ولكنني أؤكد لكم أننا لو كنا نعيش في الطبيعة كالحيوانات لما عاش بيننا كثيرون مثل نيوتن، فإن هذا النابغة كان ضعيفا في صباه إلى درجة الموت، ولم يعش إلا بعناية أمه وعناية الله، ولو عاش بين الأسبرطيين مثلا لكانوا قتلوه لأنه ضعيف لا يجدي نفعا فذهب ضحية ناموس بقاء الأفضل وتنازع البقاء، وأنتم تعلمون كيف قلب هذا الرجل العلم باكتشافاته العظيمة، وذلك يثبت أن ناموس بقاء الأفضل وتنازع البقاء قد يكون أحيانا ضد ناموس العمران.
2
بقي بعد هذا أن نسأل: ماذا يصنع الشعب بعد أن يقوى ويتعلم ويتدرب؟ هل يعود للاستخدام كالرقيق أم يذهب ويستخدم هو نفسه بعضا من إخوانه بني الإنسان ويكون سيدا عليهم فيعمل بذلك عملا كان هو نفسه يشكو منه؟ لا هذا ولا ذاك، بل على الحكومة حينئذ أن تسلمه معامله ومصانعه ومتاجره ومزارعه، أي أن تشغله فيها تحت إدارتها هي ومراقبتها، وتوزع أرباحها عليه، وفي شيخوخته تعين له راتبا صغيرا يكفيه حتى لا يموت جوعا: هذه كل مطاليبهم أيها السادة، فإذا عرضنا هذه المطاليب على بدوي ساذج لم يدخل المدن قط لاستغرب أن يوجد بين البشر قوم ينكرونها.
يقولون: إن حق الملكية لا ينقض، ولكن لماذا تنقضه الحكومة يوم تقرر نزع ملكية الأراضي والأملاك التي تحتاج إليها في مقابلة تعويض تعطيه لأصحابها، فالمعامل والمصانع والمتاجر والمزارع تنزع ملكيتها ويعطى أصحابها تعويضا عنها.
يقولون: إنه إذا قسمت الأموال والأملاك بين الناس على السواء فإنها تعود تجتمع في أيدي المدبرين المقتصدين، نقول: ليس أحد يطلب قسمتها بالسواء فإن هذا وهم وافتراء علينا وعلى العمال، وإنما نطلب وقف المصانع والمزارع والمتاجر والمعامل للأمة وقفا لا يجوز بيعه وشراءه لأنه للجمهور، وليس يجوز للجمهور أن يتمتع بسوى ريعه، وتكون الحكومة الوكيلة العظمى لهذا الوقف العظيم.
يقولون: إن ذلك يضعف الهيئة الاجتماعية لأنه يجعل الأقوياء ضعفاء، نقول: بل بالعكس إنه يقوي الهيئة الاجتماعية لأنه يجعل الضعفاء أقوياء.
يقولون: إن ذلك يهدم التجارة والزراعة والصناعة من قلة الإقدام حينئذ عليها وتقييد صاحب العمل بآراء عماله، نقول: إذا كيف تنجح المشروعات الكبرى التي تديرها الشركات الكبرى، والحكومة أليست حاضرة للمساعدة، وهل نجحت الأعمال التجارية والصناعية والزراعية من غير تنشيط الحكومات ومساعداتها.
يقولون: إن المتاجر تكسد لأنها لا تعود قادرة على مزاحمة البضائع الأجنبية الرخيصة، نقول: إن بضائعنا ترخص أثمانها حينئذ بدل أن تغلو لأن الحكومة لا تطلب ربحا منها تخزنه في صناديقها.
يقولون: إن ذلك يضر بالحالة الحاضرة، فنقول: ولكن هل تريدون أن نخون المستقبل ونؤخره حفظا للحالة الحاضرة.
المستقبل، لقد عدنا للمستقبل، إننا نريد في المستقبل حياة أفضل من حياتنا الآن، فإن أعصاب الإنسانية الآن كلها متوترة متهيجة، كل واحد لا يأتمن أخاه على أقل الأشياء، كل واحد يحذر أخاه حذره من الذئاب الضارية، وما ذلك إلا لذلك المبدأ الملعون الذي انبث في نفوسنا وهو مبدأ تنازع البقاء، مبدأ طلب الفائدة للذات بكل الطرق وإن أضر ذلك بالغير ضررا عظيما، فنحن نريد بدل هذه الإنسانية المضطربة المتشنجة إنسانية هادئة مطمئنة متمتعة بأمن وسلام بنعم الأرض والسماء، وهذا لا يتم مع النظام الحاضر والحالة الحاضرة لأن الإنسان لا تهدأ نفسه ويسكن جأشه وتتلطف أخلاقه إلا إذا صار أمينا على رزقه، ولا أمن على الرزق ما دام الأقوياء متروكين على الضعفاء يمتصون دماءهم والضعفاء يزمجرون ويزبدون في سرهم حسدا وطلبا للنقمة.
نامعلوم صفحہ