دراسات عن مقدمة ابن خلدون
دراسات عن مقدمة ابن خلدون
اصناف
ولكن «دوركهايم» زعم أن الأوصاف التي تميز الواقعات الاجتماعية من الأمور الفردية، هي «القسر على الأفراد»، وأن الحادث الاجتماعي هو «ما يجري ويحدث تحت ضغط المجتمع وقسره»؛ ذلك لأن العوائد والمؤسسات تحيط بالأفراد «إحاطة الأشياء الخارجية»، وتضغط عليهم «ضغط الأشياء الخارجية»؛ فتقسرهم على «الحس والتفكير والعمل» في اتجاهات خاصة، وفق أساليب معينة.
فالتشابه الذي يلاحظ بين أفراد المجتمع لا يتأتى - على رأي دوركهايم - من «تقليد بعضهم لبعضهم الآخر»، كما زعم تارد، بل إنما يتأتى من «ضغط المجتمع على جميع الأفراد» على وتيرة واحدة وحد سواء.
إن هذا الضغط الاجتماعي - أو القسر الاجتماعي - يعمل عمله علانية، وفي عنف في بعض الأحوال، وفي الخفاء وبلطف في بعض الأحوال الأخرى، فهو يصد الأفراد عن الأعمال المختلفة، وإذا لم يستطع صد بعضهم عن مباشرة العمل فيعاقبهم على مخالفتهم بصور شتى؛ مثلا إذا خالف الفرد في ملبسه العادات المتبعة في بلاده وبين أفراد صنفه وطبقته؛ ضحك الناس منه، وهزئوا به، وتباعدوا عنه، ولا حاجة للبيان أن ذلك يقوم مقام عقوبة «من المجتمع» على تلك المخالفة. ومن المعلوم أن الأفراد يخضعون عادة للعرف والتقاليد؛ خشية مثل هذه النتائج المؤلمة، بقطع النظر عما قد يصيبهم من العقوبات الزاجرة مباشرة.
ولهذه الملاحظات الجوهرية اهتم إميل دوركهايم بأفعولة «القسر الاجتماعي» اهتماما كبيرا، وبذل جهودا فكرية جبارة لإظهار آثار هذه الأفعولة في مختلف ميادين الحياة الاجتماعية.
إن الاختلاف بين هذين الرأيين يدل - في حقيقة الأمر - على اختلاف جوهري في تقدير «كنه الحادثات الاجتماعية وطبيعتها»؛ لأن نظرية «تارد» تعزو دورا هاما إلى «الفرد» في تسيير أمور المجتمع؛ لأنها تعتبر أعمال الأفراد - من ابتكار عند بعضهم وتقليد عند الآخرين - مصدرا للحوادث الاجتماعية، في حين أن نظرية دوركهايم - بعكس ذلك - تعتبر «المجتمع» حاكما على «الفرد»، ومسيطرا على أعمال الأفراد وأفكارهم وعواطفهم.
ولهذا السبب احتدم النقاش بين الرأيين بشدة وعنف، والتزم بعض المفكرين جانب تارد، وتشيع بعض العلماء لنظرية دوركهايم، واستمر النقاش مدة طويلة.
وقام خلال هذه المناقشات جماعة ثالثة قالوا: «إن كلتا النظريتين مشوبتان بالنقص والتطرف؛ لأن كل واحدة منهما لا ترى إلا وجها واحدا من وجوه الحقيقة، وتهمل وجوهها الأخرى.»
ولذلك اعتقد هؤلاء أن النظرية الأولى لا تتنافى مع النظرية الثانية، وأنه من السهل التأليف بينهما.
وقد أبدى العالم الاجتماعي «رنه فورمس»
René Wormes - مثلا - الرأي التالي في هذا الصدد؛ إن المشابهة والمماثلة التي تشاهد بين جميع أفراد المجتمع الواحد - من حيث السلوك - تتأتى في بعض الأحوال من «أن الأفراد يقلد بعضهم بعضا تقليدا تلقائيا»، كما تتأتى في أحوال أخرى من «أن المجتمع يضغط على جميع الأفراد في وقت واحد وعلى نمط واحد، فيقسرهم على سلوك مسلك واحد». ومن الطبيعي أن الحالة الأولى تنطبق على نظرية تارد، في حين أن الحالة الثانية تنطبق على نظرية دوركهايم.
نامعلوم صفحہ