دراسات فلسفية غربية
دراسات فلسفية (الجزء الثاني): في الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة
اصناف
3
وفي بدايات العصر الحديث تحولت الدجماطيقية إلى مذهب فلسفي عند فولف يقوم على الفلسفة العقلية، وعلم النفس العقلي، والطبيعة العقلية، واللاهوت العقلي ... إلخ، فتحولت الفلسفة إلى نسق محكم يطابق حتمية الطبيعة لا يمكن أن تهتز أمام تحليل التجارب الإنسانية الحية أو المواقف الإنسانية الفردية ... وقد دعا ذلك كانط إلى التصدي «للدجماطيقية» واضعا في مقابلها الفلسفة «النقدية» مبينا أن الفلسفة ليست في كم المعلومات ونسق الأفكار بل في معرفة شروط المعرفة وإمكانياتها أولا حتى لا يتجاوز الإنسان بقدراته المعرفية حدودها فيقع في الدجماطيقية. ثم بلغت المذهبية أوجها عند هيجل حتى لقد عرفت فلسفته باسم المذهب
Le systeme
ضم الحس والعقل والقلب، الفرد والأسرة والمجتمع، المنطق الذاتي والمنطق الموضوعي والمنطق الذاتي الموضوعي، الدين والأخلاق والفلسفة، الاجتماع والسياسة والقانون، الماضي والحاضر والمستقبل، الإنسان والعالم والله. لم يخل المذهب من شيء واحد لم يتعرض له حتى فقد الإنسان فرديته في العالم وحريته أمام الضرورة التاريخية مما سبب ثورة كيركجارد وجميع الوجوديين عليه.
4
وفي تراثنا القديم ظهرت النزعة المذهبية في كتب العقائد سواء عقائد الإمامية أو عقائد الأشعرية، وكلتاهما تعبر عن مجموعة من المطلقات المغلقة التي لا يمكن الخروج عليها، للعقل نقدها أو للواقع دحضها. مع أنها في نشأتها كانت أوضاعا اجتماعية تعبر عن جماعات من المضطهدين خارج السلطة أو عن أقليات من المضطهدين من أصحاب السلطان كل منهما يبرر نفسه ويدافع عن شرعيته في التاريخ باستعمال سلاح العقيدة، فخرجت العقائد الإمامية للدفاع عن الفريق الأول مثل الإمامة والغيبة والعصمة والتقية لإبقاء الجماعة في التاريخ كأصابع ديناميت أو قنابل موقوتة تنفجر إذا ما حانت ساعة الخلاص. وخرجت عقائد الأشاعرة مثل العقائد النسفية، والعقائد العضدية، والعقيدة الطحاوية، والعقيدة السنوسية إلى آخر هذا التنميط للعقائد الإسلامية ابتداء من «الفقه الأكبر» لأبي حنيفة حتى عقائد الدردير واللقاني. تحول الإسلام إلى مذهب أي عقائد ثابتة تكون حقيقة الإيمان ومضمونه، من يعتنقها يؤمن، ومن يخرج عليها يكفر؛ وبالتالي ضاعت الفلسفة وانتهى روح التأمل وطرح المسائل وإعطاء مختلف الحلول على قدم المساواة، مع أن هذه العقائد ذاتها مثل عقائد الإمامية، من وضع التاريخ. لم تكن هناك عقائد في البداية بل كانت هناك حركة في التاريخ وتحقيق «رسالة التوحيد» فيه. فلما انتصرت الدولة السنية أفرزت «الأشعرية» كفكر السلطة، وبدأ تقنينها في نسق عقائدي في مواجهة الخصوم ثم تبنتها الدولة دفاعا عن التصورات المطلقة للعالم ولتكفير كل العقائد الأخرى التي تفسح المجال للحرية الإنسانية وللعقل الطبيعي ولاستقلال قوانين الطبيعة. وتم تكفير كل العقائد الأخرى بالاعتماد على بعض الأحاديث الضعيفة مثل حديث «الفرقة الناجية» التي يتم فيه تكفير كل فرق الأمة الثلاث والسبعين باستثناء فرقة واحدة هي الفرقة الناجية، فرقة الحكومة! والمتتبع لهذه العقائد نشأة وتطورا يجد أنها تعكس ظروف المجتمع وتاريخ الأمة من حيث العدد والصياغة؛ فقد بدأت بست عقائد في الذات الإلهية وبسبع في صفاتها. ثم انقسمت الصفات إلى اسم وفعل مثل عالم بعلم، وحي بحياة، وقادر بقدرة فتضاعفت. ثم نفي الضد مثل عالم وليس بجاهل، بعلم وليس بجهل ... إلخ، فتضاعفت مرة أخرى فأصبح المجموع 6 + 6 (نفي الضد) + 14 + 14 (نفي الضد) فأصبح مجموع العقائد في الله أربعين عقيدة، وفي الرسول أربعا تنفي أضدادها فيكون المجموع ثماني وأربعين عقيدة يجب على المسلم الإيمان بها. وقد تزيد في جيلنا أو في الأجيال القادمة. كل ذلك من عمل المذهب نتيجة للانغلاق على الذات والانعزال عن الواقع فتعيش العقيدة على ذاتها حتى تتآكل في النهاية.
