دراسات فلسفية غربية
دراسات فلسفية (الجزء الثاني): في الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة
اصناف
1
وبيقظة الوعي الإنساني واكتشافه قدرته على النظر العقلي وعلى وصف الظواهر الطبيعية اتجه نحو العقل، هذا الذي أنقذه من الخرافة والسحر والأساطير والأوهام، وحاول البحث عن النظري الخالص، واستمر في التجريد شيئا فشيئا حتى غاب الجانب الإنساني منه، وأصبحت النظرية هي كل شيء والصورة الخالصة هي المطلب الأساسي كما حدث في «البنيوية» أخيرا وسيطرتها على «علم الإنسان». كما اتجه نحو الطبيعة من خلال التجربة والمشاهدة والمدركات الحسية. واستمر في المشاهدة حتى نسي الجانب الإنساني في العلم، وطغت «المادة» على كل شيء وكأن المادة تدرك وتتحدث وتدل. ثم تحولت الطبيعة إلى صورة، والظواهر إلى معادلات كما هو الحال في الطبيعيات الحديثة التي لا تفترق عن الرياضيات البحتة، وأصبح التجريب الآن هو نوع من حساب الاحتمالات النظرية الخالصة. وأصبح الإنسان في نهاية الأمر، وهو الخالق لهذا كله، للدين والسحر والأسطورة والعقل والعلم، أصبح يعيش شيئا فشيئا في عالم لا إنساني.
2
ويشهد التاريخ على موت الفلسفة إذا ما ارتبطت بشيء آخر غير الإنسان، سواء كان الله أو الطبيعة، الصورة أو المادة، بصرف النظر عن أسسها الإنسانية في العقل والحس في النظر والمشاهدة، في الرؤية والإدراك. فقد ماتت الفلسفة بعد أن أصبحت أحد فروع علم اللاهوت فتحزبت وتحجرت، وتمذهبت وضاع منها روح البحث وحرية الفكر واستقلال الرأي والقدرة على التغيير والإبداع. وعلم اللاهوت ذاته هو علم إنسان «مقلوب» يعبر عن وعي الإنسان بذاته على نحو مغترب، خارجا عنه، عابدا إياه. حدث ذلك في العصر الوسيط وفي الفلسفة المدرسية. كما حدث لدينا في علم الكلام أو في علم العقائد بالرغم مما قاله المهندسون في الإلهيات ومحاولتهم إرجاع اللاهوت إلى تجاربه الحسية، وبالرغم من قول أبي شعيب: إن الإنسان هو العالم القادر الحي بالحقيقة، والله هو العالم القادر الحي بالمجاز.
3
كما تموت الفلسفة إذا ما تحولت إلى مباحث نظرية خالصة أو إلى علوم رياضية صورية كما هو الحال في المنطق الرياضي الحديث أو في مدارس تحليل اللغة. فالصورية لا حياة فيها ولا دم ولا لحم ولا عظم، ولا صراع ولا مواقف ولا تناقض أو اشتباه. تلغي الفردية وتتنكر للخصوصية ولا تبحث إلا عن العموم والشمول. بل إن المفاهيم الرياضية ذاتها لها أسسها النفسية في الشعور، والتجريد ذاته ما هو إلا ظاهر يكشف عن مضامين شعورية. تموت الفلسفة إذا ما كانت بحثا نظريا مجردا عن «الخالص» و«النظري» و«الحقيقي». فذلك لا وجود له إلا بعد تجريد العقل للموضوع. وهنا تعيش الفلسفة على ذاتها وتصبح الذات والموضوع في آن واحد .
وتموت الفلسفة أيضا إذا ما أصبحت مبحثا في الوقائع المادية كما هو الحال في العلوم الطبيعية، فالمادية وهم وخداع تحت ستار الموضوعية وباسم التجرد والنزاهة والحياد. فلا ترى الطبيعة من خلال منظور إنساني، ولا تتم الرؤية إلا من خلال الإدراك الحسي أو العقلي. كما أنه لا يمكن التجرد من الأهواء والانفعالات والمواقف الإنسانية بل والمراحل التاريخية والبناء النفسي للأجيال وروح العصر. الموضوعية العلمية خرافة. بل إن النسق التصوري العلمي كله من وضع الذهن. كما أن الاطراد الذي يتسم به القانون الطبيعي ضد الفردية، والحتمية في الطبيعة ضد الحرية الإنسانية. وفي نهاية الأمر لا يظهر العلم إلا في مجتمع مستقر يريد أن يؤسس بنيانه على نحو علمي؛ ومن ثم ارتبط بالكيان الاجتماعي أي بالإنسان.
4
ولكن تحيا الفلسفة إذا ما كانت تفكيرا في الإنسان، وإذا ما استمدت مادتها من العلوم الإنسانية. يتضح ذلك من الفلسفة اليونانية باتجاهاتها الثلاثة: المثالية والواقعية والإنسانية، وعلى وجه خاص في «محاورات» أفلاطون وموضوعاتها الإنسانية: المحبة، الصداقة، الجمال، العدالة ... إلخ. كما أن الفلسفة عند أرسطو قريبة الصلة بالسياسة والأخلاق، وليست فقط بالمنطق والطبيعة والفلسفة الأولى. كانت الحكمة مطلبا إنسانيا، وكان البحث عن السعادة هدفا إنسانيا. وقد لخص ديوجين حكمة اليونان حاملا مصباحه في بحثه عن «الإنسان».
5
نامعلوم صفحہ