دین
الدين: بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان
اصناف
في كتابه عن «ينابيع الخلق والدين
Les deux sources de la Mornle et de la Religion » على جانبين آخرين من تلك الحياة العادية: «أحدهما» يرتبط بالقوانين الأدبية التي يفرضها المجتمع وما فيه من العرف والعوائد، «والآخر» يتعلق بالحوادث المستقبلة، التي تفتح لها أبواب الإمكان، وتتسع للاحتمالات وللمصادفات، فلا يمكن التنبؤ بها بصفة قاطعة.
أما كيف تنشأ العقيدة الإلهية عن الشعور بالواجبات الاجتماعية، فبيانه أنه لما كان نظام المجتمع وتماسكه يتطلب من الفرد انخلاعه عن بعض رغباته، وتضحيته بجانب من حريته، وتحمله أعباء تقتضيها مصلحة غيره ولا يعود عليه منها نفع مباشر، وكان أليس من الهين أن يتقبل المرء عن طيب خاطر كل هذه التضحية وكل هذا الحرمان؛ إذ كانت الغريزة الاجتماعية عنده أضعف من أن تحمله على نسيان في خدمة المجموع، وأن تجعل مثله كمثل النملة أو النحلة حين تذهل عن نفسها في خدمة النمل والنحل، وكان استعمال ذكائه العادي في حساب مصلحته يدعوه بالعكس إلى الأثرة، وإلى التضحية بمصلحة الآخرين في سبيل إصلاح الفرد والجماعة، تلك القوة قد أعدتها الفطرة الإنسانية في النفوس حين أشربتها الفكرة الدينية؛ وذلك أنها صورت أمامها المحظورات الاجتماعية بصورة مخيفة تجعل من المخاطرة انتهاكها، وما زالت تبالغ في هذا التصوير حتى خيلت للنفس أن هذه المحظورات يقوم على حمايتها حارس معنوي، آمر، ناه، محاسب ينذر من ينتهكها بالبطش والعقاب، وذلك هو معنى الإله.
وهنا يضيف «برجسون» أن صورة هذا الحارس وإن لم تكن وليدة التفكير المنطقي، بل من عمل الواهمة أو المخيلة التي تشخص المعنويات، وتجسم المجردات، ولكنها ليست من قبيل تخيل الفنانين، ولهو المثالين والمصورين وأصحاب الأساطير؛ فإن آثار هؤلاء لا تعدو أن تكون نوعا من الترف الذي يمكن الاستغناء عنه، بخلاف الصورة الإلهية التي تخلقها الحاجة الاجتماعية، فإنها وإن تكن وهما إلا أنه وهم تفرضه الحياة، ومن أجله أوجدت هذه الملكة الرمزية في طبيعة الإنسان.
10
فإذا ما انتقلنا إلى ميدان الأعمال اليومية وجدنا فيه كذلك فراغا نفسيا عميقا، لا يملؤه إلا العقيدة الإلهية، فالصائد حين يسدد سهمه إلى فريسته، والتاجر في سعيه إلى الربح، والمريض في تناوله الدواء وتطلعه إلى الشفاء، والزارع في طلبه للثمرة، والمتزوج الذي ينتظر الولد، وراكب السفينة الذي يطلب النجاة، ولاعب الميسر الذي يرقب حظه بين اليأس والأمل، وكل ذي حاجة ينتظرها وهو لا يدري ما قدر له من النجاح أو الإخفاق ... كل أولئك لو استلهموا عقولهم، وقاسوا أعمالهم بمقدار نتائجها المحققة أو الغالبة؛ لقعدوا عن السعي، ولوقف بذلك دولاب الحياة.
غير أن دفعة الحياة حركة تأبى الوقوف والجمود، فكان لا بد لها من ثقل تضعه في الكفة الأخرى من الميزان النفسي، لترجح به جانب العمل، رغم كل تفكير وحساب، وما ذلك إلا الأمل تبعثه، والاعتماد على الحظ المحتمل تقدره، ولا تزال بهذا الحث والتشجيع، حتى تصور أمام النفس إرادة خفية يركن القلب إليها ويعتمد عليها، تلك هي إرادة «الإله المستعان»، كما كان ذلك السلطان سلطان «الإله الديان».
الذي نلاحظه على هذه النظرية هو أنها جعلت فكرة الألوهية في مظهريها عند العامة فكرة رمزية لا تعدو أن تكون ضربا من ذلك الأسلوب القصصي الذي يخوف به الأطفال أو يداعبون به، وهذا وصف لا يستساغ في القسم الأول منها، إلا لو صح أن كل ما يجري في المجتمع من سنن وعوائد، سواء ما كان منها ذا طابع ديني أو اقتصادي أو غيرهما، كان في جملته مبعثا لعقيدة إلهية في عقول العامة، فهنالك فقط يسوغ أن يقال: إن فكرة الإله عندهم لا تدل على حقيقتها، وإنها محض رمز لما في نفوسهم من سلطان رهيب للمجتمع، ولا شك أن الذي يعيش أسيرا لعوائد قومه ولو تحكمية، ولتصرفاتهم ولو همجية، ولقوانينهم ولو جائرة، لو بلغ به استسلامه إلى حد الظن بأن تلك الوضعيات البشرية أوضاع إلهية ، يقوم على حمايتها جنود من السماء حين تغيب عنها جنود الدولة؛ لكان أقل ما يقال فيه إنه سخيف واهم، وإنه يسمي الأشياء بغير أسمائها، أما إذا أخذنا قانون الأخلاق في جوهره الصحيح، واعتبرنا ما له من سلطان مركوز في طباع الناس على اختلافهم موحيا للعقيدة الإلهية، ودليلا على صنعة الفاطر الأول، الذي ألهم النفوس هداها، ورسم لها طريق فجورها وتقواها، فتلك فكرة سليمة ومنطق مستقيم، وسنرى الفيلسوف الألماني «عمانويل كانت» يجعل قانون الأخلاق هو المقدمة الأولى في الاستدلال على وجود الله.
وكذلك نقول: إن الاستدلال على وجود القدر الإلهي بالحوادث المستقبلة التي لا بد للبشر في تصريفها، والتي تقع تارة على وجه وتارة على وجه آخر؛ دون أن تخضع في سيرها لقانون طبيعي ثابت، نقول: إن هذا الاستدلال سديد قويم، لا يعتمد على شيء من الوهم أو التمثيل؛ لأنه ينطوي على مقدمتين: «الأولى» أن هذه الحوادث تستند إلى سبب خفي، وهذا حكم انفصالي يقيني؛ إذ إن ما لم يوجد له سبب في عالم الشهادة يجب أن يكون له سبب في عالم الغيب، ولا ثالث. «الثانية» أن هذه القوة الغيبية قوة عاقلة إرادية، مقدرة للحوادث قبل وقوعها، وهذه قضية لا يؤيدها العقل السليم فحسب، بل تشهد بها التجارب المتكررة في كل أمة، فإن هذه الحوادث التي لا يمكن التنبؤ بها من طريق النور العقلي وحده قد يكشفها الروحانيون الملهمون وينبئون بما ستكون عليه في وقتها المحدود، ثم يقع مصداق نبوءتهم، بينا، لا يخالطه شك ولا وهم، فذلك - لا شك - آية على أنها ليست وليدة المصادفة والاتفاق، ولا نتيجة آلية لدفعة الحياة العمياء كما يظن برجسون.
11
نامعلوم صفحہ