دراسات عن مقدمة ابن خلدون
دراسات عن مقدمة ابن خلدون
اصناف
وبعد ذلك يؤيد حكمه هذا بأدلة شرعية قائلا:
وفي التنزيل:
إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ، أي يشد بعضهم بعضا بالثبات، وفي الحديث الكريم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا.» «ومن هنا يظهر لك حكمة إيجاب الثبات، وتحريم التولي في الزحف، فإن المقصود من الصف في القتال حفظ النظام كما قلناه، فمن ولى العدو ظهره فقد أخل بالمصاف، وباء بإثم الهزيمة إن وقعت، وصار كأنه جرها على المسلمين، وأمكن منهم عدوهم؛ فعظم الذنب لعموم المفسدة، وتعديها إلى الدين بخرق سياجه، فعد من الكبائر.» «يظهر من هذه الأدلة أن قتال الزحف أشد عند الشارع» (ص271). (4)
وبعد ذلك يوضح ابن خلدون كيفية جريان قتال الكر والفر: «وأما قتال الكر والفر فليس فيه من الشدة والأمن من الهزيمة ما في قتال الزحف، إلا أنهم قد يتخذون وراءهم في القتال مصافا ثابتا، يلجئون إليه في الكر والفر، ويقوم لهم مقام قتال الزحف كما سنذكره بعد» (ص272).
وقد ذكر ذلك ابن خلدون في آخر الصفحة نفسها: «ومن مذاهب أهل الكر والفر في الحروب ضرب المصاف وراء عسكرهم، من الجمادات والحيوانات العجم، فيتخذونها ملجأ للخيالة في كرهم وفرهم، يطلبون به ثبات المقاتلة؛ ليكون أدوم للحرب وأقرب إلى الغلب» (ص273). (5)
ثم يوضح كيفية ترتيب الجنود في الحروب، ويبين أسباب وأهداف هذا الترتيب: «إن الدول القديمة الكثيرة الجنود المتسعة الممالك، كانوا يقسمون الجنود والعساكر أقساما يسمونها كراديس، ويسوون في كل كردوس صفوفه. وسبب ذلك؛ أنه لما كثرت جنودهم الكثرة البالغة، وحشدوا من قاصية النواحي، استدعى ذلك أن يجهل بعضهم بعضا إذا اختلطوا في مجال الحرب، واعتوروا مع عدوهم الطعن والضرب، فيخشى من تدافعهم فيما بينهم؛ لأجل النكراء وجهل بعضهم ببعض. فلذلك كانوا يقسمون العساكر جموعا، ويضمون المتعارفين بعضهم لبعض، ويرتبونها قريبا من الترتيب الطبيعي في الجهات الأربع، ورئيس العساكر كلها - من سلطان أو قائد - في القلب، ويسمون هذا الترتيب التعبئة، وهو مذكور في أخبار فارس والروم والدولتين وصدر الإسلام.» «فيجعلون بين يدي الملك عسكرا منفردا بصفوفه، متميزا بقائده ورايته وشعاره، يسمونه المقدمة. ثم عسكرا آخر من ناحية اليمين عن موقف الملك وعلى سمته، يسمونه الميمنة. وعسكرا آخر من ناحية الشمال يسمونه الميسرة، ثم عسكرا آخر من وراء العسكر يسمونه الساقة. ويقف الملك وأصحابه في الوسط بين هذه الأربع ويسمون موقفه القلب.» «فإذا تم لهم هذا الترتيب المحكم، إما في مدى واحد للبصر، أو على مسافة بعيدة - أكثرها اليوم واليومان - بين كل عسكرين منهما، أو كيفما اقتضاه حال العساكر في القلة والكثرة؛ فحينئذ يكون الزحف من بعد هذه التعبئة» (ص272).
وبعد هذه التفاصيل يقول ابن خلدون إن هذا الترتيب قد أهمل في زمانه، ويشرح أسباب هذا الإهمال: «وانظر ذلك في أخبار الفتوحات وأخبار الدولتين بالمشرق، وكيف كانت العساكر لعهد عبد الملك تتخلف عن رحيله لبعد المدى في التعبئة، فاحتيج لمن يسوقها من خلفه، وعين لذلك الحجاج بن يوسف، كما أشرنا إليه، وكما هو معروف في أخباره. وكان في الدولة الأموية بالأندلس أيضا كثير منه، وهو مجهول فيما لدينا؛ لأنا إنما أدركنا دولا قليلة العساكر، لا تنتهي في مجال الحرب إلى التناكر، بل أكثر الجيوش من الطائفتين معا يجمعهم لدينا حلة أو مدينة، ويعرف كل واحد منهم قرنه، ويناديه في حومة الحرب باسمه ولقبه، فاستغني عن تلك التعبئة» (ص272). (6)
وبعد الانتهاء من بحث التعبئة، ينتقل ابن خلدون إلى طريقة «ضرب المصاف وراء المعسكر»:
هذه طريقة يلجأ إليها في كلا النوعين من الحرب - أي في حرب الزحف وحرب الكر والفر - ويقصد منها في كلتا الحالتين «تقوية النفوس، وشد العزائم، وزيادة الوثوق خلال الحرب».
يتألف هذا المصاف عند أهل الكر والفر - من الأمم البدوية الرحالة - من إبلهم والظهر الذي يحمل ظعائنهم، ويتألف عند أهل الزحف من الفيلة، أو من سرير الملك.
نامعلوم صفحہ