دراسات فلسفية غربية
دراسات فلسفية (الجزء الثاني): في الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة
اصناف
ونظرا لطول انغلاق الإنسان العادي على نفسه تنشب ثورة الجماهير في جو من العنف، تبدو الجماهير عاصية متمردة خاصة وأنها تشعر بالكمال الذي يؤدي إلى الغرور. ولا يدل ذلك على غباء الإنسان الجماهيري بل على يقظته. يقوم بالثورة دون أساس عقلي بل اعتمادا على اعتقادات وتقاليد وتجارب وحكم وأمثال. صحيح أن الإنسان اليوم يحاول أن يكون لنفسه نظرية أو مجموعة من الأفكار عن الأشياء، وأن يعطي إجابات على كل ما يعرض له من مسائل، ولكن الخطورة أن تكون هذه الأفكار خاطئة. كل فكرة فشل للحقيقة، ومن يبحث عن الأفكار تبتعد عنه الحقائق. والحضارة ما هي إلا مجموعة من القوانين والقواعد التي تنظم هذه الأفكار. فإذا غابت هذه القوانين تحولت الحضارة إلى بربرية وعنف. ويعطي أورتيجا أمثلة على ذلك في الحركات النقابية والفاشية دون أن يذكر النازية والصهيونية، متجنيا على الحركات النقابية التي تحاول رفع الظلم عن العمال ضد أصحاب رءوس الأموال. فعنفها عنف مضاد وليس عنفا أوليا، عنف محرر وليس عنفا قاهرا؛
1
لذلك لا يتحدث أورتيجا إلا عن أحد جوانب العنف وهو العنف المضاد ناسيا العنف الأول أي مصدر العنف. ولا يميز بين العنف المشروع وهو العنف المضاد والعنف اللامشروع وهو العنف الأساسي. ويكتفي بالقول بما تردده أجهزة الإعلام تسطيحا للأمور ودفاعا عن السلطة من أن العنف هو عدم اعتراف بأن الآخرين على حق، والتأكيد على أن الإنسان وحده على حق فارضا إرادته على الآخرين. فالآراء ليست مجرد نظريات بل هي رغبات وإرادات وقوى. ويزيد العنف رفض الجماهير أساليب الحوار لأن الحوار جدل الأفكار. بذلك ينتهي النقاش، ويشتد العنف، ويبدأ العمل المباشر
L’action directe . يدل العنف على إفلاس العقل ويأسه . وقد كان يسمى قديما العقل الأخير
Ultima Ratio
وكما قال الشاعر العربي:
السيف أصدق أنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب
والحقيقة أن العنف ليس قاصرا فقط على الجماهير بل هو ممتد أيضا إلى الصفوة. وليس فقط أحد مظاهر البدائية ولكنه أيضا أحد مظاهر المدنية. فكلما تطورت المجتمعات وزادت رفاهية ظهر فيها العنف لإعادة توزيع الثروات ولرفض قيم مجتمع الرفاهية. هناك مجتمعات بأكملها قائمة على العنف سواء في نشأتها أو في استقرارها، مثل المجتمع الأمريكي في استئصاله للهنود الحمر في الداخل وقمعه للشعوب في الخارج، في استجلابه الأفريقيين كعبيد في الداخل وانتشار الرجل الأبيض في الخارج. أصبح العنف في المجتمعات المتطورة أحد أنماط السلوك في الحياة اليومية كوسيلة للتعامل مع الأفراد وكدافع لحركة التصنيع وكدعوة للحرب.
ولثورة الجماهير وجهان؛ وجه انتصار ووجه هزيمة، وجه حياة ووجه موت. تستطيع ثورة الجماهير أن تؤدي إلى تنظيم جديد للإنسانية ولكنها أيضا تستطيع أن توقع النوع الإنساني كله في كارثة. ثورة الجماهير إذن قد تسير في خطين محتملين متعارضين دون حتمية الوقوع في مسار واحد. لقد آمن فلاسفة التاريخ بالتقدم الحتمي الذي يسير في خط واحد إلى الأمام مع أن التقدم قد يكون إلى الوراء أي نكوصا. وإنها لتقدمية عمياء سواء من النظم الليبرالية أو النظم الاشتراكية تلك التي ترى أن مسار التاريخ ينتهي حتما إلى واحد منها. لا يوجد مسار حتمي للتاريخ بل توجد مجموعة من اللحظات، كل واحدة منها مستقلة عن الأخرى، لا تتحرك من مكانها. وهكذا يقترب أورتيجا من نظرة كيركجارد والبروتستانتية للتاريخ. فالتاريخ يتكون من مجموعة من اللحظات المستقلة التي يهبط فيها الخلود هبوطا رأسيا. ومجموع هذه اللحظات يكون هو التاريخ. إن التقدم يحتوي على عناصر فنائه في داخله. كلما تقدمت المدنية احتاجت إلى تطهير نفسها لما علق بها من ثقل يفقدها كل حياة، فكل دافع حيوي يتوقف، ويتحول إلى ثقل مادي كما يقول برجسون.
نامعلوم صفحہ