5
إنما تحيا الفلسفة بكسر حدة المذهب والخروج من حصاره والإفلات من دوائره. غابت روح المذهب عن الفلسفة اليونانية وبالتالي ازدهرت الفلسفة، وأصبح طريقها هو الحوار الذي خلده أفلاطون في «المحاورات» والذي وضعه المعلم سقراط، دون وضع نظريات مسبقة بل التساؤل عن المعتقدات الشائعة ومطالبة المعارضين بالبرهان فيكتشف الإنسان الصواب أو الخطأ من نفسه. وهو الطريق الذي وضعه القرآن بقوله:
وفي الأرض آيات للموقنين * وفي أنفسكم أفلا تبصرون (الذاريات: 20-21). بل إن أرسطو نفسه لم يضع مذهبا. وقد وصفه برجسون بأنه «عبقرية كل العصور لكنه لم يضع مذهبا.» بل كانت عينه مفتوحة على الطبيعة كما هي يدرك حركتها ولرؤية الفردي والضروري في آن واحد كما فعل برجسون بالحدس، هذا التعاطف الوجداني مع الواقع والاتحاد به لإدراك ماهياته المستقلة من خلال التجربة. كما أعطى أوغسطين نموذجا آخر لروح التفلسف في مواجهة المذهب بالرغم من استعماله هذه الروح دفاعا عن العقائد الرسمية للكنيسة. استعمل الحوار السقراطي الأفلاطوني وغاص في التجارب البشرية التي تكمن وراء العقائد. فكان فيلسوفا أكثر منه عقائديا. وأمكنه الدفاع عن المسيحية باسم السلطة حتى لو كانت سلطة الروح أو سلطة الاختيار. ولم يكن ذلك فقط في «المحاورات الفلسفية» التي كتبها في شبابه بل أيضا في كتبه العقائدية الصرفة مثل «كتاب التثليث» حيث لا يكاد يرفض أي فيلسوف المظاهر الثلاثية في الحياة مثل: الحس والعقل والقلب، الشهوة والغضب والعقل، الأب والأم والابن، السماء والأرض وما بينهما، المتكلم والمخاطب والغائب ... إلخ، كما نجح الجدليون في العصر الوسيط المتأخر في التخفيف من روح الأنساق العقائدية بالاعتماد على العقل وكسر حدة المذهبية العقائدية، ولو أن استعمال العقل كان جدليا أكثر منه دعوة للحوار المفتوح دون تعصب أو هوى، فالجدل إحدى وظائف العقل وليس عمله الرئيسي وهو البرهان. إنما يكفي أن الجدل قد أعطى للآخر الحق في تناول العقيدة وجعلها محور النقاش، وموضوعا للأخذ والرد، وللقبول والرفض. وقد بدأت العصور الحديثة بروح التفلسف المعادية للمذاهب العقائدية والفلسفية القديمة. فكان ديكارت يتهكم على القدماء، ويفخر بجهله بعلمهم. واستمرت روح التفلسف ابتداء من أن العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس ويطلب الوضوح والتميز ويقين البداهة. كما وضع كانط الفلسفة النقدية في مواجهة الفلسفة الدجماطيقية، وأن معرفة إمكانيات المعرفة أهم من نتائج المعرفة فازدهرت الفلسفة وحييت على يد الكانطيين، وأصبحت المشكلة الكانطية هي المشكلة الفلسفية بالأصالة. كما حييت الفلسفة بعد التحرر من المذهب عند هيجل، وازدهرت على أيدي الهيجليين الشبان منهم والشيوخ حتى أتت الفلسفة الوجودية، وانتعشت الفلسفة بل والميتافيزيقيا في فلسفة التساؤل والدهشة والبحث عن المعاني، والغوص في أعماق الوجود الإنساني. وقد قام المعتزلة بالشيء نفسه في تراثنا القديم فبمواجهة العقائد السلفية ومن أجل الدعوة إلى حرية البحث والنظر، فالنظر أول الواجبات، بل إن الشك واجب قبل النظر. النظر يولد العلم بل والعلم اليقيني، ولكن لسوء الحظ لم تعش هذه المحاولات وما زالت محاولات بعثها تصطدم بالمذهب الموروث الذي اتحدت معه السلطة فأصبح أكبر دعامة لها.
6
نامعلوم صفحہ