دراسات فلسفية غربية
دراسات فلسفية (الجزء الثاني): في الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة
اصناف
وجعلنا من الماء كل شيء حي (الأنبياء: 30).
وتظهر مآسي العصر أيضا ليس في لاأخلاقيته وحدها بل في غياب الروح العلمية. أصبحت الحقيقة حدا للعلم وليست إطلاقا له من كل الحدود. وعندما يصل العلم إلى الحقيقة ويصبح حقيقة لا يكون علما بل يصبح موضوعا للبوليس. فالبوليس يمثل حدود الحقيقة والعلم، وكأن السلطة السياسية يهمها الإبقاء على الزيف حتى تأمن المعارضة. وبالرغم من أن فيورباخ بوجه عام أعطى تفسيرا لا سياسيا للدين وأعطاه تفسيرا أنثروبولوجيا خالصا طبقا للضرورة الخلقية والفلسفية، إلا أن السياسيين غضبوا عليه لأنهم يعتبرون الدين أسهل وسيلة لاستعباد الإنسان سياسيا ولا يودون زعزعته وفهمه الفهم الصحيح. كما غضب عليه من لا يعطون الدين أية أهمية سياسية، لأن إعادة تفكير الناس في الدين على نحو شرعي وبعد القضاء على الاغتراب الديني يجعلهم أكثر قدرة على الممارسة السياسية فيثورون ضد الحكام، ويدافعون عن حقوقهم. وغضب عليه أيضا أصدقاء التنوير والحرية في مبادئ الصناعة والسياسة وأعداؤها في ميدان الدين؛ لأن التنوير الديني يكشف عن مساوئ الليبرالية والنظام الرأسمالي. ويشير فيورباخ في ملاحظة أخيرة أيضا إلى صلة الدين بالسياسة. فالدين أساس النظم السياسية. ففي الوقت الذي يكون فيه الدين مقدسا نجد تقديس الزواج والملكية وقوانين الدولة. لم تكن الملكية مقدسة لأنها شريعة إلهية بل تم تقديسها أولا باعتبارها شريعة إلهية. لم يطور فيورباخ هذه العلاقة كما طورها ماركس بعد ذلك، وظل بروتستانتيا حرا يؤسس الدين على الأخلاق. (4)
الاغتراب في ماهية الإنسان وجوهر الدين:
يبدأ فيورباخ كتابه «جوهر المسيحية» بتمهيد عن ماهية الإنسان بوجه عام وجوهرية الدين بوجه عام، ويستعمل لكليهما كلمة
Wesen
وهي الثنائية التي سيتبعها فيما بعد في تقسيم الكتاب بين الماهية الحقيقية أي أنثروبولوجيا الدين، والماهية المزيفة أي ثيولوجيا الدين، فيبدأ بالإثبات وهو الإنسان ويثني بالنفي وهو الله.
فما هي ماهية الإنسان بوجه عام؟ يرى فيورباخ أن التدين هو الذي يميز الإنسان عن الحيوان. ويرجع هذا التمييز إلى أن الإنسان لديه شعور أو وعي بالمعنى الدقيق وليس مجموعة الإحساسات والإدراكات والأحكام أي مجموعة الوظائف النفسية. ولا يتأتى الوعي إلا لوجود تكون ماهيته عين موضوعه؛ فالعلم الإنساني هو الوعي بالأجناس في حين أن الحيوان لا يدرك إلا نفسه. عند الحيوان الحياة الداخلية والحياة الخارجية شيء واحد، وعند الإنسان تتميز الحياة الداخلية عن الحياة الخارجية، فالحياة الداخلية هي علاقته بجنسه وماهيته والتعبير عن ذلك بالفكر واللغة. الإنسان هو الأنا والآخر، هو الذات والموضوع، هو الموضوع والمحمول. ليس الفرق بين الإنسان والحيوان في التدين فقط فالدين هو الوعي باللانهائي؛ ومن ثم يكون وعي الإنسان بماهيته لا نهائيا دون أن يكون ذلك وعيا بموجود لا نهائي. الوعي هو وعي باللانهائي، وهو ما يقابل الغريزة عند الحشرات. الوعي باللانهائي هو الوعي بلا نهائية الوعي. وفي الوعي باللانهائي يكون موضوع الوجود الواعي واعيا بذاته. الإنسان بلا موضوع لا يكون شيئا، فهذا ما تؤكده حياة العظماء. يشعر العظيم أن له رسالة عليه أن يحققها وهي الهدف الأسمى من نشاطه. تكون ماهيته وتكون في علاقة جوهرية وضرورية معه. ماهية الإنسان وجوده وغايته وموضوعه، وتتوحد الماهية والوجود كما يتوحد الذات والموضوع في الإنسان. فيصبح الإنسان إذن واعيا بذاته عن طريق الموضوع. والوعي بالموضوع هو وعي بالذات. يمكن معرفة الإنسان إذن ابتداء من الموضوع. وفيه تبدو الماهية، فالموضوع هو الماهية عندما تظهر أنانيته الحقيقية الموضوعية. وهذا ينطبق على الموضوعات الروحية والموضوعات الحسية على حد سواء. وهنا يأخذ شعار سقراط «اعرف نفسك بنفسك.» معنى أنطولوجيا جديدا.
