دین
الدين: بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان
اصناف
2
ووجه آخر: وهو أن خضوع المتدين لمعبوده وإن كان خضوعا كليا لقوة قاهرة - كما يقولون - ليس هو ذلك الخضوع الذي يخلق اليأس، ويكبت النفس، ويغل من الجهد، ويحد مجال العمل، ويسد باب الأمل، بل هو شعور يرفه عن القلب بما يفتحه أمامه من آفاق الإمكان، هو شعور يضع عن النفس الأثقال، ويحطم ما حولها من الأغلال ، وتكاد لا تعثر في لغته على كلمة «المحال»، فإذا اشتدت الأزمات، وضاقت الحلقات أمام المتدين، تراءى له من خلالها أبواب ومخارج ليس دون انفراجها إلا أن يأذن معبوده؛ ولذلك إذا رأيته في توجهه إلى هذا المعبود رأيته مقسم القلب أبدا بين الرغبة والرهبة، موزع الأمل بين الشك واليقين؛ لأن القوة التي يتوجه إليها بالعبادة هي في نظره أعز مثالا وأعظم استقلالا من أن تخضع لغير إرادتها نفسها، تلك الإرادة التي لا يعرف هو قانونها، بل يقف حائرا أمام أسرارها. (3) الإيمان جماع أمل وحذر
هذا الترقب والانتظار في مزيج من الأمل والحذر أمام دولاب الحوادث، هو إحدى الظواهر العامة التي نلاحظها في نفسية المتدين، ولا نجدها إلا في نفسية المتدين، أو المؤمن بإرادة مهيمنة على الطبيعة. (4) الإلحاد أمن غافل أو يأس قاتل
ذلك أن الطبيعيين حين يرون ترابط الأشياء وتتابعها في نظام مطرد، يقف بهم النظر في هذه النظم عند حد العادة الجارية، فيطمئنون الاطمئنان كله إلى استقرارها ودوامها، وييأسون اليأس التام من تحولها وانفصامها، فهم أبدا في أحد طرفين متباعدين: إما أمن غافل، وإما يأس قاتل، أما العقيدة الدينية - وكذلك الفلسفة الروحية - فإنها لا تخضع لسياسة الأمر الواقع، بل تنفذ إلى بواطن الأمور وأعماقها، فتقيس الوجود بمقاييس العقل، وتزنه بموازين الإمكان؛ وبذلك يتكشف لها الكون عن حقيقته، فلا ترى في نظامه الواقعي ضرورة ذاتية، ولا في تبدل هذا النظام استحالة ذاتية، بل ترى عليه طابع الصنعة الموضوعة، وأثر الترتيب المقصود، وترى أمر بقائه أو تطوره رهينا بالإرادة التي وضعت هذا النظام وحفظته؛ لأن من استطاع أن يربط السلسلة استطاع أن يفصمها، ومن أدار الدولاب ذات اليمين قدر أن يديره ذات الشمال، ومن صرف الأمور بمحض اختياره على وجه كان في وسعه أن يحدث في سيرها من العجائب والشواذ والمفاجآت ما يخرق كل حساب، فيبرئ المريض الذي عجز الطب عن علاجه، ويخلص الأسير الذي أوصدت دونه الأبواب، وينزل الغيث في القيظ، وينصر الفئة القليلة على الفئة الكثيرة ... إلى غير ذلك. (5) الأديان تمهد لتقدم العلوم
هكذا نرى الأديان في كل صورها ومظاهرها تقف إلى جانب الأمل والإمكان والحرية والاختيار في مبدأ الأشياء، وهي بهذه النزعة - في الحقيقة - تخدم العلوم وتمهد لتقدمها؛ إذ تفسح المجال أمامها في تغيير معالم الأشياء إلى مدى أبعد مما تتصوره العلوم الواقعية، التي هي بطبيعتها جبرية إلى أقصى حدود الجبر، يئوسة إلى أبعد حدود اليأس؛ لأنها كلما كشفت قانونا وقفت عنده دهرا؛ تبني على أساسه كل فنونها وصناعاتها ... حتى إذا انتقلت إلى مرحلة أخرى، انتقلت بذلك من طوق حديدي إلى طوق أوسع منه، ولكنه في نظرها طوق حديدي - على كل حال - فهي تعيش يوما بيوم، لا تؤمن إلا بعينها، ولا ترى أكثر من طرف أنفها. (6) لا جديد في الكون إلا بفعل إرادة عاقلة
إلا أنها في هذا السير الحثيث إلى الكشف والتجديد، خاضعة في الواقع من حيث لا تشعر لدفعة خفية من الإيمان بإمكانيات لا نهاية لها في الكون، كما أنها تلمس في أثناء تجاربها اليومية أن كل جديد تحصل عليه في تبديل أوضاع الأشياء إنما هو ثمرة مجهودات إرادية عاقلة، وليس هناك مثال واحد - منذ عرف الإنسان الكون - يدل على أن الطبيعة بدلت أوضاعها، وأحدثت في نفسها نظاما جديدا من غير تدخل قوة شاعرة مستقلة عن تلك المادة، مهيمنة عليها.
أليس هذا وحده كافيا في لفت النظر إلى سائر الترتيبات السابقة، التي نراها في طبائع الأشياء أو سير الحوادث، لم تبرز هكذا من تلقاء نفسها ولا بقوة لا شعورية مثلها؟ هذا هو أساس الفكرة التي تسيطر على الدينيات والروحيات جميعا، وهي أن على رأس كل سلسلة من الأسباب قوة اختيارية، هي قوة الإنشاء والابتكار التي لا بد أن ينطوي عليها السبب الأول. (7) العلوم الواقعية تفحص الآلة ولا تفكر في مخترع الآلة
نعم، إن العلوم الواقعية حين تنظر في هذه الآلة الكونية الدقيقة لفحص أجزاءها وتعرف قانون سيرها، إنما يعنيها من وراء هذا البحث تنظيم الجهد الإنساني وتنسيقه على وفق ذلك القانون الآلي. وهي من هذه الوجهة الخاصة لا لوم عليها في إهمالها السؤال عن مخترع هذه الآلة وواضع ذلك النظام؛ لأن هذا السؤال خارج عن طبيعة المهمة الأولى التي تخصصت لها. (8) إغفال هذا التفكير هبوط إلى مستوى الحيوانية
ولكن اللوم كل اللوم على الإنسان، بما هو إنسان، حين يضع بيديه هذه القيود الحديدية لعقله، وحين يبتر هذا العنصر الجوهري في كيان نفسه، بإبعاد هذا السؤال بتاتا من بين بحوثه، قناعة باللحظة الحاضرة عن الماضي السحيق والمستقبل البعيد؛ لأنه بذلك يهبط من عرش إنسانيته إلى صف الحيوانية، ويسكت ذلك الصوت السماوي الذي يناديه من أعماق روحه، مستحثا له على استكمال فطرته، زاجرا له عن الاكتفاء بنظره في حاضر الأشياء وحاضره، عن التطلع إلى مبدئها ونهايتها، وإلى مبدئه ونهايته. (9) ضم العناصر المستخرجة من هذا التحليل
والآن نستطيع أن نضم العناصر الرئيسية التي استخرجناها في ثنايا هذا التحليل، وأن نؤلف منها الحد التام لماهية الدين، فنقول:
نامعلوم صفحہ