغرب. حتى العلوم الإنسانية، اللغة، والأدب، والجغرافيا، والتاريخ، وقفنا عندها؛ إما عند أبحاث القدماء أو الاستيعاب والنقل عن المحدثين دون أن نساهم فيها. وما زلنا نعرض لقضية ابن خلدون: لماذا تنهار الأمم؟ ولا نضع سؤالا تاليا: كيف تتقدم الشعوب؟ وما هي شروط النهضة؟ ما زلنا ننقل عن الغرب الرياضيات الحديثة والطبيعيات الحديثة بل والعلوم الإنسانية المعاصرة. وفي هذا الجو الحضاري العام يستحيل العمل السياسي حيث لا إبداع للجديد ولا تطوير للقديم، ولا إعمال للعقل، ولا إجهاد للقريحة. فنصبح في العمل السياسي أيضا ناقلين. تتشبث الأنظمة القائمة بتراث القدماء وتنقل المعارضة تراث المحدثين (الماركسية أو الليبرالية أو القومية). والقديم أرسخ جذورا وأقوى شرعية من قشور المحدثين.
ثالثا: العقائد التراثية ومواقع
العمل السياسي
وبالرغم من المعوقات التراثية في العمل السياسي إلا أن هناك دوافع تراثية أيضا لتحريك العمل السياسي وضبطه وتنشيطه وترسيخه في وجدان الناس. فإذا رصدنا مشاكل عصرنا وتحدياته الرئيسية لوجدناها الآتي: (1) تحرير الأرض من الاستعمار والغزو
ما زالت قضيتنا الرئيسية هي احتلال الأرض. فما زالت بقع من أراضي العرب والمسلمين محتلة، من بقايا الاستعمار القديم (سبتة ومليلة مثلا)، ودول أخرى من الغزو الصهيوني الجديد (فلسطين وسوريا ولبنان). وما زال قائد المعركة، معركة التحرير، هي الأنظمة السياسية، والجيوش النظامية أو فصائل المقاومة، دون إشراك الشعوب التي ما زالت بكمها وكيفها خارج الميدان. هنا تستطيع العقائد الترائية المساهمة في معركة تحرير الأرض. وذلك أن «الله» وهو القيمة الأولى في نسق العقائد التراثي هو «إله السموات والأرض»،
رب السموات والأرض ،
وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله [الزخرف: 84] وبالتالي فإن إيمان الجماهير بالله هو في الوقت نفسه إيمان بالأرض، وموتها في سبيل الله هو استشهادها في سبيل الأرض، ومن يستولي على الأرض فإنه أسر نصف الإله ويجعله سجين الاحتلال! فإذا كان الإله في المسيحية هو «إله السموات» وفي اليهودية «إله الأرض» فإنه في العقائد التراثية «إله السموات والأرض». وبالتالي يمكن الوقوف أمام العقيدة الصهيونية التي ربطت بين الله والشعب والأرض والمدينة والمعبد والهيكل بصهيونية مضادة ومن نفس النوع لتحرير الأرض، فحرب العقائد لا تقل أهمية عن قعقعة السلاح.
وبعد التحرير يأتي التعمير؛ فصورة الأرض في القرآن ليست الأرض الخراب الصحراء الصفراء، بل هي الأرض العمار المسكونة، الأرض المزروعة الخضراء التي ينزل عليها الماء فتهتز فتنبت من كل زوج بهيج، فلا الفيضان يغرقها ولا القحط يميتها. الأرض سوداء، والنيل يجري، ودجلة والفرات يسيلان، والعمل ناقص، والفلاح إما يكتظ به وادي النيل أو يشح في أرض الجزيرة وما بين النهرين. فيضان في بنغلاديش وقحط في تشاد وكأننا لم نعد قادرين على السيطرة على موارد الطبيعة، وكأن الله لم يسخر لنا قوانينها. ومن ضمن العقائد التراثية: الأرض لمن يفلحها، والأرض البوار لمن يصلحها «من أصلح أرضا فهي له».
1 (2) الدفاع عن الحريات ضد القهر والتسلط
إن التحدي الثاني الذي يواجه أي عمل سياسي هو القهر والتسلط وكل القوانين الاستثنائية المقيدة للحريات، وكل السلطات شبه المطلقة التي يتمتع بها الحكام، ملوكا أو أفرادا أو رؤساء. وقد أوشك أن يصبح عدد السجون مثل عدد المدارس، وخريجو السجون مثل خريجي الجامعات. فقد لا يوجد وطني واحد إلا ودخل السجن مرة وحتى ضرب المثل «السجن للرجال». هنا تأتى العقائد التراثية كي تساهم في العمل السياسي وتتحدى القهر والتسلط والتكبر وحكم الفرد المطلق. فالله وحده هو «المليك المقتدر» دون سواه. وهذا ما يعبر عنه أول ركن من أركان الإسلام «الشهادتان»: تعني أشهد رؤية أحداث العصر والإعلان عنها، ورفض الصمت والتواطؤ، أي الجهر بالقول والإعلان عن الحق المرئي، وقد يستتبع ذلك الشهادة؛ أي التضحية بالنفس في سبيل شهادة القول، ثم يقوم الإنسان بفعلين: فعل النفي في «لا إله» وفعل الإثبات في «إلا الله». وبفعل النفي، يحرر الإنسان شعوره من كل آلهة العصر المزيفة: الجاه، والسلطان، والمال، والجنس، وحب الدنيا؛ حتى يستطيع أن ينتسب إلى المبدأ الواحد، العام الشامل الذي يتساوى أمامه الجميع بالفعل الثاني «إلا الله». وتعني الشهادة الثانية الإعلان عن اكتمال النبوة واستقلال الوعي الإنساني عقلا وإرادة. كما يعبر عن حرية الإنسان شعار: «الله أكبر» أي لا متكبر سواه. لذلك كان شعار الثورة الإسلامية في إيران «الله أكبر، قاصم الجبارين». والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب ديني، وفرض شرعي يجعل الإنسان القادر عليه حرا، مراجعا للحكام وكذلك «الدين النصيحة». و«لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»، فالطاعة للقانون، وسلطة الحاكم من العقد والبيعة، فإذا عصى الحاكم الشريعة وإذا أخل بعقد البيعة فلا طاعة له، ويجب الخروج عليه. وإن أعلى شهادة: «كلمة حق في وجه سلطان جائر»، و«الساكت عن الحق شيطان أخرس». بل إن وظيفة الحكومة الإسلامية هي «الحسبة» أي مراجعة نفسها بنفسها، والرقابة على نفسها وعلى الأسواق ومظاهر النشاط الاقتصادي والتلاعب بالأسعار وبقوانين السوق. إن الحاكم هو آخر من يأكل وآخر من يشرب وآخر من يلبس وآخر من يسكن، وإلا فلا سمع ولا طاعة له. (3) العدالة الاجتماعية والمساواة في مواجهة سوء توزيع الثروة والفروق الشاسعة بين الأغنياء والفقراء
نامعلوم صفحہ