141

دراسات عن مقدمة ابن خلدون

دراسات عن مقدمة ابن خلدون

اصناف

عاش العمالقة في الغابات منفردين متوحشين، ومسترسلين في شهواتهم البهيمية، من غير أن يقيدوا أنفسهم بقانون أو دين. (2)

واستمر الحال على هذا المنوال إلى أن جفت الأرض من مياه الطوفان، فأخذت تصعد الأبخرة التي تكون العواصف، وتحدث الرعد والبرق، وتنزل الصواعق. إن حدوث هذه الأنواء الهائلة - لأول مرة - أثر في نفوس العمالقة تأثيرا عميقا، وأدهشهم دهشة شديدة: «بين غيوم هذه العواصف الأولى، وعلى ضوء هذه الأنواء البارقة» (ص117)، علم الإنسان وجود قوة عليا، وسماها «جوبيتر».

وصار هذا مبدأ انقلابات عظيمة جدا في حياة هؤلاء العمالقة، لقد تصور العمالقة هذه القوة العليا عن طريق قياس النفس، وظنوا أن هذه القوة الجبارة تعود إلى شخص مثلهم، يعيش ويشتهي، يرضى ويغضب. إنهم كانوا يدمدمون ويغمغمون - عادة - عندما يغضبون، فلما سمعوا جلجلة الرعد والبرق، شبهوها بغمغمة الغضب، وراحوا يتوهمون أن جوبيتر يظهر غضبه بهذه الغمغمات الهائلة، ويطلب من الناس بعض الأشياء والأعمال، فأخذوا يسعون وراء تفسير معاني هذه الغمغمات وكشف أسرارها؛ لتفهم مقاصد الإله الجبار، والعمل على استرضائه بوسائط شتى.

وهذه كانت البذرة الأولى في سبيل توليد «الديانة والكهانة» في وقت واحد. (3)

إن الفزع الذي استولى على العمالقة من صوت الرعد والبرق حملهم على الالتجاء إلى المغارات، والانقطاع عن حياة التنقل والتشرد، كما أنه جعلهم يتحاشون مجامعة النساء تحت بصر السماء، فصار كل واحد منهم يأخذ امرأة إلى مغارة، ويحتفظ بها لنفسه، ويعيش معها بمفرده. وبهذه الصورة تأسس نظام الزواج، ونشأت عادة العفاف.

إن معيشة رجل مع امرأة واحدة داخل مغارة على هذا الوجه، أدى إلى بقاء الأولاد مرتبطين بالآباء والأمهات؛ فتكونت بذلك الأسر الأولى من الأب والأم والأولاد.

وعندما انقطع العمالقة عن حياة التشرد بهذه الصورة، أخذ كل واحد منهم يزرع الأرض القريبة من مغارته مشتركا مع أفراد عائلته، وبدأت بذلك الزراعة من جهة، وملكية الأرض من جهة أخرى.

إن هذه الحياة الهادئة والتربية المستقرة لم تخل من التأثير على جثة العمالقة وقامتهم أيضا، فإنهم أخذوا يفقدون بالتدريج ضخامة الجثة، إلى أن اكتسبوا القامة الاعتيادية اللائقة بالإنسان. (4)

وكان من نتائج هذه الانقلابات كلها أن تكونت المجتمعات البشرية الأولى على الجبال، في المغاور المتفرقة في سفوحها، وكان قوام كل مجتمع من هذه المجتمعات عائلة واحدة مؤلفة من الأب والأم والأولاد، وكان هذا المجتمع الابتدائي دويلة منعزلة، يرأسها أمير واحد هو الأب، وكان الأب يتمتع بسلطة مطلقة تجاه جميع أفراد العائلة، إنه كان الآمر والناهي الوحيد الذي يتصرف في جميع شئونها، ولكنه كان يستند في أوامره ونواهيه هذه إلى تكهناته عن مقاصد الآلهة، فالأب في هذه المجتمعات الابتدائية لم يكن أبا فحسب، بل كان بمثابة الملك والكاهن أيضا.

إن جميع الانقلابات التي شرحناها آنفا بدأت - على رأي فيكو - ببدء العواصف، ونشأت من تأثير الرعد والبرق في أذهان العمالقة البسطاء. (5)

نامعلوم صفحہ