ماهية الإنسان هو جنسه أو الإنسانية؛ العقل، والإرادة، والقلب. العقل وظيفته الفكر، والإرادة للاجتهاد والفعل والسلوك، والقلب هو الحب. وهنا يعود فيورباخ من جديد إلى قوى النفس الثلاث عند أفلاطون دون تمييز بين النفس والبدن أو بين المثال والواقع. العقل والإرادة والقلب ثلاث كمالات أو ملكات سامية تكون الماهية المطلقة للإنسان من حيث هو إنسان، وتكون الغاية من وجوده. فالإنسان يوجد كي يعرف ويحب ويفعل. الغاية من المعرفة المعرفة، ومن الإرادة الإرادة، ومن الحب الحب، وهي نفس الصفات؛ حقيقي، كامل، إلهي. نستعملها عندما نصف الشيء في ذاته. هو الثالوث الإلهي الذي يجمع بين العقل والحب والإرادة كما قال أوغسطين من قبل شارحا التثليث المسيحي. هذه الصفات الثلاث ليست مجرد كمالات يتمتع بها الإنسان بل قدرات إلهية مطلقة لا يمكن للإنسان مقاومتها. كيف يقاوم الحب الحب، والمعرفة المعرفة، والإرادة الإرادة؟ إن الحب يدفع الإنسان إلى الموت في سبيل من يحب، والفكر يدفع الإنسان إلى أن يفكر، والحياة تدفع الإنسان إلى أن يفعل.
الوجود المطلق إذن، وهو إله الإنسان، هو عين ماهيته، وموضوعه ماهيته وقوة ومعرفة وإرادة، حبه هو معرفته وإرادته وحبه. التناهي هو العدم ولا يمكن أن يكون الإنسان واعيا بالتناهي وإلا كان عدما، الوعي هو ظهور الذات، وتأكيد الذات، وحب الذات، والانشراح بكماله الخاص. الوعي علامة مميزة لوجود كامل، والوجود خير. التناهي سقوط وتفاهة وعار وقلق، ثم يمتد التناهي للماهية محوا للعار! ويا للعار!
كل وجود مكتف بذاته، كل موجود له إلهه أي وجوده الأعظم في ذاته. وكل تحديد هو بالنسبة للآخر الخارجي الأعظم منه كما يظهر في مقارنة الحيوانات بالحشرات وكما يفعل دارون في وصف تطور الأحياء فيما بعد. إن الذي يجعل الموجود موجودا هو عبقريته وقوته وغناه وجماله، فكيف يكون الوجود عدما عاجزا؟ وكأن فيورباخ هنا يوحي بلغة نيتشه وبرجسون وبما سيقوله إقبال عن الذاتية فيما بعد. ما يثبته الوجود لا يمكن للذهن نفيه، فمقياس الوجود هو مقياس الذهن. وكلما امتد الوجود إلى ما لا نهاية كان هو الله. ولا يمكن الفصل بين الذهن والوجود إلا على نحو ظاهري تعسفي، وهو الدرس المستفاد من هيجل. فلو فكر الإنسان في اللانهائي فإن ذلك إثبات للانهائي في الفكر. وإذا شعر باللانهائي فإن ذلك إثبات للانهائي في الشعور. موضوع العقل هو العقل موضوعا لنفسه. وموضوع العاطفة هي العاطفة موضوعا لنفسها. إن حوار الفيلسوف هو في الحقيقة مونولوج العقل. الفكر لا يتحدث إلا مع الفكر. فالعقلي وحده هو موضوع العقل.
نامعلوم صفحہ