دراسات فلسفية (الجزء الأول): في الفكر الإسلامي المعاصر
دراسات فلسفية (الجزء الأول): في الفكر الإسلامي المعاصر
اصناف
كانت المعرفة العقلية عند القدماء في الحضارات المجاورة شائعة وسائدة. فلما جاء الوحي بالمعرفة الدينية عن طريق الأنبياء كان من الطبيعي أن يركز التراث على خصوصيته ويجعل الإشراق مرتبة أعلى من العقل على ما هو معروف في الفلسفة الإشراقية وفي التصوف. وساد هذا التيار حتى الآن. ولما تغيرت الظروف التاريخية، وساد الجهل وعمت الخرافة واعتمد الناس في أمر حياتهم على المعارف اللدنية في كل شيء وغاب التخطيط القائم على الدراسة والتحليل، وجب الانتقال من المعرفة الإشراقية إلى المعرفة العلمية، وإصدار القرارات لا عن طريق الإلهام الرباني، بل عن طريق حساب الإمكانيات وعرض الاحتمالات وإلا لتحول المجتمع كله إلى أنبياء يوحى إليهم أو إلى أولياء يتبرك بهم ويتحول الجميع إلى مريدين. (7) من الإيمان والنظر إلى العمل والممارسة
لما كان الإيمان الباطني هو ما جاء به الوحي ركز عليه القدماء خاصة بعد الفتنة وتشتت الأعمال. أصبح المسلم بإيمانه قولا، وأرجأ الأعمال إلى يوم القيامة. كما رفع الفلاسفة من شأن القيم النظرية على حساب القيم العملية، وجعل الصوفية التأمل والفناء في قمة الطريق الصوفي. ولما كان العمل والممارسة شرط إحداث أي تغير اجتماعي، كان الانتقال من النظر والإيمان إلى العمل والممارسة شرط التنمية وزيادة معدلات الإنتاج. وقد نبه محمد عبده من قبل على ذلك بقوله: «ما أكثر القول وما أقل العمل!» كما استشهد الجميع بآيات العمل والجهاد مثل:
وقل اعملوا
ولاحظوا اقتران الإيمان بالعمل في آيات: يا أيها
الذين آمنوا وعملوا الصالحات [الأعراف: 57]. فإذا كان القدماء قد فهموا العالم فقد آن الأوان لنا أن نغيره. (8) من خلود النفس إلى بقاء البدن
كانت المشكلة عند القدماء هي إثبات خلود النفس في مواجهة الفلسفات المادية القديمة التي تقول بفنائها أو ببقاء البدن. وقد نجح القدماء في كسب المعركة حتى تحول خلود النفس وفناء البدن إلى معتقد أساسي شعبي في وجدان الجماهير. ولما تغيرت الظروف، وظهرت أوضاع الفقر والجوع وحالات البؤس والضنك بان أن المأساة في البدن في المأكل والمشرب والملبس والمسكن، وأن الروح لا خطر عليها إلا من خلال البدن. ولا يمكن أن تحدث تنمية طالما ظل البدن قيمة سلبية في وجدان الجماهير. وقد حاول ابن رشد ذلك من قبل بتصوره بقاء البدن فالمادة لا تفنى ولا تتبدد، بل تتحول من شكل إلى آخر، وبتصوره بقاء الروح عن طريق الفكر والعقل الكلي في الحضارة الإنسانية. (9) من فناء الدنيا إلى بقاء العالم
استطاع القدماء أن يبرزوا التصور الإسلامي الجديد للعالم وهو خلق العالم وفناؤه في مواجهة الفلسفات القديمة التي كانت تقول بقدمه وأزليته. وصاغوا لذلك دليل الحدوث، ودليل الإمكان، ودليل الجوهر الفرد، وغيرها من الأدلة لإثبات فناء العالم وبأنه أتى من لا شيء وسيعود إلى لا شيء:
كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام [الرحمن: 26-27]. ولكن بانحسار المد الإسلامي القديم وتخلي المجتمع الإسلامي عن رسالته في الفتح وازدواج الأشعرية والتصوف وسيطرة القوى الأجنبية على مقدرات المسلمين، تحولت عقيدة فناء الدنيا إلى سلب الدنيا من وجدان الجماهير، فعجزت عن العمل، وآثرت التحول عنها والتوجه إلى الآخرة؛
تؤثرون الحياة الدنيا * والآخرة خير وأبقى [الأعلى: 16-17]. والتنمية لا تحدث في مجتمع ذي اتجاه سلبي نحو العالم. ولا يظهر الاتجاه الإيجابي إلا في بقاء العالم؛ أي العمل في الدنيا وكأن الإنسان يعيش فيها إلى الأبد. (10) من الفرقة الناجية إلى الوحدة الوطنية
لما تعددت الآراء، وتضاربت الأهواء وتشتت المذاهب، وحدث الشقاق، وعمت الفتنة بدأ الناس يبحثون عن الفرقة الناجية في مواجهة الفرق الضالة، فظهر حديث الفرقة الناجية الذي ستفترق فيه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي فرقة الحكومة؛ أي الدولة القائمة المستتبة. وبالتالي تمت إدانة جميع الاتجاهات، واتهام الخصوم وفرق المعارضة بالكفر والعصيان. واستمر الحال كذلك إلى الآن حتى غابت الديموقراطية من مجتمعاتنا وساد الرأي الواحد والحزب الواحد. ولما كانت التنمية لا تحدث إلا بالمشاركة والحوار واختلاف الآراء، ومقارنة الحجة بالحجة، ومقارعة الرأي بالرأي، ومقابلة البرهان بالبرهان؛ لزم الانتقال إلى نوع آخر من الأحاديث مثل: «اختلاف الأئمة رحمة بينهم» أو «أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم» حتى يظهر الرأي الآخر ويرد الاعتبار إلى شرعيته.
نامعلوم صفحہ